هو الأمير أبو عبد الله محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، فاعتنى والده بتربيته وتعليمه وحنكه بما أهله إلى المراتب العالية، واختصه بإمامه الشيخ الحاج يوسف برتقيز، فاعتكف على إقرائه العلوم العقلية والدينية إلى أن بلغ خمس عثرة سنة، فأجمع رجال الدولة على طلب تقديمه لولاية الأمحال ليكون وارث الملك بعد والده، وألحوا بالطلب على والده، لما رأوا فيه من الأهلية لذلك فأجاب مطلبهم، وقدمه لولاية الأمحال أوائل سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، وظهرت فيه الكفاءة لذلك مع ملازمته لقراءة العلم. وأكثر ولوعه بالعلوم المعقولة، وعلى الخصوص الأدب، فقد نسج فيه على منوال ملوك الأندلس، وأبدع رقيق الشعر باعتناء قاضي محلته وأستاذه الشيخ محمد بن محمد الشافعي الشريف ومن انضم إليه من الأدباء. ولم يزل مدة تملك والده في اعتناء عظيم بالعلم والأدب. ولما انقضت دولة والده وخشي سطوة ابن عمه خرج من القيروان بعد طول الحصار هو وأخواه علي باي ومحمود باي ومعهم الموفون بالعهد من أشياخهم وكتابهم وأتباعهم أوائل صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف فقصدوا الجزائر، وطلبوا من حاكمها نصرتهم على ابن عمهم. وبعد طول المقام جهزهم بمحلة خرجوا بها في ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائة وألف. وكان أمير المحلة حسين باي قسمطينة فوصلوا بها إلى الكاف، وامتدت أعناق الآمال إلى الإسعاف، ووافتهم نجوع العرب بالمدد، وواصلوهم بالرجال والعدد، لولا ما غدر به أمير المحلة فردها بدون كبير قتال، وغره في ذلك ما وصله من المال، وتفرقت جموع الحاشدين، وأسفوا من شماتة الحاسدين، حتى أتى الأسف على أخيهما محمود باي ففاضت نفسه بقسمطينة في الحادي عشر من شوال سنة تسع وخمسين، ولازم الأخوان الصبر مع قوة الرجاء في الله ﷻ.
ولم يكن هذا الأمير في جميع هاته المدة يعلق آماله بغير الله وأوليائه حسبما يعلم ذلك من مطالعة ديوان شعره المملوء بالتوسلات التي حقق الله إجابتها. ومن أعز ما رأيته في ذلك مكتوبه الذي وجهه إلى الولي العارف بالله الشيخ أبي العباس أحمد بن باباس وهو من إنشاء شيخه الشريف الشافعي، ولأهمية هذا المكتوب في واقعة الحال التزمت إثباته منقولًا من خطه المختوم بختم الأمير وهذا نصه: [الطويل]
رفعت إليك الحال يا نجل باباس ... وليس لهدا الأمر غيرك من آسي
فأنت نهارًا كوكب الخور في الدنا ... وبالليل نبراس السما أيُ نبراس
فكن فارسًا حامي الذمار بسيفه ... وجئني بعباس وجئني بمرداس
يحاربني قوم بأصناف مكرهم ... وجاءوا بأنواع الحروب وأجناس
وما علموا أني بعزك عائذ ... فأنت لهم يا أيها الجبل الراسي
وخذ بيدي لله طال تفكري ... وضربيَ أخماسي زمانا بأسداسي
أجب دعوة المظلوم ولتكُ ناصرًا ... له حين لاذوا النصر يوجد في الناس
وخُلْ جولةً تمحو بها كل ماكر ... وما كان من ضر وما كان من باس
رجوتك تكسوني من المجد حلة ... فأنت لأبناء السبيل هو الكاسي
وأحظى بما أرجوه فيك من المنى ... ويذهب إيحاشي ويُقْدِم إيناسي
عليك سلام ليت حامله الصَّبَا ... إليك فلا أحتاج فيه لقرطاس
ولو أنني اسطَعْتُ المسير لجئتكم ... فطورًا على عيني وطورًا على رأسي
1 / 4