وقال أيضًا في مثل هذا الموضع ما يجب إيراده وإن طال الفصل وأسام ذكره إن الحسيات معابر إلى العقليات، ولا بد لنا ما دمنا باحثين عن حقائق العقل ولا نقدر أن نخلص إلى عالمه دفعة واحدة من سبيل نسلكها، ومثل نستصحبها، وشواهد نستنبطها ونثق بها، ولو أمكننا الوصول إلى عرصات القول وبلاده كان التفاتنا إلى الحواس فضلًا، لا لأننا متى أخذنا الأمثلة من الحواس فليس يجب أن نتسبب بها كل التسبب، ونطالب بها المعقولات كل المطالب، بل الذي يحكم به الحق ويقتضيه الحزم، أن نأخذ الأمثلة من الحس، فإذا وصلنا إلى العقل حينئذ فارقناها اعتناء عنها مستريحين منها، ومن حرجها واضطرابها، ولما كنا بالحس في أصل الطبيعة لم ننفك منه، ولما كنا بالعقل في أول الجوهر لم نجهل فصله، فلهذا ما اشتغلنا بالحس ولم نقض به، ووصلنا إلى العقل ولم نميز عليه.
وهذا اقتضاه قول عرض في جملة كلامه، وذلك أنه في كل محسوس ظل من المعقول، وليس في كل معقول ظل من الحسن ومتى وجدنا شيئًا في الحس فله أثر عند العقل، به وقع التشبيه، وإليه كان التشوق، وبه حدث المقدار، والإنسان متى لم يخلع آثار الحس خلعًا، لم يتحل لبوس العقل تحليًا، وإنما شق الإقرار بمعرفة حال النفس بعد الموت لأن الحس لم يساعد في تسليم ذلك بشهادة يسكن إليها، وإن كان العقل قد استوضح ذلك بالأمثلة المضروبة في إقامة البينة عليها.
وفي الجملة هذه المسئلة عذراء ضيقة، وعجماء مشكلة، ولكن العقل الذي هو خليفة الله في هذا العالم يجول في هذه المضايق، ويدفع هذه الموانع والعوائق، ولولا هذه العناية المرموقة، والحالة المعشوقة، بهذه الأوائل المشروحة، والأبواب المفتوحة، لكان اليأس يزهق الأرواح ويتلف الأنفس، ولكان العالم بكل ما فيه من العجائب والآثار والشواهد لشيء لا حقيقة له، ولا حكمة فيه، وأنه شبيه بالعبث واللعب، وليس له محصول ولا
1 / 167