كان نور الدين ﵀ كلما رتب لديوانه وجده إلى نواب ديوانه متعرضًا وبتصرفهم فمنهم من يقصر عن مطاولتهم ولا ينهض لمقاوتهم فإذا عرف انه لا يسوء ولا يسر ولا ينفع ولا يضر عنفه وصرفه وعزف عنه وتعيفه، ومنهم من يعرف انه إذا حادثهم ونافقهم لا يظفر بقبول ولا يفوز بمأمول فيوافقهم ويرافقهم فإذا عرف حاله بعد حين بعزله غير ضنين. وكنت قد توليت شغله وتفيأت ظله بح نوابه في خفض قدري وضيق صدري وأنا أحلم عنهم ولا انتقم منهم فلما كثر منهم التهاون وظهر منهم التعاون ولم يخف عن نور الدين سر أمري وعلم أن لطى المداراة معهم أمري وكان ذكيًا ألمعيا لا يخفى عليه الأحوال ولا يتهرج لديه الرجال ولم يزل لا بناسبه بي واطلاعه على سري يشملني بما لا يخطر ببالي عافته وعاطفته. وأنا إذا انصرف النواب من ديوانه أجلس ملازمًا للخدمة في إيوانه فإذا خرج الخادم لشغل ولا يرى منهم أحدًا حاضرًا عاد إليه فأخبره بغيبتهم ويقول ما رأيت إلا فلانًا وربما خرج وتقدم إلى بكفاية ذلك المهم وأعجبه دوام تلك الشيمة مني وكان يريد تقديمي ولكنه للحزم على الثبات والتأني. فبينا أنا ذات يوم أطلت القعود وأدمت على الباب الركود وألفيت لنار حركاتي بعد الظهر الخمود فنزلت إلى منزلي لا تبلغ بقوت وأعود إلى الباب في وقت موقوت إذا جاء من يطلبني وعلى الغيبة يعتبني فتضجرت في نفسي وعدمت انسي وقلت: ما أصعب هذه الخدمة وما أصعب هذه الغمة أما أترك لطعامي ومتى مرامي. وحين حضرت خرج إلى خازنه ولي الدين إسماعيل وقال: يأمرك بأن تتولى إشراف مملكته وتكون الحافظ الأمين في دولته فقلت يعفيني في دولته فأنا وحيد في الغربة وبهذا العمل عديم الدربة وهؤلاء النواب قد خلا لهم الميدان وطاوعهم على تقادم السنين الإمكان، ولهم خبرة بالأعمال ومعرفة بالأحوال وكأنهم على حصنهم العربية قد حازوا قصب الرهان وكأني على برزون أعرج فكيف أسابقهم في الميدان.
فعاد بالجواب وقال اتبع أو امرنا وأنت على الصواب فجمعت بين لنصبين وقسمت زماني على النصيبين فمرة للكتب والناشير وتارة للإثبات في الدساتير ولم أثق بنايب وباشرت العمل بنفسي على أنهم لا يلتفتون نحوي ولا يبالون بكدري وصفوي ولا يجرون إلا على ما ألفوه من العادة ولا يشاورونني في الإبداء والإعادة. فما زلت أرد طباعهم واصد أطماعهم حتى قويت على العمل ورويت من عله النهل.
قال: وكان من عادة نور الدين انه إذا أقطع أميرًا إقطاعا وعين بعبرته ضياعًا قرر عليه رجلًا ذوي عدد لا ينقصون في خيل وسلاح وعدد فإذا نقص مغل الإقطاع عن المبلغ أتم له نقدًا من خزانته.
قال: وأمر أن يركب كل أمير بعدته وهيئة بأسه في الحرب وشدته ونحن نبكر لعرضه والأمير الحاجب ضياء الدين بكر يسان متولى هذا الأمر وهو يجمعنا كل يوم من الفجر وكان هذا الأمير أكبر حجاب أسد الدين شيركوه وأخص أصحابه فلما توجه مخدومه إلى مصر لم يصحبه ولم يرقه ملك مصر بترك وطنه بالشام ولم يعجبه. فمال إليه أمور الدين لزنة حصاه وزينة حجاه (١٧٥أ) ورفع قدره إلى رتبة الأمراء الأكابر واعتمد على نهضته في الموارد والمصادر.
ذكر ما سيره صلاح الدين من مصر من الأموال
قال: ولما عرض صلاح الدين بعد العاضد بالقصر خزانته واستخرج منها دفاينه سير منها عدة من الأمتعة المستحسنة والآلات المثمنة من قطع البللور واليشم والاواني التي يتصور وجود مثلها في الوهم ومعها ثلاثة قطع من البلخش أكبرها نيف وثلاثون مثقالًا، والثانية ثمانية عشر مثقالًا والأخرى دونها وقرن بها من الآلي مرصوفها وكنونها وحمل معها من الذهب ستين ألف دينار ووصلت من غرايب المصوغات بما لا يجمع مثله في إعصار وإعمار ومن الطيب والعطر مالم يخطر ببال عطار فشكر نور الدين همته وقال: ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال ولا نسد به خلة الإقلال فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا فقر إلى الذهب تمثل بقول أبي تمام:
لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصا وبه فقر إلى الذهب
فاستنزه وما استغزره واستقل المحمول في جنب ما حرزه وتروي فيما يدبره فيما يقدمه في هذا المهم ويؤخره.
ذكر خروج الملك الناصر صلاح الدين ونزوله على الكرك والشوبك
1 / 24