المُمْتِع فِي صَنْعَة الشِعْر
تأليف
عبد الْكَرِيم النَّهْشَلِي القيرواني
تَحْقِيق
الدكتور مُحَمَّد زغلول سَلام
رَئِيس قسم اللُّغَة الْعَرَبيَّة بكلية الْآدَاب - جَامِعَة الْإسْكَنْدَريَّة
منشأة المعارف
Halaman tidak diketahui
باب في كلام العرب
أفضل كلام وأعزه وأكرمه، وأعظمه بركة، وأعوده بصالحه كتاب الله العزيز الذي عجزت عنه خطباء العرب في عنفوانها، وشعراؤها في أبانها فهو يجل عن سجع المتكلمين، ويعظم من وزن المتكلفين من الخطباء والشاعرين وأنه معجزة باقية لأكرم أنبياء الله، وخيرته من خلقه، ﷺ، ورحم وكرم. ثم خير كلام العرب وأشرفه عندها هذا الشعر الذي ترتاح له القلوب، وتجذل به الأخبار.
قال بعض العلماء بالعربية: أصل الكلام منثور، ثم تعقبت العرب ذلك واحتاجت إلى الغناء بأفعالها وذكر سابقيها، ووقائعها، وتضمين مآثرها، إذ كان المنطق عندهم هو المؤدي عن عقولهم، وألسنتهم خدم أفئدتهم، والمبينة لحكمهم، والخبرة عن آدابهم، وإن لا فرق عندهم بين الإنسان ما لم ينطق، وبين البهيمة إلا بتخالف الصورة، ولذلك قالوا: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، والمرء مخبوء تحت لسانة حتى ينطق. وقالوا ترك الحركة للسان عقلة، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره. واجمعوا على استحسان الكلام مع الصواب كما اجمعوا على كراهة الكلام مع الإسهاب، وكرهوا زيادة المنطق على الأدب، وزيادة الأدب على منطق هجنه. وقال محمد بن عبد الله بن عباس: أني لأكره أن يكون الرجل لعملة فضل على عقله، كما أكره أن يكون للسانه فضل على عمله. وقيل لرجل من ملوك العرب: متى يكون العلم شرا من عدمه؟. قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة.
1 / 11
وقال لبيد بن ربيعة لأبي براء عامر بن مالك
لا تسقي بيديك إن لم ألتمس ... نَعَمَ الضَّجُوعِ بِغَارةٍ أسْرَابِ
بُمقَطّعٍ حَلَقَ الرِّحَالةِ سابحٍ ... بادٍ نواجذَهُ على الأضْرابِ
يحملن فتيانَ الوغى من جعفرِ ... شعثًا كأَنهُمُ أسودُ الغابِ
يرعون منخرق اللَّديدِ كأَنَّهم ... في العزّ أُسرةُ حاجبِ وشهاب
متظاهري حلق الحَديد عليهم ... كبني زرارة أو بني عتاب
قوم لهم عرفت معد فضلها ... والحق بعرفة ذوو الألباب
وقد أخذ هذا على لبيد لأنه وضع قومه، ورفع عليهم من هم مثلهم ولا يتجاوزهم في كثير
شرف.
والعرب تقول لمن تعاطى من العلم مالا يحسن: عاط بغير أنواط. والعاطي المتناول للشيء، والأنواط كل شيء معلق، واحدها (نوط).
وقال العتابي: إن العقل إذا ميز حقا من باطل هدى اللسان إلى أبانه ذلك وأوحى إليه التعبير عنه، وقال جرير:
عوى الشعراء بعضهم لبعض ... علي فقد أصابهم انتقام
إذا أرسلت صاعقة عليهم ... رأوا أخرى تحرق فاستقاموا
1 / 12
عوي الشاعر مثل عوي الذئب. .
ولآخر:
وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق
فما زلقت وما ألفيت ذا خطل ... إذا الرجال على أمثالها زلقوا
وقد عاب عليه من لا بصر له نحو هذا الكلام. ولا جهبذة عنده بانتقاد الألفاظ واستخراج معاني العرب، استخفافا به وتقصيرا بما فيه وجهلا كم عسير كان الشعر فرج يسره، ومعروف كان سبب إسدائه وحياة كان سبب استرجاعها، ورحم كان سبب وصلها، ونار حرب أطفاها وغضب برده، وحقد سله. وغناء أجتلبه. وكم اسم نوه به، ورجل منسي عرف باسمه، وكم شاعر سعى بذمته، فرد حمى بعدما ابيحت، واهلا بعد ما سبيت، وفك من أسارى اكتب أيديها القيد، وعنتها سلاسل القيود. قال عمرو بن معدى كرب:
يدا ما قد بديت إلى حصين ... بأمر غير منبتر اليقين
رددت له مخاضًا تاليات ... نبيلات المحاجر والعيون
وقدمًا كنت جارك نصف يوم ... فأبشر أن سهمك في اليمين
فقال بديت عند الرجل يدًا صالحة. وأبديت فأنا مبد اتخذت عنده يدًا والتاليات: الأواخر، والمخاض: الإبل.
قال أبو عبيدة: قريش البطاح قبائل كعب بن لؤى بنو عبد الدار وعبد العزى بن قصي، وبنو زهرة ابن كلاب، وبنو مخزوم
1 / 13
يقطه، وبنو تيم ابن مرة، وبنو جمح وسهم ابني هصيص بن كعب، وبنو عدى بن كعب، وبعض بني عامر بن لؤى. فلما كثر بنو كعب
وبنو عامر بن لؤى أخرجوا بنى الحرث وبنى الحارث بن فهر من البطاح إلى الظواهر.
وقال نابغة بني جعدة:
وشاركنا قريشًا في نقاها ... وفي أنسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء بني أبان
شرك العنان: أي يشترك رجلان في شيء خاص كأنه عن لهما أي عرض، وأبان هو ابن معيط. قال الشاعر:
من سره لحم وشحم راهن ... فليأت قبة عقبة بن أبان
وقتله - أي عقبة بن أبان -. . رسول الله ﷺ بالصفراء النضر بن الحارث، فعرضت له ابنته قتيلة وهو يطوف بالبيت فاستوقفته ﷺ، وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه وأنشدته شعرها بعد قتل أبيها، وهو:
يا راكبًا إن الأثيل مظنة ... من الصبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتًا بأن قصيدةً ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
1 / 14
منى إليك وعبرة مسفوحة ... جادت لما تحمها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر إن ناديته ... أن كان يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
قسرًا يقاد إلى المنية متعبًا ... رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ولانت صنو كريمة ... من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال النبي ﷺ: لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته.
وقال بعض القرشيين
فإني لمن قوم كرام ثناؤهم ... لأقدامهم صغيت رؤوس المنابر
خلائف في الإسلام والشرك قادة ... بهم واليهم فخر كل مفاخر
وقال آخر:
على خشبات الملك منه مهابة ... وفي الدرع ميل الساعدين فروع
يشق الوغى عن بأسه صدق جده ... وابيض من ماء الحديد وقيع
وقال الفرزدق في سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان:
كل امرئ يرضى وإن كان كاملًا ... إذا كان نصفًا من سعيد بن خالد
له من قريش طيبوها وقبضها ... وأن عض كفي أمه كل حاسد
1 / 15
وكان الفرزدق كثير الانتجاع للشرفاء بالمدينة، ولذلك شكاه أهل المدينة لعمر بن عبد العزيز في وقت خصاصة، فأمره بأن لا يتعرض لهم، ودفع إليه أربعة آلاف درهم. وكان سعيد هذا من أكثر قريش مالا. يقول إذا أبرقت السماء: أمطري حيث شئت، فلا تمطين على بلد إلا ولى فيه مال.
وكان محمد بن الديباج بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يفد على الأمراء، فإذا انصرف مر بابن عمه سعيد بن خالد فأقام عنده بعض المقام، فقيل له في ذلك فقال: إنه يصلني كلما مررت به بألف دينار، وهى تقع منا موقعًا.
وسعيد هو أبو سلمى التي يقول فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
دعوا إلي بسلمى والشراب وقينة ... منعمة حسبي بذلك مالًا
خذوا ملككم لا بيت الله ملككم ... فليس يساوي في الحياة عقالًا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا
ومر الفرزدق بعد نهى عمر له بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في دهليزه وعليه عمامة خز حمراء، وجبة خز ومطرف. قال:
1 / 16
أعبد الله إنك خير ماش ... وساع بالجراثيم الكبار
نمى الفاروق أمك وابن أروى ... أباك فأنت منصدع النهار
هما قمر السماء وأنت نجم ... به في الليل يدلج كل سار
فخلع عليه ثيابه، ودفع إليه عشرة آلاف درهم. فاتصل ذلك بعمر فأحضره وقال: ألم أتقدم إليك بأن لا تعرض بمدح ولا هجاء، لقد أجلتك ثلاثا، فان أحدثت بعدها نكلت بك. فخرج وأنشأ يقول:
فأوعدني وأجلني ثلاثًا ... كما وعدت لمهلكها ثمود
وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفي محمد
الديباج يقول أبو وجزة السعدي:
وجدنا المحض الأبيض من قريش ... فتى بين الخليفة والرسول
أتاك المجد من هنا وهنا ... وكنت له بمعتلج السيول
فما للمجد دونك من مبيت ... وما للمجد دونك من مقيل
فدى لك من يصد الحق عنه ... ومن يرضي أخاه بالقليل
فلولا أنت ما رحلت ركابي ... مؤثلة ولا حمدت رحيلي
1 / 17
وقدم ابن ميادة، وأسمه الرماح بن أبرد المري المدينة زائرًا لعبد الواحد بن سليمان وهو أميرها، وكان عبد الواحد جوادًا. وفيه يقول بعضهم.
ما كان بين وعده وعطائه ... إلا كواو العطف [بين الكلام]
وكان ابن ميادة ليلة عنده سمره، فقال عبد الواحد لأصحابه: إني أهم أن أتزوج، أفلا تبغوني أيما؟ فقال له الرماح: أنا أدلك - أصلحك الله - فقال وعلى من يا أبا الشرحيل؟. قال: قدمت عليك - أصلحك الله - فلما دخلت مسجدكم إذا أشبه شيء به وبمن فيه الجنة وأهلها، فو الله بينما أنا أمشي فيه إذ قادتني رائحة عطر رجل حتى وقعت عليه، فلما وقعت عيني عليه استباني حسنه، فما أقلعت عنه، فما زال يتكلم كأنما يتلو زبورا، أو يدرس إنجيلا أو يقرأ قرآنا حتى سكت، فلولا معرفتي بالأمير ما شككت أنه هو خرج من داره إلى مصلاه فسألت من هو؟، فأخبرت أنه بين الحيين للخليفتين، قد نالته ولادة من رسول الله ﷺ، لها ساطع من غرته في ذؤابته. نعم حشو الرجل وابن العشيرة. إن اجتمعت أنت وهو على ولد ساد العباد، وجاب وجوه البلاد. قال: فلما قضى ابن ميادة كلامه قال عبد الواحد ومن حضر: ذلك محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أمه فاطمة بنت الحسين بن علي ﵃. فقال ابن ميادة: هم
لهم نبرة لم يعطها الله غيرهم ... وكم عطاء الله فضل مقسم
هذا محمد بن عبد الله بن عمرو الديباج أخو عبد الله بن حسن بن حسن لأمه، وقتله أبو جعفر، وجلده بالسياط حتى فقأ عينيه، ومات بقطع رأسه ووجه إلى شيعته بخرسان، وذلك بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وكتب إليهم (وجهت إليكم برأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ يوهمهم بذلك أنه رأس المهدي، ثم قتل
المهدي بعد.
وكان حسن بن حسن خطب إلى عمه الحسين بن علي فقال له: يا ابن أخي قد انتظرت هذا منك انطلق معي، فأدخله منزله، واخرج له ابنتيه فاطمة وسكينة وقال: اختر فاختار فاطمة، فزوجه إياها، فكان يقال إن امرأة مكنته من دولتها لمنقطة الحسن. فلما حضرت الحسن الوفاة قال:
1 / 18
إنك امرأة مرغوب فيك، وكأني بعبد الله بن عمر إذا خرج بجنازتي قد جاء على فرس مرجلا جمته، لا بساحلنه يسير في جانب الناس، معرضًا لك، فانكحي من شئت سواه، فإني لا أدع في الدنيا ورائي هما غيرك. فقالت له، فأمن من ذلك وأثلجته بالإيمان من العنق والصدقة لا تزوجته. ومات الحسن فخرج بجنازته فوافاه عبد الله بن عمر في الحال التي وصف الحسن. وكان يقال لعبد الله: المطرف، من حسنه، فنظر إلى فاطمة حاسرا تضرب وجهها، وعرف ذلك فيها، فلما حلت أرسل إليها يخطبها، فقالت: كيف بيمين؟. فأرسل إليها مكان كل مملوك مملوكين، ومكان كل شيء شيئين، فنكحته وولدت محمد الديباج.
والقاسم لا عقب له، ورقيه بنت عبد الله، فكان عبد الله بن حسن يقول، وهو اكبر ولدها: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمر واحدا، ولا أحببت حب أخي أحدا.
ومن كتاب الممتع لعبد الكريم في فضل الشعر وما تعلق به وانضاف إليه من خبر أو شعر قال:
(لما رأت العرب المنثور يند عليهم ويتلفت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم تدبروا الأوزان والاعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا. وراوه باقيا على مر الأيام، فألفوا ذلك وسموه شعرا. والشعر عندهم الفطنة. ومعنى قولهم: ليت شعري أي ليت فطنتي. والشعر أبلغ البيانين، وأطول اللسانين. وأدب العرب المأثور، وديوان علمها المشهور ولموضع قدر الشعر في العرب قال رؤبه بن العجاج في الحرب التي كانت بين بني تميم والازد: يا بني تميم أطلقوا من لساني. أي افعلوا ما أقول فيه. وقالت بنو تميم لسلامة بن جندل: مجدنا بشعرك. فقال: افعلوا حتى أقول ويقال إنه ارتج على النابغة أربعين سنة ثم كانت لبنى جعدة وقعة ظهروا فيها على عدوهم فاستخف النابغة الفرح الفرح فراض القريض، فلان له ما كان استصعب عليه، فقالوا: والله لنحن بإطلاق
لسان شاعرنا أسر منا بالظفر بعدونا.
1 / 19
قال عمرو بن معدى كرب:
فلوا أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
وكان الشاعر في الجاهلية إذا نبغ في قبيلة ركبت العرب إليها فهنأتها به، لذبه عن الأحساب، وانتصارهم به على الأعداء. وكانت العرب لا تهنئ إلا بفرس ينتج أو مولود ولد، أو شاعر نبغ هكذا زعمت علماء العرب. وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: من أعز أهل البصرة؟. قال: نحن وحلفاؤنا من ربيعة. فقال عمر بن عبد العزيز - وكان حاضرًا -: من تحالفهم عليه أعز وكانت بنو بكر بالبصرة حلفاء الازد ويدًا معهم على بني تميم. وكذلك كانت في الجاهلية أشد الناس عداوة لبني تميم، وأكثرهم غارات على قرابة ما بينهما. قال العجاج:
إن تميما كان شيخا نائلًا ... زوج هندًا بنت مر وائلا
وكان تميم بن مر خال بكر بن وائل، وذلك أن وائل تزوج هند بنت مر وتزوج بكر هند بنت تميم. وقال عمرو بن دراك العبدي يعيب تحالف الازد على تميم:
وإني إن قطعت حبال قيس ... وحالفت المزون على تميم
لأعظم فجرة من أبي رعال ... وأجور في الحكومة من سدوم
تميم أسرتي وهم جناحي ... وقيس من أيديهم أديمي
1 / 20
وقال زياد الأعجم في مثل ذلك:
بكرينا إلى المران بكر بن وائل ... علانية من حلف كل يماني
فراش إذا ما احتاج للحلم منهم ... وذبان أطماع لكل مكان
فجروا خصاكم وابتغوا من تحالفوا ... من الناس حينًا غير ازد عمان
وقال بعض بني تميم:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغى من تخالف
وقال المدائني: حضر مجلس عباد والى مصر جماعة من العرب فتذاكروا فتح مصر، وكان هاشم بن جديح الكندي حاضرًا ومعه جماعة من العرب اليمن فقال: البلد بلدنا، نحن فتحناه بأسيافنا، ونحن أهله. وحضر أبو العباس الزهري بعد ذلك مجلس عباد، وفيه هاشم
فأخبره عباد بقول هاشم، فقال: كذب البلد بلد من كان في عسكره ألف مثل ابن هذا. خسوا لا يعرفون. وقال زياد: والله للكوفة أشبه بالبصرة من بكر بن وائل بتميم. وقال شاعر في استدعاء ما يكون من القوم ليقول فيه:
وقافية قيلت لكم لم أجد لها ... جوابًا إذا لم تضربوا بالمناصل
فأنطق في حق بحق ولم يكن ... ليدحض عنكم قالة الحق باطل
وقالت بنو أسيد بن عمرو بن تميم لأوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية قل فينا. قال: أبلو حتى أقل. وهمت بنو تميم أن تفر يوم صفين، فقال الأشهب بن رملية: أين يا بنى تميم. قالوا: ذهب الناس. قال: ويلكم!
1 / 21
تضرون وتعتذرون؟ وقال رؤبة لخطيب من بني أسيد - وهم رهط أوس بن حجر:
لقد خشيت أن تكون ساحرًا ... رواية مرًا ومرا شاعرا
فجعل نظير الشعر في الحكمة السحر الذي هو أعذب شيء وأدقه وألطفه.
وقال عمر رضى الله عنه: نعم ما تعلمته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستنزل بها اللئيم، ويستعطف بها الكريم. وقال الحجاج لمساور بن هند: لم تقول الشعر؟ قال: أسقى به الماء، وأرعى به الكلأ وأقضى الحاجة فان كفيتني ذلك تركته. ومساور بن هند شريف. وكان رسول الله ﷺ عقد لأبيه مساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الذي يقول:
جزى الله خيرًا عاليًا من عشيرة ... إذا حدثان الدهر نابت نوائبه
فكم دفعوا من كربة قد تلاحمت ... على وموج قد علتني غواربه
إذا قلت عودوا عاد كل شمردل ... أشم من الفتيان جزل مواهبه
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تحرد فيها متلف المال كاسبه
كان الحجاج كره لمساور إذ كان شريفًا قول الشعر لقولهم: الشعر أدنى مروءة الشريف، وأسرى مروءة الوضيع. وكبر مساور وعمر عمرًا طويلًا وحدث من رآه مقيدًا قد عظم شعره، واسترخت أذناه، وقطع له حفش، ووكلت به امرأة تقوم عليه، فقام يومًا حتى قعد في وسط البيت. فكوم
1 / 22
كومة من تراب ثم أخذ بعرتين فجعلهما على رأس الكومة، ثم أرسلهما فقال: أرسلت الجواء واليلندج. ثم نظر فقال: سبقت الجواء، فبصرت به المرأة فأقبلت
تهودل، وهو يدور حتى دخل الحفش أمامها وهي لا تني تعنفه.
واليلندج: الناقة العظيمة السمينة، والحفش ما قطع له في البيت لصغره وقال المساور للمرار الفقعسى:
ما سرني أن أمي من بني أسد ... وأن ربي ينجيني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأن لي كل يوم ألف دينار
وقال الشاعر:
شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إن الشقي بكل حبل يخنق
وقال عمر ﵁: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه.
وقال علي ﵁: الشعر ميزان القوم.
وذكروا أن البلاغة إذا وقعت في المنثور والمنظوم كان الشاعر أعذر وكان العذر على صاحب المنثور أضيق. وذلك أن الشعر محظور بالوزن محصور بالقافية، والكلام ضيق على صاحبه (فيه)، والمنثور مطلق غير محصور فهو يتسع لقائله.
وقال النبي ﷺ للعلاء بن الحضرمي: هل تروى من الشعر شيئًا؟ فأنشده:
حي ذوى الأضغان تسب قلوبهم ... تحيتك الحسنى وقد يرقع النغل
فإن دحسوا بالكره فاعف تكرمًا ... وأن حبسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
1 / 23
فقال النبي ﵇: إن من الشعر لحكما.
وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أن الله تعالى رفع بالشعر أقوامًا في الجاهلية والإسلام وأحظاهم بما سير المادحون من مدائحهم في البلاد حتى شهروا بأطوار الأرض، وعرفوا بأقاليم العجم. ودونت في الكتب آثارهم وألحق الله تعالى لمسارهم، وأعفاهم حميد أفعالهم، فمن شيد من أعقابهم ما اسسوا له، وثمر ما غرسوا، أضاف تالدا لطارف. ومن لم تكن له همة في تشيده فله مع السقوط مزية تقديم فضل آبائه، لا يمتنع الناس له من إكرامه ورفع مكجلسه، والرقة عليه وذكر فصائل سلفه، واغتفار ما يأتي من زلَلَه. ولهذا رغب الأولون في الذكر الجميل، وبذلوا فيه مهج النفوس وعقائل الأموال، ورغبوا عن الخفض والدعة
إلى نصب المسير، ومكابدة حر الهواجر، وسرى الليل، ومقارعة الأقران، ومنازلة الأبطال.
ومن عجيب الشعر أم مديح النفس والثناء عليها قبيح على قائله، وزار عليه إلا في الشعر، وقد اغتفروا الضرورة في الشعر، ولم يغفروها في غيره، ورغبة في تخليد أخبارهم، وكانوا لا يكتبون فجعلوا روايته بمقام الكتاب.
وقال محمد بن سلام الجمحي إن القصيد حديث الميلاد، وإنما قصد الشعر على عهد هاشم بن عبد مناف أو عبد المطلب بن هاشم، وإنما كانت العرب تقول الأراجيز والأبيات بها
لا حميري قعا ولا عدس ... ولا أست عنز يحكها البقر
وكان زرارة من أسنان بني عدس بن زيد، وهو أول المقصدين، وهلهل بن ربيعة، فيقال: إن بين موت زرارة بن عدس إلى أن جاء الإسلام مائة وخمسون سنة.
وقد قيل إن لليونانين كلاما موزونا بلسانهم يتغنون به، وليس بكثير غالب عليهم، وبالشعر يتمثل. قال علي بن أبي طالب ﵁ يوم صفين متمثلا:
1 / 24
أمرتهم أمرا بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وأما أما إلا من غرية إن غوت ... غويت وإن ترشد غربة أرشد
وسأل رسول الله ﷺ عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر فقال: مانع لحوزته، مطاع في أنديته، شديد العارضة، فقال الزبرقان أما إنه علم أكثر مما قال، ولكنه جيدني شرففى، فقال عمرو: أما لئن قال ما علمته إلا ضيق العطن، زمن المروءة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى. فقال رسول الله ﷺ أكلامان يا عمرو؟! لما رأى قوله أختلف، ورأى الإنكار في عيني رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، فقال النبي ﵇ عند ذلك: (إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما). أي يلزم الشعر كما يلزم من الحكم.
قال حبيب
1 / 25
ولولا سبيل سنها الشعر ما ذرى ... بغاة العلا من حيث تبنى المكارم
ترى حكمه ما فيه وهو فكاهة ... ويقضي بما يقضي به وهو طالم
وكان عمرو بن الأهتم خطيبا، شاعرا، جميلا، وكان يقال له المكحل وابنه نعيم بن عمرو من أجمل الناس، فلما رأى الحسن بن علي ﵄ جمال عمرو تزوج ابنته أم حبيب فوجدها قبيحة، فطلقها، وأخوه عبد الله بن الأهتم جد خالد ابن صفوان الخطيب، وآل الأهتم كلهم خطباء، وعبد الله القائل لابنه: يا بني إنا أهل بيت يتوارث علما قل ما طلبنا به حاجة إلا أدركناها وأدبا قل ما أردنا به منزلة إلا نلناها. يا بني لا تطلب الحاجة إلا من أهلها، ولا تطلبها إلا في حينها، ولا تطلب ما لست له مستحقا، فأنك إن فعلت ذلك كنت حقيقا بالحرمان.
وقال علي بن الحسين: العقل أمير والأدب وزيره، فإذا لم يكن وزير ضعف الأمير، فأن لم يكن أمير بطل الوزير.
وقال معاذ: صحبة العاقل في لحج البحار وأهوال القفار أشهى إلى من صحبة الجاهل في مجلس بين جنات وأنهار، فيها ألوان الأطعمة والثمار.
وفد عمرو بن الأهتم مع قيس بن عاصم على النبي ﷺ مع جماعة من بني تميم، فبادروه من وراء الحجرات، ففاخروه، وشاعروا شاعره حسان وخطيبه ثابت بن قيس، فقال قيس بن عاصم، والله لشاعرهم اشعر من شاعرنا وخطيبهم أخطب من خطيبنا، فلما أسلموا وأعطاهم ﷺ كان عمرو متخلفا في رجالهم فذكره قيس بن عاصم، وأراد أن يستميح له النبي ﷺ فقصر به بالذكر فألحقه النبي ﵇ بهم، فقال عمرو يهجو قيسا:
ظللت مفترس الهلباء تشتمني ... عند النبي، فلم تصدق ولم تصب
إن تشتموني فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
1 / 26
خرج عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر، والمخبل القريعي، وعبده بن الطبيب فبدوا عن الماء فنخروا جزورا،، وأجتمعوا على شراب لهم، فاتاهم رجل من بني يربوع كان يروى الشعر، فقالوا له: أحكم بيننا، فقال: من يعترض لكم؟! ولكني سأصف لكم، أما عمرو بن الأهتم فحلل ملوك تنشر وتطوى، وأما الزبرقان فجزرو نحرت فألقيت في قدر، فأنت تدخل يدك فتصيب سناما مرة وكبدا مرة أخرى، وقرنا مرة، وأما المخبل فمكاو يصيبها الله على
من يشاء، وأما عبده فصميل.
وقال عمر بن عبد العزيز وسمع رجلا يتكلم في حاجة بكلام بليغ وعمل لطيف ولسان رقيق فقال: هذا والله السحر الحلال.
وقال الشاعر:
من السحر الحلال لمجتنيه ... ولم أر قبلها سحرًا حلالً
قال معاوية رضى الله عنه: لقد رأيتني يوم الهرير من أيام صفين وقد عزمت على الفرار وما ردني إلا قول عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقال أخر: تعلموا الشعر فان فيه محاسن تبتغي ومساوئ تبقى، ويحل عقدة اللسان، ويشجع الجبان.
1 / 27
وقال آخر: الشعر ثلاثة أصناف؛ فشعر يكتب ويروى، وشعر يسمع ولا يروى وشعر ينبذ ويرمى.
وقال أبو سفيان بن حرب لابن الزبعري: لو أسهبت في شعرك. قال: حسبك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة، وأنشدني في نعت الشعر:
الشعراء فاعلمن أربعة ... فشاعر يجرى ولا يجرى معه
وشاعر ينشد وسط المعمعة ... وشاعر لا يرتجى لمنفعه
وشاعر يقال خمر في دعهْ
قال الرشيد: لقد كنت في بلاد الروم في ساعة أزمة وحرب شديدة إذ خطرت ببالي أبيات مالك بن عوف النمري التي يقول فيها:
ومقدم يعي النفوس بضيقه ... قدمته وشهود قومي فاعلم
قدمته ودعوت آخر خاله ... من دون غمرته وغمرته بالدم
فإذا اشتكى مهري إلي حرارة ... عند اختلاف الطعن قلت له اقدم
وإني بنفسي في الحروب لتاجر ... تلك التجارة لا انتقاد الدرهم
فسكنت من جأشي، ثم حملت وحمل المسلمون، فما أتممت إنشادها حتى فتح الله ﷿ علي.
1 / 28
مات ابن لسليمان بن علي، فجزع عليه جزعًا شديدًا، وأمسك عن الطعام والشراب والكلام، فقال كاتبه للحاجب ائذن للناس، وقعد على طريقهم، فجعل يقول: عزوا الأمير وسلوه، فكل تكلم، فلم يصغ إلى أحد إلى أن دخل يحيى بن منصور فقال: أصلح الله الأمير، عليكم نزل كتاب الله ﷿، وأنتم أعرف الناس بتأويله؛ وفيكم قال رسول الله ﷺ وأنتم أعلم الناس بسنته ولست أعزيك بشيء لم تسبق إلى علمه، أعزيك بقول الشاعر:
وهون ما ألقى من الوجد أنني ... أجاوره في داره اليوم أو غدا
فدعا بالغداء وتسلى.
وأنشد عمر بن أبي ربيعة عبد الله بن عباس ﵁ قصيدته:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر
وهي ثمانون بيتًا، وكان عنده نافع بن الأزرق الخارجي يسأله عن أشياء في العلم فقال نافع: أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض عنا - وكان نافع قد أمله بكثرة سؤاله - ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفها (فتسمح له)؟. فقال: تا الله ما سمعت سفها فقال: فقال: أما أنشدك؟!:
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزي، وأما بالعشي فيخسر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال فيضحى، وأما بالعشي فيخسر. قال: أو تحفظ الذي قال؟. قال: والله ما سمعتها إلا ساعتى، ولو شئت أن أرددها فأنشده إياها. فقال له: ما رأيت أروى منك. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي ﵄.
1 / 29