Pertaruhan Besar Sejarah
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Genre-genre
وفي تصوري أن هذا الإحساس بضياع حليف قوي للقضية العربية له بالفعل ما يبرره، في ضوء الاستراتيجيات العالمية الجديدة للاتحاد السوفياتي وللمعسكر الاشتراكي ككل. قبل أن نفكر في التنديد بهذا الوضع الجديد، أو مهاجمة جورباتشوف الذي أدت سياسته إلى هذا كله، ينبغي أن نسأل أنفسنا: هل كنا، في أي وقت أصدقاء حقيقيين للاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي؟
الحق أننا لم نتنبه إلى قيمة هذا الصديق وفائدته لنا إلا بعد أن أحسسنا أننا فقدناه، أو بسبيلنا إلى فقدانه (تماما كما يحدث في حياتنا الثقافية، حين نتجاهل الكاتب أو الأديب وهو يقدم إلينا عطاءه السخي خلال حياته، ولا نبدأ الإحساس بقيمته إلا بعد وفاته)، ففي الوقت الذي كان فيه السوفيات يقدمون إلينا أقصى ما تستطيع إمكاناتهم تقديمه من المساعدات العسكرية مثلا، وضعنا أسلحتهم في أيدي عسكريين جهلاء مخدرين، فجاء عدونا عام 1967م وجمعها كلها في صحراء سيناء، وألحق بنا هزيمة عسكرية تاريخية، ومع ذلك ألقينا اللوم كله على «الروس»، وسارت المظاهرات في أرجاء العالم العربي (بإيحاء من بعض الأنظمة القائمة عندئذ) تهاجم السفارات السوفياتية وترجمها بالحجارة.
وعندما اعتدلت أوضاعنا العسكرية في 1973م وألحقا بالعدو أول هزيمة حقيقية في تاريخه، لأسباب من أهمها نوعية الأسلحة التي حاربنا بها (كما اعترف الرسميون جميعا في المراحل الأولى من تلك الحرب)، انقلبنا عليه بمجرد أن تغير ميزان المعركة، وكانت الشماعة التي علقنا عليها الهزيمة الأخيرة هي أيضا «الأسلحة الروسية»، وكانت القرارات السياسية المعادية للسوفيات، قبل المعركة وبعدها، استفزازية إلى حد لا يتحمله من له صبر أيوب. وهكذا لم نكن نحن أصدقاء حقيقيين للسوفيات في الوقت الذي كنا ننتفع فيه بأقصى ما تسمح له مواردهم المحدودة بتقديمه.
وكما كان العرب أصدقاء سيئين، فقد كانوا أيضا أعداء سيئين: فالمفروض أن العدو الحقيقي هو السياسة الأميركية المنحازة بالكامل إلى إسرائيل، ومع ذلك فبقدر ما كانت سياستنا الإعلامية تهاجم أميركا على المستوى الكلامي، كانت سياستنا الفعلية ترتمي في أحضانها وتنحاز لأهدافها انحيازا يكاد يكون كليا.
وعلى ذلك، فإذا كنا اليوم نتباكى على ضياع التأييد السوفياتي، وعلى استفراد أميركا بالمنطقة، فلا بد أن نعترف بأننا لم نكن نحمل ذرة من التعاطف مع من كان يصادقنا، أو ذرة من العداء لمن كان - ولا يزال - يعادينا، وأن سياستنا السابقة تجاه الصديق السابق لا تشفع لنا لديه الآن حين يجد نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في أولوياته، ولا تدفع العدو (الذي يظل محبوبا مهما فعل) إلى أن يعمل لنا في استراتيجيته المستقبلية أي حساب جاد.
لقد حدثت متغيرات المعسكر الشرقي، وهي متغيرات ليست في صالحنا بغير شك، ولكننا قبل أن نلوم العالم ومتغيراته، ينبغي أن نوجه قدرا كبيرا من اللوم إلى أنفسنا، ويكفي أن لسان حالنا، حين نأسف على تراجع التأييد الذي كنا نلقاه من هذا المعسكر، يقول: كم من المصاعب تنتظرنا لو ضاعت منا المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي كنا نتلقاها من هؤلاء الشيوعيين الأوغاد!
وثمة ما هو أخطر من ذلك على صعيد المواجهة العربية الإسرائيلية؛ ذلك لأن القيادات الجديدة في أوروبا الشرقية تضم نسبة لا يستهان بها من اليهود، الذين قد يكون معظمهم متعاطفين مع الصهيونية، فوزير الخارجية المجري الحالية، جيولاهورن، يهودي لا يخفي عداوته للعرب، وهو الذي صدرت منه أولى التصريحات حول وجود عرب ضمن الشرطة السرية البغيضة لتشاوشيسكو، وهو الذي زار إسرائيل في أول رحلة رسمية له، ورفض زيارة أية منطقة عربية أو التحدث مع أي زعيم فلسطيني. وزعيم الحزب في ألمانيا الشرقية الآن يهودي. ودعاة الانفصال في ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا يضمون نسبة كبيرة من اليهود. وهناك للأسف ارتباط قوي في أذهان الأوروبيين بين الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية، وبين الدفاع عن إسرائيل، على أساس أن الليبراليين الحقيقيين يتعاطفون مع «الأقلية» المضطهدة (إذ لا تزال إسرائيل حريصة على نشر صورة «الأقلية المضطهدة» في وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة العالمية، التي يسيطر الصهيونيون على جانب لا يستهان به فيها).
ولكن أخطر القضايا جميعا، بالنسبة إلى العرب، هي هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، وهي الهجرة التي يأمل الإسرائيليون منها أن تعوض الزيادة السكانية السريعة للفلسطينيين، أو ما يسمونه «بالقنبلة الديمجرافية» (السكانية)، والتي أنعشت آمال شامير في التمسك بالأرض المحتلة قبل 1967م وبعدها، إلى حد جعله يصدر تصريحه الاستفزازي المشهور في 14 يناير الماضي عن عدم اهتمامه بأية حلول للقضية في الوقت الراهن لأن هؤلاء المهاجرين الجدد في حاجة إلى أرض جديدة واسعة، وخطورة هذه القضية لا ترجع أيضا إلى أن معظمهم سيكونون على مستوى علمي وتكنولوجي رفيع، فهم ليسوا مجرد «يهود جدد» كيهود الفلاشا أو المغرب، وإنما هم قوة نوعية مضافة إلى المجتمع الإسرائيلي، شديدة الخطوة على المجتمع العربي.
ولست أدري كيف قبل السوفيات، في عهد جورباتشوف، معالجة قضية هجرة اليهود ضمن إطار مشكلة حقوق الإنسان، فهل من الأمور المسلم بها أن من حق الإنسان مغادرة وطنه إلى بلد آخر معاد له، يخدم استراتيجية المعسكر الآخر أعظم الخدمات؟ وهل من حقوق الإنسان أن يتخلى أي بلد عن مواطنين أنفق على تعليم كل منهم وتأهيله عشرات الألوف، لكي يتلقاه بلد آخر جاهزا؟ والأهم من ذلك هل من حقوق الإنسان أن تهاجر أعداد ضخمة من بلد معين إلى بلد آخر من أجل إهدار حقوق إنسان آخر، هو الإنسان الفلسطيني، في وطنه وأرضه؟
ولنتأمل هذه القضية من زاوية أخرى، إن اختيار هؤلاء اليهود السوفيات الهجرة إلى إسرائيل بهذه الأعداد الهائلة، دليل على فشل كبير في السياسة الداخلية السوفياتية، فمعنى ذلك ببساطة هو أن النظام قد أخفق طوال الأعوام السبعين الماضية في إدماجهم في وطنهم إدماجا حقيقيا، بحيث يتوحد اليهود مع الأهداف العامة للمجتمع الذي يعيش فيه، مع احتفاظه بتراث أجيال من اليهود، قد ظلت بعد قيام أكبر ثورة في القرن العشرين، تغلب صفة اليهودي على صفة المواطن، وبمجرد أن لاحت لها فرصة، اختارت الهجرة إلى أشد البلاد عداء للبلد الذي نشأت فيه، والذي عاش فيه آباؤها وأجدادها. ولا جدال في أن هذا أمر بالغ الدلالة بالنسبة إلى رفض الطوائف اليهودية الاندماج في أي وطن تعيش فيه، على الرغم من أن أمنية أية أقلية أخرى في مجتمع كالمجتمع الأميركي مثلا، هي أن تنصهر في هذا المجتمع وتتوحد معه، ولكن لهذه المسألة دلالة أخطر بالنسبة إلى مجتمع خاض تجربة جديدة كل الجدة، هي التجربة الاشتراكية، وربى أجيالا على الولاء لفكرة الإنسانية العالمية التي تتخطى حدود القوميات والطائفيات، ثم اكتشف في النهاية أن قطاعا هاما من سكانه يدين بالولاء لبلد رأسمالي بعد من ألد أعدائه، ولا يعترف بمبدأ المواطنة، ولا بتراث الوطن أو تاريخه أو أمانيه، ولا بالأخوة الإنسانية على المستوى العالمي، بل يطغى لديه الانتماء الديني الضيق والمفعم بالأساطير على كل انتماء آخر!
Halaman tidak diketahui