كذلك تحدث الفلاسفة عن «النفس» كما يتحدث عنها علماء النفس في وقتنا الحاضر، لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أيضا الفرق بين لغة الكم ولغة الكيف؛ فالنفس عند الفلاسفة روحانية لا يمكن تحويلها إلى شيء تقاس أطواله وأبعاده، وحتى إن تفاوتت الأنفس في منازلها رقيا أو هبوطا، فهي إنما تتفاوت على أساس اختلافها الكيفي؛ فالنفس النباتية - عند أرسطو - نفس نامية، والحيوانية حاسة، والإنسانية ناطقة؛ ولو ظللنا عند هذه المرحلة الكيفية في نظرنا إلى النفس لظللنا إلى الأبد نقول اليوم كلاما وننقضه غدا.
أما إذا أردنا دقة في الحديث وموضوعية في البحث، فلا مناص لنا من الخروج بالأمر إلى مجال آخر، هو المجال الذي نستطيع فيه أن نترجم الظواهر النفسية إلى شيء يمكن أن تقرأ صفاته بلغة الأرقام؛ فالذكاء والإحساس والذاكرة وسائر القدرات العقلية أمور لا يستحيل أن ننظر إليها من جوانبها السلوكية الظاهرة؛ وبالتالي فلا يستحيل أن نصطنع لها وسائل لقياسها؛ وعندئذ نمسك عن التحدث عن الأذكياء والأغبياء، كما أمسكنا عن التحدث - في مجال العلم - عن الحار والبارد والرطب واليابس، وهي لغة مألوفة عند الفلاسفة، ويصبح الأمر ليس أمر أضداد كيفية، بل أمر تفاوت كمي؛ فظاهرة الذكاء هي نفسها ظاهرة الغباء، ولكنهما حالتان على تفاوت في الدرجة، بل «النفس الإنسانية» هي بعينها «النفس الحيوانية» أو «النفس النباتية»، ولكنها حالات تتفاوت مقدارا، وهكذا.
ليست النفس عند العلم هي «الجوهر» الذي كان عند الفلاسفة، بل هي سلوك، وما ليس يظهر لعين الرائي سلوكا لا يجوز الحديث فيه حديثا علميا؛ لأنك إذا ما جاوزت حدود الظاهر إلى ما هو باطن خفي، فقد تجاوزت ما يمكن أن يشاركك الناس في مشاهدته ومراجعته إلى ما هو خاص بك. ولسنا بهذا القول نريد أن ننكر أن للإنسان جانبا ذاتيا يحسه باطنا، لكننا نصر على أن هذا الجانب الباطني إذا لم نجد له جانبا ظاهرا مصاحبا، بحيث يمكن أن نجعله هو - دون طرفه الباطن - حدود الظاهرة كما يفهمها البحث العلمي، فسنظل نقول عن النفس كلاما لا تتغير الدنيا بنفيه أو بإثباته.
على أننا في هذا الكتاب لا نريد أن نلبس أردية العلماء، فنخوض فيما هو من شأن عالم الطبيعة أو عالم النفس، وما نريد تقريره في إصرار هو أن العبارة من عبارات اللغة إذا اشتملت على كلمة أو كلمات مما لم نستطع بعد ترجمته إلى لغة المعادلات والأرقام، كانت عبارة بغير معنى يصح أن يكون موضعا للمراجعة والمجادلة بين الباحثين.
الفصل الثاني عشر
من المطلق إلى النسبي
1
لم يكن يرضى الفلاسفة أن يقفوا عند هذا العالم المحسوس المتطور المتغير على أنه العالم الحق، بل كانوا يطمحون دائما إلى حقيقة أعلى يكون من صفاتها الثبات والدوام والسكون؛ فيستحيل - مثلا - أن تكون هذه المثلثات التي نرسمها على الورق بأقلامنا، والتي تتفاوت في دقتها بتفاوت آلات الرسم، أن تكون هي «المثلث» الحقيقي الذي هو المعيار لتلك المثلثات المرسومة؛ فكلما قرب المثلث الرسوم على الورق من ذلك المعيار كان أقرب إلى المثلث الحق؛ ويستحيل أن يكون أفراد الناس الذين نصادفهم في هذه الدنيا الأرضية هم «الإنسان» الحقيقي؛ لأن هؤلاء الأفراد إنما يتفاوتون في تحقيقهم لفكرة الإنسان، فبعضهم أفضل من بعض، هذا إلى أنهم يولدون ويحيون حينا حياة يعتورها النقص والمرض ثم يموتون، أما «الإنسان» باعتباره جوهرا فلا بد أن يكون كاملا وثابتا لا يتغير ولا يمرض ولا يموت. وهكذا كان الفلاسفة ينفذون بأبصارهم وبصائرهم خلال الجزئيات المتغيرة الفانية لعلهم يدركون وراءها عالما آخر هو العالم الحقيقي النموذجي الذي ما جاء هذا العالم الأرضي بكائناته إلا ليكون صورة منه، وهي صورة تقرب أحيانا وتبعد أحيانا عن درجة الكمال في تصويرها لما جاءت تصوره.
ولئن كانت الحواس هي أداة المعرفة للجزئيات المحسوسة المتغيرة، فليست هي أداة المعرفة للعالم النموذجي الثابت. وكيف تكون وذلك العالم الثابت لا يدرك بالبصر ولا بالسمع ولا باللمس؟ فهو «فكرة»، وسبيل إدراكها هو العيان العقلي. تلك كانت فلسفة أفلاطون في صميمها، وهي فلسفة المثاليين جميعا على ما بين هؤلاء من أوجه الاختلاف في طريقة عرضهم للمذهب.
ولقد شهد القرن التاسع عشر أحد الشوامخ الذين حملوا المذهب المثالي على عواتقهم، وأعني به هيجل، الذي بلغ من الخطر في تاريخ الفلسفة حدا جعله مصدرا لمعظم الاتجاهات الفلسفية المعاصرة إما بالتأييد أو بالتفنيد؛ ذلك أنك لا تكاد تجد من فلسفات القرن العشرين فلسفة لا تبدأ من هيجل، مناصرة له في أقل الأحيان، معارضة له في أكثرها؛ فلم يقتصر تأثيره على «الماركسية» و«الوجودية» و«البرجماتية» - وهي اتجاهات ثلاثة من أهم اتجاهات الفكر المعاصر - بل شمل كذلك الحركات الفلسفية الأخرى التي هي من شأن محترفي الفلسفة ولا تجاوزهم إلى حيث سواد المثقفين ثقافة عامة، وأعني بها «الوضعية المنطقية» و«الواقعية» و«الفلسفة التحليلية»؛ فأئمة هذه الاتجاهات كلها من أمثال «كيركجارد» و«كارل ماركس» و«جون ديوي» و«برتراند رسل » و«جورج مور» كانوا جميعا في مرحلة من مراحل حيواتهم أتباعا لهيجل.
Halaman tidak diketahui