وأعجب من ذلك أن الناس في عصره صدقوه؛ وارتضوا معاذيره، ولم يعنوا مرة واحدة بنقد كلماته، أو تخطئة حججه، وذلكم عمركم الله أبلغ ما رأينا من رواج الكذب في عهد النهضات العامة، وأغرب ما شهدنا من حماقة الجماهير، وبلاهة الجماعات.
وقد أصيبت حركتنا القومية بضرب من هذا الكذب؛ ولكنه لم يكن في قوة ذلك وعنفوانه، وقحته وتبجحه، ولكنه لا يزال كذبا فنانا، محبوك الأطراف، بديع النسج، رقيق الغلالة، وقد غشى ذلك الكذب بوادر النهضة، ومقدمة المفاوضات؛ وطلائع الوفود والبعثات، فسمعنا أحاديث طلية، وقرأنا صحفا طيبة، وكلما عذبا رقيقا، وأبحاثا شيقة مستفيضة، لو أن بعضها صح وتحقق، لكنا منذ أعوام ننعم بحريتنا الضائعة، ولما ظللنا نستطيل الأيام، ونعاني آلام القلق والحيرة، والعذاب النفساني، وخشية اليأس؛ والفزع من الفشل.
وكم من أناس تجلوا لأعيننا في أول وهلة يحملون مادة البطولة في صدورهم؛ وكتاب الوطنية الملهبة المسعورة تحت أذرعهم، وسلكوا أنفسهم في الزعامة، وتهالكوا على القيادة، فأفسدوا على أهلها عملهم، وشوهوا جمال حركتهم، وأهل الزعامة لا يتيسر لهم وضع امتحانات في الفحص والاختبار، وليست الزعامة مستطيعة أن تمشي في عملها على أسلوب من أساليب «الماسونية»؛ فتأخذ الداخلين في دينها أفواجا بالتجربة، وترسل إليهم ما يخيف لتعلم هل خافوا، وتفحص رباطة جأشهم لتستوثق من سكون أعصابهم؛ ومتانة نفوسهم؛ إذ لا تتسنى لها الفرصة، ولا يواتيها الزمن، وقد تهيم وتضل، فلا تكون ضلتها إلا إثم رجل من رجالها، ومقرفة عضو من أعضائها، فتعرف هي بالخطأ، ويشار إليها بالضلال، ويختفي الآثمون؛ وتعود الجرذان الصغيرة الخبيثة إلى الأحجار، وكان من صناعة الكذب التي مهر القوم فيها، وحذقوا أساليبها في أوائل العهد بنهضتنا أن اختلف الناس في الحق وهو واضح جلي، وتعارضوا في الظاهر وهم متفقون مبدأ وعقيدة؛ حتى ظن الذين يشرفون علينا من وراء البحر أننا قد رحنا متطرفين ومعتدلين، ومتساهلين ومتشددين، ولا ندري لمعنى الاعتدال الذي ظن الذين وسموا بالتطرف أنهم نجوا باسمهم ذاك من وصف سيئ؛ وسبة أليمة، إلا أن المعتدلين إنما يطلبون الحرية، ولكنهم يريدون معها النظام، ويجمعون إليها السلام والوفاق، والسكينة، ومستلزمات الحضارة الهادئة العاقلة، فهم يطلبون ملكية ديموقراطية، مستقلة اليد في أمرها؛ ولكنهم لا يريدون أن يخلعوا عليها إذا قدمت لهم ألوانا من تلك الفوضى التي كانت فاشية في العصر الذاهب، وكانت علما على الحماية الأليمة المقيتة، وهم يستنكرون على الوطنية أن تجعل القتل والجريمة خطة من خططها، ويرونها الخيانة بعينها إذا هي كسرت قوانين الأخلاق، وتعدت سياج العقل والمنطق، ومضت موحشة مفترسة، مذهوبة اللب، لا تعي ما تقول، ولا ما يقال لها، أما التفريط في الحقوق، والاعتدال في الطلب، والتأدب في المفاوضة، والاحتشام في السؤال، والمصانعة في المناقشة، فأولئك لم تدخل مطلقا في خطة فريق من الناس؛ ولم تكن برنامجا من برامجهم، وإذا قيل: إن في هذا البلد حزبا من المعتدلين؛ وآخر من المتطرفين، فلن يجسر أحد أن يقول: إن فينا «حزبا من الخونة»؛ إذ لو اجتمعت هذه المبادئ في أذهان عصبة من الناس لكانوا «الحزب الخائن الأكبر».
وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء بأن نسمى جميعا «معتدلين» إذا كانت هذه وجوه الاعتدال، ومادته وأساليبه؛ وليس المتطرفون إلا وصفا شعريا يأبى فريق من هذه الأمة إلا أن يوسم به، وإن كان ضلة وخطأ مستكملا، وما ذلك منهم إلا جريا على العادة، ومطاوعة للأنانية، واستسلاما لهوى النفس، ومغالبة للعاطفة؛ إذ يريدون أن يقع لهم الفخر وحدهم إذا تغير تاريخ هذه الأمة، وتبدل نظامها، ويودون أن يصيبوا هم المجد من الجهاد والشرف من السعي، فإذا أتيح لغيرهم أن يبلغه قبلهم، وواتت الأقدار فريقا غير فريقهم؛ فوصلوا إلى تحقيق أمنية الأمة قبل وصولهم، أنكروا ما تحقق، ورفضوا ما جاء، وعابوا ما أنفذ، وألقوا في روع الجماهير أن النية فيما وقع على أيدي الآخرين البيع والمساومة، والاستهانة بحق من الحقوق، والتفريط في مطلب من المطالب.
وذلكم شأن القادة في النهضات الأهلية، وذلكم ديدنهم، فروبسبيير كان يحقد على كل رجل سواه أوتي وطنية كوطنيته، أو أعقل منها، وأمتن روحا، وكان يريد أن تكون زمام النهضة كلها في يده، يصرفها كما يشاء، ويمشي بها كما يريد، حتى لقد تمادى به الولوع بالسلطان، والعمل لاستعباد الجماهير، أن أنشأ عبادة جديدة، هي كما أسماها «عبادة المخلوق الأعلى»، ولا ريب في أنه كان بجانب هذا الرجل قوم مخلصون مثله، لا ينقصون عنه حمية وعبادة لوطنهم.
وأنت فترى أهل الزعامة في النهضات القومية، والقواد الوقوف في الطليعة؛ ينادون في مبدأ أمرهم بطلب حق مهضوم، ثم ينتهون بأن يستخدموا هذه المناداة لإشباع شهوة أثرتهم، وحبهم للنفوذ، فقد كان أولئك الزعماء روبسبيير، ومارات، ودانتون، وشيعتهم من الجبليين
1 ، إنما يريدون أن يقلبوا وطنهم رأسا على عقب، ويهدموا بناء الحكومة لكي يردوا على الشعب الجائع حقه المضيع، ويستخلصوا العدل من الظالمين، فلما جن أولئك بالسلطان، وأغراهم التفاف العامة حولهم، طاشت عقولهم، وضل ضلالهم، فمدح روبسبيير في صبيحة يوم وصفق له في الندوة، وألقيت المدائح، وكلمات الإكبار والإعجاب بإخلاصه، والتفاني في محبته، ثم لم يجد في اليوم التالي من كل هذا شيئا؛ بل رأى القوم متجهمين له متنكرين، عابسين متسخطين، وشهد في المساء المقصلة معدة لاستقباله، والسكين معلقة فوق عنقه، فما أغنى عنه شيء من ذلك الحب، ولم تنقذه مكانته الأولى، وهذا دليل جلي على أن الذين يتصدون للزعامة لا ينبغي أن يغريهم تشبث الناس بنحورهم، واحتشاد القوم عند أبوابهم، فيستخدموا هذا الحب للذة نفوسهم، فإن الجماهير متقلبة الرأي، زئبقية المزاج، تغلب عليها النفرة من جانب إلى جانب، والنقلة من مضطرب إلى مضطرب، وليس أعجب في العالم من قوم يحبون الحرية، ويتغنون بها؛ ويتصايحون عليها، ثم يتخذون في سبيل استخدام نفوس الشعب لمصلحتهم أشد ضروب الاستبداد، وألعن ألوان السلطة المطلقة، وهي أكبر ما ينافي الحرية ويناقضها!
وكذلك لا تجد أولئك القادة في طلب الحرية إلا طلاب مآرب، وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الزهو بمكانتهم سيجعلهم في منتهى أمرهم، ولا ريب كذلك.
ومن وراء أولئك القواد فريق من الطبالين، وكتيبة من الزامرين، وفرقة من ضاربي «الرباب»، وهؤلاء لا يتمدحون رجلا من الصفوف الأولى إلا إذا ظل على مكانته، ولا ينتمون إلى حزب من الأحزاب إلا إذا جلد على سطوته؛ لأن أفئدتهم صحراء لا تعيش فيها العاطفة، وقلوبهم قفر من معاني الوطنية، خلاء من روح الإخلاص لأحد، أو الاكتراث بنهضة بلادهم، وهم ضعفاء الشخصية، تجرهم كلمة؛ وتسوقهم خطبة، وتجتذبهم قصيدة، فقد وقف قوم من أولئك يمتدحون على رؤوس الشعب، وفي وسط الجموع، في تلك الثورة التي نحن بسبيلها، زعيما من الزعماء، ورأسا من الرؤوس، وينعتونه بأنه أكبر رمز لأمانيهم، والمحرك الأول لنهضتهم، وأنه أحق منهم بالعبادة، وأولى من الجماهير بأكاليل الغار توضع فوق رأسه، وبالتماثيل تنحت لوجهه؛ وتجاب لمحياه، ثم لم يلبث أن سقط في الغد معبودهم ذاك عن أوج عليائه، وانفض الناس من حوله، وجاؤوا إليهم يتلومونهم، ويعيبون عليهم تمداحهم له، وحشد تلك المدائح يقذفون بها عند قدميه؛ فكان اعتذار أولئك الزمارين خليقا بنفوس كنفوسهم قفر يباب، لا تجلد على مبدأ، ولا تلتزم عقيدة واحدة؛ إذ قالوا: إنه كان لا بد لهم من مؤاربة ذلك القائد الزعيم، وكان لا غناء لهم عن مخادعته، والتملق لغروره، وإثارة أنانيته؛ حتى يغريه المديح بالوقوع في الضلة، وحتى يدفعه الثناء إلى ركوب رأسه؛ فيرتكب ما ارتكب، ويقترف ما كان منتظرا منه أن يقترف، ولقد كان ذلكم هو الباعث الذي بعثنا على أن نركم أمامه كل تلك الأكوام من الأماديح التي تشكون منها، وتتسخطون علينا من أجلها، ومن عمركم الله لام بروتس الروماني يوم كان يخادع «تاركوين» بالثناء عليه؟ ...
وفي كل بلد من هؤلاء كثيرون يؤلفون جمهورا كبير العدد، ولكنه ضئيل القيمة؛ إذ ليست القوة في العدد كما هي في الصفة والمزية، وهؤلاء إذا التفوا حول رجل من العقلاء أفسدوا عليه لبه، وشوهوا جمال وطنيته، وأضروه دون أن يجدوا على عمله، أو يردوا على عقيدته، وبمثل هؤلاء الجند لا ينتصر زعيمهم في معركة، ولا يربح ميدانا، ولا يفوز بغاية من مطالب نفسه؛ لأنهم أشد القوم فرارا إذا ضعف الرأس، أو ارتد القائد عن معقله، وهم خاذلوه بعد المعركة، وإن ربحها إذ سيختلفون على قسمة الأسلاب، ويتنازعون يوم الغنائم، ويتهالكون على «الجائزة»، ويتقاتلون على أكبر الأسامي، وأنبل الألقاب في الشعب، ثم يأتي من بعد هؤلاء جموع عظيمة من صغار الأحلام، وعدد عديد من الشبان والفتيان، يحملون كراسات الدرس في يد، وفي اليد الأخرى علما من الأعلام؛ ليكونوا في وسط النهضة عقيدة المستقبل تشد عقيدة الحاضر، وليتكلموا بألسنة الجيل القادم، ويصرخوا بأصوات ثلاثين سنة مقدما؛ فينقلب بهم ميدان العمل في سبيل الحركة ملعبا من ملاعب «كرة القدم»؛ إذ النهضة في أنظارهم ضرب من الألعاب الرياضية لا يختص بفصل معين من فصول العام، ولا يروج في ميقات محدود من مواقيت السنة، بل يجري على العام كله، ويلذ اللاعبين في الصباح، وفي المساء.
Halaman tidak diketahui