Pancutan Lama: Lukisan Cerita
النبع القديم: لوحات قصصية
Genre-genre
كانت أمي تخطو في ثوبها الأسود وملاءتها السوداء، ويلفها صمت لا يقل سوادا. وكانت دموعها تسح باستمرار ويزداد انهمارها كلما قلت شيئا، لذلك لزمت أنا أيضا الصمت حتى وصلنا إلى بيت خالي. دخلنا من الباب المفتوح على طرقة شبه معتمة، ومالت أمي إلى اليمين وانحنت تقبل رأس عجوز جالسة وراء الباب على حصيرة قديمة. كانت العجوز الضريرة هي زوجة خالي القديمة، التي أنجب منها أكبر أبنائه، وكانت هذه هي جلستها بالليل والنهار إلى أن يحين موعد نومها فينقلوها إلى فراشها. وقد تعجبت لأنها عرفت أمي من صوتها، ونادت عليها باسمها، وسألتها عن أولادها وبناتها.
قالت أمي: بخير يا حاجة، كلهم بخير ويبوسوا يديك ويسألونك الدعاء ...
سحبتني أمي من يدي، فانعطفنا يمينا إلى ساحة واسعة تجاورت فيها أبواب حجرات الأبناء في شبه دائرة كبيرة. كانت حجرة خالي إلى اليمين مباشرة، فاتجهنا إليها وطرقنا الباب. رحبت بنا زوجته الطويلة العجفاء، وأيقظت زوجها الذي كان قد اقترب موعد صحوه بعد نومة القيلولة. قال لأمي: سلامات يا أم محمد، خير إن شاء الله ... ردت أمي: خير بإذن الله. ثم وهي تشير إلي بالخروج: رح العب مع الأولاد، أو رح معهم إلى الزريبة وتفرج على الحمار والبهائم ... يا الله يا بني ... رح أنت لغاية ما أنادي عليك ...
خرجت وأنا أسحب الباب ورائي، ثم وقفت متلكئا أمامه. بعد السلام والطيب ترددت كلمات وعبارات، التقطت أذني بعضها وبقي بعضها الآخر ألغازا لا يفهمها عقلي: حق شرعي إيه يا زينب أنت وزوجك؟ بعد العمر والسنين يطالب بحق شرعي صرف على جهازك وزواجك؟ إذا كان زوجك عقله انجن خليك أنت عاقلة. أنا قلت لك وله نفس الكلام من زمان، وياما قلته وكررته، لا لك حق عندي ولا عفريت أزرق. قومي روحي بيتك، بيتك هو المكان الذي فيه أولادك. لا لا ... ارجعي بيتك في الحال، أنا مالي أخت تبيت خارج بيتها. قلت لك ارجعي لزوجك وعيالك. لك أهل طبعا وأنا أهلك وأخوك الكبير. إذا حصل منه شيء، فالرجال لهم كلام مع بعض. قومي يا بنت الناس، قومي ارجعي لبيتك قبل الدنيا ما تليل. يا لله توكلي على الله يا بنت الحلال، وابن الحلال زوجك خليه يضع عقله في رأسه. واطمئني يا أختي، حطي في دماغك إننا أهلك وسندك في كل الأحوال ...
بعد قليل خرجت أمي من الباب وهي تجفف عينيها بمنديلها. وضعت زوجة خالي يدها على ظهرها، وراحت توشوش لها بكلام لم أسمعه. ومالت أمي في الطرقة المعتمة على القعيدة الضريرة، وقبلت يدها وسألتها الدعوات الصالحة. ورجعنا نهبط الشارع المنحدر من بيت خالي إلى شوارع وحواري وأزقة، عبرناها قبل قليل ... سرنا صامتين بعد أن شعرت بأن أمي لا تطيق أن تسمع كلمة واحدة. كانت بين الحين والحين تردد: الله يسامحك. الله يسامحكم كلكم. ولأني لم أفهم الذنب الذي ارتكبوه، فلم أسأل عن أي شيء، وظللنا سائرين كشبحين في غبشة المساء حتى وصلنا إلى البيت. طرقت الباب، ففتح أبي وهو يتمتم بآيات ودعوات لم أتبينها. كان واضحا أنه يختم صلاة العشاء. تراجع قليلا إلى الوراء، وقرأ كل شيء على وجه أمي الذي لفه الصمت والأسى، ثم قال: جاءك كلامي؟ عرفته على حقيقته؟ ادخلي يا بنت الناس ادخلي. من هنا ورايح اعرفي أن الله حق ... انفجرت أمي في البكاء، وسحبتني من يدي، فطلعنا السلالم صامتين، واتجه كل منا إلى حجرته.
النبوءة
في ضحى ذلك اليوم البعيد الكئيب - كان يوم جمعة، وفي يوم الجمعة ساعة نحس - صحوت من نومي على صوات أشبه بحريق مشتعل بالصياح والصراخ في بيت من بيوت الجيران. صوات يثقب الأذن كمسمار محمي بالنار، ويروع القلب ويهاجمه كالفزع الأكبر. جريت إلى أمي لأعرف الخبر، كانت تطل من شباك حجرة الفرن وتكلم جارتنا الست سكينة. أغلقت الشباك، والتفتت إلى وجهي المختلج بالخوف والرعب، قالت في صوت حزين: يا ابني أنت فيك شيء لله. وقفت حائرا وقلبي يخفق متوقعا الشر، فأردفت قائلة: أنت يا ابني مكشوف عنك الحجاب ... - كيف يا أمي؟ لماذا تقولين هذا؟ - الرؤيا التي حكيتها لي يوم الجمعة الذي فات تحققت اليوم، والنار التي شفتها في المنام أحرقت بيت الحاج فرحات وربنا يصبره على ما بلاه. - ماذا حدث؟ هل مات الحاج؟ - أبدا يا ابني، عزرائيل ترك الرجل العجوز وخطف ابنته. - بنته؟ لولا؟ لا يمكن. مستحيل، أنا كنت معها هي وأخيها أحمد من أسبوع واحد. لولا راحت؟ قلت لك مستحيل ... - رح اسأل يا ابني وقف مع صاحبك. أمر الله وقضاه، والأعمار بيد الله ...
نزلت السلالم كالمجنون متوجها إلى سراي الحاج فرحات على الناحية الأخرى من بيتنا. كان كل شيء مطابقا للرؤيا التي لمعت في ذهني، كأنني شاهدتها ليلة الأمس؛ الحريق الذي رأيته يأتي على البيت ويتركه كركام متفحم كان يشتعل في الحناجر التي تصرخ، والأنين الذي يتصاعد من الكبار والصغار، والرءوس المستندة إلى الجدران غير مصدقة، بينما ترتج الظهور ببكاء لا ينقطع. وجري وهرولة ونداءات وصيحات مذعورة، ورجال ونساء يهبطون من السيارات والحناطير ويسرعون بالدخول من الباب الكبير، وهم يولولون ويبسملون ويحوقلون. وأقترب من أحد الواقفين لأسأله عن صديقي وزميلي أحمد، فيقول: راح الجبانة مع الرجال ليفتحوا المدفن ويجهزوا تربة الصغيرة المسكينة. وأبتعد عن الهرج والمرج، وأقف على جانب الطريق. هل يمكن أن يحدث ما حدث؟ هل تغتال الزهرة المتفتحة وتذبح العصفورة الحلوة فجأة ودون ذنب؟ قالوا هي السكتة القلبية التي لا تصيب غير الشيوخ الكبار، فكيف تفاجئ بنت العشر سنوات؟ وأنا؟ ماذا أفعل أمام هذا الجنون والذهول؟ كيف سأحتمل الصدمة في أول حب تسلل إلى قلبي، أول حب أذوق حلاوته ومرارته؟ من المسئول يا ربي عن مقتل البراءة وموت الجمال؟ وكيف أمكنني أن أتنبأ بالهول الفظيع؟ أأكون بالنبوءة والرؤيا قد شاركت دون أن أدري في الجريمة؟ ويلي من شؤمي ونحسي ... وليتني ما دخلت بيتهم، ولا وقع بصري عليها، ولا تعلق قلبي بها، ولا حلمت بحبها حلم الكافر بالجنة.
ما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى خرج النعش الصغير محمولا على الأعناق، مشيعا بالصوات الجارح والنهنهات المفجعة والدعوات المرتعشة الخائفة. كان جمع كبير قد احتشد على الكراسي التي وضعت أمام البيت، ولمحت أبي وأخي الأكبر وسط زحام الماشين وراء الصندوق المجلل بالزهور والمغطى بالحرير. وتبعت الموكب من بعيد كأني حيوان منبوذ وطريد، تطفر الدموع من عينيه وهو مذهول، وتنغرز سكين الموت المحتوم لأول مرة في قلبه، فيطلق اللعنات على القدر القاسي الذي قضى على حبه وأمله الوحيد، عندما قضى على المحبوبة الممددة في نعشها الصغير. وبقيت واقفا على بعد من الجامع، مستندا إلى جدار ووجهي بين يدي، أخفيه عن الأعين كما يخفي المذنب خطيئته ويحاول أن يداري جريمته.
خرج النعش من الجامع بعد الصلاة على اللؤلؤة القتيلة، وسرت وراء الموكب الحاشد المتجه إلى الجبانة الكبيرة، محافظا على مسافة البعد الكافية عمن يعرفني ومن لا يعرفني، ومحصنا نفسي من كل عين تحاول أن تتسلل إلى كياني المرتجف الباكي لتعرف سري؛ الذي لم يعرفه ولن يعرفه أحد غيري.
Halaman tidak diketahui