الكلام، فقال: إنِّي أكره هذا، بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، لقد سمعت الشافعي يقول: سُئِلَ مالك عن الكلام والتوحيد، فقال: مُحَال أن نظنَّ بالنبي ﷺ أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلِّمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي ﷺ: (أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فما عصم به الدم والمال حقيقة التوحيد» (^١).
وأخرج البيهقي عن أحمد بن أصرم أنه قال: سمعت المُزَني يقول: «القرآن كلام الله، غير مخلوق، وما دِنْت بغير هذا قطُّ، ولكن الشافعي كان ينهانا عن الكلام» (^٢).
وقد عاش المُزَني أيام المحنة في أواخر خلافة المأمون وحتى نهايتها على يد المتوكِّل بن المعتصم، هذه المحنة التي هزَّت العالم الإسلامي قاطبة وقُبض فيها على جلة الأئمة، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل وأبو يعقوب البُوَيْطي، وكلاهما من تلاميذ الشافعي، فما كان من أبي إبراهيم إلا أنه حاول أن يبقى بمنأًى عن أن يَصْلَى بنارها، ومما يسَّر له ذلك بُعده عن المناصب وأهلها، وسكوته عن الحديث في العقائد والفرق، وما كل الناس بأحمد أو شبيهه، وقد قال المُزَني نفسه: «أحمد بن حنبل .. أبو بكر يوم الرِّدَّة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعليّ يوم صِفِّين» (^٣).
إلا أن السلامة نادرة، والسّتر عزيز، والناس مولعون بالتنقيب عن العقائد والامتحان فيها، فما كان منهم إلا أن اتخذوا من سكوته تهمة،
_________
(^١) انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٠/ ٢٦)، وذكره السيوطي في «الحاوي للفتاوي» (٢/ ١٥٥ ط دار الفكر) وصحح إسناده وقال: «وبه أجبت».
(^٢) انظر «مناقب الشافعي» للبَيْهَقي (٢/ ٣٥٣).
(^٣) أخرجه البَيْهَقي في «المناقب» (٢/ ٣٥٧).
المقدمة / 32