Murur Fi Ard Hana
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Genre-genre
هنا قاطعه المأمور بقوله: ألا تخجل من أن تقول عبدها؟ حذار أن تعيد مثل هذه الكلمة، عد إلى حديثك. - أنعمت علي الحضرة السلطانية برتبة الوزارة؛ لكي تظهر سيادتها على الجبل من طرف خفي، وأعلن ذلك رسميا، ثم طير الخبر حالا إلى لبنان بواسطة بعض المكلفين بذلك من وجوه لبنان ورؤسائه، وكان ذلك قبل أن ترسل الحكومة الخبر رسميا إلى لبنان.
ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وقد تواردت علي أنباء التهاني من بعض كبار لبنان ورؤسائه، وكلها تعرب عما خالج أفئدة اللبنانيين من الفرح والسرور بتعييني متصرفا عليهم؛ نظرا لما يعهدونه بي من الدراية والحكمة والاستقامة، وغير ذلك من الصفات الشريفة، مع أنه لم يسبق لي أن عرفت أحدا منهم، ولا سمعوا باسمي من قبل، فاستدللت من هذا على فساد وصغارة في المحيط اللبناني المرتقي.
وقبل تعييني كانت تمضي علي سنوات لا تردني فيها رسالة برقية من أحد، ولا أسمع فيها كلمة تعظيم ولا تكريم؛ لأن في الأستانة من البشوات أمثالي ألوف، وقد أصبحوا بسعر الفجل، فاستكبرت بعد تعييني هذا الأمر، ونفختني العظمة وشمخت بأنفي، وبعد أن كنت بشوش الوجه رقيق الجانب شأن بعض أكابر الأتراك، «عقدت نونتي وصار ذنبي يفرط الجوز»، وأنت لا تجهل الطبع البشري المنحوس.
ومن ذلك الحين دخلت في طور جديد من أطوار حياتي، فكثر زواري، وتقرب الناس مني، فصرت كيفما سرت يأخذ القوم سلامي، ويحيوني ويكرموني الإكرام الزائد.
هذا وقد أرسل بعض وجهاء لبنان على إثر تعييني إلى بعض معارفهم في الأستانة من البشوات، وذوي المكانة لكي يعرفوهم بي، لينالوا حظوة في عيني عندما أصل إلى لبنان وطنهم، فتعرفت بمدة أسبوع واحد على أكثر وجوه لبنان وأمرائه ومتوظفي الحكومة فيه، وأنا لم أزل في الأستانة منتظرا الأوامر بالسفر.
وعند ورود البريد من لبنان ومصر وصلني من الجرائد والرسائل ما يكفي لإيقاد فرن يوما كاملا، ففضضتها كلها، ووجدت فيها القصائد الرنانة بمدحي وتهنئتي وتفخيمي، وقرأت المقالات الضافية والفصول الطوال عن صفاتي وعدلي، ثم عن جمالي وجسمي وطولي وعرضي، وعن كيفية نومي وأكلي وشربي، وعن مشروبي من الخمور، وعن عدد أولادي وبناتي، وقد زادوا فيهم وأطنبوا - على الأخص - بمعارفي الواسعة، وتضلعي في عدة لغات كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية وغيرها، مع أنني لا أعرف من هذه اللغات إلا اسمها، ولا أدرك من العلوم والمعارف إلا علم المجاملة التركية وبعض اصطلاحات بالإفرنسية.
فهذه المظاهرة وهذه الخفة التي ظهرت من أرباب أقلامهم، وقادة أفكارهم وكبارهم، جعلتني أطمع بهم، وداخلني شيء من الاحتقار لأولئك الناس الذين يعدون نفوسهم كبارا.
والأجمل من كل ذلك هو أن أحدهم لما علم بتعييني متصرفا على لبنان، وقف على الإثر في غرفته، وارتجل شعرا بمدحي، وهنأ لبنان واللبنانيين في، فهل ينتظر بعد هذا من إنسان ضعيف ألا يأخذه البطر والتكبر، وألا يطمع بمثل هؤلاء الناس ويحتقرهم ويستبد بهم.
فصار المأمور يقلب شفتيه ويرفع حاجبيه علامة الاستغراب، وأنا من جهة أحترق غيظا لثبوت هذه التهم على إخواني، الذين كنت أود ألا أسمع عنهم في هذا العالم مثل هذه الأخبار المحزنة. آه «يا حسرتي» عليك يا لبنان! آه «يا حرقة قلبي» على عزك الماضي ومجدك القديم! يا أيها الجبل الذي ينطح بهامته السحاب، يا من قد نظرت عيناي النور في ربوعك، وانتفخ صدري لأول مرة من نسيمك المحيي، اغفر لنا هذه الذنوب التي نقترفها باسمك، بحق أرزك، بحق قممك العالية، بحق وهادك وبطاحك، بحق نبوعك وعيونك، بحق جمالك وبهائك، بحق كرمك وزيتونك، وتوتك وليمونك، انعطف علينا، واجعلنا أن نعتصم بالإخاء، ونتكاتف على محبتك وخدمتك، وألا نعظم الغريب ليذل بعضنا بعضا، ناد أولادك المهاجرين الذين تركوك، لا بغضا فيك، بل كرها للفساد السياسي الحاصل بين بنيك، نادهم ليعودوا إليك ويحتموا تحت كنفك ويعتزوا بك، قد أضناهم البعاد وتولدت في قلوبهم الحسرات؛ نادهم كي يعودوا حاملين الهدايا من المحبة الحقيقية، والألفة الأخوية، والحرية التي أعطانا إياها الله، الحرية المقدسة البعيدة عن الزيغ والتطرف؛ ليسعدوا بقربك ويمجدوا الخالق في معابدك وأديرتك الدهرية، واذكرني - أنا المسكين الخاطئ الذي فارقت الحياة الجسدية - وأنا بعيد عنك ومشتاق إلى لقياك، وادع لي بالسعادة الدائمة لأحيا إلى الأبد.
ثم عاد المتصرف إلى الكلام وقال: وقبل أن أبارح الأستانة أخذت من الحكومة التعليمات الكافية لحفظ سلطة الدولة في ذلك الجبل، ومع هذا أخذت أيضا وصايا كثيرة من بعض أصحاب النفوذ ببعض الوجوه في لبنان لأجل الوظائف، وبعد إتمام كل ما يلزم وصدور الأمر بالسفر سافرت، ولما وصلت إلى برت سعيد، استقبلت بعض الرسائل البرقية الترحيبية من لبنان، وعند وصولي إلى ميناء بيروت احتاط الباخرة أسطول كبير من الزوارق والقوارب، حاملة الذوات، والوجوه، والحكام، والمأمورين، والمتوظفين، الذين تركوا أشغالهم وأتوا من أمكنة بعيدة للسلام علي، والأخذ بخاطري ورضاي، وقد صعدت إلى البر بين الجماهير الكثيرة المصطفة على الرصيف، فقابلني هناك - بصفة رسمية - حكام ولاية بيروت، وبعض الجنود الذين أخذوا سلامي.
Halaman tidak diketahui