يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أن عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه ، منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه؟ وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من أن يكون منفرا ؛ وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقربا ، فدل على أن المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه ، فان قيل : فهذا يقتضي أن الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين أنها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟
قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ؛ لأنا نعلم أن من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما ، وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه ، عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا ما يعير الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ؛ لأن الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى أن كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة ، وأن القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا ، وإن فارق الأول في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأول من أن يكون منفرا في نفسه؟
Halaman 268