وكذلك سقطت عن هذه البلاد تلك الحماية التي ضربها الإنكليز عليها في إبان الحرب، والتي جاهدت تلك الوفود، وسعت تلك الشخصيات الكبيرة في محوها، وإزالة معرتها اللاصقة بنا، وكانت تلك المنة الكبرى من صنع رجل واحد اندفع في السبيل وحده غير هياب، ولا مرتعد من رؤية أهل وطنه، وقوفا عن كثب منه ينظرون ولا يمدون إليه يدا، ويشهدون الرجل مستبسلا بكل قوته، متحاملا على نفسه، ويودون لو أنه خيب دونها، ووقع صريعا يائسا راجعا أدراجه قبل بلوغها؛ لأنهم يرون الأشخاص قبل المبادئ، ولا يكبرون المبادئ وإن صلحت وسمت، ومشت مع الحق، واطردت مع الصواب؛ حتى تكون عليها «الماركة» المسجلة التي يحبونها، ولا يريدون شيئا غيرها.
ونحن لم نر شعبا من شعوب الدنيا هو أغرب أمم الله نفسية من شعبنا هذا، فلو أنك صنعت في هذا البلد الصنيع الجميل، وقذفت على أعين الجماهير أكبر المحمدة، وقدمت إليهم أجمل أثر من آثار ذهن خصيب، أو موهبة سامية، أو مقترح طيب، أو مبتدع حسن، ثم لم تنشر على الناس اسمك، ولم يكن لهم بك علم، ولم يتردد على أفواه القوم لك ذكر، فأنت لديهم «نكرة»، وإن كانت فعالك الكبيرة «معرفة»، وإن عملك العظيم، أو مقترحك الجميل سيذهب غير مأبوه به، ويمضي خجلا منزويا لا أحد يمد إليه يده، ولا قوم تطاوعهم أنفسهم أن يتناولوه بالبحث، ويعالجوا فحصه، واستقراء مناحيه، والغاية منه، والنتيجة التي يؤدي إليها، والأثر الذي سيجديه على حياة الشعب ونهضته.
وبجانب ذلك ترى أحقر الآراء قيمة، وأسخف الفعال أثرا، وأوخم المقترحات عاقبة، لا تلبث أن تنتشر وتذيع، إذا جاءت من ناس كبار الأسماء في البلد، مشهوري الألقاب، وإن كانوا أبلد الناس أذهانا، وأغثهم فكرا، وأطيشهم لبا، وهي حرية بأن تجد في الجماهير مزمرين لها، وعازفين، وقمينة بأن تصيب عند الناس من ينهض لها بالتحبيذ والتأييد؛ وهي متساقطة، لا تستطيع الوقوف على رجليها، متماوتة تنبعث منها ريح العفونة، والبلى، والفساد.
وكل شيء في هذا البلد كثير الصياح هو كبير القيمة عند الناس، وكل عمل محوط بالصنائع يحبذونه من ناحية، ويوسعون في فضله الضئيل من الأخرى، هو المخلد عندهم، الظافر بإعجابهم، فالكاتب الذي وثب عند الناس بأدبه التجاري يزجيه في ورق مصقول، ورسوم لطيفة، وطبع أنيق، وأسلوب مخادع، وألفاظ منمقة، لا يستقر تحتها غير معان بخسة لا تساوي التعب الذي يبذله القارئ في اكتشافها؛ لأنها لا تحب ظهورا للعيان؛ خشية أن تتبخر على حرارة الشمس، وتتلاشى أجزاؤها الأثيرية الطائرة، الصغيرة المحتضرة، ذلكم الكاتب الذي يخرج الكتاب تلو الكتاب في فترة لا يستطيع أخصب الكتاب أذهانا، وأنضجهم قرائح، وأغزرهم مادة من المعاني الطريفة وليدة الخاطر السري المتين، الجبار الممتلئ قوة وشبابا وصحة، أن يخرج في مدة وجيزة كتلك، ولا قطعة من كتاب واحد من تلك الأسفار «الأصفار»، وما كان ذلك من أولئك المؤلفين فضل أدب، وسجاحة خاطر؛ وإنما هي عاصفة من الألفاظ اجتمعت كلها تحت نوء واحد؛ فاجتمع منها كتاب طويل عريض، كله رعود وسحائب من السخف والطيش، وبلادة المعاني.
وذلك الكاتب - وهذا شأنه - هو الذي قد احتكر السوق، وبرز في الميدان، وشغل المطابع، وتسابق إليه الناشرون، وأغلب الناشرين في بلدنا هذه أميون، فلا يدركون مما في أيديهم شيئا إلا ملازم «وبنوطا»، وثمن الطبع والورق والإعلان، وما بعد ذلك من ربح، ومتجر نافق، وبضاعة تبهظ السوق، وتأتي بأجزل المكاسب.
وهكذا ترى كل صاحب عمل في هذه الأمة يشتهر ويعمل للشهرة وحدها يصل إلى النجح في عمله بتلك الأساليب التي شرحها «ماكس نوردو» في مقاله عن «النجاح وأساليبه»، ويحتال بتلك الطرق الغاشة الخداعة، التجارية المداهنة التي ذاعت في هذا العصر المادي اللئيم الطبع، النائم الضمير، هو الذي تجده الموفق، وتراه ملء أسماع القوم، وموضوع احترام الجماهير، وإعجابهم به، على حين تشهد في كل صناعة من الصناعات، ومهنة من المهن؛ وفي الأدب والتأليف، والعلم والفنون قوما متخلفين لا عن عجز، مغمورين لا عن بلادة وضعف ويأس، ولكنهم لم يصيبوا في الناس توفيقا؛ إذ أعوزتهم تلك الوسائل التي اشتهر بها غيرهم، وعز عليهم أن يجدوا ما وجده سواهم من طرق الإعلان عن أنفسهم، والاتجار بمظاهر بضاعتهم، لا بالبضاعة نفسها؛ لأنهم أشد من الأمريكان احتيالا على «الركلامات»، والإعلانات؛ فثلاثة أرباع عملهم إعلان، وللبضاعة ربع ليس غير.
وقد ظهرت عوارض هذه النفسية العجيبة في السياسة، وبدت آثارها في هذه النهضة، فكنا فيها عبدة أشخاص، ووثنيين في احترام الأسامي والألقاب، ولقد ماتت في هذه البلد مبادئ شريفة صالحة؛ لأن أصحابها لم يجدوا لهم «مطيبين»، ولم يستطيعوا أن يجلبوا «الحاوي» لإظهار مفاتن مبادئهم، وسحر آرائهم، ويخلقوا من غير شيء شيئا خياليا ذا رواء وطلاء، ومظهر جميل تحته سخف وطيش.
وقد اشتهرت بجانب تلك مبادئ أخرى وخمة ركيكة، غثة غير صالحة، وأقبل عليها الناس يمتدحونها، ويؤيدونها بكل ذات نفوسهم، وكان الحق بأن تحتضر في المهد، وتلفظ أنفاسها وهي في «القمط»؛ لأن حياتها مفسدة وإثم كبير، ولكنها ليست «بنت موت»؛ ولذلك عاشت وطالت، وأينعت وثبتت، وفي الدنيا الشيء الكثير يعيش وينمو، وهو أولى بأن يروح قصير الأجل، مصابا برئتيه، محكوما عليه بالإعدام.
وليس في هذا البلد رجل أعمى القلب، حسير البصر، فائل الرأي، منخوب الفؤاد، يستطيع أن ينكر أننا قد تخلصنا من ذلة الحماية، ورجعت إلينا نعمة السيادة بذلك الاعتراف الصريح الذي نزل عنه الإنكليز، ونشروه في العالم كله، وخابروا دول الغرب به، ولكنا لا نزال نرى قوما يودون لو استطاعوا نكران هذه المنة الكبرى التي ستروح في عنق هذا الجيل كله، وستنحدر منه كذلك إلى رقاب الأجيال القادمة، ولا يزالون متسخطين لا يرضيهم ذلك الاعتراف، ولا يروق في عينهم ما وقع لنا بعده من نعمة البروز في الشمس، واستنشاق أول نسائم الحرية، وما ذلك منهم إلا حسرة على أنهم لم يصيبوا من كل ذلك فخارا لأنفسهم؛ ولم يظفروا منه بمحمدة السعي في سبيله، ولم يأت إلينا عن طريقهم، ولم نصل نحن إليه على أيديهم، ونحن نقول لهؤلاء الأنانيين حتى في الوطنية: إننا نؤمن بوطنيتهم، ولا ننكر أنهم كانوا في المسعى مع المجتهدين، وإننا مدينون لهم بجهادهم، معترفون لوطنيتهم بفضل سعيها وحميتها، وشدة بأسها، وثبات قدمها ، ومغالاتها في رد الحق إلى وطنها، فإن هذا الوزير لم يكن منحرفا عن سبيلهم يوم زالت الحماية، وأكره الإنكليز على الاعتراف بسقوطها، ولم يكن مزهوا عليهم بشيء مما عمل، ولا معجبا بنفسه لما أحدث وقدم، ولم يكن هو من الخارجين على قومه يوم كانوا هم في الداخلين فيهم، ولم يكن خائنا يوم كانوا مخلصين، وليس في هذا البلد رجل واحد لم يكن يود أن يرى تلك الحماية مرفوعة، مهدومة، زائلة، فلما زالت، وانمحت، واندرست انبرى فريق يود لو أنها لم تزل ولم ترفع، حتى يكون هو مزيلها ورافعها، ولو أنها زالت على يده، وعفت آثارها بفضل نضاله وسعيه، لما أطاق أن يرى له معارضا، ولعمله منكرا، ولو وثب إليه قوم فجحدوا صنيعه، وأنكروا يده، راح أولئك القوم خونة في نظره، جاحدين مارقين، عمي البصائر لا يدركون.
ونحن نعلم أن في كل أمة من أمم الحضارة أحزابا سياسية، ونرى أن تلك الأحزاب هي في تلك الأمم المحرك الذي يدور عليه رحى النظام، وتتطاحن تحته الوطنيات بضروبها، فمن غلبت وطنيته اكتسب الحومة، وتناول دفة الحياة، ولقد تضاربت آراء الكتاب والمفكرين، والذين تصدوا للبحث في أنظمة الاجتماع، واختلفت مذاهبهم، وتباينت أحكامهم في فضل الأحزاب في الأمة، أو ضررها الذي ينجم عنها؛ فأما الذين أغلظوا القول عنها، وحكموا عليها أشد الحكم، فقد كرهوا منها ما رأوا تحتها من ذلك الاتفاق المتكلف المصطنع الكاذب، الذي يربط أفراد الحزب الواحد ببعضهم البعض، وما يقابل ذلك من الخصومة المتكلفة، والمخالفة الكاذبة المغشوشة التي يظهرون بها أمام معارضيهم وخصومهم؛ إذ يبقى كل حزب على عناده، مصرا على أن لا يقتنع أو يرضى بحجة الجانب الآخر، على حين يظل الفرد متجمدا مثلج الرأي، مندمجا في حزبه، لا يستطيع انفلاتا ولا تفكيرا لنفسه، ولا استقلالا برأيه عن غيره، وإنما يعيش بعقلية الجميع، وقد يخلو إلى نفسه فيرى باطل ما رآه في الندوة، وفي وسط حزبه، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى الجماعة؛ فينسى نفسه وتفكيره في لجة التيار، وحرارة المجلس ، وهذا الإجماع الذي يبدو به أفراد حزب من الأحزاب لا يزال في نظر أولئك الاجتماعيين المدققين كاذبا، لا حقيقة له، مضرا بالمجتمع، مؤذيا، خطرا على صالح الشعب، ذهابا بالفائدة المرجوة من التعاون على العمل، والتواصل، والترابط في النظر إلى شؤون الأمة، ولأنه يقتل روح حرية الفكر في الفرد، ويميت روح الاستقلال في العمل، وهما دعامة الديمقراطية في حكم الأمم.
Halaman tidak diketahui