لكن نظرة تحليلية سرعان ما تبين لنا أن ما قد ظنناه «فردا» ليس هو في الحقيقة إلا سلسلة طويلة من حالات جزئية؛ فليس «العقاد» فردا بمعنى أنه حالة واحدة معينة كانت بالأمس هي نفسها ما هي عليه اليوم وما ستكون عليه غدا؛ فلقد كان «العقاد» طفلا فشابا فرجلا، وكان آنا مريضا وآنا صحيح البدن، كان آنا في السجن وآنا طليقا، هو الآن سائر في الطريق، وكان منذ لحظة جالسا يقرأ، وسيكون بعد حين ممسكا بقلمه يكتب؛ هي سلسلة من حالات لا ينتهي عددها إلى حد معلوم. وكذلك قل في «النيل» الذي ظنناه شيئا واحدا من أشياء العالم، إنه يغير من مائه في كل لحظة، بل في كل معشار من اللحظة الواحدة، إن ماءه متدفق فلا يكون الماء الآن في هذه النقطة المكانية من مجراه هو نفسه الماء الذي كان فيها منذ لحظة، ولن يكون هو الماء الذي سيكون فيها بعد لحظة. وما أصدق الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس حين أشار إلى هذه الحقيقة المتغيرة بقوله إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين، مشيرا بذلك إلى أن واضع قدمه في الماء إذا ما رفعها ثم غمسها مرة أخرى لقيت قدمه في هذه المرة الثانية ماء جديدا كأنما هو بالنسبة إليها نهر جديد.
وإذا كان ذلك كذلك، فما تسميتنا ألوف الألوف من الحالات المتعاقبة باسم واحد، فنقول «العقاد» أو «النيل» كأنما نحن مشيرون بكل اسم منها إلى حالة واحدة من حالات هذا العالم الزاخر؟ إننا لو أردنا مجموعة رمزية كاملة لنشير بها إلى حالات العالم واحدة واحدة، لجعلنا لكل حالة من سلسلة الحالات التي تكون «العقاد» ولكل حالة من سلسلة الحالات التي تكون «النيل» اسما خاصا؛ وعندئذ فقط يكون لكل اسم مسماه الجزئي الواحد، فلا تزدوج المسميات ولا تتعدد للاسم الواحد. وشيء كهذا هو ما يصنعه الجغرافيون حين يريدون تحديد نقطة معينة من الأرض، إنهم لا يقولون «القاهرة» - مثلا - لأن القاهرة مسطح كبير من الأرض، وإنما يقولون التقاء خط طول 32 بخط عرض 30، لكننا إن استطعنا من الوجهة النظرية المنطقية وحدها أن نتصور لكل حالة جزئية في هذا العالم رمزا لغويا يشير إليها دون سواها، بحيث لا يشير الرمز الواحد لأكثر من حالة جزئية واحدة في الشيء الواحد، وبحيث لا يكون هنالك رمزان لغويان مشيرين كليهما إلى حالة جزئية واحدة، أقول إننا لو تصورنا إمكان ذلك من الوجهة النظرية المنطقية، فإن إجراءه من الناحية العملية متعذر أو مستحيل؛ ولذلك اكتفينا بأن نطلق اسما معينا كاسم «النيل» - مثلا - على مجموعة من الحالات الجزئية والحوادث الفردية قد يكون بينها ما يبرر لنا أن نجمعها معا في حزمة واحدة لنطلق عليها اسما واحدا، ومع ذلك فينبغي أن نكون على استعداد دائما إذا ما طلب إلينا أن نشير إلى المسمى الذي أطلقنا عليه اسما معينا، ك «العقاد» أو «النيل» أو «المقطم» أو «القاهرة»، أن نجد الحالة الجزئية التي نشير إليها قائلين «هذا»، فليطلب مني من شاء أن أعين له الشيء الذي أسميته «النيل» وسأصطحبه إلى مكان معين من نهر معين، حيث سأكون وإياه إزاء إحدى حالات ذلك النهر، وعندئذ سأشير إليه بإصبعي قائلا «هذا»، فيعلم السائل أن لاسم «النيل» مسمى، وأنه لذلك رمز كامل على سبيل التجوز المقبول؛ إذ إن الرمز الكامل هنا هو كلمة «هذا»؛ لأن هذه الكلمة هي وحدها التي تحدد الشيء المشار إليه. ولا عجب أن جعله «رسل» اسم علم بالمعنى الدقيق لاسم العلم ؛ لأنه يستحيل عليك أن تستخدم اسم الإشارة «هذا» استخداما يؤدي إلى غرضه دون أن يكون هنالك الشيء الذي تشير إليه به.
ومع ذلك كله ، فحتى إذا عددنا أسماء الأعلام ك «العقاد» و«النيل» وما إليهما رموزا كاملة على سبيل التجوز، فهذه الأسماء نفسها قلة قليلة بالنسبة إلى سائر الرموز اللغوية التي يستخدمها الناس فيما بينهم من تفاهم واتصال؛ لأن الكثرة الغالبة من هذه الرموز هي ما يطلق عليه رجال المنطق اسم «الكلمات العامة» أو «الأسماء الكلية»، مثل «إنسان» و«نهر» و«جبل» و«مدينة» ... إلخ، وسنحلل لك فيما يلي هذه الكلمات وأمثالها لنبين أنها رموز ناقصة ما في ذلك شك؛ أي إن الكلمة منها ليست كفيلة بوجود مسماها؛ إذ قد يستخدمها الناس استخداما يؤدي إلى الغرض المقصود كاملا، ومع ذلك فقد لا يكون لها مسمى يقابلها في عالم الأشياء.
الاسم الكلي أو الكلمة العامة التي نطلقها لا لتدل على فرد بعينه، بل نطلقها لتدل على مجموعة من الأفراد تجمع بينها صفات مشتركة، هي في الحقيقة جملة بأسرها ضغطت في كلمة واحدة، ولو حللنا مكنونها وأخرجناه لكان لنا بذلك عبارة وصفية مجهولة الموصوف، وقد يكون هذا الموصوف الذي تشير إليه العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية ذا وجود فعلي وقد لا يكون له وجود؛ فكلمة «إنسان» - مثلا - تحليلها هو أن فردا ما غير متعين صفاته هي كذا وكذا وكيت مما يجعل الإنسان إنسانا، لكن من هو هذا الفرد؟ الجواب هو: أي فرد تلقاه مما يوصف بهذه الصفات. ولكن ماذا لو بحثت عن فرد يحقق هذه الصفات فلم أجد، كما هي الحال في اسم مثل «عفريت» أو «جبل من الذهب»؟ الجواب هو: إذا بحثت عن فرد يحقق الصفات المقصودة من الكلمة الكلية فلم تجد، ظلت الكلمة دالة على مجموعة من الصفات لا تجد ما يلبسها من أفراد العالم الخارجي؛ أي إنها تظل كالقالب الفارغ الذي لا يجد المادة المتعينة التي تملؤه؛ وإذن فالكلمة الكلية - كما قلنا - هي عبارة وصفية مجهولة الموصوف، فكأننا نقول إذ نقول كلمة كلية «س يتصف بكذا وكذا من الصفات»، دون أن يقتضي ذلك وجود «س». وهذا هو معنى قولنا إن الكلمة الكلية في الحقيقة رمز ناقص لا يدل بذاته على وجود الفرد الذي يحقق مجموعة الصفات التي تدل عليها تلك الكلمة.
فالاسم الكلي العام شأنه في دلالته شأن العبارة الوصفية كائنة ما كانت، وليس شأنه في الدلالة شأن أسماء الأعلام التي يتحدد لكل اسم منها مسماه. غير أن العبارات الوصفية نوعان؛ فمنها ما ليست تنطبق الصفات الواردة فيها إلا على فرد واحد، مثل قولنا «أول الخلفاء الراشدين»، ومنها ما تنطبق الصفات الواردة فيها على أي فرد من مجموعة معينة، مثل قولنا «خليفة المسلمين»، وفي كلتا الحالتين لا تحتم العبارة الوصفية بذاتها أن يكون لها مسمى في عالم الكائنات الفعلية، بل تدل على تركيبة وصفية قد تجد وقد لا تجد المسمى الذي يحققها في الوجود الفعلي.
إنني لا أعرف غلطة في التحليل زلت فيها الفلسفة طوال عصورها أفحش من هذه الغلطة؛ لفداحة ما يترتب عليها من النتائج الخطيرة؛ فلك أن تركب من البناءات الوصفية ما شاء لك خيالك، وأن تعبر عن هذه البناءات بلفظة واحدة أو بمجموعة ألفاظ، لكن الذي ليس من حقك ولا من حق أي إنسان عاقل أن يجاوز بناءه الوصفي ليقرر أنه ما دام هذا البناء قائما فلا بد أن يكون هنالك الكائن الفعلي الذي تنطبق عليه المجموعة الوصفية، ليس ذلك من حقك إلا إذا أعطيت حواسك كائنا فردا مما يشار إليه بقولي «هذا»، وترى أن هذا الكائن الفرد يحقق بالفعل ما كانت تدل عليه المجموعة الوصفية التي ركبتها وبنيتها في رأسك.
الرمز اللغوي - كلمة كان أو عبارة - إن دل على مجموعة من الصفات، فهو لا يقتضي بالضرورة أن يكون مسماه موجودا وجودا فعليا؛ إذ قد يكون هنالك المسمى الذي تنطبق عليه تلك الصفات وقد لا يكون؛ فقل - مثلا - «حصان أبيض ذو ذيل أصفر وغرة سوداء» يكن لك بذلك بناء وصفي، لكن هذا البناء الوصفي لا يقتضي بالضرورة أن يكون الكائن الموصوف موجودا بالفعل أو غير موجود؛ فالحواس وحدها هي التي تدلني إن كان لمثل هذا الكائن وجود بين الكائنات أو لم يكن. أي وضوح هو أوضح من هذا المبدأ الذي نقرره - لا تعسفا - ولكن بحكم طبيعة اللغة ذاتها وبحكم الخبرة التي نمارسها جميعا في حياتنا الفكرية والعملية على السواء؟ ومع ذلك فقد أفلتت هذه الحقيقة الواضحة الجلية من أنظار الفلاسفة فلم يروها.
إن الرمز الوصفي «أول من وقف على قمة إفرست» مفهوم الدلالة من حيث الصفات التي يشير إليها، ومع ذلك فقد لا يكون هنالك من حقق هذه الصفات، بل إنه منذ أعوام قليلة جدا لم يكن قد صعد إلى هذه القمة أحد بعد، فكان يمكن عندئذ للعبارة الوصفية أن تقوم دون أن يكون هنالك الفرد الذي تشير إليه. وإنه لمما يجدر ذكره في هذا السياق أن نزاعا طريفا قام - ولم يزل قائما - عن الرجل الذي كان له حظ الوصول إلى قمة إفرست قبل أي إنسان سواه؛ وذلك أن الرحالة «هلاري» الإنجليزي كان يستصحب هنديا في صعوده الجبل، وكلاهما قد بلغ القمة في رحلة صعودية واحدة، لكن من منهما كان السابق ومن كان اللاحق؟ كل من الرجلين يدعي لنفسه الأسبقية في شهود القمة والوقوف عليها. وأيا ما كان الأمر، فالعبارة الوصفية «أول من وقف على قمة إفرست» لا تزال على دلالتها، سواء وجد الرجل الذي وقف على القمة أو لم يوجد، وسواء كان هذا الواقف هو الرحالة الإنجليزي أو زميله الهندي.
والأمر شبيه بذلك في أي اسم يكون مدلوله مجموعة من الصفات؛ فعندئذ قد تجد من يثبت وجود المسمى وقد تجد من ينكر؛ فكم من الباحثين في تاريخ الأدب من يقرر أن اسم «هومر» لا يسمي أحدا بذاته، وكم منهم من يقرر أنه يسمي؛ ذلك لأن «هومر» - وإن يكن اسما على هيئة أسماء الأعلام - إلا أنه في الحقيقة دال على مجموعة وصفية، منها مثلا إنشاء الإلياذة ومنها التجوال في القرى وهكذا، ولكن السؤال لا يزال قائما: أتكون هذه المجموعة الوصفية قد تجسدت في شخص بعينه هو الذي نطلق عليه اسم «هومر»، أم تكون مجرد بناء وصفي بغير المسمى الواحد الذي تجسدت فيه؟ ولقد قامت في مصر مشكلة من هذا النوع بين دارسي الأدب وتاريخه حول امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية؛ فمنهم من ذهب إلى أن امرأ القيس اسم وهمي اخترع اختراعا لينسب إليه ما ينسب من الشعر، ومنهم من يرد هذا الزعم بما ينفيه وما يؤيد الوجود التاريخي الفعلي لامرئ القيس؛ فما معنى هذا فيما نحن الآن بصدده؟ معناه أن مجموعة الصفات التي هي كل ما يقال عن امرئ القيس قد يكون لها - منطقيا - من يلبسها من الأفراد وقد لا يكون؛ ذلك لأن البناء الوصفي في حد ذاته لا يقتضي بالضرورة أن يكون هنالك الفرد الذي يجسده؛ فالبناء الوصفي كالثوب تراه معلقا، وإما أن يكون للثوب بعد ذلك لابس أو لا يكون.
وانظر بعد ذلك إلى الكلمات الرئيسية التي عليها تدور الفلسفة الميتافيزيقية، ترها جميعا من قبيل الرموز الدالة على مجموعات من الصفات، لا من قبيل الأسماء الدالة على أفراد جزئية مما يشار إليه بقولنا «هذا»؛ فهذه الفلسفة إنما تدور حول «المطلق» و«الروح» و«النفس» و«الجوهر» و«الشيء في ذاته» وما إلى ذلك. وواضح أن الكلمة من هذه الكلمات لا ترمز إلى كائن جزئي مما يشار إليه بالإصبع، ولكن كل واحدة منها تلخيص مضغوط لعدد كبير من الصفات؛ فلو سألت مثلا: ما المطلق؟ أجابك المتكلم لا بالإشارة إلى أحد الموجودات الفعلية، بل بعدد من الجمل؛ وقف عند ما شئت من هذه الجمل أو مكوناتها اللفظية واسأل، وسيكون الجواب دائما بجمل أخرى وهكذا؛ ومعني ذلك أن كلمة «مطلق» هي - كما قلنا - تلخيص لفظي لعبارات وصفية كثيرة. وإذا كانت العبارة الوصفية لا تقتضي بالضرورة أن يكون لمسماها وجود فعلي، كانت الكلمة بالتالي من قبيل الثوب الذي يظل ينتظر من يلبسه؛ فحتى لو فهمنا كل الصفات المتضمنة فيه، فهذا الفهم ليس دليلا على وجود الكائن الموصوف أو على عدم وجوده، إلى أن تأتي خبرة حسية بعد ذلك فتقرر أحد الشقين؛ فإن كان الكائن الموصوف بحكم وصفه ليس مما يقع في خبرة حسية، ظلت أوصافه إلى أبد الآبدين بغير دليل على وجوده.
Halaman tidak diketahui