Murur Fi Ard Hana
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Genre-genre
فجاوبه المأمور: خذ المسألة برواق يا محترم، وافحص ضميرك، تجد أنك تستأهل القصاص، هل كنت تقوم بواجب الإنسانية نحو المنكوبين والضعفاء والفقراء، وتعزيهم في مصائبهم؟ هل أغثت يوما فقيرا ونشلته من مصيبته ولو مؤقتا؟ إن وظيفتك تقضي أن تكون للفقراء نصيرا، وللحزانى معزيا، وللخطاة موبخا، وللمرضى مسليا، وللمصابين مقويا، سيدك أوصاك بالكرز والإرشاد دائما بدون التفات إلى الماديات، فهل سرت حسب وصيته؟ لا أظن ذلك. كنت تسر كثيرا عندما تسمع الطعن والقذف بحق رصيفك الكاهن، وتلتذ مثل إذا «سقسقوا على بطنك موي باردة»، لماذا هذا كله؟ كم مرة صعدت على المذبح وقلبك كله حقد؟ كم مرة لبست وجهك بالمقلوب عندما تكون في الكنيسة؟ ولا تخاطب الناس إلا «بالنبر والقفط»؟ كم مرة ضربت الشماس «المعتر» لغير ذنب؟ أما يكفيه أنه خادم «بلاش»، نسيت لما كنت تنظر من تحت لتحت، عندما تكون الصينية دائرة على الجمهور لترى إذا كانت موفقة أم لا؟ نسيت لما كنت تأكل نصف القداس وتنهيه بربع ساعة؟ نسيت مزاحمتك أنت والخوري طاميش على تكبير الجرس حتى صيرت جرس كنيستك قنطارا ونصف قنطار؟ كم سببت بذلك تسقيط صدور الشبان الذين كانوا يبصقون الدم؟ كل ذلك من تكبير جرسك يا حبيبي، كم مرة ضربت الخورية بعصاة الغليون بدون شفقة ولا رحمة؟ كم مرة ذهبت لعند المطران ووشيت بالخوري روكز؟ كم من الأحزاب عملت؟ وكم من المشاكل أوجدت؟ وأهم شيء كان متمكنا منك العناد، العناد يا أبانا، كان من الواجب أن تكون رقيق الجانب، متساهلا متواضعا، تغفر لمن يسيء إليك لتستحق أن تدعى كاهن الله، كاهن المسيح، الذي هو معدن الوداعة والشفقة والحنان، «ولكن النبيدات كانوا عامينلك قلبك، كنت تشم ريحة النبيذ الطيب سفر سنة.»
فلما سمع الكاهن هذا الكلام، تنهد وطفرت الدموع من عينيه، وصار يقرع صدره ويقول: خطيئتي عظيمة أيها المأمور، إنني نادم على جميع خطاياي، اعفني من هذا القصاص. فأجابه المأمور: هذا غير ممكن، ما كتب فقد كتب.
فأجابه الكاهن: ما دام العفو محالا فإني أقبل القصاص إكراما لجروحات المسيح. فقال له المأمور: مثل ما تريد يا أبانا. حالا «ندفه» الجنود 14 جلدة مؤلمة أفقدته صوابه، فحملوه أخيرا إلى الداخل، وعادوا برجل حركاته كحركات «أبي زهرة». •••
فقلت لحنوش: لا شك أن هذا الرجل صحافي. قال: هو عند قولك. فلما وقف أمام المأمور أظهر الخضوع، وحياه تحية معتبرة، ثم لفظ خطابا وافتتحه بقوله: أطال الله بقاء مأمورنا المعظم وحاكمنا المكرم، ومتعنا بعدله وحلمه، فإنه - حفظه الله - معدن الرحمة والشفقة، كريم النسب، غيور ووطني صادق ...
فقاطعه المأمور بقوله: ما هذا «الطق الحنك»؟ هل تريد أن تنشئ جريدة هنا؟ أما كفاك تدليسا وتبخيرا في تلك الدنيا حتى جئت الآن تعيدها؟ هل تظن أن هذه العملة تسلك هنا كما تسلكها هناك؟ «ألبخوه» أيها الجنود 30 جلدة من قضبان الرصاص. فصرخ الصحافي وقال: العفو يا سيدي، فإني لا أعرف لي ذنبا يستحق هذا القصاص، هذا جزاء من كرس نفسه لخدمة العموم؟ يا الله ما هذا الظلم؟ فصاح به المأمور: اصمت يا ثعلب، إن ذنبك عظيم لا يغتفر، نسيت أنك قلت: إنني سأخدم وطني ومواطني الخدمة المنزهة، وأضحي مصلحتي الذاتية حبا بالمصلحة العمومية. ثم بعد مدة قصيرة أخلفت بوعدك هذا، وبعت مبدأك باشتراك واحد، كم مرة تظاهرت بالغيرة على الدين وأنت جاحد لا تؤمن بشيء؟ كم مرة اتخذت الطوائف وسيلة لتنفيذ غاياتك وترويج جريدتك عند البسطاء، وناديت: الأرثوذكسية قد أهينت، انهضوا يا قوم، وقفوا بوجه الجريدة التي تقصد إهانة الملة والدين؟
ثم تميل إلى جهة أخرى وتنادي بأعلى صوتك: يا بني مارون، إن الصحافي الفلاني قد أهان طائفتكم، أهان رؤساءها، كل ذلك لكي تلقي الشغب والفساد في الناس يا كاذب، كم مرة كتبت مقالات الطعن والقدح بقلمك وذيلتها بإمضاء سوري، أو وطني حر، أو «ب. ع.» أو «خ. ر.»؟ كم مرة خنت ضميرك وسكت - حبا بذاتياتك - عن المطالبة بحقوق الشعب الذي تجندت لخدمته؟ كم مرة تظاهرت بالغيرة على الوطنية ثم انقلبت عليها لما لم تجد فائدة مادية؟ أين مبدؤك؟ أين عهودك يا منافق؟ إذا كنت لم تخجل من القراء أفلا تخجل على الأقل من رصفائك، وتخاف من أن تصغر في عيونهم؟ أنسيت ادعاءك ومظاهرتك بالترفع، مع أنك كنت «أحمر من أبي حيط» لا تعرف كيف تفتكر ولا كيف تكتب، إن ثوب الغش والتمويه رقيق شفاف، فلا يلبث أن يظهر كل شيء تحته.
وأهم ما كنت تفعله النميمة، والمساعي الشريرة، والكذب، ومحبتك ضرر رصفائك، حتى كنت تشتهي لهم الموت ليخلو لك الجو - كفى كفى - نفذوا القصاص أيها الجنود بكل سرعة. فلما سقطوا عليه صرخ: «دخيلك أمان جانم»، إنني أتوب يا سيدي، أتوب، اعف عني، ارحمني، فإني لا أعود ثانيا إلى التدليس، ولا أغير مبدئي، ولا أكذب، ولا ... ولا ... فجاوبه المأمور: لا يلزمنا جريدة هنا، هذا الكلام كان يصح قبل الآن، امتنع عن الكلام وإلا ضاعفت لك القصاص. ولم ينهوا جلده حتى صار صاحبنا في عالم الغيب مما أصابه من الأوجاع؛ لأن الضرب كان بالأكثر على أصابع يده اليمنى التي كان يقبض بها القلم، فحملوه بعدئذ إلى الداخل. •••
وعاد الجنود ومعهم رجل مهاب، على عينيه نظارات، يمشي بتأن، فقلت لحنوش: من هذا؟ قال: أحد الأطباء.
ولما اقترب من المأمور قال: إنني أستغرب كثيرا يا حضرة المأمور من استدعائي للمحاكمة؛ لأن طبيبا مثلي حائزا على شهادة الدكترة بالطب، فضلا عن الألقاب العلمية مثل: «ب. ع.»، و«د. ف.» وما أشبه ذلك من الحروف ... لا يفعل شيئا يستوجب المحاكمة، فقد يصعب علي الوقوف هنا كمذنب، وأراني متأثرا جدا من هذه الإهانة التي لحقتني الآن.
فجاوبه المأمور بقوله: «لا تأخذ على خاطرك» يا جناب الدكتور، فلو لم تكن مذنبا لما كنت دعيت إلى الوقوف أمامي الآن، فإن التشكيات من أعمالك كانت تتصاعد إلى هذه الدنيا بتواتر من المرضى الذين كنت تداويهم، وخصوصا الفقراء منهم؛ لأنك ما داويت مريضا إلا «وتجيب آخرته» كونك لم تراع حالة الأشخاص، وظروف المكان والزمان، فكنت تصف الدواء كما تعلمته من المدرسة، بدون أقل فلسفة ولا تفكير بحالة المريض الوراثية، ومعيشته العائلية، فضلا عن حرفته وما يتعلق بها، وكثيرا ما كنت تصف الدواء قبل أن تتحقق المرض، مستخفا بحياة البشر الثمينة، التي كان يجب عليك - بعد أن عاهدت نفسك على القيام بهذه المهنة الشريفة - صيانتها والاعتناء بها، وإنقاذها من الأمراض على قدر استطاعتك.
Halaman tidak diketahui