كان طائر ود أبرق صغير الحجم أرقط يرك أعلى السبورة، وعندما رفع المعلم المسطرة الطويلة للمرة الثانية، طار نحو عمق الفصل، ورك على النافذة التي قرب ود حواء زريقا، فحاول ود حواء زريقا الإمساك به ولكن الطائر كان الأسرع فحلق فوق رءوسنا باحثا عن مخرج، فتسابقنا جميعا دون فرز للإمساك به، صعد بعضنا على الأدراج، صعد البعض على أكتاف البعض على وعد تقاسم ملكية الطائر ما بين الحامل والمحمول، استخدم البعض الرمي بالكتب والكراسات في محاولة إصابة الطائر في الهواء؛ حيث لا توجد حجارة أو سفاريك في الفصل، تشعلق البعض على أعمدة السقف في محاولة جنونية للإمساك بطائر ود أبرق الشقي، لا أحد يدري شيئا عن الأستاذ، هاج الفصل وماج، أبرق وأرعد، ضج ضجيجا عنيفا، ولكني استطعت أن أنهي الصراع بقفزة موفقة في الهواء مستعينا بكتف جاري عبادي ورأس أوشيك الكبير؛ حيث وضعت عليه ركبتي وأنا أهبط على الكنبة والطائر المسكين يصوصو في يدي، قمت بسرعة بتجنيحه حتى لا يطير أو يجري ورميت به في الدرج إلى أن نعود إلى البيوت لنذبحه ونشويه ونأكله مناصفة مع أوشيك وعبادي، ولم يصمت الفصل إلا حينما سمعنا ما يشبه زئير الأسد أو هزيم الرعد، بل قل نهيق ألف حمار متوحش في لحظة واحدة في الفصل، كان ناظر المدرسة يقف عند باب الفصل وحوله كل المدرسين والمدرسات والخفراء وبائعات الطعام وحتى عم الخير العميان الذي يسأل الناس عند باب المدرسة من حق الله، كان الناظر السمين يدق على السبورة بكل ما أوتي من قوة بكفه وهو يجعر كالثور، صمتنا، مضى زمن من الصمت طويل وثقيل، كانت أنفاس المدير تعلو وتهبط دون سبب وجيه نعرفه ولا نظن أنه يتعلق بالطائر، فالطائر ملك لمن اصطاده ولمن شارك في اصطياده، كان غضبان وحانقا يتطاير الشرر من عينيه، لا بد أن هنالك مكروها ألم به: هل ماتت أمه أم مات أبوه؟ كنا ننتظر في قلق للاستماع على ما يود المدير قوله، الشيء الذي أحضر له كل هؤلاء الناس؛ عاملين بالمدرسة ومعلمين، وأخيرا صاح وهو يحملق بعينين شريرتين نحونا ويضرب بكفه على السبورة ضربة أخيرة قاسية تطير الأسد المسكين في الهواء فيسقط ومعه قلوبنا على الأرض مثيرا عاصفة من الغبار: ما هذا يا جحوش؟
أجبنا بصوت واحد منغم: هذا «أسدن».
الفاشر
3 / 11 / 2007
وصمة وطن
توغلنا في مجاهل سوق ليبيا، بين الأكشاك المتهالكة المملوءة بالبضائع الكاسدة، أقمشة، أوان، مأكولات فاسدة وأخرى طازجة، خردوات، أحذية، إكسسوارات مفبركة، بطيخ وغيرها، وكلما طال بنا الدوران وطالت بنا الأزقة حاصرتنا الجموع البشرية الذاهبة إلى كل مكان والآتية من كل مكان، وكلما لاحظ صديقي علي نصر الله أنني ضجرت كان يقول لي بصوته الهادئ المطمئن: اصبر يا أخي قربنا.
ونحن ننهي آخر صف طويل لحلاقين بلهاء تفوح من جنوبهم رائحة الدم مختلطة مع الشعر ممزوجة بكلونيا خمس خمسات، إذا به يدلف إلى زقاق ضيق تملؤه عربة كارو يجرها حماران، استطعنا أن نتجاوزهما عن طريق احتكاكنا بالحائط الترابي القبيح، ولحسن الحظ المكان ينتظر بعد الكارو مباشرة، كان دكانا عجوزا من الزنك وصاج البرميل، يديره عم سيف السبعيني الأصلع الذي يكح في الدقيقة مرتين ويحمد الله، استقبلنا هاشا باشا، تربطه بصديقي علي نصر الله علاقة قديمة حميمة، عرفني به وعرفه بي، أضاف وفي وجهه ابتسامة عملاقة بسعة فم علي نصر الله الكبير وبغلظة شفاهه الغليظة، قائلا: صديقي بركة دا عايز يدخل معاينة.
مشيرا إلي بأصابعه الخمسة.
قال عم سيف وهو يتفحص وجهي من على قرب مريب: ظاهر عليك يا ولدي ما بتصلي.
ضحك، ضحك علي نصر الله، ضحكت، ضحكنا.
Halaman tidak diketahui