لو اختَصَرْتُم من الإحسانِ زُرتُكُمُ ... والعذْبُ يُهْجَرُ للإفراطِ في الخَصَرِ
ولما دخلَ أبو الحسَن عليُّ بنُ محمد التِهامي على حسّان بن جرّاح الطائي صاحب الشام أنشده كلمته التي يقول في أوّلها:
هلِ الوجْدُ إلا أن تلوحَ خيامُها ... فيَقْضي بإهداءِ السّلامِ ذِمامُها
فلما بلغَ الى قوله:
ألا إنّ طيًّا للمكارمِ كعبةٌ ... وحسّانُ منها ركنُها ومَقامُها
تقِلُّ لك الأرضونُ مُلْكًا وأهلُها ... عبيدًا فهل مُسْتَكثَرٌ لك شامُها
وهبَه مدينة حَماة وأعمالها.
ومن تأثير الشعرِ في الأنفُس الأبيّة أن الظّاهرَ بمصرَ كان قد عزلَ عن وزارته أبا القاسم ابن المغربيّ، وانفصلَ عن البلاد المصرية واتصل ببلاد مَيّافارقين، واستوزر بعدَ المغربي عليَّ بن أحمد الجَرْجَرائيّ، فكان المغربيُّ يواصلُ التِّهاميّ بالصّلات والملاطفاتِ حتى قدِم عليه ومدحَهُ بقصيدةٍ أولُها:
فؤادي الفِداءُ لَها من قُبَبْ ... طَوافٍ على الآلِ مثل الحَبَبْ
ثم قال فيها:
فمَنْ مُبْلِغٌ مِصْرَ قولًا يعُمُّ ... ويختصُّ بالملِك المُعتَصَبْ
لقد كنتَ في تاجِهِ دفرّةً ... فعُوِّضَ مَوضِعَها المُختَلَبْ
فإنْ سُدّ موضِعُه لم يُسَدَّ ... وإن نيبَ عن مثلِها لمْ يُنَبْ
إذا اغتربَ الليثُ عن خِدرِه ... غدا الشاءُ فيه يَلُسُّ العُشُبْ
أتيتكَ مُمْتَدِحًا للوداد ... ولمْ آتِ ممْتَدِحًا للنّشَبْ
فبلغ الجرجرائيّ قولُه فما زال يُعمِل الحيلةَ حتى قدِم التهامي مصرَ فحبسه وطال حبسه. وله أشعارٌ كثيرة قالها في مَحبَسِه متَندِّمًا على قدومه معتذرًا من بادرة منظومِه، فمن ذلك:
لنَفسِكَ لُمْ لا عُذْرَ قد نفِدَ العُذْرُ ... بِذا حَكَمَ المقدورُ إذ قُضيَ الأمرُ
يقول فيها:
جنَيْتُ على نفسي بسَعْيي إليهِمُ ... وماليَ من أوفى مواثيقِهم عُذْرُ
وماليَ من ذنْبٍ سوى الشّعْرِ إنّني ... لأعلَمُ أنّ الذّنْبَ في نكبتي الشّعْرُ
أسيرٌ لدى قومٍ بغير جنايةٍ ... ألا في سبيل الله ما صنع الأمرُ
وله من أخرى:
أيا مَنْ نَعاهُ لسانُ القَريضِ ... وكالنَّدِّ ينشُرُ منْ عَرْفِهِ
يعِزُّ على الدّهْرِ ما أنتَ فيه ... وإنْ جلَّ ما بك من صَرْفِهِ
وضاعفَ وجْديَ لمّا سُجنْتُ ... مقالةُ مَنْ لَجّ في عُنْفِهِ
يقولُ وبعضُ كلامِ السفي ... هِ يقتُلُ إنْ هوَ لمْ يُخْفِهِ
أهَذا التِهاميّ من مكةٍ ... برِجْلَيْه يسعى الى حتفِه
ألمْ يكفِه أنّ ثوبَ الحيا ... ةِ ضافٍ عليهِ ألمْ يكْفِهِ
أرادَ يَطيرُ مطارَ المُلوكِ ... وظنّ الأسنّةَ من زِفِّهِ
أبالشِّعْرِ ويْلَك تبغي العَلاء ... وأنتَ تُقصِّرُ عن رصْفِهِ
ولم تكُ أهْلًا بأن تستقرَّ ... على مِنبرِ المُلكِ أو طرْفِهِ
لأنّكَ أنْزَرُ من شاعرٍ ... علي خِسّةِ الشِّعرِ في وصْفِه
أرَقتَ دَمًا طالما صُنْتَهُ ... وأشعَلْتَ جمْرًا ولم تُطْفِهِ
وأشفَيْتَ مُنتظِرًا للبَوارِ ... وصدرُك حرّانُ لم تشْفِهِ
إذا نشِفَ العودُ من مائِهِ ... فذلكَ أدْعى الى قصْفِهِ
فلما طالَ حبسُه أشار الجَرْجَرائيُّ الى غُلامِه لبيب أن يقتلَهُ في مَحْبَسِه فدخل إليه لبيبٌ ليلًا فخنَقَه. ولولا الشعرُ لما تأثّر به تأثّرًا حمَلَه على قتلِ النفس والخلودِ في نار جهنّم.
1 / 62