مقدمة المصحح
بسم الله الرّحمن الرّحيم منذ خمسين سنة أو أكثر كان عند رجل من مجتهدي الإمامية بمدينة لكناؤ في شمال الهند كتاب المنمق المنسوب إلى محمد بن حبيب البغدادي المتوفى سنة ٢٤٥ هـ/ ٨٥٩ م، وكان اسم الرجل ناصر حسين، وكان يضن بالمنمق لندرته فإنه لا يوجد في المكاتب المعروفة في العالم نسخة أخرى له كما يشهد على ذلك بروكلمان في تاريخ أدب العرب [١]، وفي سنة ١٩٢٥ م سمع بعض رجال العلم في الهند عن المنمق، من بينهم الأستاذ الميمني السيد سليمان الندوي المغفور له مدير مجلة المعارف، فزاروا مكتبة المجتهد المذكور وقرأوا المنمق وعرفوا ما احتواه من المعارف القيمة، فنعتوه في المجالس ونوّهوا بذكره في المجلات العلمية، ثم طلبت دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد (الهند) من المجتهد ناصر حسين أن يسمح بنقله للنشر، فأبى، فتحركت سلطات حكومة النظام بحيدرآباد، فأتاه ما لا قبل له بدفعه، فأذن لدائرة المعارف في نقله، فنسخه رجل عالم فيما أخبروني من خريجي مدرسة فرنغي محل بلكناؤ تحت إشراف الدائرة في سنة ١٩٣٢ م، فسارت الأيام سيرها ولم يطبع الكتاب ولم يزل محفوظا في خزانة الدائرة لأكثر من ثلاثين سنة، حتى طلب مني الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف وأستاذ العربية بجامعة حيدرآباد في يوليو سنة ١٩٦٣ م وأنا في حيدرآباد أبحث عن بعض الكتب المهمة لي أن أقوم بتصحيحه، فاعتذرت إليه واعتللت بأشغالي العلمية التي استغرقت كل
_________
P.١٦٦. [١] بن ١٩٣٧ بن ArabicLiterature،Leiden
1 / 3
أوقاتي، فلم يستمع إلي ولم يزل يحثني حث صديق كريم حتى لم أجد غير التسليم سبيلا، وإني شاكر له ثقته لي.
وفي مستهل أغسطس سنة ١٩٦٣ م بدأت في مهمتي، وكان المدير ألزمني ختم التصحيح والتعليق في ثلاثة أشهر لأنه كان مأخوذا من قبل الحكومة بأن يتم الطبع قبل مضي السنة المالية وهي تنتهي في مارس، فلما تصفحت الكتاب شعرت بأنه لا يمكنني إتمامه في الموعد المحدد إلا أن أبذل أقصى مجهودي، فتركت سائر أشغالي ما عدا واجباتي التدريسية بالجامعة، وقصرت همتي على المنمق، ومع ذلك كان سيري بطيئا والسبب أن الكتب عندي لم تكن كافية لأداء حق التصحيح، والدائرة لا تعير كتبها، ومكتبة جامعة دهلي ليست غنية في الكتب، فضاع كثير من وقتي في طلب حل مشاكل الكتاب هنا وهناك بغير جدوى وفي انتظار بعض الكتب المهمة من مكاتب خارج العاصمة، كان هذا شأن المطبوعات، فأما المخطوطات فلم يكن عندي واحدة منها، فكم مضت عليّ ساعات القلق والحيرة في تصحيح كلمة محرفة أو اسم ممسوخ، وكم وددت أن أنساب قريش للزبير بن بكار وأنساب الأشراف للبلاذري وتاريخ دمشق لابن عساكر كانت في متناولي، فإني كنت واثقا ولا أزال أن فيها مفتاح كثير من مشاكل المنمق.
وبعد أن قرأت الكتاب مستوعبا وفرغت من نسخ معظم حواشيه سافرت إلى لكناؤ في منتصف أكتوبر سنة ١٩٦٣ م لمراجعة الأصل ولمقارنة نسختي به، وهذا الأصل وهو أصل فريد لا يوجد له ثان في أية مظنة من مظان الكتب كما قلت آنفا بالمكتبة الناصرية بلكناؤ، التي يتولاها ابن لناصر حسين المغفور له الذي أشرت إليه من قبل، وإن هذه المكتبة لمكتبة عامة منحتها حكومة أتربرديش مبلغا خطيرا لبناء عمارتها [١] بصفة كونها مكتبة مخطوطات ثمينة لإفادة الخاص والعام، أما الأمر فليس كذلك فإن الابن المتولي لا يزال يعتبرها [١] ملكا فرديا وورثة ورثها [٢] من أبيه فلا يسمح لأحد بأن ينقل شيئا من كتب المكتبة أو يقابل بها نصا أو عبارة أو شعرا. فلما قابلته وطلبت
_________
[١] كذا في مسودة المصحح.
[٢] وقع في المسودّة: ورثتها، خطأ.
1 / 4
منه الإذن رفض طلبي وألقى بمعاذير تأباها المروءة والعقل، وقال إنه لا يستطيع أن يتفضل بأكثر من أن يأذن لي في مطالعة الكتاب، فجاء الكتاب وبدأت أقلب أوراقه وابن المجتهد بجانبي وبعض أعوانه على يميني ويساري لئلا أكتب منه شيئا، وكانت طائفة من الكلمات المحرفة في نسختي وأبياتها مستحضرة لي، فقابلتها بالأصل ووجدتها محرفة كما في نسختي، وتبين لي من هذا ومن تصفح عدد كبير من صفحاته أن نسختي نسخت موافقة للأصل وأن الناسخ ربما لم يخطئ في النسخ إلا قليلا. والأصل مكتوب بخط [١] النسخ كتابة غير رديئة واضحة في الجملة غير أن ناسخ الأصل أحيانا كتب الميم بحيث التبست بالحاء، والميم بحيث التبست باللام، والتاء بالنون وبالعكس، وتبين لي أيضا أن ناسخ نسختي نسخها بالاحتياط والاجتهاد وأن أكثر الأخطاء والتحريفات التي وجدت فيها جاءت من ناسخ الأصل.
وفي منتصف نوفمبر سنة ١٩٦٣ م بعثت إلى أستاذي المحقق الفاضل عبد العزيز الميمني، عضو المجمع [٢] العلمي السوري، ورئيس قسم العربية بجامعة عليكره سابقا بعدة أبيات المنمق لم أستطع تمييزها، فتفضل ببعض التصحيحات، ومتعني بتوجيهات نافعة عن المنمق، وأعتذر في ختام خطابه قائلا: «وقل ما أعرف هؤلاء الشعراء وأبياتهم التي نقلتها في ورقتين ولا أقدر على التصفح والبحث، ولو تقدمت بكتابك في وسط أغسطس وجدت أنا في الوقت مراغما كثيرا وسعة» . وإني أنتهز هذه الفرصة لتقديم امتناني إليه وإلى صديقي: أبي المحفوظ معصوم الكريم أستاذ تاريخ الإسلام بالمدرسة العالية بكلكتا الذي ساعدني باجتهاداته في بعض [٣] الكلمات المصحفة [٣] أما محمد بن حبيب صاحب المنمق، فإنه من الموالي، والموالي حملة العلم في العصر العباسي كما كانوا في العصر الأموي، أمه حبيب [٤] مولاة بني هاشم، من
_________
[١] في المسودة: بالخط- كذا.
[٢] وقع في المسودّة: مجمع، خطأ.
[٣] كان في مسودّة المصحح: كلمات المصفّحة، فصححناه ووافقنا عليه المصحح بعد مراجعته. مدير.
[٤] وقيل غير ذلك، انظر إرشاد الأريب لياقوت طبعة مارغوليتها ٦/ ٤٧٣ و٤٧٤ والفهرست لابن النديم ص ١٥٥ وتاريخ بغداد للخطيب ٢/ ٢٧٧.
1 / 5
أسرة العباس بن محمد وهي الأسرة الحاكمة، وكان محمد مؤدبا لولد العباس بن محمد والعباس هذا أخو خليفتين- أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور- وقرأ ابن حبيب على ابن الأعرابي العالم الشهير الذي درس لأربعين سنة في بغداد عن حفظه، ولم ير قط في يده كتاب، وحضر حلقات عدة لأفاضل بغداد منهم هشام بن محمد الكلبي (م ٦. ٢/ ٨٢١) الباحث الكبير والجامع البارز في عصر الرشيد والمأمون الذي اشتهر بتأليف نحو مائة وخمسين مؤلفا في تاريخ العرب وأنسابهم وأيامهم وأشعارهم وأدبهم وما إلى ذلك، وهو أغزر مأخذ ابن حبيب في المنمق، ومنهم أبو عبيدة (م ٩. ٢/ ٨٢٤) المحقق الكبير الذي غلب عليه التاريخ واللغة والغريب والذي ألف أكثر من مائة كتاب معظمها في نواح [١] مختلفة لتاريخ العرب في الجاهلية والإسلام، وهو الذي أول من صنف في غريب القرآن فأصبح لذلك هدف الطعن من منافسيه وحاسديه من أهل الحديث وغيرهم، ومنهم قطرب (م ٦. ٢/ ٨٢١) مؤلف أكثر من سبعة عشر كتابا والذي كان مثل ابن حبيب مؤدبا لولد كبير من كبراء الدولة، ومنهم أبو اليقظان (م ١٩٠/ ٨٠٥) الذي تخصص بالنسب والتاريخ والمآثر والمثالب وخلف مؤلفات عديدة مفيدة، ولكن الذي غلب على ابن حبيب من بين شيوخه فهو هشام بن محمد الكلبي، ولا شك أنه كان عالما. كثير البحث، واسع الخبرة حتى جعله غزارة علمه، وتبحره في شتى نواحي المعارف عرضة طعن منافسيه من علماء الدولة، فأصبح ابن الكلبي أسوة ابن حبيب، فروى كتبه واقتبس منها على نطاق واسع في الكتب التي ألفها ومن بينها المنمق، وكما أن ابن الكلبي، ألف كمية ضخمة من الكتب في سائر أنواع العلوم السائدة غير الطبيعية ولا سيما في الأصناف التي كانت مختارة عند الجمهور، وعند الطبقات الحاكمة كالنسب والتاريخ والجغرافيا والشعر واللغة والقرآن والحديث- فكذلك ابن حبيب وهو من معجبي ابن الكلبي، ألف كتبا كثيرة في هذه المواضيع حاشا القرآن فإنه قلما تعرض أحد لتفسيره في ذلك العصر وهو عصر المأمون والمتوكل الذي كان فيه صراع عنيف بين المعتزلة وهم قادة الخواص وبين المحدّثين وهم قادة العوّام، أو تصدى لغريب القرآن إلا
_________
[١] في مسوّدة المصحح نواحي- كذا مدير
1 / 6
طعن فيه المحدثون والمنافسون ونسبوه إلى البدعة وحاولوا إرغامه، لكن ابن حبيب لم يبلغ ذروة ابن الكلبي لا في تنوع المؤلفات ولا في كثرتها، فإن إزاء مائة وخمسين مؤلفا اشتهر بتأليفها ابن الكلبي، لم يزد كتب ابن حبيب بضعة وأربعين في النسب والتاريخ واللغة والشعر، ولو كان بعض مؤلفاته أغزر مادة وأجمع نادرة من مؤلفات ابن الكلبي، ومع أن عامة المحدثين وكثيرا من علماء الدولة طعنوا في ابن الكلبي وقدحوا في رواياته وضعّفوه وكذبوه لبروزه في سائر أنواع العلوم النقلية، ولتدخله في حقل القرآن والحديث ولاتصاله بالخلفاء، لم يتهم أحد ابن حبيب ولا شكّ [١] في صدقه لأنه لم يتعرض للقرآن ولأنه لم يكن محسودا ولم يكن له شهرة علمية كشهرة ابن الكلبي ولم يكن له جاه ولا منزلة في الدوائر الحاكمة ولدى طلاب العلم ولأنه كان يعيش معتزلا عن الناس ليست له حلقة التلامذة في الجامع ولأنه اشتغل بكسب رزقه كمؤدب وبكتبه في منزله.
قال الخطيب في تاريخ بغداد ٢/ ٢٧٧ و٢٧٨: كان ابن حبيب عالما بالنسب وأخبار العرب موثقا في روايته. وفي إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٣: ذكره المرزباني (٢٩٧- ٣٧٨/ ٩٠٩- ٩٨٨) فقال: وقال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد باللغة والشعر والأخبار والأنساب الثقات محمد بن حبيب ويكنى أبا جعفر وكان مؤدبا ولا يعرف أبوه وإنما نسب إلى أمه وهي حبيب وهو ممن يروي كتب ابن الأعرابي وابن الكلبي وقطرب وكتبه صحيحة، وله مصنفات في الأخبار منها المحبر والموشى وغيرهما. وفي الفهرست ص ١٥٠: كان من علماء بغداد بالأنساب والأخبار واللغة والشعر والقبائل وعمل قطعة من أشعار العرب، روى عن ابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة وأبي اليقظان وغير هم وكان مؤدبا وكتبه صحيحة. وليلاحظ هنا أن هذه الآراء عن صحة كتب ابن حبيب ليست صحيحة صحة مطلقة، [٢] فإنا نجد في المنمق أحيانا روايات ضعيفة يختارها بغير تحقيق، لأنها توافق هواه والهدف الذي يرمي إليه وهو إرضاء الأسرة الحاكمة، ففيه مثلا أحاديث عديدة واهية في مناقب قريش والعباس بن
_________
[١] كان في مسودة المصحح: شكوا فصححناه ووافقنا عليه المصحح بعد مراجعته مدير.
[٢] وقع في مسودّة المصحح: مطلقا خطأ، مدير.
1 / 7
عبد المطلب لم يوثقها نقدة الحديث وكذلك فيه تصريحات تناقض التي أوردها نفسه في المحبر وقد أشرت إليه في الحواشي. وإن كان ابن حبيب لم يشك فيما أعلم في صحة رواياته فإنه قدح في أمانته العلمية وذلك أنه كان يدخل مواد كتب المؤلفين الآخرين في كتبه دون أن يقر بذلك، قال المرزباني: وكان محمد بن حبيب يغير على كتب الناس فيدّعيها ويسقط أسماء هم، فمن ذلك الكتاب الذي ألفه إسماعيل بن [أبي] عبيد الله واسم أبي عبيد الله معاوية وكنيته هي الغالبة على اسمه، فلم يذكرها لئلا يعرف، وابتدأ، فساق كتاب الرجل من أوله إلى آخره فلم يخلطه بغيره ولم يغير منه حرفا ولا زاد فيه شيئا، فلما ختمه اتبع ذلك بذكر من لقب من الشعراء ببيت قاله ... وأحسب أن الذي حمله على ذلك أن كتاب إسماعيل هذا لم يكثر روايته ولا اتسع في أيدي الأدباء، فقدّر ابن حبيب أن أمره ينستر وأن إغارته عليه تميت ذكر صاحبه.
وفي إسناد آخر للمرزباني: كان علي بن العباس الرومي يختلف إلى محمد بن حبيب لأن محمدا كان صديقا لأبيه العباس بن جورجس وكان يخص عليّا لما يرى من ذكائه، فحدث علّي عنه أنه كان إذا مر به شيء يستغرب ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تأمورك [١] .
وكان كثير من أهل العلم الذين عاشوا في ظل الدولة أو تمنوا الاتصال بها والتمتع بجوائز الخلفاء والأمراء وبعز الجاه يؤلفون في المواضيع التي يقترحها الخلفاء وأمراؤهم أو التي تعجبهم أو توافق أهواءهم وآراءهم ونزعاتهم ثم يهدونها إليهم وينسبونها لهم، وكان من بين هذه المواضيع في أوائل العصر العباسي لتاريخ قريش وهم قبيلة الخلفاء ثم تاريخ الأسرة الحاكمة وهم بنو هاشم أهمية بالغة، فنرى المؤلفين منذ الربع الآخر للقرن الثاني إلى النصف الأول من القرن الثالث أنهم ألفوا عشرات من الكتب في تاريخ قريش في نواحيه المختلفة وحول شخصياتهم البارزة من سلالة عبد مناف وفي فضائل عبد المطلب والعباس وما إلى ذلك، وكان في طليعة هؤلاء المؤلفين عبد العزيز بن عمران القرشي المعروف بابن أبي ثابت الأعرج المدني (م ١٩٧/ ٨١٢) الذي انتقل من المدينة إلى بغداد واتصل بالوزير الكبير
_________
[١] إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٤. مصحّح.
1 / 8
للدولة يحيى بن خالد البرمكي وتخصص بالأنساب وتاريخ قريش.
وأبو البختري وهب بن وهب المدني القرشي (م ٢٠٠/ ٨١٥) المتخصص بالفقه والأنساب والأخبار والذي اتصل بالدولة وتولى القضاء من قبل الرشيد ثم إمارة المدينة، وهشام ابن الكلبي (م ٢٠٦/ ٨٢١) وأبو عبيدة معمر (م ٢٠٩/ ٨٢٤) وقد عرفنا هذين من قبل، وإني ذاكر هنا الكتب التي ألفها هؤلاء الأربعة [١] في تاريخ قريش وأجداد الأسرة الحاكمة والتي اقتبس منها ابن حبيب في المنمق على نطاق واسع:
١- عبد العزيز بن عمران المعروف بابن أبي ثابت- كتاب الأحلاف- أي الأحلاف التي عقدتها قريش.
٢- أبو البختري وهب بن وهب (١) كتاب صفة النبي (٢) كتاب الفضائل الكبير وفيه فضائل قريش (٣) كتاب نسب ولد إسماعيل وفيه تاريخ قريش وبني عبد المطلب.
٣- هشام بن محمد الكلبي (١) كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة. (٢) كتاب حلف الفضول وقصة الغزال (٣) كتاب المنافرات (٤) كتاب بيوتات قريش (٥) كتاب أخبار العباس بن عبد المطلب (٦) كتاب شرف قصي بن كلاب وولده في الجاهلية والإسلام (٧) كتاب ألقاب قريش. (٨) كتاب نوافل قريش (٩) كتاب صنائع قريش (١٠) جمهرة الأنساب.
٤- أبو عبيدة معمر بن المثنى (١) كتاب المنافرات (٢) كتاب الحمس من قريش (٣) كتاب خبر البراض (٤) كتاب القبائل (٥) كتاب الأيام.
إن أقدم مؤلف عربي ذكر مؤلفات ابن حبيب فيما أعلم هو ابن النديم (م ٣٨٥/ ٩٩٥) الذي يقول في الفهرست ص ١٥٥: وله (يعني ابن حبيب) من الكتب: كتاب الأمثال على أفعل (٢) كتاب النسب (٣) كتاب السعود والعمود (٤) كتاب العمائر والربائع في النسب (٥) كتاب الموشح (٦) كتاب المؤتلف والمختلف في النسب (٧) كتاب المحبّر (٨) كتاب المقتنى (٩) كتاب غريب الحديث (١٠) كتاب الأنواء (١١) كتاب المشجر (١٢) كتاب الموشا
_________
[١] وفي مسودّة المصحح: ألّفوها- كذا، مدير.
1 / 9
(الموشى) (١٣) كتاب من استجيبت دعوته (١٤) كتاب أخبار الشعراء وطبقاتهم (١٥) كتاب نقائض جرير وعمر بن لجأ [١] (١٦) كتاب نقائض جرير والفرزدق (١٧) كتاب المفوف [٢] (١٨) كتاب تاريخ الخلفاء (١٩) كتاب من سمي ببيت قاله (٢٠) كتاب مقاتل الفرسان (٢١) كتاب الشعراء وأنسابهم (٢٢) كتاب العقل (٢٣) كتاب كني [٣] الشعراء. (٢٤) كتاب السمات [٤] (٢٥) كتاب أمهات النبي ﷺ (٢٦) كتاب أيام جرير [٥] التي ذكرها في شعره (٢٧) كتاب أمهات أعيان بني عبد المطلب (٢٨) كتاب المقتبس (٢٩) كتاب أمهات السبعة [٦] من قريش (٣٠) كتاب الخيل (٣١) كتاب النبات (٣٢) كتاب الأرحام التي بين رسول الله وبين أصحابه سوى العصبة (٣٣) كتاب ألقاب اليمن [٧] ومضر وربيعة (٣٤) كتاب الألقاب (٣٥) كتاب القبائل الكبير والأيام.
لا نجد في هذه القائمة ذكر المنمق، ويأتي ياقوت (م ٦٢٦/ ١٢٢٨) على نحو قرن بعد ابن النديم فيذكر ابن حبيب في إرشاد الأريب ويذكر مؤلفاته نقلا عن الفهرست ويضيف إلى قائمة ابن النديم خمسة كتب أخرى في الشعر والشعراء فيصير عدد مؤلفاته أربعين مؤلفا، ويقول ياقوت إن لابن النديم كتاب الأمثال على أفعل ويسمى المنمق، وهذه الزيادة ليست في الفهرست كما تعلم وهو مأخذ ياقوت غير أنه يموت على ربع قرن بعد ياقوت في ٦٥٠/ ١٢٥٢ وهو مؤلف شهير في اللغة صنف قاموسا عظيما سماه التكملة وجمع فيه ما فات الجوهري صاحب الصحاح وذيل عليها
_________
[١] في الأصل: جرير بن عمر بن لجأ، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٢] في الأصل: الحفوف، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٣] في الأصل كنز الشعراء، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٤] في الأصل: المسماة، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٥] في الأصل: كتاب جرير، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٦] في الأصل: الشيعة، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
[٧] في الأصل: النمر، والتصحيح عن إرشاد الأريب ٦/ ٤٧٦. مصحّح.
1 / 10
واعتمد في جمعه على زهاء ألف كتاب ذكر قسما منها في آخر التكملة ومن بينها الكتب الآتية لابن حبيب: المنمق، والمنمنم، والمحبر، والموشى، والمفوف، والمؤتلف والمختلف، وما جاء اسمان أحدهما أشهر من صاحبه، وكتاب الطير، وكتاب النخلة، [١]- هذه تسعة كتب منها أربعة في قائمة الفهرست، وياقوت، والخمسة الباقية جديدة فتبلغ بها عدة مؤلفات ابن حبيب خمسة وأربعين [٢] مؤلفا والمطبوع منها فيما أعلم ستة وهي: المحبر، وكتاب المغتالين [٣]، ومن لقب ببيت شعر قاله، وكنى الشعراء، وألقابهم، وأمهات النبي.
ويظهر لي أن المنمق الذي ذكره الصغاني هو ليس كتاب الأمثال على أفعل كما قيل في إرشاد الأريب، بل هو كتاب تاريخ قريش الذي نحن في صدده، والدليل على ذلك أن طائفة من الكلمات الغريبة التي جاءت في المنمق لم أجدها في قاموس آخر مع بحثي عنها، ولعل سبب غرابة الكتاب وندرته أن فيه روايات حول الصحابة وأكابر الإسلام الأولين لا يرضاها المسلمون فإنها تلقى ضوءا منكرا على بعض شئون حياتهم، فلم ينل الكتاب حظا عند الناس ولم يروه الرواة ولم ينسخه النساخ فكسدت سوقه ولم يشتهر.
والعجب الآخر أننا لا نعرف اسم الراوي الذي يقدم لنا المنمق فإن الكتاب يبتدئ بهذه العبارة: أخبرنا أبو الحسن محمد بن العباس الحنبلي قال: أخبرنا محمد بن حبيب، فمن هذا الذي يخبرنا عن أبي الحسن؟ ويزعم هذا المخبر المجهول أن أبا الحسن محمد بن العباس سمع عن ابن حبيب وهذا مستحيل لأن أبا الحسن محمد بن العباس لم يكن موجودا في حياة ابن حبيب البتة فإنه ولد حوالي سنة ٣١٠ هـ/ ٩٢٢ م ومات سنة ٣٨٤ هـ/ ٩٩٤ م وكان ابن حبيب قد توفي سنة ٢٤٥ هـ/ ٨٥٩ م نحو قرن ونصف قبل أبي الحسن، ويحتمل أن يكون هذا الإسناد منقوصا نقصه بعض النساخ ونستطيع أن نصلحه كما يلي: أخبرنا أبو الحسن محمد بن العباس عن أبيه عن أبي سعيد
_________
[١] تاج العروس ١/ ٤٦٤. مصحح.
[٢] وفي مسودة المصحح: أربعون، كذا، مدير.
[٣] وليس هذا في قائمة الفهرست ولا ياقوت كما أنه ليس في قائمتهما كتاب آخر اسمه كتاب عقلاء المجانين نسبه الجواني النسابة إلى ابن حبيب- انظر تاج العروس ٤/ ١٠٢ و١٠٣. مصحّح
1 / 11
السكري قال أخبرنا محمد بن حبيب، فإننا نستفيد من تاريخ بغداد للخطيب ٣/ ١٢٢ أن أبا الحسن محمدا وهو جامع عظيم للتاريخ والحديث والتفسير كان يروي عن أبيه العباس والعباس هذا كان يحدث عن أبي سعيد السكري تلميذ ابن حبيب وروايته.
وتحتوى نسختنا وهي نقل التي بالمكتبة الناصرية بلكناؤ على ثلاثمائة وخمسين صفحة الخمسة الأخيرة منها لأبي سعيد السكرى تلميذ ابن حبيب الذي أكثر النقل عن شيخه وهو يذكر فيها وفادة عبد المطلب لسيف ابن ذي يزن مع شخصيات بارزة أخرى من قريش حين تملك سيف على اليمن بنصرة الفرس وأشار فيها إلى تكهن سيف عن بعثة محمد النبي في قريش، أدخل السكري هذه القصة لأن شيخه كطائفة من المؤرخين العظام مثل الطبري أغفل عنها وهي تتعلق بقريش.
أما مسطر النسخة فهو ٤/ ٣ ٩ ضرب در ٨ وفي كل صفحة خمسة عشر سطرا بخط النسخ ويكثر فيها كما قلت من قبل الأخطاء والمحرفات. ولا يوجد فيها مقدمة ولا انتساب ولا فهرست وكذلك لا يوجد فيها تاريخ كتابتها، وإن أقدم تاريخ ختم الكتاب المكتوب في الصفحة الأخيرة منه لقارئه عبد الرحمن ابن يحيى الإدريسي هو ١١٩٩ هـ/ ١٧٨٤ م، ونقدر أن نستدل من هذا التاريخ ومن كثرة الأخطاء فيه على أن أصله بالناصرية بلكناؤ ليس قديما جدا، ربما لا يكون أقدم من ثلاثمائة سنة، ويوجد في النسخة بياض بقدر أربعة أسطر (ص ٥٠٢) تحت عنوان من حد من قريش، وإني بحثت عن هذا البياض في النسخة [١]
_________
[١] في الصفحة الأولى من النسخة الناصرية توجد العبارات التالية فوق عنوان الكتاب:
١- الحمد لله. من كتب الفقير الى الله محمد بن إسحاق لطف الله هذا الكتاب في ملك الولد حسن ...
٢- الحمد لله سبحانه. قد اشتريت هذا الكتاب باسم الأخ المكرم ... بلغه الله من العلم عمله، وأصلح علمه وعمله، ورزق كلّا منا خاتمة الخير إذا قرب أجله، آمين بجاه سيّد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه الحقير محمد بن عبد الله بن حميد عفى عنه في سنة ١٢٦٥ هـ في ذي القعدة المحمدية.
٣- لا إله إلا الله الملك الحق المبين سنة ١٣٠٥ هـ. حامد حسين النيسابوري..
٤- الأبيات التالية تحت عنوان كتاب المنمق:
قالت ألا لا يلجن دارنا ... إن أبانا رجل غابر
1 / 12
المنقولة عنها فإذا هو موجود فيها، يظهر أن ناسخا من نساخ الكتاب محا أسماء بعض الصحابة استنكارا لذكرهم فيمن ضرب في الخمر، وتشتمل النسخة على أخبار قريش كما صرح في أول صفحتها تحت اسم الكتاب- أي أخبارهم في الجاهلية وصدر الإسلام ولكن معظمها تتعلق بالجاهلية ولم يرد فيها ذكر القبائل الأخرى إلا ضمنا، وهذه الأخبار لا تتعدى خمسين سنة قبل ميلاد النبي ونحوها بعد الإسلام وهي تتضمن نواحي مختلفة من حياة قريش ولكنها ليست مرتبة حسب السنين أو الحوادث بل هي مجموعة روايات عن غير واحد من الرواة حول حوادث متفرقة في حياة قريش أو شخصياتهم البارزة، والنواحي التي استغرقت قسما كبيرا من الكتاب هي حروب الفجار وأحلاف قريش ودور لعبه فيهما أعيان قريش من بني عبد مناف، ومنافرات بني هاشم وبني عبد شمس وذكر ولاية الكعبة والصراع الذي جرى من أجلها بين الأسرتين، وذكر عمائدهما ثم حروب بني عدي بن كعب بن لؤي في الإسلام وهي الحروب التي جرت بين بني عمر بن الخطاب وبين بني جهم بن حذيفة وبني مطيع وجدهم واحد في منتصف القرن الأول، ويتخلل الكتاب أبيات لم أعثر على كثير منها في مراجعي.
ومن مزايا المنمق أنه كتاب منفرد في بابه جامع لما لم يصلنا مجموعا حتى الآن في أخبار قريش وأنه يلقى ضوءا جديدا على بعض نواحيها الغامضة ويزيل عن أفقها بعض الغيوم.
ومن مزاياه أنه لا يقتصر على روايات ابن الكلبي فحسب حول حادثة أو شخص بل أحيانا يورد عنهما روايات من رواة آخرين فنتمكن من المقارنة بينهما ومن إصلاح نقص وإزالة التباس أو إبهام يوجد في إحداهما.
ومن مزاياه أن مؤلفه اجترأ على إيراد عدة أخبار تكشف القناع عن مساوي أكابر قريش المسلمين وزلاتهم كما نراها في فصول عقدها عن حروب بني عدي وعمن حد من الصحابة وأبنائهم في الخمر والسرق.
ومن مزاياه أنه يحتوي على قسط وافر من مواد جديدة لم أطلع عليها في أمهات مراجعي المطبوعة كسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد والجزء الأول
1 / 13
المطبوع من أنساب الأشراف، ونسب قريش لمصعب الزبيري، وأخبار مكة للأزرقي، والمحبر، وشرح نهج البلاغة، ويظهر من إحصائي أن مواد أكثر من نصف الكتاب لا يشترك فيها مشترك من الكتب المطبوعة التي بأيدينا، أما المحبر وهو في خمسمائة صفحة فلا يزيد ما يشركه مع المنمق من المضمون أكثر من نحو خمسين صفحة.
ومن عيوب الكتاب أنه مسودة لم تبيض ولم تنقح ولم تهذب وأحسب أن ابن حبيب جمعه كدفتر للمراجعة والاقتباس والاستفادة عند تأليف كتبه وأنه لم يجمعه كما هو للنشر والرواية. ويبدو أن الكتاب وقع بعد موته إلى أحد تلامذته فرواه كما وجده.
ومنها أن أمارات العجلة وضعف التأليف وسوء صياغة العبارة ظاهرة في كل صفحة منه، فقلما تجد في نصوصه النثرية كلاما محكم السبك، متراصف النظم، منسوجا على منوال البلاغة وإني ذاكر فيما يلي ثلاثة أمثلة على ذلك:
١- وخرج بشر بن أبي خازم حتى تقدم سوق عكاظ فيجد الناس بعكاظ- ص ١٦٨.
٢- ثم إن الناس تداعوا إلى السلم على أن يدي الفضل من القتلى الذين فيهم- أي الفريقين الفضل على الآخر، ص ١٨٣- يريد أن يقول: ثم إن الناس تداعوا إلى السلم على أن يدي من عليه الفضل في القتل الفضل إلى أهله.
٣- وأجار لهم أموالهم بعدهم من الخروج عبد الله ابن معرور- ص ٢٦٩.
ومنها أنه يذكر أحيانا في الإسناد ونص الكتاب اسم رجل دون نسبه أو يأتي بكنية راو دون ذكر اسمه ونسبه أو يقتصر على ذكر نسبته مع أن عدة رواة يشتركون معه في الكنية فيسبب الالتباس والإبهام وأنا أسوق لك أمثلة:
١- قال أرطاة ص (١٠٣) لم يصرح من هو.
٢- الشفاء بنت عبد الله ص (٣٠٢) لم يسق نسب عبد الله.
1 / 14
٣- قالت أم أبان ص (٣١٩) يعني بنت عثمان بن عفان ولم يذكر نسبهما.
٤- بنو أبي عمرو ص (٣٢٤) لم يصرح من هو.
٥- قالت الجرهمية ص (٢٨٢) لم يبين اسمها.
٦- حدث الوقاصي ص (٣٤١) لم يذكر اسمه ولا نسبه.
٧- قال أبو بكر ص (٨٩، ١٠٩، ١٧٢، ٤٢٤) لم يذكر اسمه وهنالك عدة رواة بهذه الكنية.
أما قولي: إن المنمق مسودة لم تبيض ولم تنقح فتؤيده شهادة خارجية أيضا وذلك أننا إذا قارنا بينه وبين المحبر وموضوعه أيضا التاريخ، وبعض معارف هذا وذاك مشترك فإنا لا نجد في الآخر العيوب التي نسبنا إلى الأول من أمارات العجلة وضعف التأليف وابتذال العبارة والتلبيس في إيراد الرواة ولو أن المؤلف خلط بعض التخليط هنا أيضا [١] وإنا نجد في المنمق بعض التصريحات غير صحيحة إذا عارضناها بالمراجع الأخرى ولكن هذه التصريحات وردت صحيحة في المحبر- أي أن المؤلف انتبه لها وأصلحها حين ألّف المحبر، وهذه شهادة أخرى على صحة قولي. وأستدل من هذا أيضا على أن المحبر ألّف بعد المنمق، والمحتمل عندي أنه وضعه حوالي سنة ٢٣٢ هـ/ ٨٤٦ م في أواخر أيام الواثق العباسي أو بعيد وفاته وأنه جمع المنمق في أواخر أيام المعتصم الذي حكم من سنة ٢١٨ هـ/ ٨٣٣ م إلى سنة ٢٢٧ هـ ٨٤١ م أو بعد قليل من وفاته.
وكان محمد بن حبيب مؤلفا مغمورا لا يعرفه إلا قليلون. ومع أن مؤلفاته كثيرة وفي مختلف نواحي العلم كالتاريخ والأنساب واللغة والشعر لم يرد ذكره وذكر ما حواه كتبه في أمهات المؤلفات المطبوعة إلا قليلا، وقد أهملها المؤلفون إهمالا وعني بمروياته قليل منهم ومن الأولين الطبري فإنه لم يقتبس من ابن حبيب شيئا في تاريخه والبلاذري الذي لم يذكره مرة واحدة في فتوح البلدان وذكره
_________
[١] انظر مقالة ايلزة ليحتن في جورنال ايشياتك سوسائتي. لندن سنة ١٩٣٩ م. ص: ١٩- ٢٧ (المصحح) .
1 / 15
مرتين فحسب في الجزء الأول المطبوع من أنساب الأشراف، ولهذا الإهمال أسباب، منها أن ابن حبيب في الغالب جامع يلتقط من الكتب المدونة ما يعجبه وما يستغربه وليس باحثا واسع النطاق كهشام بن محمد الكلبي، وأبي عبيدة معمر، وعوانة، والواقدي، وكان كتب هؤلاء موجودة وفي متناول المؤلفين الكبار في القرن الثالث والرابع فراجعوها واجتنوا منها وأغفلوا عما التقطه ابن حبيب من تلك، ومنها أن ابن حبيب لم ينل من الجاه والصيت في المجتمع وعند أرباب الدولة ما ناله مثلا هشام وأبو عبيدة والواقدي، وعاش عيش العزلة فلم تكن له حلقات الدرس في الجوامع ولم يكن له تلامذة كثيرون من العوام، والتلامذة كما تعرف من أكبر أسباب ذيوع شهرة عالم وإشاعة كتبه ولم يرزق ذلك ابن حبيب، فلم تزل كتبه مغمورة لا يعرفها إلا قليلون ولا يرويها إلا بعض تلامذته من بينهم تلميذه الأكبر أبو سعيد السكري، ومنها أنه أحيانا لا يستوفي الإسناد ولا يبين أسماء رواته كأنه يحاول التلبيس، ومنها أنه اتهم بإدخال كتب المؤلفين المستورين في كتبه فأعرض عنه المحتاط واتقاه الوقور.
أما الذين عنوا به بعض العناية فهم غير المؤرخين البحت الذين وقفوا همتهم على سرد الحوادث المشهورة من تاريخ الجاهلية والإسلام حسب السنين والأسر الحاكمة وإنما هم غالبا أصحاب النسب والغريب والنوادر والأيام واللغة والشعر، فمنهم مثلا أبو الفرج الأصفهاني الذي يقتبس أحيانا النوادر والأشعار من كتب ابن حبيب وأئمة اللغة كالصغاني والزبيدي البلغرامي الهندي اللذين يقتبسان منه النسب والغريب واللغة والشعر في التكملة وتاج العروس.
وفي الختام أود أن أبين الأهداف التي جعلتها نصب عيني عند كتابة الحواشي:
١- ضبط الأسماء الغير المألوفة وهي كثيرة في الكتاب، والألفاظ التي من شأنها أن تقرأ خطأ، وإني ضبطتها مستندا إلى تاج العروس ولم أصرح اسمه مراعاة للإيجاز واتقاء عن تكرار اسمه مرارا في الصفحة وإذا كان مأخذ الضبط غير تاج العروس أشرت إليه.
٢- ضبط أسماء الأمكنة وصفتها.
1 / 16
٣- تصحيح الأغلاط الهجائية والكلمات المحرفة بقدر المستطاع، وإذا لم يتضح لي كلمة اعترفت بعجزي.
٤- مقارنة مواد المنمق بمثلها في الكتب الأخرى وتصحيح أغلاطها وإصلاح نقص مضمون المواد بها والإشارة إلى اختلاف نص الروايات المماثلة نثرا ونظما في المراجع الأخرى وإلى أخطائها إذا وجدت.
٥- شرح غوامض النص واستعنت في هذا بأمهات القواميس لا سيما تاج العروس.
خورشيد أحمد فاروق جامعة دهلي ٤ سبتمبر سنة ١٩٦٤ م
1 / 17
[مقدمة المؤلف فى نسب قريش وآبائهم]
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المنمّق في أخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي أخبرنا أبو الحسن محمد بن العباس الحنبلي قال: أخبرنا محمد بن حبيب قال: أول ما ذكر من أحاديث قريش ما خصها الله به من الفضل والمن به على سائر الخلق وأنه بعث منها نبي الرحمة وأنزل عليه القرآن بلسانها، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ١٤: ٤ [١]، فلغة قريش أفصح اللغات ونسبها أصح الأنساب، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه قال: «ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما» وقوله الحق، وذلك أن الناس من لدن آدم إلى نوح عليهما الصلاة والسلام انقرضوا فكان النسل بعد لنوح، وافترقت بنو نوح فرقا شتى، وفضّل الله سام بن نوح على إخوته وجعل العرب من ولده والأنبياء أجمعين إلا إدريس، ثم افترقت بنو سام فرقا، ففضل الله أرفخشذ [٢] بن سام على إخوته لما جعل في نسله من الأنبياء، فمنهم خليل الله [٣] والذبيح [٤] ونجي الله [٥] وروح الله [٦] وكلمته، وحبيب الله [٧] صلى الله
_________
[١] سورة ١٤، آية ٤.
[٢] أرفخشذ بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الفاء وسكون الخاء وفتح الشين بعدها ذال معجمة.
[٣] خليل الله لقب إبراهيم ﵇.
[٤] ذبيح الله لقب إسماعيل ﵇.
[٥] نجي الله لقب موسى ﵇.
[٦] روح الله لقب عيسى ﵇.
[٧] حبيب الله لقب سيدنا ونبينا محمد ﵊.
1 / 19
عليهم أجمعين، ثم افترق ولد أرفخشذ فرقا فمنهم قحطان وجرهم [١] وحضرموت والسلف [٢] والموذ [٣] وعدنان، ففضل الله عدنان على قحطان وإخوته، ثم افترق بنو عدنان فرقا ففضل الله نزار بن معدّ بن عدنان عليهم، ثم افترق بنو نزار فرقا ففضل الله مضر [٤] على سائرهم، ثم افترق بنو مضر فرقتين: إلياس والناس، وهو عيلان [٥]، ففضل الله إلياس على الناس، ثم افترق بنو إلياس فرقتين: مدركة وطابخة، ففضل الله مدركة على طابخة، ثم افترق بنو مدركة فرقتين: خزيمة [٦] وهذيلا [٧]، ففضل الله خزيمة على هذيل، ثم افترق بنو خزيمة فرقا: أسدا [٨] وكنانة والهون [٩]، ففضل الله كنانة على أخويه، ثم افترق بنو كنانة فرقا، فضل الله النضر على سائرهم، ثم افترق بنو النضر فرقتين: مالكا [١٠] ويخلد [١١]، ففضل الله مالكا [١٠] على يخلد، ثم افترق بنو مالك فرقتين: فهرا [١٢] والحرب، ففضل الله فهرا على الحرب، ثم افترق بنو فهر فرقا، ففضل الله غالبا على سائرهم، ثم افترق ولد غالب فرقا ثلاثا، ففضل الله لؤيًّا [١٣] على سائرهم، ثم افترق بنو لؤي فرقا، ففضل الله كعبا على إخوتهم، ثم افترق بنو كعب ثلاث فرق: عديّ وهصيص [١٤] ومرّة،
_________
[١] جرهم بضم الجيم والهاء.
[٢] السلف كصرد، في أنساب الأشراف ١/ ٤: شالاف هو السلف.
[٣] في الأصل: المعد، والتصحيح من أنساب الأشراف ١/ ٤.
[٤] مضر كزفر.
[٥] يعني أن الناس هو عيلان نفسه وليس بأبي عيلان كما زعم بعض النسابين انظر القصد والأمم ص ٨٢ وأنساب الأشراف ص ٣١ ونسب قريش ص ٧.
[٦] خزيمة كجهينة.
[٧] هذيل كزبير وفي الأصل «هذيل» .
[٨] في الأصل: أسد.
[٩] في الأصل: العون- بالعين المهملة، والهون بضم الهاء والفتح، والأول أكثر.
[١٠] في الأصل: مالك.
[١١] يخلد كيكرم.
[١٢] في الأصل: فهر.
[١٣] لؤي بضم اللام وفتح الواو المهموزة وتضعيف الياء المثناة التحتانية.
[١٤] هصيص كزبير.
1 / 20
ففضل الله مرة على أخويه، ثم افترق بنو مرة ثلاث فرق: كلاب وو يقظة [١]، ففضل الله كلابا على أخويه، ثم افترق بنو كلاب فرقتين: قصيا [٢] وزهرة، ففضل الله قصيا على زهرة، ثم افترق بنو قصي أربع فرق عبد مناف وعبد الدار وعبد العزّى وعبد بني قصي، ففضل الله عبد مناف على سائرهم ثم افترق بنو عبد مناف أربع فرق: هاشم وعبد شمس والمطّلب ونوفل، ففضل الله هاشما على إخوته، ثم افترق بنو هاشم، فرقا فدرجوا كلهم وانقرضوا والبقية منهم لعبد المطلب بن هاشم فبعث الله نبيه ﷺ وله أربعة أعمام: حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب فاتبعه اثنان وخالفه اثنان، ففضل الله فرقة- التي تبعته على التي خالفته-.
وقال الكلبي [٣] في أسانيده: فضّل الله العرب على العجم لأنهم كانوا لا ينكحون البنات ولا الأخوات، وفضل الله مضر بن نزار على سائر العرب لأنهم [٤] كانوا أعلمهم بسنة إبراهيم صلى الله عليه وعلى محمد وآله وألزمهم لمناسكه، وفضل الله قريشا على سائر مضر لأنهم [٤] كانوا لا يظلمون الجار ولا يغير بعضهم على بعض، وفضل الله بني هاشم على قريش لأنهم [٤] كانوا أوصلهم للأرحام وأكفهم [٥] عن الآثام، وفضل الله بني عبد المطلب على سائر بني هاشم بولادة محمد صلى الله عليه وعلى آله، وفضل الله محمدا صلى الله عليه على سائر بني عبد المطلب لأنه [٦] كان خيرهم وأبرهم وأصدقهم وأوصلهم ﵌. وقال محمد بن سلّام الجمحي في أسانيده: إن النبي صلى الله عليه قال: «إن الله ﷿ اختار من الناس العرب، ثم اختار من العرب مضر، ثم اختار من مضر كنانة، ثم اختار من
_________
[١] يقظة كقتلة بالتحريك.
[٢] في الأصل: قصي، وقصي كلؤي.
[٣] في الأصل: العيني، والكلبي هو محمد بن السائب أبو النضر من علماء الكوفة الكبار بأخبار العرب وأيامهم في الجاهلية والإسلام ومقدمهم في علم الأنساب والتفسير، روى عنه ابنه هشام أبو المنذر، توفي بالكوفة سنة ١٤٦ هـ، وله من الكتب كتاب تفسير القرآن- ذكره ابن النديم في الفهرست ص ١٣٩- ١٤٠.
[٤] في الأصل: بأنهم.
[٥] في الأصل: اكفاهم.
[٦] في الأصل: بأنه.
1 / 21
كنانة قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني ممن أنا منه» [١] .
وقال محمد بن سلام الجمحي في حديث آخر: إن رسول الله ﷺ قال: «أتاني جبريل [٢] ﵇ فقال: لقد بلغت الأرض شرقها وغربها و[٣] شمالها ويمينها [٣] فما وجدت خيرا من قريش ولا وجدت في قريش خيرا من هاشم» . وأخبرني هشام [٤] بن محمد الكلبي قال: حدثني أبو زفر الكلبي عن عمه عمارة بن جرير عن أثال [٥] بن حضرمي الأسدي قال: سمعت أشياخنا يذكرون أن برّة بنت مر لما أهديت [٦] إلى خزيمة بن مدركة رأت في المنام كأنها ولدت غلامين [٧] من خلاف [٧] بينهما سابياء [٨] قالت: فبينا أنا أنظر إليهما إذ [٩] أحدهما قمر يزهر والآخر أسد يزئر! فأخبرت بذلك خزيمة، فأتى كاهنة
_________
[١] ذكر هذا الحديث مرسلا باختلاف يسير في اللفظ في طبقات ابن سعد ١/ ٢١ وفي القصد والأمم ص ٦٩ وشرح نهج البلاغة ١/ ١٨١ وجامع الترمذي ص ٥١٩ وكنز العمال ٦/ ١٠٥ و١١٣.
[٢] في الأصل: جبرئيل.
[٣] في الأصل: شامها ويمنها.
[٤] هو هشام بن محمد الكلبي أبو المنذر الكوفي البغدادي، كان عالما بالنسب وأخبار العرب وأيامهم ومثالبهم ووقائعهم في الجاهلية والإسلام، أخذ عن أبيه وجماعة من الرواة البارزين، كان متصلا بالمأمون أثيرا عنده، ألف كتبا كثيرة جدا، من بينها كتاب حديث آدم وولده وكتاب حلف عبد المطلب وخزاعة وكتاب حلف الفضول وقصة الغزال وكتاب المنافرات وكتاب بيوتات قريش وكتاب صنائع قريش وكتاب الخيل وكتاب الكهان، وقد اقتبس ابن حبيب منه قسطا وافرا من المعارف التاريخية في المنمق كما سنرى، مات سنة ٢٠٦ هـ- الفهرست ص ١٤٠ و١٤١ وتاريخ بغداد ١٤/ ٤٥ و٤٦.
[٥] أثال بضم الهمزة.
[٦] أهديت إلى خزيمة أي زفت إليه، وفي أنساب الأشراف ١/ ٣٥: وهبت إليه، وهو خطأ.
[٧] هكذا في الأصل، ولعل الصواب: في غلاف.
[٨] في الأصل: ساميا- بالميم، وفي نسخة لأنساب الأشراف ١/ ٣٥: سابيا، والسابياء بالممدودة المشيمة أو الجليدة التي تخرج مع الولد والجمع السوابي- أقرب الموارد (سبي) . (
[٩] في الأصل: اد- بالدال المهملة.
1 / 22
كانت بمكة يقال لها سرحة [١]، فقص عليها الرؤيا فقالت: إن صدقت رؤياها فتلدنّ منك غلاما يكون منه قوم لهم أنفس باسلة وألسنة سائلة، ثم تخلف عليها بعض ولدك فتلد منه غلاما يكون لولده [٢] عدد وعدد [٣] وقروم [٤] مجد [٥] وعز [٥] إلى آخر الأبد، فولدت له أسد بن خزيمة ثم خلف عليها كنانة، فولدت له النضر. قال: وأتي كنانة وهو نائم [٦] في الحجر [٧] فقيل له: اختر يا أبا النضر بين الصهيل والهدر [٨] أو عمارة الجدر و[٩] عزّ الدهر! فقال:
كلّا يا رب! فجعل الله ذلك كله في قريش. وروى جماعة من غير طريق أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله اصطفى من العرب كنانة فكنانة عزة العرب» وقال ﷺ: «أريت [١٠] جوّ بني كنانة فرأيت سرجا فيها سراج أعشاها، فأولت أن قريشا ذلك السراج» وأخبرني هشام بن محمد عن عبد الحميد المجد بن عبس الأنصاري عن بعض قومه عن الشعبي قال قال رسول الله ﷺ: «أريت الجدود فرأيت جد قريش روضة خضراء [١١] منها الماء، فأولت ذلك كثرة الأموال والتدفق بالنوال. ولما قدم صعصعة بن ناجية على رسول الله ﷺ وافدا مسلما سأله
_________
[١] سرحة بفتح السين المهملة وسكون الراء.
[٢] في أنساب الأشراف ١/ ٣٥: يكون له ولأولاده.
[٣] في الأصل: رعد، وعدد جمع عدة.
[٤] في الأصل: قوم، والقروم جمع القرم وهو السيد والعظيم، والتصحيح من أنساب الأشراف ١/ ٣٥.
[٥] في الأصل: رعز.
[٦] في أنساب الأشراف ١/ ٣٥: قائم.
[٧] الحجر بالكسر ثم السكون: حرم الكعبة وهو ما يحيط الكعبة من الأرض بقدر عدة أذرع.
[٨] هدر البعير هدرا وهديرا: ردد صوته في حنجرته، وفي أنساب الأشراف ١/ ٣٥:
الهذر- بالذال المعجمة، وهو خطأ.
[٩] في الأصل: أو.
[١٠] في الأصل: رأيت.
[١١] في الأصل: خضرا- بالمقصورة.
1 / 23