حسن حظّنا- وإن كان ذلك له محلّ تهمة وريبة من السخاوي مثلا- كان ينقل كثيرا، إمّا من كتبه هو كالخطط والاتّعاظ والسلوك، وإمّا من كلام غيره كتاريخ بغداد وتاريخ ابن عساكر وطبقات السبكيّ، وهي كتب مطبوعة. وهكذا فكلّما أضفنا زيادة أو صوّبنا، ذكرنا المصدر المساعد على ذلك، فإذا عجزنا عن التقويم، نبّهنا القارئ إلى ذلك. وفي خصوص التراجم المكرّرة، اكتفينا منها بالأكثر وضوحا والأغزر مادّة، وألغينا مكرّرات الهمزة في مخطوط ليدن ١ فأدمجناها في مخطوط السليميّة.
حان الآن أن نعرّف بالمقريزيّ، وهو الغنيّ عن التعريف نظرا لشهرة كتاب الخطط، وكتاب اتّعاظ الحنفاء وكتاب السلوك. فهو تقيّ الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر المقريزيّ. أصل أسرته من بعلبك بلبنان الحاليّ. انتقل أبوه إلى القاهرة فتولّى بعض الخطط الديوانية وولد له بها أحمدنا سنة ٧٦٦ فنشّأه تنشئة أبناء الموسرين فحفظ القرآن وسمع الحديث ولا سيّما على جدّه للأم، وهو المحدّث شمس الدين ابن الصائغ الحنفيّ. أمّا أبوه فكان حنبليا. وعند وفاة والده، تحوّل المقريزي إلى المذهب الشافعيّ.
فلعلّه كان يطمح إلى بعض المناصب الديوانية في الدولة المملوكيّة التي تصانع الشوافع، أصحاب المذهب السائد في البلاد. وبالفعل تعلّق المقريزيّ بخدمة الظاهر برقوق ثم ابنه الناصر فدخل معه دمشق وشغل بها عدّة مناصب من نظر دواوين وتدريس، إلّا أنّه رفض منصب القضاء. وحجّ مرارا وجاور بمكّة مدّة وألّف هناك كتبا. وتولّى بالقاهرة وظيفة الحسبة ونظر الجامع الحاكميّ، وخطابة الجامع العتيق بالفسطاط. ولعلّ هذه المناصب المختلفة أثّرت في تكوينه وميوله فنراه في المقفّى، يكثر من تراجم المحدّثين والحفّاظ والفقهاء، وخصوصا الشافعيّين منهم، ويهتمّ فيه وفي غيره من كتبه بأحوال الحياة العامّة من سعر البضائع، وأحكام السوق، والأكيال والموازين. على أنّه لا يهمل الأدب والشعر فهو نفسه أديب بشهادة معاصره ابن حجر فيه: «وله النظم الفائق والنثر الرائق»، لذلك لا يترك فرصة تمرّ دون أن «يتحفنا» بأبيات قاض أو زاهد أو محدّث، وله ولع خاصّ بالكتابة الزخرفيّة التي اشتهر بها القاضي الفاضل ثمّ العماد صاحب الخريدة وابن فضل الله صاحب المسالك، فلا يتردّد في إيراد الفقرات، بل الصفحات، من هذه الصنعة المتعمّلة المتكلّفة، وهي لعمري للمحقّق عذاب، لأنّه لا يتمكّن من تحقيقها، والمصادر الإضافيّة لا تنقلها لأنّ أصحابها- ربّما- لا يشاطرون المقريزي ولعه هذا.
وعاد المقريزي إلى القاهرة فاعتزل الوظائف وانقطع ببيته فاشتغل بالتأليف التاريخيّ خاصة، فبلغت مصنّفاته نحو المائتين. غير أنّها متفاوتة الأحجام، فإلى جانب الكتاب الضخم، مثل «السلوك في معرفة دول الملوك» وهو في تاريخ الأيّوبيّين والمماليك (١) نجد الرسالة القصيرة مثل «النزاع والتخاصم بين بني أميّة وبني هاشم» وبإزاء اتّعاظ الحنفاء (٢) وهو في تاريخ الفاطميّين بمصر، نجد «إغاثة الأمّة بكشف الغمّة» في وصف المجاعة والأوباء بمصر في عهود الاضطراب السياسيّ.
_________
(١) نشر بالقاهرة في ٤ أجزاء و١٢ مجلّدا.
(٢) نشر بالقاهرة في ثلاثة أجزاء.
1 / 9