عاشت أسرة روز خلف أحد المتاجر في هانراتي بأونتاريو، وضمت الأسرة أربعة أشخاص: روز، ووالدها، وفلو، وبراين أخو روز الصغير من أبيها. كان ذلك المتجر، في الواقع، منزلا اشتراه والد روز ووالدتها عندما تزوجا، وأسسا فيه عملهما المتمثل في إصلاح الأثاث والتنجيد. عملت والدتها بالتنجيد، وكان من المفترض أن ترث روز من والديها المهارة اليدوية، وحب التعامل مع الأقمشة، والعين الثاقبة لاكتشاف أفضل لفات الأقمشة لإصلاحها، إلا أنها لم تفعل؛ وإنما كانت فتاة خرقاء تسرع في كنس حطام أي شيء ينكسر والتخلص منه.
في عصر أحد الأيام، قالت الأم لوالد روز: «أشعر بشيء يصعب علي وصفه، إنه أشبه ببيضة مسلوقة غير مقشرة في صدري.» وتوفيت قبل حلول الليل إثر جلطة دموية على الرئة. كانت روز لا تزال طفلة رضيعة آنذاك، ومن ثم لم يكن بوسعها تذكر أي شيء من ذلك، ولكنها سمعت القصة من فلو، التي لا بد أن تكون قد سمعتها بدورها من والد روز. سرعان ما دخلت فلو حياة الأسرة لتعتني بروز الرضيعة، فتزوجت الأب، وفتحت الغرفة الأمامية للمنزل لتصير متجرا للبقالة. وروز - التي لم تعرف من ذلك المنزل سوى كونه متجرا، ولم تعرف أما غير فلو - نظرت للأشهر الستة عشر أو نحو ذلك التي قضاها والداها في ذلك المكان كعهد قديم أكثر رقة وجمالا تخللته بعض لمحات الترف. لم يتبق لروز من تلك الأيام سوى بعض كئوس البيض التي كانت والدتها قد اشترتها، والتي كانت تحمل رسوما دقيقة باللون الأحمر للكرمات والطيور، كادت تنمحي من عليها وكأنها كانت مرسومة بالحبر الأحمر. لم تتبق أية كتب أو ملابس أو صور لوالدتها. لا بد أن والدها قد تخلص منها جميعا، أو لعل فلو هي من فعلت ذلك. والقصة الوحيدة التي ترويها فلو عن والدتها - وهي قصة وفاتها - كانت بغيضة على نحو غريب. أحبت فلو تفاصيل الموت؛ ما يقوله الأشخاص عند احتضارهم، اعتراضهم أو محاولتهم النزول من السرير، سبابهم أو ضحكاتهم (بعضهم فعل هذه الأمور بالفعل). لكن عندما كانت فلو تروي ما ذكرته والدة روز عن البيضة المسلوقة في صدرها، كانت تشير إلى حماقة هذه المقارنة، كما لو كانت والدتها من هؤلاء الأشخاص الذين يصدقون حقا أنه بإمكان المرء ابتلاع بيضة كاملة.
كان لوالد روز سقيفة خارج المتجر مارس فيها عمله في إصلاح الأثاث وتجديده؛ فكان ينجد مقاعد الكراسي ومساندها، ويصلح منتجات الخوص، ويملأ الشقوق، ويعيد تركيب الأرجل، وكان يفعل كل ذلك بأعلى درجات المهارة والبراعة وبأبخس الأسعار. فكان ذلك مصدر فخره؛ أن يبهر الناس بعمله الدقيق والمبهر، وبتلك الأسعار البخسة، بل والمضحكة في بعض الأحيان. لعل السبب وراء ذلك هو أن الناس أثناء الكساد لم يمكنهم دفع مبالغ أكبر، لكن والد روز لم يغير هذه الأسعار أثناء الحرب، وأثناء سنوات الرخاء التي تلت الحرب، واستمر في ذلك إلى أن توفي. ولم يتناقش قط مع فلو بشأن ما كان يحصل عليه من أجر مقابل عمله، وما كان يدين به من مال. لذا ، كان عليها بعد وفاته فتح السقيفة، وجمع كافة قصاصات الورق وأظرف الخطابات المقطعة من على الخطافات الكبيرة ذات المظهر الموحي بالشر التي كان يجمع عليها أوراقه. والكثير من تلك الأوراق التي عثرت عليها لم تكن حسابات أو إيصالات على الإطلاق، وإنما تدوينات لأحوال الطقس، وبعض المعلومات عن الحديقة، وأشياء أخرى ثمة ما دفعه لتدوينها:
تناولت بطاطس جديدة، 25 يونيو. تسجيل.
يوم مظلم، العقد الأول من ثمانينيات القرن التاسع عشر، ما من شيء غريب. سحب من الرماد من حرق الغابات.
16 أغسطس 1938. عاصفة رعدية مهيبة في المساء. برق. الكنيسة المشيخية، مدينة ترنبيري. أهي إرادة الرب؟
تسخين الفراولة لإزالة الحمض.
كل الأشياء حية. سبينوزا.
ظنت فلو أن سبينوزا نوع جديد من الخضراوات كان ينوي والد روز زراعته، مثل البروكلي أو الباذنجان؛ فقد اعتاد تجربة أشياء جديدة. أطلعت فلو روز على قصاصة الورق، وسألتها إن كانت تعلم معنى كلمة سبينوزا. وكانت روز تعلم بالفعل معناها، أو لديها فكرة عنه (فقد كانت في مرحلة المراهقة آنذاك)، لكنها قالت إنها لا تعلم. بلغت روز في ذلك الوقت مرحلة من العمر لم تعد تتحمل فيها معرفة أي شيء آخر عن والدها أو عن فلو؛ فكانت تغض الطرف عن أي شيء تكتشفه عنهما شاعرة بالتحرج والرهبة.
احتوت السقيفة على موقد، والعديد من الأرفف غير المصقولة تعلوها علب الطلاء والورنيش، وصمغ اللك، والتربنتين، وبرطمانات تحتوي على فرش مغمورة في الطلاء، وبعض زجاجات دواء السعال اللزجة داكنة اللون. ما الذي يدفع رجلا عاش طوال حياته يسعل ويعاني من تأثر رئتيه بغازات الحرب (المعروفة في السنوات الأولى من طفولة روز بالحرب «الأخيرة»، وليست «الأولى») أن يقضي عمره بالكامل في استنشاق أدخنة الطلاء والتربنتين؟ آنذاك، لم تكن مثل هذه الأسئلة تطرح كثيرا كما هو الحال الآن. وعلى المقعد الموجود خارج متجر فلو، اعتاد الكثير من الرجال كبار السن من سكان الحي الجلوس للثرثرة والنوم الخفيف في الطقس الدافئ، وكان بعضهم يسعل أيضا طوال الوقت، والحقيقة أنهم كانوا يحتضرون ببطء وسرية بسبب ما كانوا يطلقون عليه - دون أي نوع من التذمر - مرض «المسبوكات المعدنية». عمل أولئك الرجال طيلة حياتهم في سبك المعادن في المدينة، وها هم الآن متقاعدون عن العمل بوجوه ذابلة هزيلة، يسعلون، ويضحكون ضحكات خافتة، وينجرفون في فحش عبثي بتعقب السيدات اللاتي مررن من أمامهم أو أية فتاة تقود عجلتها أمام أعينهم.
Halaman tidak diketahui