المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الحمد لله على ما أولى من جزيل عطائه، وأسنى من جميل بلائه، حمدا نستديم به نعمه، ونستدفع به نقمه، ونستدعى به مزيده. وصلى الله على خير الأنبياء، وأفضل الأصفياء: محمد وآله وسلم تسليما؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
سألت، حرس الله النعمة عليك، وأسبغ الموهبة لديك، أن أذكر لك طرفا مما أنكر على الشعراء فى أشعارهم من العيوب التى سبيل أهل عصرنا هذا ومن بعدهم أن يجتنبوها ويعدلوا عنها؛ فأجبتك إلى ما سألت، وعملت فيه بما أحببت؛ وأودعت هذا الكتاب ما سهل وجوده، وأمكن جمعه، وقرب متناوله من ذكر عيوب الشعراء التى نبّه عليها أهل العلم، وأوضحوا الغلط فيها: من اللحن، والسناد، والإيطاء، والإقواء، والإكفاء، والتضمين، والكسر، والإحالة، والتناقض، واختلاف اللفظ، وهلهلة النسج، وغير ذلك من سائر ما عيب على الشعراء قديمهم ومحدثهم فى أشعارهم خاصة؛ سوى عيوبهم فى أنفسهم وأجسامهم، وأخلاقهم وطبائعهم، وأنسابهم ودياناتهم، وغير هذه الخصال من معايبهم؛ فإنا قد استقصيناه فى كتابنا الذى لقّبناه ب (المفيد) وغيره من كتبنا التى ضمنّاها أخبار الشعراء، وشرحنا فيها أحوالهم؛ وسوى سرقات معانى الشعر؛ فإنها أحد عيوبه، وخاصة إذا قصّر قول السارق عن مدى المسروق؛ فإنا قد أتينا بكثير من ذلك فى (كتاب الشعر) الذى نبهنا فيه على فضائله، ووصف نعوته وعيوبه.
وابتدأنا بباب أبنّا فيه عن حال السّناد والإيطاء، والإقواء والإكفاء: وإن لم يكن هذا الكتاب مفتقرا إلى ذكره؛ وإنما أوردناه لما جاء فيه من الأشعار المعيبة، لأنها إذا نسبت إلى رواتها مجتمعة كان أبلغ فيما قصدنا له، وأقرب إلى فهم القارئ وقلب السامع، وإن كان بعضها يجىء متفرقا فى أبواب قائليها من غير هذه الوجوه وبغير هذه الروايات.
1 / 1
وختمنا هذا الكتاب بباب أتينا فيه بما روى من ذمّ ردىء الشعر وسفسافه «١» والمضطرب منه.
وعلى أنّ كثيرا مما أنكر فى الأشعار قد احتجّ له جماعة من النحويين وأهل العلم بلغات العرب، وأوجبوا العذر للشاعر فيما أورده منه، وردّوا قول عائبه والطاعن عليه؛ وضربوا لذلك أمثلة قاسوا عليها ونظائر اقتدوا بها؛ ونسبه بعضهم إلى ما يحتمله الشعر أو يضطرّ إليه الشاعر.
ولولا أنه لا يجوز أن نبى قولا على شىء بعينه ثم نعقّب بنقضه فى تضاعيفه لذكرنا الاحتجاج للشعراء فى هذا الكتاب؛ ولكنّا نفرد له رسالة إن شاء الله.
ونعوذ بالله من التشاغل بغير ما قّرب منه وأدّى إلى طاعته؛ ونسأله التوفيق لأرشد الأمور وأحسنها بديئا وعاقبة بمنّه وكرمه وهو حسبنا ونعم الوكيل وقد ذكر جماعة من شعراء الإسلام ومن تبعهم فى أشعارهم عدولهم عما أنكر على من تقدّمهم من هذه العيوب التى تقدّم ذكرها؛ فقال ذو الرّمة «٢»:
وشعر قد أرقت له طريف «٣» ... أجنّبه المساند والمحالا
وقال جرير:
فلا إقواء إذ مرس «٤» القوافى ... بأفواه الرّواة ولا سنادا
وقال عدىّ بن الرّقاع [٣] «٥»:
وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقّف فى كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها «٦»
1 / 2
وقال السيد بن محمد الحميرى:
وإنّ لسانى مقول لا يخوننى ... وإنى لما آتى من الأمر متقن
أحوك ولا أقوى ولست بلا حن ... وكم قائل للشعر يقوى ويلحن
وقال إسحق بن إبراهيم الموصلى- وذكر قصيدة:
فلما أقمت الميل منها ولم أدع ... بها أودا مما يعاب ولا كسرا
أتيتك أهديها إليك تقرّبا ... وشكرا لنعمى منك تستغرق الشكرا
وقال أبو العميثل «٧»:
أقمت اعوجاج الشعر حتى تركته ... قداح ثقافى نابل وابن نابل «٨»
فدونكماه لا بمنتشر القوى ... ضعيف ولا مستغلق متعاظل
قصائد أشباه كأنّ متونها ... متون أنابيب الوشيج العوامل «٩»
وقال أبو تمام يصف قصيدة «١٠»:
منزّهة عن السرق المورّى ... مكرّمة عن المعنى المعاد
وقال أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى:
خذها إليك هدية من شاعر ... لا يستثيب ثوابها إهداؤه
نظم ابن آداب تنخّل شعره ... لم يمح رونق شعره إكفاؤه
لم يقو فيه ولم يسانده ولم ... يوطئ فيوهى نظمه إيطاؤه
1 / 3
البيان عن السناد والإقواء والإكفاء والإيطاء
حدثنا على بن سليمان الأخفش النحوى، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى بن جميل الأندلسى بمصر، قال: حدثنى أبو مسهر أحمد بن مروان، قال: حدثنا إبراهيم بن عمّار الحميرى، قال سمعت أبا عمر الجرمى «١١» يقول: عيوب الشعر الإقواء والإكفاء والإيطاء والسّناد.
فأما الإقواء فرفع بيت وجرّ آخر.
وأما الإكفاء فاختلاف حرف الروىّ.
والعرب قد تخلط فيما بين الإكفاء والإقواء، ولكن وضعنا هذه الأسماء أعلاما لتدل على ما نريد.
وأما السّناد فاختلاف كلّ حركة قبل الروىّ.
وأما الإيطاء فأن يقفّى بكلمة ثم يقفّى بها فى بيت آخر «١٢» .
وقد أوطأت الشعراء؛ أنشدنى الأصمعى وأبو عبيدة جميعا للنابغة الذبيانى «١٣»:
أواضع البيت فى خرساء «١٤» مظلمة ... تقيّد العير «١٥» لا يسرى بها السارى [٤]
ثم قال فيها أيضا:
لا يخفض الرّزّ عن أرض ألمّ بها ... ولا يضبّ على مصباحه السّارى «١٦»
وزعما جميعا أنّ مقبل قال «١٧»:
أو كاهتزاز ردينىّ تداوله ... أيدى التجار فزادوا متنه لينا
1 / 4
ثم قال فيها أيضا «١٨»:
نازع ألبابها لبّى بمقتصر «١٩» ... من الأحاديث حتى زدتنى لينا
قال: ومن الحروف التى تحتاج إليها القافية التأسيس والرّدف؛ ومن الحركات التى تحتاج إليها القافية الحذو والتوجيه والإشباع.
فأما التأسيس فهو ألف بينها وبين حرف الروىّ حرف متحرك، ولا يكون التأسيس إلا ألفا؛ نحو قول النابغة «٢٠»:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب «٢١» ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب
فإذا أسّست بيتا ولم تؤسس آخر فهو سناد، وهو عيب قلما جاء؛ كقول العجاج «٢٢»:
يا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمى
ثم قال:
بسمسم أو عن يمين سمسم «٢٣»
ثم قال:
فخندف هامة هذا العالم «٢٤»
قال: وكان رؤبة يعيب هذا على أبيه.
قال: وذكروا أن قوما همزوها، فإن همزوها فليست بتأسيس.
1 / 5
قال: والردف يكون ياء أو واوا أو ألفا قبل حرف الروىّ لا صقة به؛ فالياء: رقيب، والواو: طروب، والألف: أطلال. هذه الألف تلزم فى هذا الموضع القصيدة جمعاء، ولا تجوز معها الياء ولا الواو؛ وتجوز الياء مع الواو؛ مثل مشيب وخطوب، والأمير ووعور.
فإن أردفت بيتا وتركت آخر فهو سناد وعيب؛ نحو قول الشاعر «٢٥»:
إذا كنت فى حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه
فالواو التى فى توصه ردف، والصاد حرف الروىّ؛ والبيت الثانى ليس بمردف؛ فهذا سناد؛ وهو عيب، وقلما جاء.
قال: والحذو حركة الحرف الذى قبل الردف، نحو «قولا» مع «قيلا»؛ لأن الكسرة قبل الياء والضمة قبل الواو، والحذو يتبع الرّدف.
قال: ولو جاء قولا مع قولا وبيعا مع بيعا لم يجز؛ لأن أحد الحذوين يتابع الرّدف والآخر يخالفه؛ وهو سناد، وهو عيب؛ نحو قول عمرو بن الأيهم التغلبى «٢٦»:
ألم تر أنّ تغلب أهل «٢٧» عزّ ... جبال معاقل ما يرتقينا
شربنا من دماء بنى سليم «٢٨» ... بأطراف القنا حتّى روينا
والحذو: كسر الواو فى روينا، وهذا سناد، وهو عيب «٢٩» .
قال: والتوجيه حركة الحرف الذى قبل حرف الروى فى المقيّد خاصة، وليس للمطلق توجيه؛ كقول العجاج «٣٠»:
قد جبر الدّين الإله فجبر
1 / 6
ففتحها كلها وقال لبيد «٣١»:
تمنّى ابنتاى أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر
فإن حان يوما أن يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا الشّعر
وكان الخليل يقول: تجوز الضمة مع الكسرة، ولا تجوز مع الفتحة غيرها؛ فإن كان مع الفتحة ضمة أو كسرة [٥] فهو سناد. والجيّد قول طرفة «٣٢»:
أرّق العين خيال لم يقر ... طاف والركب بصحراء يسر «٣٣»
قال الخليل: أجزت الضمة مع الكسرة كما أجزت الياء مع الواو فى الردف. وأما القبيح فقول رؤية «٣٤»:
وقاتم «٣٥» الأعماق خاوى المخترق
ثم قال:
ألّف شتّى ليس بالراعى الحمق «٣٦»
ثم قال:
مضبورة «٣٧» قرواء هر جاب فنق «٣٨»
وقال الأعشى «٣٩» .
1 / 7
غزاتك بالخيل أرض العدو ... وفاليوم من غزوة لم تخم
وجيشهم ينظرون الصّباح ... وجذعانها كلفيظ العجم «٤٠»
قعودا بما كان من لأمة ... وهنّ قيام يلكن الّجم «٤١»
وقال طرفة «٤٢»:
نزع الجاهل فى مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم
ثم قال:
فهى تنضو قبل الداعى إذا ... جعل الداعى يخلّل ويعم
قال أبو عمر: وكان الأخفش لا يرى هذا سنادا، ويقول: قد كثر من فصحاء العرب.
والإشباع. حركة الذى بين ألف التأسيس وبين حرف الروىّ، كالحواجب فكسرة الجيم الإشباع. وقال الأخفش: وتجوز الكسرة مع الضمة وتقبح الفتحة مع واحدة منهما، فما جاء مكسورا فى القصيدة كلها قول النابغة «٤٣»:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب
فكسر القصيدة كلها.
وأما ما يقبح ويكون سنادا، فقول ورقاء بن زهير «٤٤»:
1 / 8
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلّت يمينى يوم أضرب خالدا ... ويمنعه منى الحديد المظاهر
فهذا يقبح. وكان الخليل لا يراه سنادا.
وقال الراجز:
يا نخل ذات السّدر والجراول «٤٥» ... تطاولى ما شئت أن تطاولى
إنّا سترميك بكلّ بازل
الجراول: الحجارة العظام شبه الأفهار، ويريد بطن نخلة بطريق مكة.
قال: والإقواء فهو اختلاف المجرى، والمجرى: حركة حرف الروىّ الذى تبنى عليه القصيدة؛ كقول امرئ القيس «٤٦»:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالى ... وهل «٤٧» ينعمن من كان فى العصر الخالى
فكسرة اللام هى المجرى؛ فإن اختلف ذلك فهو عيب وهو الإقواء، وهو رفع بيت وجرّ آخر، كقول النابغة «٤٨»:
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا ... وبذاك خبّرنا الغراب «٤٩» الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبّة فى غد
وكقول دريد بن الصّمّة «٥٠»:
نظرت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصّياصى فى النّسيج الممدّد «٥١»
1 / 9
ثم قال:
فأرهبت عنه القوم حتّى تبدّدوا ... وحتّى علانى حالك اللون أسود
وكقول حسّان بن ثابت الأنصارى «٥٢»:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
ثم قال:
كأنهم قصب «٥٣» جوف أسافله ... مثقّب نفخت فيه الأعاصير
ولا يكون النصب مع الجرّ ولا مع الرفع؛ وإنما يجتمع الرّفع والجرّ لقرب كل واحد منهما من صاحبه [٦]، ولأن الواو تدغم فى الياء، وأنهما يجوزان فى الرّدف فى قصيدة واحدة؛ فلما قربت الواو من الياء هذا القرب أجازوها معها؛ وهى مع ذلك عيب. وليس للمقيّد مجرى إنما هو للمطلق.
قال: ومن حركات القافية النفاذ؛ وهو حركة الهاء التى للوصل؛ كقول لبيد «٥٤»:
عفت الديار محلّها فمقامها ... بمنى تأبّد غولها فرجامها «٥٥»
فإذا اختلف ذلك فهو نحو الإقواء.
قال أبو عمر: ولا نعلمه جاء فى شىء من الشعر لإنسان فصيح؛ فإن جاء فهو إقواء، وهو عيب.
قال: والإكفاء اختلاف حرف الروى؛ وهو غلط من العرب، ولا يجوز ذلك لغيرهم؛ لأنه غلط، والغلط لا يجعل أصلا فى العربية. وإنما يغلطون إذا تقاربت مخارج الحروف. قال أبو عمر: والإكفاء عند العرب المخالفة فى كل شىء. قال: وأنشدنا أبو زيد لذى الرّمة «٥٦»:
1 / 10
ودوّيّة قفر يرى وجه ركبها «٥٧» ... إذا ما علوها مكفا «٥٨» غير ساجع
قال: فالمكفأ المختلف. والساجع: المتتابع. قال: فسمينا ما اختلف رويّه بهذا الاسم.
قال: وأنشدنى أبو عبيدة لجوّاس بن هريم:
قبّحت من سالفة ومن صدغ ... كأنها كشية «٥٩» ضبّ فى صقع
الكشية: شحمتان فى باطن صلب الضبّ.
وأنشد أبو عبيدة لامرأة من خثعم عشقت رجلا من عقيل «٦٠»:
ليت «٦١» سماكيّا يحار ربابه ... يقاد إلى أهل الغضا بزمام
فيشرب منه جحوش ويشيمه ... بعينى قطامّى أغرّ يمانى ٦»
وأنشد أبو عبيدة لابنة أبى مسافع- وقتل أبوها يوم بدر وهو يحمى جيفة أبى جهل «٦٣»:
فما «٦٤» ليث غريف ذو ... أظافير وإقدام
كحيّى إذ تلاقوا و... وجوه القوم أقران
وأنت الطّاعن النّجلا ... ء منها مزبد آن
وبالكفّ حسام صا ... رم أبيض خدّام
وقد ترحل بالركب ... وما نحن «٦٥» بصحبان «٦٦»
1 / 11
قال: وسمعت بعض العرب ينشد «٦٧»:
إن يأتنى لصّ فإنى لصّ ... أطلس مثل الذئب إذ يعتسّ
سوقى حدائى وصفيرى النّس «٦٨»
وأنشد أبو سليمان الغنوىّ- وكان فصيحا «٦٩»:
يا ريّها اليوم على مبين ... على مبين جرد القصيم «٧٠»
قال: وسمعت الأخفش ينشد «٧١»:
إذا ركبت «٧٢» فاجعلونى وسطا ... إنى كبير لا أطيق العنّدا «٧٣»
قال: وزعم أبو عبيدة أنّ حكيم بن معيّة التميمى قال «٧٤»:
قد وعدتنى أمّ عمرو أن تا ... تدهن «٧٥» رأسى وتفلّينى وا
وتمسح القنفاء حتّى تنتا «٧٦»
وقال آخر:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشرّ إلا أن تا
يريد فشرّا، ويريد إلا أن تريد. قال: فسألت الأصمعى عن ذلك، فقال: هذا ليس بصحيح فى كلامهم؛ وإنما يتكلمون به أحيانا.
1 / 12
قال: وكان رجلان من العرب أخوان ربما مكثا عامّة يومهما لا يتكلمان. قال: ثم يقول أحدهما «ألا تا»؛ يريد ألا تفعل. فيقول صاحبه: «بلى فا»، يريد فأفعل.
وليس هذا بكلام مستعمل [٧] فى كلامهم.
أخبرنى محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن يزيد النّحوى، قال: حدثنى الجرمىّ، قال: قال الخليل بن أحمد: رتّبت البيت من الشّعر ترتيب البيت من بيوت العرب الشّعر- يريد الخباء- قال: فسمّيت الإقواء ما جاء من المرفوع فى الشعر والمخفوض على قافية واحدة؛ كقول النابغة «٧٧»:
عجلان ذا زاد وغير مزوّد «٧٨»
ثم قال:
وبذلك خبّرنا الغراب الأسود «٧٩»
قال: فيروى أن النابغة فهّم ذلك فغيّره.
قال: وإنما سميته إقواء لتخالفه؛ لأن العرب تقول: أقوى الفاتل إذا جاءت قوة من الحبل تخالف سائر القوى. قال: وسميت تغيّر ما قبل حرف الروىّ سنادا من مساندة بيت إلى بيت إذا كان كلّ واحد منهما ملقى على صاحبه ليس مستويا كهذا، ومثل ذلك من الشعر «٨٠»:
فاملئى وجهك الجميل خموشا
ثم قال:
وبنا سميت قريش قريشا
قال: وسميت الإكفاء ما اضطرب حرف رويّه، فجاء مرة نونا ومرة ميما ومرة لاما؛ وتفعل العرب ذلك لقرب مخرج الميم من النون، مثل قوله «٨١»:
1 / 13
بنات وطّاء على خدّ الليل ... لا يشتكين ألما ما أنقين «٨٢»
مأخوذ من قولهم: مكفأ إذا اختلفت شقاقه التى فى مؤخره. والكفأة: الشّقّة فى مؤخّر البيت.
والإيطاء: ردّ القافية مرتين كقوله:
وتخزيك يابن القين أيام دارم
وقال فيها:
وعمرو بن عمرو إذ دعا يالدارم
قال الجرمى: والأخفش يضع الإكفاء فى موضع السناد، والسناد فى موضع الإكفاء على هذا الاشتقاق.
حدثنى إبراهيم بن شهاب، قال: حدثنا الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام «٨٣»، قال: الإكفاء هو الإقواء مهموز، وهو أن يختلف إعراب القوافى، فتكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة أو منصوبة؛ وهو فى شعر الأعراب كثير، وهو فيمن دون الفحول من الشعراء أكثر؛ ولا يجوز لمولّد؛ لأنهم عرفوا عيبه، والبدوىّ لا يأبه له، فهو أعذر، وهو نحو قول جرير «٨٤»:
عرين من عرينة ليس منّا ... برئت إلى عرينة من عرين «٨٥»
عرفنا جعفرا وبنى عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين «٨٦»
وقال سحيم بن وثيل «٨٧»:
عذرت البزل إن هى خاطرتنى ... فما بالى وبال ابنى لبون «٨٨»
1 / 14
وماذا يدّرى الشعراء منّى ... وقد جاوزت رأس الأربعين «٨٩»
فموضع هذه الأبيات- التى له ولجرير- النصب.
والإيطاء أن تتفق القافيتان فى قصيدة واحدة. وإن «٩٠» كان أكثر من قافيتين فهو أسمج له، وقد يكون؛ ولا يجوز لمولّد إذ كان عنده عيبا.
والسناد «٩١» أن تختلف القوافى، نحو نقيب وعيب؛ وقريب وشيب، مثل قول الفضل بن العباس اللهبى «٩٢»:
عبد شمس أبى فإن كنت غضبى ... فاملئى وجهك الجميل خموشا
ثم قال:
وبنا سميت قريش قريشا «٩٣»
وقال:
ولا تملّيت عيشا
وقال عدى بن زيد «٩٤»:
ففاجأها وقد جمعت جموعا «٩٥» ... على أبواب حصن مصلتينا
فقدّمت الأديم لراهشيه «٩٦» ... وألفى قولها كذبا ومينا
وقال المفضل: «كذبا مبينا»؛ فرّ من السناد [٨]، والرواية هى الأولى على قوله:
«ومينا» .
1 / 15
وقال الفضل بن عبد الرحمن بن العباس فى مرثية زيد بن على بن الحسين رضى الله تعالى عنهم:
ليس ذا حين الجمود
ثم قال:
فوق العمود
ثم قال «٩٧»:
وكيف جمود عينك بعد زيد
ومنه قول العرب «٩٨»:
خرج القوم برأسين متساندين؛ أى هذا على حياله وهذا على حياله. وهو من قولهم:
كانت قريش يوم الفجار متساندين: أى لا يقودهم رجل واحد.
وقد «٩٩» تغلط [فى ذلك «١٠٠»] مقاحيم الشعراء وثنيانهم. والمقحم الذى يقتحم «١٠١» سنّا إلى أخرى «١٠٢»، وليس بالبازل ولا المستحكم، والثنيان: العاجز الواهن.
وقد يغلطون فى السين والصاد، والميم والنون، والدال والطاء، وأحرف يتقارب مخرجها من اللسان يشتبه عليهم. أنشدنى أبو العطّاف «١٠٣»:
أرمى بها مطالع النجوم ... رمى سليمان بذى غضون
وقال رغيب بن قيس «١٠٤» العنبرى:
نظرت بأعلى الصّوق والباب دونه ... إلى نعم ترعى قوافى مسرد
1 / 16
الصّوق: يريد السوق. ثم قال:
عجيل مخلط «١٠٥»
فقلت: قل «معقد» فيصحّ لك المعنى وتستقيم القوافى. قال: أجل فاستعدته فعاد إلى [قوله] «١٠٦» الأول.
وقال أبو الدّهماء العنبرى «١٠٧»:
فلا عيب فيها غير أنّ جنينها ... جهيض وفى العينين منها تخاوص «١٠٨»
ثم قال:
بالثياب الطّيالس
ثم قال:
والماء جامس
وكان يقول الصّويق. وبرّ مكيول. وثوب مخيوط.
وقال أبو الدهماء يهجو شويعرا من عكل- وكان أبو الدهماء أفصح الناس- فقال يذكر جردانه «١٠٩»:
ويل الحبالى إن أصاب الرّكبا ... يستخرج الصبيان منه خذما
وأخبرنى محمد بن أبى الأزهر، قال: حدثنى محمد بن يزيد النحوىّ، قال: قال الفرزدق- يخاطب الحجّاج لما أتاه نعى أخيه محمد فى اليوم الذى مات فيه ابنه محمد:
إنى لباك على ابنى يوسف جزعا ... ومثل فقدهما للدّين يبكينى
ماسدّ حىّ ولا ميت مسدّهما ... إلّا الخلائف من بعد النبيين
1 / 17
فكسر نون النبيين. قال: وعلى هذا المذهب قول العدوانى «١١٠» .
إنى أبىّ أبىّ ذو محافظة ... وابن أبىّ أبىّ من أبّيين
وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم كلّا «١١١» فكيدونى
قال: ولسحيم بن وثيل «١١٢»:
وماذا يدّرى الشعراء منّى ... وقد جاوزت حدّ الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدّى ... ونجّذنى مداورة الشّؤون «١١٣»
كلهم كسروا نون الجميع. وتكلم المبرد على ذلك.
حدثنى أحمد بن محمد العروضى، قال: الإقواء رفع قافية وخفض أخرى؛ وذلك معيب؛ قال بعضهم:
أراعك بالخابور نوق وأجمال ... ورسم عفته الرّيح بعدى بأذيال
قال: والإكفاء فساد فى القافية. ومن الناس من يجعل الإكفاء بمعنى الإقواء، ومنهم من يجعله اختلاف الحركات قبل حرف الروى. نحو قوله «١١٤»:
وقاتم الأعماق خاوى المخترق
مع قوله:
ألف شتى ليس بالراعى الحمق
فجمع بين الفتح والكسر. ومنهم من يجعله اختلاف الحروف؛ مثل قوله:
أإن زمّ أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
تنادوا بأعلى سحرة وتجاوبت ... هوادر فى حافاتهم وصهيل [٩]
1 / 18
قال: والسناد هو أيضا فساد فى القافية، وقد جعله قوم بمنزلة الإقواء والإكفاء؛ وبعضهم يجعله اختلاف القافيه فى التأسيس، وهو أن يجىء بقافية فيها حرف تأسيس وقافية بغير حرف تأسيس؛ نحو قوله «١١٥»:
يا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمى
ثم قال:
فخندف هامة هذا العالم
فجاء بقافية فيها حرف تأسيس وهو الألف فى العالم، وقافية لا تأسيس فيها وهى اسلمى.
وقيل: إنّ السناد هو اختلاف الحركات قبل الأرداف فى مثل قوله «١١٦»:
فإن يك فاتنى أسفا شبابى ... وأمسى «١١٧» الرأس منى كاللّجين
فقد ألج الخباء على جوار ... كأنّ عيونهنّ عيون عين
ففتح الجيم من اللجين، وكسر العين من قوله عين. وقد جعل قوم حركة الدخيل سنادا.
قال: والإيطاء إعادة القافية؛ وذلك عيب. وقد استعملته العرب.
قال: والتضمين هو بيت يبنى على كلام يكون معناه فى بيت يتلوه من بعده مقتضيا له؛ فمن ذلك قوله «١١٨»:
وسعد فسائلهم والرّباب ... وسائل هوزان عنّا إذا ما
لقيناهم كيف نعلوهم ... بواتر يفرين بيضا وهاما
1 / 19
قال: ومن عيوب الشعر الرّمل. والرمل عند العرب كل «١١٩» شعر ليس بمؤلف البناء، ولا يحدّون فيه شيئا إلا أنه عيب. وقد ذكر الأخفش أنه مثل قوله «١٢٠»:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيّات «١٢١» فالذّنوب
وقوله أيضا «١٢٢»:
ألا لله قوم و... لدت أخت بنى سهم
هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم
فكأنه عنده كلّ شعر غير تامّ الأجزاء.
وقد ذكر بعض المحدثين فى أهاجيهم السناد والإقواء والإكفاء والإيطاء وغير ذلك من العيوب، وشبّهوا أحوال المهجوّ بها. فأخبرنا أبو بكر الصّولى، قال: أنشدنى عون بن محمد الكندى لبعض المحدثين وملّح:
لقد كان فى عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كثيل «١٢٣» العود عما تتّبع
تتبعت لحنا فى كلام مرقّش ... وخلقك مبنىّ على اللّحن أجمع
فعيناك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إيطاء فأنت المرقّع
وأخبرنى على بن هارون، عن عمه يحيى بن على، عن حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلى، عن أبيه- أن هذه الأبيات لحماد عجرد فى حفص بن أبى ودّة، وجعل الأخير منها:
فأذناك إقواء وأنفك مكفأ ... وعيناك إيطاء فأنت المرقّع
وأخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو عثمان الأشناندانى، قال: حدثنا التّوزى أنّ هذه الأبيات لمساور الورّاق فى حفص بن أبى ودّة.
1 / 20