Murur Fi Ard Hana
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Genre-genre
وقبل أن أصل إلى الحديقة وجدته خارجا من بابها، وهو يثب وثبا كأنه شاب في الثلاثين من عمره، معتدل القامة، خفيف الحركة، فلما قربت منه سحرني ببشاشته ولطفه، ثم ظهرت على وجهه علائم الاستغراب ببقائي أكثر من يوم في عالم الهناء، وقبل أن يسألني عن سبب بقائي حكيت له حكايتي مع الملاكين، ثم أعادني إلى الحديقة فجلست بجانبه، وقلت له: يا سيدي قد سها عني أن أسألك عن أمر هو من الأهمية عندي بمكان، وقد شكرت الله على وقوع الخلاف بين الملاكين حتى أتيح لي أن أعود ثانيا وأسألك عن هذا الأمر. فقال: لك ما تريد. فقلت: ما هو دين هذه الأرض؟ وكيف فعله في الناس؟ فهل هو كما في أرضنا؟
فقال: قد قلت لك يا ولدي قبل الآن إن حالتنا كحالتكم من كل الوجوه ، إن كان في الدين، أو في السياسة، أو في غير ذلك، ولكن ارتقاء عقولنا وارتفاعها عن الأمور الصغيرة غير الجوهرية جعلانا أن يبقي كل منا اعتقاده في قلبه، فاختلاف الناس بالمعتقد كثير في هذه الأرض كما هو عندكم، ولكن لا يتعرض أحد لمذهب الآخر، فالكل يعتقدون بخلود النفس، ويؤمنون بخالق قدير حليم عادل رحوم شفوق، لا ينتقم من الخلائق عن الهفوات الصغيرة.
وقد أخذت شعوب هذه الأرض دورها من الشقاق والانقسام بما يختص بالأديان، عندما كان الجهل مخيما على ربوعنا، أما اليوم فقد حلت المعرفة محل الجهل، وارتفع الشقاق والخصام، فرجال الدين اليوم كثيرون، وربما أنهم يزيدون عن الذين عندكم، ولكنهم لا يعيشون كعيشتهم عندكم من الوظيفة الدينية، فقد تطوعوا بالخدمة الروحية حبا بالغاية المقدسة فقط، وعلى رجاء سعادة نفوسهم في الآخرة، فهم يخدمون مبادئهم بدون مقابل؛ لأن الذي يؤخذ مجانا يعطى مجانا، فتراهم فوق قيامهم بخدمة النفوس - التي من الطبع لا تستغرق إلا القليل من وقتهم - يشتغلون مثل بقية الناس بالصنائع، والفنون، والمتاجرة، والتأليف، وتثقيف العقول، والوعظ والإرشاد، وبث روح الشفقة، تابعين الوصية القائلة: بعرق جبينك تأكل خبزك.
هذه يا بني حالتنا الدينية، وقد يمضي علي وقت طويل لا أتباحث فيه مع أحد، ولا أجادل أحدا في هذه المسائل، ولكني كنت إذا رأيت أحدا يهزأ بالروحيات، وينكر وجود الخالق، أتأثر وأعمل الجهد في إقناعه؛ لأن حياة الجحود - أي الحياة المادية وحدها - هي حياة خشنة قاسية، لا تعرف الشفقة والحب ولا تشعر براحة داخلية.
فقلت له: صدقت أيها الشيخ المهاب، فإني حينما كنت حيا في أرضنا كنت أنظر بعض النساء المتقدمات في السن يذهبن إلى المعابد وبأيديهن الشموع، وقلبهن مفعم بالأمانة، فأحسدهن على حياتهن الروحية، وأقول: هنيئا للمؤمن الذي يرجو السعادة، فإن قلبه كله محبة.
ولما بلغنا إلى هذا الحد من الكلام كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فقال لي الشيخ: بما أنك ستبقى في هذه الأرض إلى الغد، فاذهب معي هذه الليلة إلى بيتي، فتأكل العشاء معي وتنام. فلم أمانع وسرت معه في طريق كلها مخازن ودكاكين ملآنة بالبضائع المتنوعة، مرتبة مهندمة نظيفة، والقائمون بإدارتها أنقياء باسمون، على محياهم لوائح الأمانة والاجتهاد في العمل، والنصاحة في الخدمة، وكان قد ابتدأ بعضهم بقفل أبواب المخازن، فسألت الشيخ عن سبب قفل المخازن في مثل تلك الساعة، فقال: إن كل الأعمال والأشغال عندنا هي في النهار، أما الليل فهو للراحة؛ ولذلك كل الناس تقف عن العمل عند الغروب، ولا يبقى إلا بعض المحال العمومية؛ ليذهب الناس إليها للنزهة والرياضة والاستفادة، وتمضية قسم من الليل ليستعيضوا بعض ما فقدوه من القوة في عمل النهار.
وبعد برهة وصلنا إلى بيت بسيط للغاية، جميل الهندسة، فقال: هذا هو بيتي. فلما قربنا من الباب الخارجي سمعت أصوات الفتيان والفتيات من الداخل يقولون: ها قد أتى الجد. وأقبلوا عليه، فتعلق بعضهم بأثوابه، والبعض الآخر أخذوا يثبون عليه ويقبلون يديه، وهو ينهض الصغير منهم ويقبله، فوصلنا إلى داخل الدار بهذا الموكب الذي يفوق موكب الملوك والسلاطين مجدا وبهاء؛ لأن أصوات الأولاد كانت أطرب من الألحان، وأشد وقعا في النفس؛ وحينئذ فكرت بالحالة التي قضيتها في أرضنا «كالمسمار الأقطش» وحيدا، لا امرأة تشاطرني الأتعاب، ولا أولاد أتلذذ بهم، الآن أدركت لذة البنين، الآن علمت أن لا سعادة إلا سعادة العائلة، ولكن ماذا يفيد الآن وقد «عدى السبت في مخ اليهودي»، ولا ينفع الندم على ما فات.
ولما صرنا ضمن الدار ونحن على الحالة المتقدم ذكرها، أقبل البعض من أهل البيت، وقبلوا يد الشيخ، ثم عرفهم بي، وقال: إن هذه الروح هي روح أحد سكان أرض المرحوم آدم، وقد أسعده الحظ بأن يبقى هنا أكثر من يوم، وغدا يستأنف المسير إلى العلى. فرحبوا بي كثيرا ثم جلسنا، وبعد قليل دخل علينا رجل، وبعد أن ألقى السلام قبل يد الشيخ وجلس، فقال لي الشيخ: هذا أحد أولادي، وستراهم الآن جميعا، فإنهم يأتون من أشغالهم، وسترى أيضا أولاد أولادي، وهم الآن شبان كبار، وهؤلاء الأطفال الذين تجدهم أمامك هم أولاد أولاد أولادي ، فقلت له: «الله يجبرك بهم ويمتعك برؤية أحفاد أحفادك.»
وفيما نحن بالحديث إذ دخل رجل وعلى منكبيه مجرفة وبيده فراعة، ثم دخل رجل آخر لابس لباسا كلباس الكهنة، ثم تبعه ثالث وعلى وجهه غبار من الفحم، فأقبلوا جميعا على يد الشيخ وقبلوها، وبعد ذلك دخلوا الدار وهم بالحالة التي ذكرتها، وبعد برهة دقت الساعة السادسة، فقال لي الشيخ: قم إلى العشاء. فقمت ودخلنا إلى فسحة جميلة مزينة الجدران بالرسوم المفرحة التي تسر النفس وتشرح الخاطر، وفي وسطها مائدة طويلة تسع أكثر من عشرين شخصا، مغطاة بغطاء أبيض ناصع كالثلج، وعليها باقات من الزهور البديعة الألوان، والصحون موضوعة على دائرتها، وبجانبها الملاعق والسكاكين والشوكات، وهي تلمع كالبلور، نظيفة كالثلج، فجلس الشيخ إلى رأس المائدة وأجلسني بجانبه، ثم أتى الرجال والنساء والأولاد الكبار وأخذ كل مركزه، وبعد ذلك أحضر الطعام، وأخذ كل منهم حاجته، وابتدأت تلك الأفواه الجميلة تفتح وتطبق، ودارت حركة الأكل بهدوء وشهية، ثم بعد برهة أتي بشكل آخر، وأدير على العموم، فالتفت إلي الشيخ وقال: كيف رأيت طعامنا؟ أما هو لذيذ؟ قلت له: إنه لذيذ جدا، وعلى فرض أنه لم يكن لذيذا، فبهذا الاجتماع وبهذا المنظر الذي يسبح الخالق يصير لذيذا. قال: كل ولا تستح؛ لأنه لا يوجد غير هذين الصنفين من الطعام، فإن العادة القديمة التي كنا نكثر فيها ألوان الطعام قد بطلت؛ نظرا للأضرار التي تتأتى عنها، فصرنا نقتصر على شكل واحد أو شكلين في اليوم، والمأكولات عندنا حيوانية ونباتية، ولكننا نكثر من الثانية لأنها ألذ وأفيد.
فقلت بنفسي: لو علموا حقيقة ما نحن عليه من الشراهة في أكلنا وشربنا، لكانوا يعجبون لبقائنا أحياء، فكم نشرب من العرق قبل الأكل ومن النبيذ معه، كم نطبخ من الألوان التي لا تهضم إلا بعد شق النفس، يكفينا الكبة والمحشي، هذا فضلا عن الحلويات والسيكارات وراء الأكل، ثم القهوة والشاي، بقطع النظر عن الأركيلة وتوابعها.
Halaman tidak diketahui