الربط والتأليف
وبعد التثبت من صحة الروايات يشرع المؤرخ في التأليف وربط الروايات المختلفة. فينتفي البعض منها، ويصرف النظر عن البعض الآخر، ثم ينسق ما انتفى منها، فينظمه ويجعله وحدة متجانسة متآلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
توطئة عامة
ويحسن بالمؤرخ المستجد أن يذكر بادئ ذي بدء أن ربط الحقائق التاريخية وتأليفها يختلف عن الربط والتأليف في العلوم الطبيعية. فعلماء الطب والحيوان مثلا يشاهدون الجسد بتمامه أولا، فيدرسونه درسا إجماليا وافيا. ثم يشرحونه فيقسمونه إلى الأجزاء التي يتركب منها، وبعد التدقيق التام في هذه الأجزاء والتعرف إلى وظائفها وأعمالها يستطيعون أن يقابلوا فيما بينها، ويتعرفوا إلى العلاقات التي تربط بعضها إلى بعض، فيدونون هذه الحقائق المفردة التي يتوصلون إليها، ثم يعودون إلى ربطها وتأليفها، فيتبعون خطة عينتها الطبيعة تكون ماثلة أمامهم. بل إنهم يستطيعون أن يتناولوا مجموعة واحدة يقابلونها على مجموعة أخرى باعتبار كل من المجموعتين وحدة قائمة بنفسها، وكأنهم بذلك أتموا مقابلة كل واحد بكل آخر، فيرون نقط التشابه بين هذا وذاك، ويصنفون هذه الوحدات على أساس التشابه بينها، وهذا درس علمي حقيقي قوامه التحليل أولا ثم الربط والتأليف بين أجزائه، ثم المقابلة والاستدلال القياسي.
على أن ظروف المؤرخ في الواقع، تختلف كل الاختلاف عما تقدم؛ فحقائقه المفردة هي غير الحقائق المفردة في العلوم الطبيعية؛ إذ جل ما يمكنه الاعتماد عليه، في مثل هذه الظروف، هو كلام الغير عن وقائع الماضي لا الوقائع نفسها، وليس بإمكانه أن يشاهد المجموع الذي تفرعت عنه مفردات الحقائق، كما وأنه يجهل الأسس التي كانت تربط مثل هذه الحقائق لتؤلف منها الكل؛ وإذا فمن العبث أن نربط الحقائق المفردة في التأريخ كما يربط علماء الطبيعة حقائقهم، وعلينا، والحالة هذه أن نستنبط طريقة خصوصية لربط الحقائق المفردة نتذرع بها للوصول إلى اليقين أو ما يقارب اليقين.
ولنذكر أن الحقائق المفردة التي تثبتنا من صحتها، تكون إما آثارا حقيقية تخلفت عن السلف كالأهرام في مصر مثلا، أو وقائع السلف كعمل معين أو قول معروف، أو دوافع معنوية كانت مكنونة في صدور الناس أفرادا وجماعات، وبعبارة أخرى، إن ما تثبتنا من صحته من الحقائق المفردة يكون واحدا من ثلاثة؛ إما أثرا ملموسا، أو عملا محدودا، أو دافعا نفسيا معينا، ولو كانت العلوم النفسية والاجتماعية قد ماشت العلوم الطبيعية في تقدم أساليبها وأبحاثها ونتائجها لما كان عسيرا علينا اليوم، أن نهتدي بشكل علمي جازم إلى معرفة الأعمال والدوافع الماضية التي أشرنا إليها، وربما كنا لا نفرق التاريخ عن العلوم الجازمة. أما وحالة العلوم الاجتماعية والنفسية لا تزال قاصرة، فلا يبقى سوى تخيل الماضي وفرض استمرار بعضه وتكراره في الحاضر. فنقول مثلا بعامل الجوع في الماضي، ونتوقع تأثيره في ظروف معينة كما نفعل في الحاضر، وننظر في الإقليم وأثره في المجتمع كما يتبين لنا بعض ذلك من الظروف الحاضرة، ونفرض التعاون بين الأفراد في بعض الأزمنة الغابرة لدرء الأخطار كما يفعل بنو جنسهم في هذه الأيام، وهلم جرا، ولولا هذا لما جرؤ البعث على القول بأن بعض التاريخ يعيد نفسه؛ نعم بعضه لا كله، ولو كان التاريخ يعيد نفسه لما أقدم العلماء على درسه وتعميم فوائده، وإذا فهنالك فروق بين الماضي والحاضر لا بد من تبيانها أيضا والانتباه إليها.
ولهذا يترتب على المؤرخ عند بدء العمل في ربط الحقائق المفردة وتأليفها أن يتخيل لنفسه من مظاهر المجتمع الحاضر ما يفترض وجوده في الماضي، ثم ينظم حقائقه المفردة حول أساس ما تخيل وجوده بالقياس، وإذا فعل هذا فسرعان ما يرى أن الحقائق المفردة تتوفر في بعض النواحي، وتعدم في البعض الآخر، فيحدث هذا فراغا في بعض الأحيان لا بد من تلافيه، ولدى الانتهاء من هذه المرحلة يبدأ في المقابلة والمقارنة بين الحقائق التي تكتلت حول مواضيعه، فينتقل إلى تعليلها وإيضاحها وإصدار الأحكام العامة عنها.
وليس في وسعنا بهذه المناسبة؛ إلا أن نلفت النظر إلى وجوب التعاون بين عدد من المؤرخين، لأجل البحث في موضوع تاريخي واحد؛ وذلك لأن ما يتطلبه مصطلح التاريخ من شتى أنواع البحث والتنقيب قد لا يتمكن شخص واحد من القيام بأعبائه، وأقل ما يجب الالتفات إليه، هو التمحيص والتدقيق في استنتاجات المؤرخين المعاصرين وأساليبهم في البحث، قبل قبول أقوالهم والاعتماد عليها.
الانتقاء
ولا مفر من المفاضلة بين الحقائق المفردة، والاستمساك ببعضها، وصرف النظر عن البعض الآخر. فإنها تكثر في غالب الأحيان، فتربو على الألوف وعشرات الألوف، ويضطر المؤرخ إما لضيق وقته أو لقلة مورده أن ينتقي مما تجمع لديه من الحقائق ما يؤثره على غيره، فيجدر به أن يتبع خطة معينة في الانتقاء.
Halaman tidak diketahui