أما مرسلين فإنها عادت من المعمل إلى المنزل فلم تجد ولديها فيه، فنادتهما فلم يجيبا، فبحثت عنهما في الحديقة فلم تجد لهما أثرا، فركضت مهرولة إلى جهة الترعة فرأت عن بعد كثيرين من الناس محتشدين على ضفتها، فوجف قلبها من الرعب وحدثها بالمصيبة، فقالت: رباه إنك إذا أذنت بهذه النكبة أنكرت وجودك.
وانطلقت راكضة، وقد كاد قلبها يثب من صدرها، فكان أول من لقيته فولون وهو يحمل الطفلين بين ذراعيه والمياه تقطر من ثيابهم جميعا، فبادرها بقوله: اطمئني فليس ما يدعو إلى الخوف؛ فقد سقطا في الترعة ولم يصابا بسوء، ألا تسمعينهما يناديانك؟
فأخذت منه ولديها وضمتهما بعنف إلى صدرها، وقالت: لا شك أنك أنت الذي أنقذتهما فكيف أشكرك؟
قال: لقد أخطأت يا مرسلين؛ فإني لا أستطيع وحدي إنقاذ الاثنين، ولكني أنقذت جيرار. - ومن أنقذ مودست؟ - رجل أبى أن يسمع تشكراتك فلم يصحبني؛ لأنه يرى أنه لا شكر على الواجب. - قل لي اسمه كي أحفظ جميله ما حييت. - إنه يدعى بيير بوفور، وقد قلت له إنك لا بد أن تزوريه فتشكريه، وهو يقيم في شارع رومه نمرة 79.
فبذلت جهدا عنيفا كي تخفي اضطرابها، ثم ودعها فولون كي يغير ملابسه، فذهبت بولديها إلى المنزل، وهناك استرسلت إلى اليأس؛ إذ عاودتها الهموم القديمة، فجعلت تقول في نفسها: رباه ماذا أصنع؟ أأراه؟ كلا؛ فإن هذا محال، أم أهرب من هذا البلد؛ فإنه يتردد إلى المعمل الذي أشتغل فيه؟ ألا يمكن أن يراني فجاءة فيه أو في الطريق؟ مسكين إنه شديد النحول، فلا بد أن يكون قد تعذب كثيرا، ومع ذلك فإن هيئته ليس فيها ما يدل على الحقد.
ولكن ما عساه يقول عني إذا لم أشكره.
وبعد الإمعان رأت أن تكتب له كلمة الشكر، فكتبت إليه كتابا لطيفا ملؤه الامتنان، وفي المساء ألقته في صندوق البوسطة.
وبعد ذلك بيومين جاءها فولون فاطمأن على الولدين، ثم جلس بإزائها وقال لها: أتذكرين يا مرسلين ما قلته لك منذ ثمانية أيام؛ فقد أنبأتك أني سأعود إليك لالتماس جوابك بعد أن أمهلتك المهلة الكافية للتمعن.
قالت: نعم، أذكر. - إذن بماذا تجيبين؟
فتنهدت تنهدا عميقا، واغرورقت عيناها بالدموع فقالت: أسألك العفو عما سأسيء به إليك، فإن طلبك وإلحاحك فيه يشرفانني، ولكني لا أستطيع أن أكون امرأتك. - لماذا؟ - لا تسألني، وتذكر أني ألقب بالمتنكرة الحسناء؛ فإن في حياتي سرا لا يحق لي الإباحة به، فأتوسل إليك أن تنساني. - أأنا أنساك يا مرسلين؟! أتحسبين هذا سهلا علي؟ - نعم، إذ يكفي أن تريد.
Halaman tidak diketahui