تمكنت سوزي من إحضار وسادة من طرف مرتبة المخيم الموضوعة على الدواسة الجانبية، فوضعتها السيدة برونسون على كتفها وعلى الجزء الخلفي من السيارة، وشدت رأس جيمي عليها، بينما جثت سوزي على ركبتيها في المقعد الأمامي، وشدت ملاءة على كتفي جيمي ماكفارلين، ودموع الامتنان لا تزال تبلل وجهها الغض، وهي تقول: «أعتقد، يا أماه، مما حكاه لأبي، أننا نجونا بأعجوبة، وأعتقد أنه من الأفضل أن نشحن السيارة ونستقل القطار، لنتجه شمالا بأسرع الطرق وأكثرها أمنا.»
أجابتها الأم برونسون، التي كانت أقوى شكيمة: «أوه، لا أظن ذلك. إنما سنقترب أكثر من البلدات عند حلول الليل. وسنتوقف عن النوم على جانب الطريق. سنحتفظ بالسلاح الذي حصل عليه أبوك ونحصل له على بعض طلقات الخرطوش من أول بلدة نتوقف فيها. أعتقد أن بإمكاننا أن ننجو وننتهي من رحلتنا.»
الفصل الثالث
سيد النحل
قال ويليام برونسون متسائلا وهو ينظر من فوق كتفه في الساعات الباردة، الساكنة بين الثالثة والرابعة من صباح اليوم التالي: «هل تعتقدين أننا قد تخلصنا منهما، يا عزيزتي؟» «هل تعلم كم ميلا قطعنا؟» سألته زوجته، لكن ويليام قال إنه لا يدري. فقد نسي أن يلقي نظرة على عداد السرعة حين توقفوا لإقامة المخيم، لكنه متأكد من أنه دار مع مائة منعطف وانحرف مع كل مفترقات الطرق التي قابلها، وبدا ممكنا أن تحتوي البلدة الصغيرة التي كانوا سيدخلونها على مكان يجدون فيه فراشا نظيفا وينعمون ببضع ساعات من الراحة. وبينما هم يسيرون في الشارع الرئيسي رأوا باب فندق مفتوحا وأنواره مضاءة، ومن ثم قرروا النزول فيه كي ينعموا بقسط من الراحة، ثم يتحمموا ويفطروا، وبعد ذلك يتشاوروا ويقرروا ما سيفعلونه.
حين هموا بمغادرة السيارة، وجدوا ضيفهم عابر السبيل يغط في نوم عميق حتى إنه عز عليهم أن يوقظوه، فأوصدوا السيارة، وبسطوا عليه دثارا آخر وتركوه يحظى برفاهية المقعد الخلفي بالكامل. ومن ثم حين بدأت الحياة تدب في شوارع البلدة، استيقظ جيمس ماكفارلين يغلبه شعور مرتبك بأنه قد ضل. لم يدر ماذا حدث لعائلة برونسون أو أين كان، لكنه سريعا ما عرف، بقراءة لافتات الشوارع من حوله، وأدرك عدم إمكان حدوث شيء لعائلة برونسون في بلدة بها عدة آلاف من السكان؛ ومن ثم كان شاغله الأول الفطور. لقد تمنى في الليلة السابقة أن يظل مع عائلة برونسون، ربما في الموقع الذي كانوا يخيمون فيه قبل أن تبدأ أحداث اليوم. أما الآن، فمن الواضح أن خططهم قد تغيرت. من المحتمل أن يخرجوا من الفندق الذي تقف السيارة أمامه، وقد أنعشهم النوم والاستحمام والطعام. رأى أنه قد استمتع بنوم مريح، وأن بإمكانه تأجيل الاغتسال، لكن كان هناك حاجة ملحة إلى الطعام في وهدة معدته. لم يكن تواقا لاختيار شيء على وجه التحديد. فهو جائع جوعا شديدا حتى لقد شعر أن بإمكانه التهام أي شيء تقريبا، وقد انبعثت روائح فواكه ناضجة من المطاعم، ومن مبنى الفندق، والمقاهي والأكشاك حوله فأثارت شهيته. بعد ذلك، هاجمت رائحة القهوة والطعام المخبوز أنفه، فبدأ يفكر كيف يستطيع جعل فطوره حقيقة ملموسة.
خطر له أن يخرج من السيارة ويتمشى قليلا على الرصيف ليرى إن كان بإمكانه تنشيط دورته الدموية قليلا. وجد نفسه يتشمم رائحة اللحم المشوي والبطاطا المقلية والخبز المحمص والقهوة واللحم المقدد وحلوى الوافل في مكان ما قريب، وبدافع العادة وحدها، إذ كان يعلم أنه لا يوجد بنس واحد في جيوبه، أدخل يديه حيث المكان الذي تقع فيه جيوب الذكور عادة ووقف في دهشة مذهولا؛ لأنه عاد بيده إلى الضوء وفيها تشكيلة كبيرة من العملات المعدنية؛ فئة الخمسة والعشرة سنتات، وربع دولار أو ربعين، وقطعة من فئة الخمسين سنتا. انفرج فاه بطيئا واتسعت عيناه، ودون أن يعرف السبب البتة لما قام به، نظر أعلى صف المباني القائمة على سلسلة الجبال بعيدا في أنحاء سماء كاليفورنيا الخالية من الغيوم داكنة الزرقة وقال، بتأدب شديد: «أحمدك، يا رب.»
لم يكن يدري كم مضى منذ قال بخشوع: «أحمدك يا رب.» ظل يعتقد أنه لم يحدث له خلال السنوات القليلة الماضية أشياء كثيرة يشكر عليها الله، لم يشكره على الأقل منذ أخذت النار تتقد في صدره والضعف يغير على أعضائه ويصيب يديه الكبيرتين القويتين بالرجفة. لم يتوقف ليتفكر أن الله قد لا يرضيه ارتداؤه سروال رجل آخر، لكن، في نهاية الأمر، شعر جيمي أنه بحاجة إلى السروال؛ كان في أشد الحاجة إليه، وقد تخلى عن سرواله، الذي كان أفضل بكثير وأنظف بمراحل، مقابل هذا السروال الذي حصل عليه، الذي كان مجرد النظر إليه يملأ روحه ذات الذوق الرفيع نفورا. تصور أنه لو كان في موقف يسمح له برؤية هذا السروال قبل الحصول عليه من المجرم لجازف بارتداء زيه الرسمي يوما آخر.
نظرا إلى أنه لم يكن لديه أي فكرة متى قد ترجع عائلة برونسون إلى سيارتهم، ونظرا إلى أن جوعه يزداد منذ صار لديه نقود في يديه ولم يعد بحاجة إلى إيهام نفسه بأنه ليس جائعا، فقد رفع منكبيه ونظر حوله ليرى إن كان بإمكان أنفه مرهف الحساسية تعيين المكان الذي انبعثت منه أطيب رائحة من بين الأماكن المحيطة التي يطهى فيها الطعام. أعاده ذلك إلى الفكة التي يحملها في راحة يده. فرد يده اليمنى أمام مجال رؤيته وعلى مهل راح يباعد بين العملات بسبابته اليسرى. كان في غاية الفرح بما وجده لدرجة أنه كاد أن يصيح مهللا مثل صبي صغير. كان مجموع نصف الدولار والأرباع يساوي دولارا؛ علاوة على العملات فئات الخمسة والعشرة سنتات وبعض البنسات التي بلغ مجموعها سبعة وثمانين سنتا.
رأى أنه بالتنظيم الرشيد، بالاقتصار على القهوة مع القليل من الخبز المحمص واللحم المقدد ليقيم أوده، لن يصبح في احتياج إلى أحد ليوم آخر على الأقل. وحيث إنه قد حمد الله لمجرد شعوره بالفكة القليلة في يده، فقد خطر لجيمي، حتى أثناء شعوره بالجوع وحاجته إلى البقاء على مقربة من السيارة، لعله يركبها لنحو أبعد إن أمكن، أنه من المستحسن أن يعرب عن امتنانه ثانية. فنظر إلى السماء مرة أخرى، وقال مشددا هذه المرة على حرف الراء، بلكنة ربما ورثها من لسان أحد جدوده من أسرة أبيه أو أمه، بصوت مدو على رصيف تلك البلدة في كاليفورنيا: «هذا كرم بالغ منك، يا رب.» وحين التقطت أذناه أنه يتكلم مثل الاسكتلنديين أبرقتا إلى دماغه تصرفه الغريب، فضحك جيمي مقهقها، وهو الذي كان يشعر قبل بضع دقائق بحزن لا مراء فيه، واستدار، واتجه عبر الشارع نحو أقوى رائحة للحم المقدد والقهوة استطاع تحديدها.
Halaman tidak diketahui