كلمة «جميل» وأشباهها من ألفاظ القيم، هي كالكلمات الدالة على علاقات لا تفهم وحدها ولا تفهم مع أحد الطرفين المرتبطين بالعلاقة دون الطرف الآخر؛ العلاقة التي تدل عليها كلمة «أكبر من» أو «على يمين» ليس لها وحدها معني ، كلا ولا يتم معناها إذا قلت عبارة ناقصة كهذه «س أكبر من»، أو «س على يمين»، ووقفت عند هذا الحد من القول، أكبر من ماذا أو على يمين ماذا؟ وهكذا قل في العبارة التي نقول فيها عن شيء إنه جميل، جميل عند من؟ ومتى وفي أي سياق كان الجميل جميلا؟
ولا يقلل من نسبية الجمال وما إليه من قيم أن تجمع فئة كبيرة من الناس على جمال شيء معين، بل لا يقلل من نسبيته أن يجمع العالم كله على جمال شيء معين؛ لأن الأمر رغم ذلك الإجماع سيظل من الناحية المنطقية عرضا قد يزول بغير وقوع في التناقض؛ فليس ما يمنع الناس من تحول تقديرهم للشيء فيقبح في أعينهم بعد جمال، أو يجمل بعد قبح.
وخلاصة القول هي أن الألفاظ الدالة على قيمة جمالية أو قيمة خلقية ليست من قبيل الأسماء التي تسمي شيئا بذاته في عالم الأشياء كأسماء الأعلام، وليست هي من قبيل الأسماء الكلية التي تدل الواحدة منها على مجموعة وصفية قد تتحقق عناصرها في شيء بذاته من أشياء العالم الخارجي، وليست هي من قبيل الكلمات المنطقية مثل «أو» و«إذا» مما لا يكون له مدلول خارجي لكنه يربط أجزاء الجملة ليجعل منها وحدة، بل هي نوع رابع وفريد؛ إذ هي لا تشير إلى أي مدلول خارج الإنسان الذي يسوقها في كلامه ليخرج بها انفعالا أحس به، وربما أراد أن يثير انفعالا شبيها به عند سامعه.
الفصل الخامس
وحدات التحليل
1
هذا العالم الذي نعيش فيه قوامه حوادث، وأعني بالحوادث ما تحسه الحواس من لقطات متتابعة، كلمعان الضوء ولمسات الأصابع ونبرات الصوت؛ فكل شيء نقول عنه إنه ذو كيان واحد متصل لفترة من الزمن تطول أو تقصر، كهذا القلم الذي بين أصابعي، وهذه الورقة التي أكتب عليها، وتلك الشجرة، والشمس والقمر، كل شيء من هذه الأشياء ليس في حقيقة أمره كيانا واحدا متصلا كما قد نتوهم، إنما هو - إذا ما حللت الموقف إلى عناصره الأولية البسيطة - حادثات يتبع بعضها بعضا؛ كل شيء من هذه الأشياء هو سلسلة حالات، أو قل هو سلسلة من ظواهر، والذي يخلع عليه الواحدية هو ما بين تلك الحالات من روابط وعلاقات؛ فهو نفسه الذي يخلع الواحدية على أجزاء المسرحية أو ألحان النغم. لماذا نقول عن المسرحية إنها أثر واحد مع أنها مكونة من آلاف الكلمات؟ ولماذا نقول عن النغم إنه واحد مع أنه نبرات من الصوت متتابعات؟ إنك تقول عن المسرحية أو النغم إنه كيان واحد لما بين أجزائه الكثيرة من روابط وعلاقات، وهكذا قل في هذا القلم وفي هذه الورقة وفي الشمس والقمر والنهر والشجرة، بل هكذا قل في الفرد الواحد من الناس؛ فلست أنت بالجزئية الواحدة ذات الكيان الواحد المستمر المتصل، بل أنت تاريخ من حوادث، أنت هو ما قد عشته من دقائق ولحظات، لك في كل واحدة منها حالة تختلف قليلا أو كثيرا عن سابقتها وعن لاحقتها. ولا تتوهمن أنك أنت شيء قائم بذاته تطرأ عليه هذه الحالات، بل أنت هو حالاتك هذه، ولكنها اللغة نستخدمها في التعبير هي التي توهمنا بطريقة تركيبها أن المبتدأ شيء والخبر شيء آخر، أو أن الموضوع شيء ومحمولاته شيء آخر؛ فإذا قلت «البرتقالة صفراء» ظننت أن البرتقالة شيء مستقل عن لونه الأصفر، مع أن البرتقالة هي هي حالاتها من لون وشكل وما إليها، وقد ارتبطت هذه الحالات بعضها ببعض عند إدراك الإنسان إياها بحيث أصبح بينها واحدية في البناء على تعدد العناصر التي دخلت في هذا البناء.
وأعود فأقول إن العالم الذي نعيش فيه قوامه هذه الحوادث التي ترتبط في مجموعات، نجعل كل مجموعة منها شيئا واحدا، كالعقاد والمقطم والنيل والقاهرة، ومن أشياء هذا العالم الواقعي ألفاظ اللغة وعباراتها؛ فالكلمة أو العبارة - منطوقة أو مكتوبة - هي كذلك مجموعة من حوادث. الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة»، بل هي ملايين الملايين من حالات متفرقة؛ فكل مرة ينطق فيها أحد الأفراد بكلمة ما، وكل مرة يكتب فيها كاتب هذه الكلمة؛ هي حالة من حالات الكلمة. وكذلك قل في العبارة اللغوية التي هي من كلمات، إنني أريد أن أجمع قوتي كلها لأؤكد بكل ما وسعني من قوة هذه الفكرة التي أسوقها، وهي: إن الكلمة أو العبارة من كلمات اللغة وعباراتها هي من مادة العالم الواقع، لا فرق بين كلمة «كتاب» أنطق بها موجة من هواء، وبين العاصفة التي تهب وتقتلع الأشجار وتهدم المنازل إلا في الدرجة وحدها؛ ولا فرق بين كلمة «كتاب» أكتبها قطرة من مداد - والمداد مادة - وبين جبال الهملايا سوى أن كلمة «كتاب» كومة صغيرة من ذرات المادة، والهملايا مرتفع شامخ منها؛ فكلمات اللغة وعباراتها - إذن - من مادة الواقع، هي جزء من الواقع، وقد اتخذنا بعض وقائع العالم لنرمز بها إلى بعضها الآخر؛ إذ اتخذنا من موجة صوتية معينة رمزا يشير إلى «المقطم»، واتخذنا كذلك من رسم معين أخطه على الورق رمزا يشير إلى ما شئنا أن نسميه بهذا الرسم من أشياء؛ وبهذا يصبح الرمز المختار ذا «مدلول» و«معني».
إن لكلمة «معني» معاني عدة، تلتقي كلها في أن شيئا يرمز إلى شيء آخر، والكلمات والعبارات اللغوية هي واحدة من أنواع الرموز ذوات «المعنى»؛ فقد يلاحظ الإنسان بين ظاهرتين طبيعيتين ارتباطا، بحيث إذا ظهرت إحداهما توقع الأخرى، كارتباط البرق والرعد، فإذا رأينا البرق توقعنا أن نسمع صوت الرعد، وعندئذ يكون «معنى» البرق أن رعدا سيتلوه، ومعنى السحاب ذي الخصائص المعينة أن مطرا وشيك الهطول، ومعنى انخفاض الزئبق في البارومتر أن عاصفة ينتظر هبوبها، وهكذا. ولما كان ارتباط السبب بالمسبب هو من قبيل هذا الارتباط الذي يجعلنا نتوقع ظاهرة إذا ما بدت ظاهرة، جعلنا السبب هو «معنى» المسبب؛ فإذا رأيت نافذة دارك مكسورة مع أنك قد تركتها مغلقة، فلك أن تسأل: ما «معنى» هذا؟ ليكون الجواب عن سؤالك هو ذكر السبب الذي أحدث الظاهرة التي أدهشتك. ومن قبيل ذلك روبنسن كروسو وهو وحده في الجزيرة، إذ رأي ذات يوم آثار أقدام على الأرض، فكان «معناها» عنده أنه لا بد أن يكون في الجزيرة إنسان سواه. وظواهر المرض عند المريض لها عند الطبيب الفاحص «معنى»، وهذا المعنى هو العلة التي عنها حدثت تلك الظواهر.
وكما أن السبب قد يتخذ معنى للمسبب، فكذلك قد يتخذ المسبب «معنى» لسببه؛ فلو رأيت رجلا يحمل حقائبه ويجري في الطريق، وسألت: ما معنى هذا؟ فقد يكون الجواب: إنه يريد أن يلحق بالقطار. أو أن أرى رجلا يتحدى آخر بكلامه وسلوكه فأسأل: ما معنى هذا التحدي؟ ليكون الجواب: إن صاحب التحدي يريد أن يستثير القتال. وهكذا.
Halaman tidak diketahui