تفسير النص
وبانتهاء المؤرخ من نقد الأصول، على الوجه الذي تقدم شرحه في الباب الثالث من هذا الكتاب، ينتهي النقد الخارجي، وينتقل المؤرخ من ظاهر النص ومجرد اللفظ إلى باطن الكلام وفهم المعنى، فيشرع في النقد الداخلي. والنقد الداخلي في مصطلح التاريخ على نوعين: نقد داخلي إيجابي، ونقد داخلي سلبي. فالإيجابي يفسر النص ويظهر معناه، والسلبي يكشف الستار عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية.
وتفسير النص، وهو موضوع هذا الباب، يكون على وجهين: أولهما: تفسير ظاهر النص، وثانيهما: إدراك غرض المؤلف. فعلى المؤرخ المدقق المنقب؛ حيث يحاول تفسير ظاهر النص، أن يلم أولا بلغة الأصل الذي يدرس، وعليه أن يجيد فهم هذه اللغة كما عرفت واستعملت في العصر الذي عاش فيه راوي الرواية. فمعاني المفردات تتطور وتتغير أحيانا مع تطور الظروف وتغير الأحوال، وكفانا دليلا على ذلك بعض أعمال المجمع اللغوي في مصر، وما وضعنا في هذا الكتاب من المعاني الجديدة العصرية في بعض المفردات والاصطلاحات التي استعملت في كتب الحديث والتفسير منذ مئات السنين، وعلى المؤرخ أيضا أن يذكر أن المفردات والاصطلاحات اللغوية تختلف أيضا باختلاف الإقليم، وقد تختلف باختلاف الكاتب نفسه.
وحيث يشعر المؤرخ المدقق بشيء من الشك في فهم بعض هذه الدقائق اللغوية في أصل من الأصول يجدر به أن يكمل قراءة النص، أولا، لعله يقف على إيضاح ما التبس. فإن أعياه ذلك فعليه بسائر كتب المؤلف، وإذا لم يجد التفسير في النص نفسه، ولا في مؤلفات المؤلف الأخرى، رجع في ذلك إلى أقوال الزملاء المعاصرين. هذا؛ وإن «لا أدري» لمن العلم!
وقد يكتفي المؤرخ، في قراءة الأوامر الإدارية وبعض النصوص التاريخية القصصية، بتفسير ظاهر النص لإدراك غرض المؤلف، وذلك أن واضع النص، في مثل هذه الظروف، يتوخى استعمال الألفاظ التي توضح المعنى دون أي تردد في الأمر. فإذا ما نجح المؤرخ في فهم ظاهر النص، توصل إلى إدراك المعنى الحقيقي.
وقد يلمس المؤرخ غموضا أو نقصا أو تناقضا في المعنى، إذا هو استمسك بظاهر النص. فقد يكون في الكلام كتابة، أو مجاز، أو استعارة، أو تشبيه، أو هزل، أو مداعبة، أو تلميح، أو تعريض، وما إلى ذلك. قال ابن عبد ربه في عقده في باب الكناية والتعريض:
1 «وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط ... وقال تعالى:
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء (طه: 22) فكنى عن البرص، ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر، وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه. ودخل حارثة بن بدر على زياد، وفي وجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما أنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن، وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجيء بزاد
Halaman tidak diketahui