في الركبتين من البيان؛ ثم إنه أجرى الكلمتين الأخريين على تلك الوتيرة معمولا في ذلك على فهم السامع الذي أخبرناه.
قوله ﷺ في بيان الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... الحديث).
هذا حديث جامع لأصول الدين. ولو آثرنا إشباع القول في بيان مسائل الإيمان، واستقصينا البحث عن مواقع الخلاف بين أهل العلم وأهل اللسان؛ كنا قد تعدينا عن شريطة الإيجاز في البيان؛ ثم إن الحديث ذو شجون والأنفاس غير متناهية.
والأولى والأمثل لأمثالنا أن نكتفي بما اتفق عليه الأمينان:
أمين أهل الأرض، وأمين أهل السماء ﵉.
ولقد رأينا أن نستكشف عن حقيقة معنى لفظ الإيمان من طريق الوضع والاشتقاق ليكون طالب معنى الحديث منه على بصيرة، فنقول: الإيمان مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف، والتصديق والتحقيق هو الغرض المبتغى عنه عند الإطلاق؛ لأن ما اعتقده الإنسان وصوره في نفسه يدخل فيه الشك واليقين، وما سمعه يحتمل الصدق والكذب؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما بالنسبة إلى المخاطب به قول يتردد بين الرد والقبول، فمن عرف حقا فأيقن به حتى يجد في نفسه استحالة أن يكون باطلا فكأنما آمن نفسه أن يعتريه فيه شك أو يصده عنه شبهة، ومن سمع خبرا واعتقد أنه صدق حتى لا يستشعر عن نفسه جواز أن يكون كذبا فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما ألقى من أن يكون مكذوبا أو ملبسا عليه.
ومن بلغه أمر أو نهي فاعتقد فيه الطاعة حتى لا يرى لنفسه في الترك أو الإتيان مسلكا؛ فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما أبلغ إليه من أن يكون مظلوما أو محمولا على ما لا يجب قبوله.
وعليه فقول المؤمن: آمنت: أي حق لي ما رأيته بقلبي وأدركته بعقلي وبدا لي صدق ما سمعته بأذني فآمنت نفسي عن الخطأ فيه والارتياب وآمنت الداعي لي إلى سبيل الرشاد عن التكذيب والشقاق بما أضمرت له وأظهرت له من التصديق والوفاق والإيمان بإثبات الباري سبحانه وإثبات وحدانيته وقدمه وعلوه عن سمات الحدوث، وتفرده بالإبداع والاختراع وإثبات أن وجود كل ما سواه كان بعد إيجاده، وأنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء، وإن كان تقتضيه العقول السليمة، ويستعد لقبوله الأوضاع الفطرية؛ فإن سبيل الوقوف على أسماء الله تعالى وصفاته وموجبات مرضاته وسخطه والاستعداد للمعاد في النشأة الثانية، وغير ذلك من الأمور التي لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيها بذاتها العقول هو التوقيف من عند الله بواسطة الأنبياء ﵈، وإنما انتهى علم ذلك إليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد بعثهم الله تعالى إلى عباده بذلك تنبيها لهم على ما ندبوا إليه للبعث بعد الموت. وقد أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وحكم به، فلم يكن الإيمان بالله وحده ينفعهم دون الإيمان بما أخبر عنه الأنبياء ﵈ على ما ذكرنا؛ فلهذا قال ﷺ: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... الحديث).
فذكر الأصول الستة التي هي حق اليقين، ومناط الدين، وعروة العرفان، وذكر فيه القدر من [جملة
1 / 38