Pancutan Lama: Lukisan Cerita
النبع القديم: لوحات قصصية
Genre-genre
أحيانا ينتابني الإحساس بأن الموت يحدق في من أبراج قرطبة، وأنه سيخطفني حتما قبل أن أبلغ قرطبة. لكنني أعزي نفسي بأن أناسا غيري ربما بلغوها وعاشوا فيها، وتنعموا بخيراتها وثمارها وأنوارها، وكنوز الحكمة والسعادة والحقيقة التي ستصبح في متناول أجيال أخرى تأتي من بعدي، أو أبناء أو أحفاد أو أحفاد أحفاد ربما يساعدهم الحظ والتاريخ وحكمة العقل والبصيرة أن يصلوا إليها ويحققوا حلمي وحلمهم بالعيش فيها.
وأظل أحلم بقرطبة الحرة العادلة الجميلة ...
وتظل قرطبتي وحيدة وغامضة وبعيدة.
1
البالونة
يمسكني أبي من يدي وهو يسحبني وراءه، وأنا أقفز وأحاول أن أحاذي خطواته السريعة الواسعة. يده تضغط أحيانا على يدي، فأتحير من هذه الضغطات القوية التي أحس بحنانها، وأرفع وجهي وعيني إليه فأراه متجهما معقود الجبين، زائغ البصر، محني الرقبة والظهر، ومثقلا بهم لا أدري عنه شيئا. وأفاجأ بأننا وصلنا إلى محطة السكة الحديدية، ودخلناها بالفعل. أوقفني عند كشك الجرائد والسجائر، ونبه علي ألا أتحرك من مكاني خطوة واحدة حتى يقطع التذاكر من الشباك الذي أشار إليه، ورأيت صفا طويلا من الواقفين أمامه. وجدتها فرصة للتأمل في أحوال أبي وأحوالي بعد أن أيقظني من نومي في الصباح، وأمرني أن أرتدي ملابسي بسرعة ولا أضيع وقتا. ولما عاتبته أمي على أنه سرع الولد حتى قبل أن يغسل وجهه أو يضع لقمة في فمه، سمعته يقول لها شيئا على انفراد لم أتبين منه سوى كلمة واحدة رنت في أذني كالجنازة، أو شيء شبيه له علاقة بالموت والأموات. وقفت في مكاني ساخطا على السفر والمحطة وبائع الجرائد، الذي نهرني أن أبتعد قليلا، والناس الذين يجرون ويزعقون ويشيرون بأيديهم وأذرعهم للأرصفة والقطارات الواقفة فيها، ويبدون في صياحهم واندفاعهم كأنهم مجانين أو مطاردون. والشيء الذي أغاظني في وقفتي التي طالت هي أن الوجوه التي تمرق أمام عيني لم تكن تقل جهامة وعبوسا عن وجه أبي. خيل إلي أن الجميع مثقلون بهموم فادحة، وكدت أيئس من رؤية وجه واحد يضحك، أو من سماع ضحكة واحدة تخترق زحام الحشود المتدافعة في هذه المحطة التي بدت لي ساحة مجانين ...
وفجأة لمحت عيني بائع بالونات يخترق الجموع، ويتجه مباشرة إلى كل أب أو أم تمسك في يدها طفلا. أعجبت بخفة حركته وخفة دمه، وبهرتني البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والصفراء التي تتمايل وتترنح على عصا يهزها في يده، وتتدلى منها البالونات كأعناب كبيرة وناضجة تتلوى في الهواء، وتكاد تسقط من فروع كرمة كبيرة وكثيفة. انشغلت بطبيعة الحال عن الزحام والقطارات والصفارات المدوية التي تطلقها كلما دخلت في أحد الأرصفة، والتصقت عيناي بالبالونات، وراحت تتابع رقصاتها المرحة، حتى كدت أتخيل أنها مهرجو سيرك ملونون يقدمون ألعابهم أمام وحوش مكشرة عن أنيابها ووجوهها المقطبة المخيفة.
وجاء أبي بعد أن شبعت جنونا بالبالونات، وملأت عيني وقلبي بألوانها ورقصاتها وحركاتها المضحكة. جريت نحوه وأنا أهتف به وأكاد أهدده بالبكاء: بالونة يا أبي! أرجوك يا أبي! أرجوك! تلفت أبي حوله والتكشيرة لا تزال تغرس وجهه وحاجبيه وعينيه. ووقع بصره على بائع البالونات وهو يستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. أشار للرجل أن ينصرف ويتركنا في حالنا، ولكن الرجل ظل واقفا في مكانه، ولم يفقد الأمل بسهولة. واغتنمت الفرصة فضربت الأرض بقدمي ومثلت دور الباكي الذي يرفع شكواه للسماء، ويزمع أن يفرج الخلق على الظلم الذي حاق به دون ذنب جناه. ويئس أبي مني، وسمعته يكلم نفسه قائلا: إحنا في إيه ولا إيه! ثم يمد يده إلى الرجل ويأخذ منه بالونا، وهو يقول له : منك لله أنت أيضا ... وعندما يسمعني أعترض على اللون الأبيض وأطلب بالونا أزرق، يسرع الرجل فيعطيه ما طلبت.
أعطاني أبي البالون، وهددني بسبابته المتصلبة التي كادت تدخل في عيني: خذ بالك، لا أريد فضائح، خلها في يدك ولا تتحرك من مكانك حتى أحضر سندويتشين من البوفيه. ثم وهو يستدير ويكرر تحذيره: سامع يا ولد ... لا أريد فضائح ...
مددت ذراعي بطولها على قدر ما يسمح الزحام والأجساد المتدافعة التي ترتطم بجسمي الضئيل النحيل، وأخذت أتمايل مع البالونة الزرقاء التي وضعت في يدي الحبل الذي ربطت فيه، ورحت أتراقص ذات اليمين وذات الشمال، وأغني أيضا. لم أجد المساحة الكافية لكي أركض وأجري وأذهب وأجيء، والبالونة - هذه المعجزة الناصعة الساطعة كالفيروزة - تتبخر في كل اتجاه غير مكترثة بشيء. كانت الأجساد التي تصطدم بي والأيدي التي تدفعني أقوى من أن تسمح لي بالرقص الحقيقي كما أن الوجوه المقطبة الغاضبة التي كانت تحدجني عيونها بنظراتها النارية كانت تشل حركتي وتكاد أن تقلب رقصي وفرحي غما وبكاء ومع ذلك لم أكترث بشيء، لا بالأجساد التي تدفعني وتزحزحني كل حين، ولا بالوجوه الساخطة والأفواه الفاغرة التي تصب لعناتها على الأولاد الأشقياء كنت أرقص «محلك سر» والفرحة تهز جسدي كله، وتكاد ترفعني مع البالونة لنحلق في سماء المحطة المزدحمة الكريهة الرائحة لم أكن أنا وحدي الذي يشعر بالفرح والسعادة، لقد خيل إلي أن السماء الزرقاء الصافية التي تعلو رأسي سعيدة معي، وأن الطيور التي تحلق في السماء تنادي البالونة لتحلق معها في الهواء الأزرق في ذلك اليوم الشتوي الدافئ المشرق، وأن نوافذ البيوت المتوهجة بضوء الشمس الذهبية تعلن عن سعادتها بهذا الفرح الطائش الشجاع.
Halaman tidak diketahui