توطئة
1 - في إقامة البرهان على وجود النفس
2 - في حد النفس
3 - في بيان أن النفس ليست جسما ولا عرضا
4 - في إبطال قول من قال: إن النفس التحام العناصر
5 - في تباين النفوس الإنسانية
6 - في بيان وحدة النفوس الإنسانية بالطباع
7 - في بيان المغايرة بين أشخاص البشر من قبل القوى الثلاث1 المختصة بالأشخاص البشرية وأول ذلك في المغايرة من قبل القوة النطقية
8 - في أسباب التغير العارض للقوة النطقية الموجودة1 لنوع البشر
9 - في معنى القوة الغضبية
10 - في معنى القوة الشهوانية
11 - في بيان أنه ليس في إنسان واحد إلا1 نفس واحدة
12 - في أن العضو الرئيسي للنفس هو القلب
13 - في بيان مراتب النفس وفي إدراك العلوم والمعارف غير التي قيلت آنفا
14 - في بيان خواص النفس الإنسانية
15 - في إقامة البرهان على الحاجة إلى الألفاظ المستعملة بين الناس
16 - في البراهين التي نطقت بها الحكماء في إضافة النفس الناطقة إلى البدن وأجزائه، وهي خمسة1 أشباه
17 - في بيان خلقة النفس وأنها حادثة موجودة بوجود الجسد وليست أزلية ولا قبل البدن
18 - في بيان آراء أهل التناسخ
19 - في إبطال آراء أهل1 التناسخ بأسرها
20 - في أن نفوس الحيوان غير ناطقة
21 - في أن النفس لا تموت بموت البدن
22 - في بيان أن النفس عالمة بعد فراق البدن، وفيه أوجه أربعة
23 - في بيان محل الأنفس بعد فراق أبدانها
24 - في بيان أن اللذات الروحية التي تحصل للنفس بعد الانحلال أعظم من اللذات الجسمانية والشهوات البدنية
25 - في بيان الوحي والانكشاف الذي يحصل للنفوس البشرية والرؤيا والأحلام وغيرها
26 - في بيان المكاشفات والأوحية
27 - في بيان اختلاف الناس في هذه المعجزة المذكورة بواسطة القوم المذكورين
الأسفار التي استشهد بها صاحب هذا المختصر
توطئة
1 - في إقامة البرهان على وجود النفس
2 - في حد النفس
3 - في بيان أن النفس ليست جسما ولا عرضا
4 - في إبطال قول من قال: إن النفس التحام العناصر
5 - في تباين النفوس الإنسانية
6 - في بيان وحدة النفوس الإنسانية بالطباع
7 - في بيان المغايرة بين أشخاص البشر من قبل القوى الثلاث1 المختصة بالأشخاص البشرية وأول ذلك في المغايرة من قبل القوة النطقية
8 - في أسباب التغير العارض للقوة النطقية الموجودة1 لنوع البشر
9 - في معنى القوة الغضبية
10 - في معنى القوة الشهوانية
11 - في بيان أنه ليس في إنسان واحد إلا1 نفس واحدة
12 - في أن العضو الرئيسي للنفس هو القلب
13 - في بيان مراتب النفس وفي إدراك العلوم والمعارف غير التي قيلت آنفا
14 - في بيان خواص النفس الإنسانية
15 - في إقامة البرهان على الحاجة إلى الألفاظ المستعملة بين الناس
16 - في البراهين التي نطقت بها الحكماء في إضافة النفس الناطقة إلى البدن وأجزائه، وهي خمسة1 أشباه
17 - في بيان خلقة النفس وأنها حادثة موجودة بوجود الجسد وليست أزلية ولا قبل البدن
18 - في بيان آراء أهل التناسخ
19 - في إبطال آراء أهل1 التناسخ بأسرها
20 - في أن نفوس الحيوان غير ناطقة
21 - في أن النفس لا تموت بموت البدن
22 - في بيان أن النفس عالمة بعد فراق البدن، وفيه أوجه أربعة
23 - في بيان محل الأنفس بعد فراق أبدانها
24 - في بيان أن اللذات الروحية التي تحصل للنفس بعد الانحلال أعظم من اللذات الجسمانية والشهوات البدنية
25 - في بيان الوحي والانكشاف الذي يحصل للنفوس البشرية والرؤيا والأحلام وغيرها
26 - في بيان المكاشفات والأوحية
27 - في بيان اختلاف الناس في هذه المعجزة المذكورة بواسطة القوم المذكورين
الأسفار التي استشهد بها صاحب هذا المختصر
مختصر في علم النفس الإنسانية
مختصر في علم النفس الإنسانية
تأليف
ابن العبري
الفصل الأول
في إقامة البرهان على وجود النفس
نقول: وجود النفس أمر فطري غني عن التعريف لأن كلا
1
منا يشير [2] إلى ذاته بقوله: أنا، فليس إشارته إليه أمرا عدميا
2
فإن العدم لا إشارة إليه، وهذا معلوم عند العلماء والجهال، أعني أنه ليس في العالم إنسان يغفل عن نفسه ولو قدر أن يغفل عن كل ما في الوجود مثل جسمه وأعضائه وحركاته إلى غير ذلك فعن ذاته لا يتصور غفوله البتة.
لكن آراء أهل العلم قد اختلفت في هذا الوجود: فقوم ظنوه جسما وقوم عرضا وقوم نفوه عنهما معا. والذين ظنوه جسما زعموا أنه
3
هذا الهيكل الجسداني وهم المسلمون
4
بأسرهم وبعض النصارى، وقوم زعموا أن النفس جسم منحصر في هذا الجسد، وبعض هؤلاء ظن أنها الأخلاط الأربعة،
5
وقوم زعموا أنها الدم فقط، وآخرون ظنوا أنها روح تبرز من القلب إلى الدماغ، وقوم زعموا
6
أنها الأعضاء الصحاح مثل العصب والعروق والشرايين والعظام وغيرها، وآخرون اعتقدوا أنها الأعضاء الرئيسية أعني الدماغ والقلب والكبد والأنثيين، وآخرون ظنوا أنها ماء، وآخرون ظنوا أنها [3] هواء، وآخرون ظنوا أنها نار، وآخرون ظنوا أنها التحام الاسطقسات. وأرسطوطاليس وأتباعه وكافة النصارى زعموا أن النفس ليست جسما ولا عرضا وهي تستعمل البدن مثل الآلة، وأنها لا تموت بموت البدن وتكمل بالعلوم الإلهية وتلتذ بها وإن عدمت تلك لقيت أعظم العذاب، وأنها لا تسبق البدن بوجودها ولا تنتقل من بدن إلى غيره، ومع ذلك أرسطوطاليس والنصارى والمسلمون مقرون
7
بذلك وبعود الأبدان إلى نفوسها.
الفصل الثاني
في حد النفس
قال أرسطوطاليس: «كمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة حي بالقوة.»
1
فقوله «كمال» يعني
2
قائمة بذاتها، وقوله «أول» بالنسبة إلى الكمالات الثانية التي تحصل للإنسان بالمعارف والصناعات، وقوله «لجسم طبيعي.» يميزه عن الأجسام الصناعية، وقوله «إلى ذي حياة» يعني النفس تستعمل [4] البدن كالآلة وبه تكسب الفضائل، وقوله «حي بالقوة» يعني النفس تتحد بجسم المني الذي هو بالقوة حي.
3
وقال غريغوريوس النيصي: «إن النفس طباع روحاني حي عارف عري
4
عن الهيولى الجسمانية تظهر أفعالها بآلة الحواس الجسمانية.»
الفصل الثالث
في بيان أن النفس ليست جسما ولا عرضا
نقول: النفس ناطقة تعقل المعقولات الكلية ولو كانت جسما للزمها مقدار معين وكان يلزم من ذلك تقدير معقولاتها الغير الجسمانية
1
وذلك محال؛ لأن الأمور المجردة عن المادة مثل الإنسان الكلي والحيوان الكلي كيف يمكن تقديرها بقدر معين وشكل مخصص؟ وإذا لم يمكن ذلك في معقولاتها امتنع أيضا في ذاتها
2
أعني القدر المعين والجسمية.
إنها لو حلت في عضو من الأعضاء وكان قوامه بها لزم أن تعقل به دائما مثلما تعقل بذاتها، وليس [5] الأمر كذلك لأنا نرى الإنسان في أكثر أحواله يفعل عن جميع بدنه فإذن ليست
3
في عنصر بل قائمة بذاتها.
لو كانت جسما أو قائمة به للزمها الضعف بضعفه والانتعاش بانتعاشه، وليس الأمر في هذه الصفة لأننا نرى بعد الأربعين ضعف القوى البدنية وانتعاش القوى النفسانية مع عظم الإدراك وكمال العقل، ويشهد على هذا ما نطق به بولس الرسول حيث قال: «وإن كان الإنسان الظاهر يضعف لكن
4
الباطن ينتعش.»
5
وكذلك نرى الحواس الظاهرة يعرض لها الكلال أو سقوط قوتها بالكلية والنفس بالعكس من ذلك، أعني الحس يضعف بإدراك القوى مثل عجز
6
العين عن إدراك الشمس والأذن عن الأصوات الهائلة، والنفس تقوى بإدراك العظائم فإذن ليست بجسم. وكذلك يعرض للحواس أنها لا تقدر على إدراك الضعيف بعد القوي مثل الناظر زمانا طويلا إلى قرص الشمس فيعجز بعد ذلك عن إدراك مصباح موضوع بين يديه. [6] إننا نعلم بالضرورة أن السواد ضد البياض ولو لم يجتمعا
7
معا في فكرنا لما أمكننا
8
الحكم عليهما بهذا الحكم، ومن المعلوم أن الضدين لا يجتمعان
9
في موضع واحد في زمان واحد، فإذن الذي اجتمعا فيه معا غير جسم وهو النفس الناطقة.
إن صورة ما إذا وجدت في جسم ما فلا يمكنه قبول غيرها إلا إذا زالت الأولى، والنفس يمكنها قبول كثير من الصور المعقولة في آن
10
واحد فإذن ليست بجسم.
إن الإنسان يشير إلى كل واحد من أعضائه بقوله: يدي وكبدي وقلبي وجسمي، ومن المعلوم أن القائل غير المشار إليه، فالنفس ليست بجسم.
فأما شواهد الكتب الإلهية على أن النفس ليست بجسم، فمن ذلك ما قيل: «نخلق إنسانا كصورتنا.»
11
وهو تعالى غير جسم فالنفس كذلك. وقال داود: «فإذا ما أتيت أنظر وجهك.»
12 [7] والبارئ تعالى غير جسم فكذلك الناظر إليه
13
وهو النفس. وقول مولانا: «إن النفس مستعدة والبدن ضعيف.»
14
فلولا أن النفس غير جسم لما وقع بينهما الاختلاف. وقول بولس: «نحن عارفون أننا مهما دمنا في هذا البدن فنحن بعيدون عن مولانا وكذلك نحن مشتاقون إلى فراقه لنقرب منه تعالى.»
15
وقول غريغوريوس الإلهي: «يجب علينا غاية الاهتمام والاعتناء بهذه النفس التي وهبت من الله تعالى من العالم العلوي وربطت بهذا البدن .» وقال العظيم أوغريس: «إن ثروة النفس المعرفة الروحانية وفاقتها
16
عدم ذلك.» فلو كانت جسما لما كان الأمر كذلك.
الفصل الرابع
في إبطال قول من قال: إن النفس التحام
العناصر
فنقول: إن الجسد مركب من اجتماع العناصر الأربعة
1
ولما كان [8] مجتمعا
2
من الأضداد افتقر إلى علة أخرى غيره تضبطه في الوجود لأن هذه المجتمعة في تركيبه يقع بينها الغلب والتغالب، وليس الضابط لها المزاج
3
لأن المزاج تابع لها والعلة الجامعة يجب أن تكون مقدمة على معلولها، فإذن ضابط المجموع شيء آخر وهو النفس.
وأيضا فقد نرى مزاج البدن يشتاق إلى شيء ويتلهف على الحصول عليه والنفس تمنعه عن الحصول على مرامه،
4
فنعلم أن المشتاق غير المانع، فإذن النفس ليست مزاجا.
الفصل الخامس
في تباين النفوس الإنسانية
قال أرسطوطاليس وجماعة من أهل العلم: «إن نفوس البشر بأسرها طبع واحد وليس بينها اختلاف إلا بالأعراض واللذات وكيفيات الأمزجة [9] وترجيح الفضائل والرذائل وغلبة الأخلاط بعضها بعضا»، وهذا الرأي أصوب الآراء
1
بأسرها لأنه موافق لعلم الطبيعة وعلم الشريعة. وقال آخرون: «إن سائر النفوس الحيوانية والبشرية واحدة بالطبع لكن الاختلاف حصل بينها بالأبدان فقط.» يعني أن نفس الفرس لو حلت في بدن الإنسان لكانت ناطقة وبالعكس، وهذا المذهب باطل ومحال لأن نفس الإنسان مغايرة لنفس الحيوان على ما يأتي بيانه فيما بعد.
2
وقال آخرون: «إن نفوس البشر هي مثل الجنس وتحتها أنواع كثيرة مغايرة بعضها لبعض بالطباع، وكل نوع منها قد صدر عن نوع من أنواع العقول المجردة ويشبه النوع الذي صدر عنه؛ ولذلك فإن النفوس التي صدرت عن نوع معلوم بينها محبة صادقة وما ليس فليس؛ ولذلك قد نرى غرباء متحابين وأقارب متباغضين.»
3
وقال آخرون: «إن نفوس البشر بأسرها مختلفة بالطباع [10] وليس فيها اتفاق إلا بأعراض الفضائل والرذائل، وذلك مثل طباع الشمس والقمر والكواكب ومثل طباع الأطيار وغيرها.»
الفصل السادس
في بيان وحدة النفوس الإنسانية بالطباع
فنقول: لو كان بين النفوس اختلاف بالفصول الجوهرية لوجب أن تكون مركبة من الجنس والفصل. ولما كانت بسيطة غير مركبة امتنع الغيار بينها بالطباع، وإذا امتنع ذلك وجب وحدة الطباع وهو المطلوب.
ونقول: لو كانت مغايرة بالفصول لوجب التغاير في حد أشخاص البشر، وذلك محال لأن حد الإنسان على الإطلاق حيوان ناطق، ولما لزم الحد في الجميع أمرا واحدا
1
وجب أن يكون الطباع واحدا.
الفصل السابع
في بيان المغايرة بين أشخاص البشر من قبل القوى الثلاث1 المختصة بالأشخاص البشرية وأول ذلك في المغايرة من
قبل القوة النطقية
[11] نقول: إن للإنسان ثلاث قوى موجودة: القوة النطقية والغضبية والشهوانية. والقوة النطقية بها يوجد الإدراك والتمييز
2
والتعقل، وهذه على ضربين: أحدهما طبيعي والآخر كسبي. فالطبيعي كقولنا: الاثنان
3
نصف الأربعة والكل أعظم من جزئه والجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد وأشباه هذه. وأما الكسبي فهو على قسمين: أحدهما العلوم العقلية والنقلية والثاني العلوم الصناعية، وقليل من البشر يحيط بالأمرين كاملين وكثير يعدم الأمرين المذكورين وبعض يجد الأول ويعدم الثاني وبعض على العكس. [12] وتنحصر درجات المعارف في ثلاثة وإن كانت كثيرة: فالأول هو الماهر في جميع المعارف وهذا نادر، والثاني عديم
4
الكل وهؤلاء كثيرون، والثالث بالبعض ماهرون وعن البعض عاجزون، وهؤلاء أيضا كثيرون. فنرى إنسانا يشرح كتبا شتى خلوة وفي الجمهور يعجز
5
عن إنشاء أدنى رسالة، ونرى قوما آخرين بالعكس مما ذكرناه، وبعضا يعرف الكتب خلوة ويعجز عن قراءة فصل واحد إذا التف عليه الجمهور.
ثم من الناس من يحدق بالعلم سريعا ولا يدركه
6
النسيان أو يدركه بعد مدة مديدة وهذا نادر، ومنهم من هو بالعكس مما ذكرناه، وقوم يحدقون
7
سريعا وينسون سريعا، وآخرون يحدقون بطيئا وينسون بطيئا، وهذان الأمران متوسطان
8
لكن الأخير أرجح إذ يوجد لأهل الجهاد.
9
ومن الناس من يفهم ما يتعلمه وفق ما ينبغي، وقوم ليس كذلك، والأولون إما أن يستطيعوا الزيادة [13] على ما يحصلونه أو أن لا يستطيعوا ذلك، وأولو القسم الثاني إما أن لا يفقهوا ما تسلموه أو أن يفقهوا يسيرا وعلى عكس ما تسلموه، والقسم الأخير مرض عسر علاجه وممتنع كفانا الله إياه.
الفصل الثامن
في أسباب التغير العارض للقوة النطقية الموجودة1 لنوع البشر
أما السبب الأول :
فهو أن دماغ الإنسان له بطون ثلاثة: الأول الذي فيه الحس المشترك، والثاني هو مسكن القوة المتخيلة، والأخير الذي فيه القوة الذاكرة. والأول يجب أن يكون مزاجه رطبا فيه قليل من اليبوسة حتى يقبل صورة المحسوسات بسهولة ولا تزول سريعا لأجل اليبوسة الموجودة؛ ولأجل ذلك فرض التعليم للأطفال بحيث ترسخ العلوم في قواهم الباطنة بسبب الرطوبة الغالبة في تلك [14] القوى؛ فإن سن الكبر يوجد زيادة اليبس في تلك القوى فيعسر عليها
2
قبول العلوم. فأما مزاج التجويف الأوسط فيجب أن يكون مائلا إلى الحرارة لأنه معدن القياسات، وهي تفتقر إلى سرعة الحركة والحرارة ولكن بشرط الاعتدال؛ لأن الإفراط يوجب اختلاط الحق بالباطل والتفريط يوجب عدم الحركة. وأما التجويف الأخير فيجب أن يكون مائلا إلى اليبس ليحفظ ما يرتسم من الصور العقلية.
السبب الثاني:
هو أن بين البطن الأول والأوسط مسلكا
3
فيه جسم يشبه الدودة ويعرض له الانبساط واللطف وينفتح ذلك المسلك وتجري الروح من الأول إلى الأوسط، وهناك تنتقل الصور من المشترك
4
إلى المفكرة، ووقت يجتمع ذلك الجسم ويغلظ يسد ذلك المسلك وتنحبس الروح عن الجريان
5
ويمتنع انتقال الصور، فإذن كل إنسان مزاج دماغه غليظ يعسر فيه حركة الجسم المذكور [15] ولذلك يكون قليل الفهم بعيد
6
المعرفة والذي دماغه مائل إلى الحرارة بالعكس من ذلك.
السبب الثالث:
أن شكل الرأس وأجود أشكاله ما كان مسفطا قليلا بين اليمين إلى الشمال حتى يحصل منه شبه دائرة مما يلي الجبهة وأخرى أصغر مما يلي القفا؛ لأن المقدم هو تجويف فإذا امتنع المقدم يحصل الأذى للمشترك وإذا امتنع المفكر
7
تأذى المذكور وإن امتنعا تأذيا.
السبب الرابع:
هو أن الرأس والبدن إما أن يكونا كبيرين، أو صغيرين، أو الرأس صغيرا
8
والبدن كبيرا، أو بالعكس. والأول يكون فيه
9
الدماغ والقلب قويين وذلك الإنسان يكون كاملا في صورته، وأما الثاني فيكون
10
ناقصا فيهما، وأما الثالث فيكون قلبه قويا وغزير الحرارة والدماغ صغيرا قليل [16] البرودة، وذلك يكون سريع الغضب والعطب، وأما الرابع فيكون قلبه صغيرا ودماغه كبيرا بسبب كثرة المادة ولذلك يكون قليل الفهم ضعيف القلب.
الفصل التاسع
في معنى القوة الغضبية
وهي التي تدفع ما يضرنا أو ما نظن أنه كذلك، ومسكنها القلب، وله تجويفان: أحدهما يمينا والآخر شمالا، ففي الشمال يتولد جسم لطيف بخاري روحاني منه تنبعث الروح الحيوانية في الشرايين إلى سائر أقطار البدن، وفي هذه الروح يوجب الفرح والترح
1
فإن توفرت
2
حرارتها أوجبت السلاطة والوقاحة وإن نقصت آثرت الذلة والفساد وإن اعتدلت آثرت الشجاعة، وكذلك الاهتمام بالأمور والسرعة فيها والتأخر عنها بسبب زيادة الحرارة ونقصانها إلى غير ذلك.
الفصل العاشر
في معنى القوة الشهوانية
[17] وهذه القوة تختص بالكبد والكلى. فإن كان البدن كبير المقدار أو صغيرا
1
فالمعدة تابعة له، وحاسة الجوع توجد للإنسان بواسطة خلط سوداوي طيب ينصب إلى فم المعدة من الطحال في مسلك موجود
2
بينهما فيحرك
3
المعدة إلى طلب الأكل، فإذا كان البدن كبيرا والمعدة مناسبة له والمسلك واسعا كان الإحساس بألم الجوع غالبا، وإن كان الأمر بالعكس فبالعكس، وإن كان متوسطا فمثله. كذلك القول في معنى الكبد أيضا واتساع مجاريه. وأما أصحاب البلغم التفه فالغالب على مأكلهم الحريف الحاد، والذين قد غلب اليبس على معدتهم يشتهون الحلاوات والأدهان، وقس الباقي على هذا النحو.
الفصل الحادي عشر
في بيان أنه ليس في إنسان واحد إلا1 نفس واحدة
[18] فنقول: ليس النفس الناطقة شيئا إلا ما يشير كل واحد من الناس إلى ذاته بقوله: أنا، ويشهد العقل الصافي أن هذا ليس إلا شيئا واحدا
2
فقط والطبع أيضا شاهد كذلك.
إن الغضب حال نفسانية بها تدفع المضار، والشهوة حال نفسانية يجذب بها النافع إلى ما هو ملائم له، والدافع يعلم ما هو دافع له وكذلك الجاذب يعلم ما هو جاذب له، ومن المعلوم أن ذلك العالم بهذه الأفاعيل الصادرة هو الذي أدركها قبل تصرفه فيها وليس ذلك إلا النفس الواحدة وهو المطلوب.
إن الإنسان جسم متنفس حساس متحرك بالاختيار، ومن المعلوم أن الحساس هو المتحرك وهو المختار، والاختيار [19] إن كان جاذبا فهو شهواني وإن كان دافعا فهو غضوب.
3
الفصل الثاني عشر
في أن العضو الرئيسي للنفس هو القلب
فنقول: إن البدن هو جسم مركب من الطباع الأربعة لكن الغالب على مزاجه النارية والهوائية وذلك معلوم من زيادته بالحرارة ومن انحلاله بالبرودة، ولكن البارئ تعالى ركب الأعضاء من الأجزاء الأرضية والسماوية
1
وخلق الأرواح من الهوائية والنارية ولأجل لطافة الأجزاء البخارية وضعها في وسط الأعضاء المذكورة، والقلب هو الموجود بهذه الصفات وذلك ظاهر؛ ولذلك قال
2
أهل صناعة التشريح: «إن القلب أول الأعضاء وجودا وآخرها عدما.» ونعم ما قالوه، فإذن هو العضو الرئيسي.
إن البدن يوجد ويتولد من الحرارة وهي تقوى بالأوفر [20] إذا اجتمعت في مكان واحد، ومن المعلوم أن اجتماعها في القلب، فإذن هو العضو الرئيسي.
إن النفس الحيوانية حساسة متحركة بالاختيار، ولكن هذه النفس ترتبط بالروح الذي في القلب؛ لأنها حساسة متحركة بالإرادة، فقد اتضح أن القلب معدن الإدراك والقوة المتحركة وليس الدماغ، كما زعم جالينوس.
إن الحس والحركة يوجدان
3
بالحرارة ويبطلان بالبرودة، والقلب حار والدماغ بارد، فإذن القلب معدن الحس والحركة وليس الدماغ.
إن الإنسان يشير إلى ذاته بقوله: أنا، وتلك الإشارة إلى قلبه
4
فعلم أن الإنسان الحقيقي هو الساكن في القلب.
إن القلب وضعه في وسط البدن بحيث تتأدى القوى إلى سائر أقطار البدن كالملك الجالس في وسط بلاده كي يمنحها الفوائد بالسوية، فإذن القلب [21] هو العضو الرئيسي وليس الدماغ.
إن اللفظة البارزة تدل على أنها مقلدة من النفس الناطقة، واللفظة هي من الصوت، والصوت يوجد بواسطة النفس ومخرج النفس يكمل بالقلب لأن القلب يجدد الراحة من الحرارة بإبدال النفس ولذلك يدفع حارا ويجذب باردا، ولما كمل الصوت بالقلب واللفظة بالصوت وكانت النفس الناطقة يظهر وجودها بالوافر
5
من اللفظة البارزة علم أن آلة النفس الناطقة هي القلب دون الدماغ.
شواهد الكتب المقدسة على هذه القضية: «وغلظ الرب قلب فرعون.»
6
وقال داود: «لماذا أغضب الخاطئ الله تعالى ونطق قلبه أنه لا ينتقم.»
7
وقال: «الرجل مع قريبه بقلبين منقلبين.»
8 [22] و«يقول الأثيم في قلبه أن ليس إله.»
9
و «ينطق الحق في قلبه.»
10
و«أوامر الرب تبهج القلب.»
11
و«إنك منحته مراد قلبه.»
12
و«يحيى قلبه إلى الأبد.»
13
و«رجع قلبي وتركتني قوتي.»
14
و«قلبي هذيذي
15
ينطق العلم.»
16
وقال الإنجيل الطاهر: «يا ثقيلي
17
القلوب.»
18
و«طوبى للنقية قلوبهم.»
19
وقال بولس: «أظلم
20
قلبهم.»
21
و«لأجل قساوة قلبكم
22
الذي لم يتب.»
23
وقال غريغوريوس: «إن الإنسان الخفي هو في القلب.» وقال أوغريس: «العقل في القلب والتمييز في الدماغ.»
الفصل الثالث عشر
في بيان مراتب النفس وفي إدراك العلوم والمعارف غير التي قيلت
آنفا
وهي أربع: الأولى تسمى العقل الهيولي كنفس الأطفال الخالية [23] من جميع العلوم والمعارف ولكنها مستعدة لقبولها بالقوة والإمكان.
الثانية: العقل بالملكة، أعني الطبيعي دون الاكتسابي من الغير، وهو يوجد
1
في جميع الناس مثل أن الكل أعظم من جزئه وأمثال ذلك، وبواسطة هذا العقل تحصل جميع العلوم والمعارف، والناس مختلفون
2
في هذا العقل: فمنهم من يحصل معارف
3
كثيرة وآخرون قليلة، ومنهم من يتسنى
4
لهم معرفة العلوم بواسطة هذا العقل، وآخرون يعسر عليهم ذلك، فإن بعض الناس إذا فكر أن القابل الفساد يجب أن يكون هيولانيا وفكر مع ذلك أن النفس ليست هيولانية عرف سريعا أن النفس لا
5
تموت، وآخر ليست معرفته بهذه السرعة بل بعد حين، ولكن هذه المعرفة تنتهي في حد النقصان إلى من لا إدراك له البتة، وتنتهي أيضا في طرف الزيادة إلى من يعرف ويدرك كل شيء بلا ضد يضاده ولا مانع يرده
6
وذلك مثل الأنبياء والفلاسفة الأولين. [24] الرتبة الثالثة هي التي تدعى عقلا بالفعل وهو الذي يدعى عند حصول جميع المعلومات التصديقية لكنها لا تكون حاضرة في ذهنه دائما بل متى شاء إحضارها أحضرها بلا كد.
الرتبة الرابعة هي المدعوة العقل المستفاد وهو عند كون جميع المعلومات بأسرها
7
حاضرة في ذهنه لا تغيب عنه البتة، وإذا بلغت النفس هذه الدرجة فقد بلغت الغاية القصوى وهي أرفع مراتب الإنسان.
وأنزل مراتب العقل هو الفاعل بتصيير
8
الحس الخارج لا يدرك المحسوس إلا مع المادة المكشفة له مثل العين والأذن وغيرهما. أما الحس الباطن فيقدر على إدراك المحسوس بعد غيبته ولكن مع المادة المكشفة له، وذلك مثل الحس المشترك والخيال وغيرهما. وأما العقل فإنه يدرك الأمور عارية عن الهيولى ويجعل الهيولانية غير هيولانية بتجريدها عن مشخصاتها، مثل سقراط وأفلاطون اللذين يجردهما ويدركهما في صورة الإنسانية [25] مجردة عن المادة، وإذا كان فعله في ذوات المواد هذا الفعل فكم بالحري المجردات بالذات إذا لم تعم الأمور الهيولانية بصيرته! يعني أنه يدرك النفوس والعقول المجردة، حتى البارئ تعالى لأنه تعالى يتراءى لأولي
9
العقول الصافية. وهذه المعلومات المذكورة إما أن تدرك بالرياضة والجهاد وتطهير الخواطر وتنقية الأذهان مثل الأنبياء والحواريين والوحداء
10
الكاملين والزهاد والمتعبدين، أو بتركيب المقدمات والقياسات والبراهين، وإلى هذه أشار أوغريس حيث قال: «إن نظر العقول كما ينبغي إما من العقل الطاهر أو من علم الحكماء المحققين.»
الفصل الرابع عشر
في بيان خواص النفس الإنسانية
فأول ذلك التعجب، وهو أن يبصر الإنسان شيئا أو يفكر [26] في فن لا يعرف سببه فيحصل في نفسه أمر خاص يدعى التعجب، وإذا عظم ذلك الأمر جدا فيدعى دهشة وحيرة.
وأما الضحك فسببه أن الإنسان إذا أحس بشيء لذيذ فيحصل له حال ما خاصة في نفسه حتى تتراخى وتنحل مسام البدن والكبد ويندفع منها
1
بخار إلى الوجه ثم ينبسط حتى ينفتح الفم ويحصل الضحك.
أما سبب البكاء فهو أن الإنسان إذا أحس بضرورة فتنطبق الحرارة الغزيرة إلى داخل ويضغط
2
دم القلب والدماغ وتندفع الرطوبة التي في مرتع الدماغ في الجفون إلى العين وعند انطباق الأجفان تجري الرطوبة المذكورة.
والخجل إذا فكر الإنسان أن صاحبه قد أحس بقبيحة فعلها أو كلمة غير لائقة قالها أدركه الخجل بديهيا، وبعد ذلك يشجع نفسه كأنه لم يفعل ذنبا عظيما ولذلك تعود تنبسط الحرارة إلى خارج ويحمر [27] وجهه بسبب تخلخل لحمه من ذلك الدم الذي يتبع الحرارة بالانجذاب والاندفاع بالحركة.
أما في الخوف فيعظم الخجل حتى يحصل اليأس من التشجع
3
ولذلك تعود الحرارة إلى داخل ويعود معها الدم ويكمد
4
لون الذين تنالهم هذه الحالة.
والحياء سببه أن الإنسان إذا عقد على أمر يبغي فعله وذلك الأمر منكر عند الناس فيقصر عن فعله وإن كان لا سبيل لهم إلى تبكيته
5
فيتركه حياء منهم.
الفصل الخامس عشر
في إقامة البرهان على الحاجة إلى الألفاظ المستعملة بين
الناس
فنقول: لما لم يكن الإنسان بحيث يستقيم أمر حياته في الدنيا إلا بصحبة آخر من نوعه، لأن الإنسان الواحد عاجز عن القيام بجميع أموره التي يضطر إليها من المآكل والمشارب والملابس التي تعمل بالصنائع المختلفة، وجب
1
اجتماع الناس [28] إلى القرى والمدن بحيث تحصل المساعدة المذكورة لينتظم قوام وجودهم في الدنيا، وذلك لا يتم إلا بالخطاب والجواب فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاد الألفاظ التي تجري بين الناس في المعاملات والمحاكمات والمخاطبات فركبوا الألفاظ البارزة بالجذب والدفع من قصبة الرئة والحنجرة وتشكيل اللسان والأسنان
2
والشفاه بصور مختلفة قبالة ما تقع الحاجة إليه.
القول في الأمور الرمزية: إن الإنسان له من الاستطاعة والقدرة أن يركب لكل شيء في الوجود شكلا خاصا
3
دون شكل غيره ويشير إليه بشكله إما بعينه وإما بشفتيه أو بإصبعه بل بكل
4
أعضائه المتحركة بإرادته، وذلك عندما يحصل الاتفاق بينه وبين غيره على هذه الاصطلاحات المذكورة مثلما لكل عدد من الأعداد علامة [29] في الأصابع دون علامة غيره، والإنسان الأخرس قد يوجد
5
عنده كثير من هذه الإشارات المذكورة والأمارات المشهورة. ولقد كان يمكن أن يسلك الناس هذا المسلك لكن الألفاظ المذكورة أجلى وأسهل وأقرب إلى المعرفة وألحق بنوع البشر.
6
القول في الكتابة، نقول: مثلما أن لكل معنى في الوجود لفظة تختص به كذلك يمكن أن يجعل لكل معنى
7
صورة خاصة. ولما كانت المعاني غير متناهية وصورها غير متناهية وكان الإنسان عاجزا عن ضبط جميع الصور المذكورة في ذهنه وذاكرته، تحيل
8
الناس على تحصيل هذه الحروف البسيطة وتسنى لهم تركيب الأسماء والمعاني المتغيرة المتناهية نعمة من الله تعالى على خلقه ولطفا بضعف قدرتهم تبارك اسمه العلي العظيم.
في الصنائع: حد الصناعة أنها ملكة في أمر عملي فكري [30] بواسطتها يخرج الإنسان أصناف المركبات من القوة إلى الفعل؛ ولهذا الأمر مبدآن: أحدهما الفاعل، والثاني الآلة. أما الفاعل فالقوة المفكرة المتصرفة فيما ينبغي أن يفعل، وأما الآلة فالأعضاء البدنية؛ ولذلك لو لم يتقدم الفكر ويصور أولا صورة المصنوع في ذهنه لما قدر على إتقانه كما ينبغي، وبهذه الحالة تتفاضل الصنائع على أمثالها، وإن كانت رياضة الأعضاء تساعد على ذلك الأمر، لكن الفكر أعظم وأقدر.
في الحسن والقبح
9
والنفيس والخسيس: ومن الحيوان ما لا
10
يفعل المكروه والأذى كالأسد الذي لا يؤذي مربيه، ولكن هذا ليس له بالطبع والكيان بل بالقهر. أما الإنسان فليس كذلك بل يعلم النفائس والخسائس بذاته، وهذا إذا لم تدخل النفس الإنسانية تحت حكم القوى الحيوانية.
الفصل السادس عشر
في البراهين التي نطقت بها الحكماء في إضافة النفس الناطقة إلى
البدن وأجزائه، وهي خمسة1 أشباه
[31] الشبه الأول؛ قالوا:
إن مثل النفس مثل
2
الملك، والجسد ولاية مملكته؛ ولهذا
3
الملك كتاب وأجناد وحكام وهم الحواس الظاهرة والباطنة، ومثلما ينجو الملك ويتنعم بواسطة المذكورين، كذلك النفس تستفيد بواسطة الحواس معرفة الحق لتهتدي به إلى معرفة الخير؛ فإن الحواس إذا أدركت المحسوس بادر العقل إلى الفصل
4
والتمييز، وعند ذلك تصير الجزئيات أمورا
5
كلية عارية عن المواد راسخة في ذات النفس مكتسبة لها، ومثلما أن الملك إذا أحسن سياسة الرعية لئلا يدركها الفاقة والضعف فتعجز عن أداء حقوقه والإقامة بواجبه، كذلك النفس مع سياسة بدنها تحصل بواسطته على [32] اقتناء الحكمتين، أعني النظرية والعملية، وإلى هذه الحال أشار بقوله السعيد بولس إلى تلميذه حتى يحسن
6
سياسة جسده.
7
ومثلما أن الملك لا يمكن الولاة والحكام من الغنى والخيل والسلاح لئلا يعصوا أمره ويحاولوا إهلاكه، كذلك يجب على النفس أن لا تمكن القوى البدنية من الإفراط بحيث لا تقهرها، بل الواجب عليها الاعتناء والاهتمام لتستعلي على الجوارح البدنية.
الشبه الثاني؛ قالوا:
النفس كالملك والعقل وزيره الذي يحاول فوائده، والقوة الشهوانية معد طعامه والغضبية خازن داره ، فقد يقع
8
أن طباخه يعد من الأطعمة ما هو شهي الأكل ويضع فيه
9
سما قاتلا، وكذلك الخازن أحيانا ما ينهر الأصحاب والأحباب من مواجهة مولاه ويقدم الأعداء والمبغضين والمبكتين الذين يتطرق [33] إلى الملك بمداولتهم غاية الضرر والهلاك، وقد يتفق أن يتساوى
10
الوزير والطباخ على إتعاب الملك، والخازن لا يوافقهما؛ ولذلك يجب على الملك أعني النفس أن تستيقظ لسياسة ذاتها وتفحص عن
11
أحوال جوارح بدنها وتمنعها عن إتمام
12
أفعالها البدنية.
الشبه الثالث؛ قالوا:
النفس ملك والبدن بلدته والحواس جنوده والأعضاء رعيته والقوة الشهوانية والغضبية أعداؤه المشاجرون له على أخذ ملكه منه، فإن استيقظ فقاتلهم وقهرهم وأضعفهم سلم ملكه عليه وتمكن من حكمه فيه، وإن لم يفعل ذلك صاروا عليه متواطئين ولبلاده آخذين ولرعاياه محرقين
13
وله قاتلين.
الشبه الرابع؛ قالوا:
تشبه النفس فارسا برز إلى الصيد والشهوة جواده والغضب كلبه، فإن كان ماهرا في صناعة الصيد وجواده مرتاضا وكلبه معلما
14
تسنى له الاصطياد [34] وفق المراد، وإن كان الأمر بالعكس مما ذكرناه، أعني الفارس عادم الصناعة
15
والفرس بعيدا من الرياضة والطاعة والكلب غير معلم ولا قناعة عنده،
16
خاب مطلبه ومسعاه.
الشبه الخامس؛ قالوا:
إن نظر العقل يشبه نظر الحس بفنون أربعة: الفن الأول: كما أن العين تعجز عن إدراك المحسوس الزائد الإشراق مثل الشمس، كذلك العقل بالنسبة إلى العظائم كالبارئ تعالى. الفن الثاني: مثلما أن العين تعجز عن إدراك الملامس، هكذا العقل يعجز عن إدراك القريب إليه كالعقول والنفوس. الفن الثالث: مثلما أن العين إذا لم تحرك حدقتها حركة عنيفة إلى نحو المحسوس وتجمع ذاتها لن تستطيع إدراك ما
17
بعد عنها، كذلك العقل إن لم يزعج حركته ويجمع ذاته من التبدد
18
من الحواس لم يتمكن من الإدراك. [35] الفن الرابع: مثلما أن العين لا تستطيع الإبصار إلا
19
بواسطة ضوء الهواء، كذلك العقل لا يقدر على الإدراك إلا بإشراق الروحانيين عليه، ومثلما أن الشمس هي النير الأعظم ثم القمر دونه ومنه يقبل النور ثم بعده
20
النور، كذلك البارئ تعالى نور الأنوار كلها، ومنه تقبل العقول المجردة أنوارها، ومنه يشرق النور إلى نفوس البشر المنسلخة من أجسادها.
الفصل السابع عشر
في بيان خلقة النفس وأنها حادثة موجودة
بوجود الجسد وليست أزلية ولا قبل البدن
البرهان الأول:
نقول: لو كانت أزلية وقبل البدن فإما أن تكون واحدة أو كثيرة. والأول باطل لأنها إما أن تحل في أبدان كثيرة وهي واحدة وذلك محال لأنه يلزم أن يكون ما عمله الشخص الواحد عمله الجميع وهو باطل، وإما أن تنقسم النفس إلى أشخاص البشر [36] وذلك محال لأن النفس ليست بجسم وكل ما هو غير جسم فتقسيمه محال. والثاني أيضا محال لأن الاختلاف مزمع أن
1
يكون بالفصول أو بالأعراض، والأول محال لأننا بينا أن النفوس واحدة بالطباع،
2
والثاني أيضا محال لأن الأعراض لا تلحق إلا الأجسام والنفوس غير أجسام. فإذن النفوس غير قديمة ولا يتصور لها الوجود قبل الأبدان.
3
البرهان الثاني:
إن كانت النفس قديمة فلا تخلو من أنها إما كانت
4
قد حلت في أبدان أخر غير هذه الأبدان أو لم تكن قد حلت في شيء، والأول محال على ما سيظهر بعد في أن التناسخ محال،
5
والثاني أيضا محال لأنه إما أن تكون عالمة أو لا تكون،
6
فإن كانت عالمة استحال حلولها في هذه الأبدان الحيوانية وكان حلولها فيها محالا
7
بعد علمها، وإن كانت قديمة غير عالمة فهو محال؛ لأنها تكون خالية من جميع المعارف فيكون وجودها باطلا ولا باطل
8
في الوجود. [37] فأما شواهد الكتب الإلهية على حدوث الأنفس،
9
فمن ذلك ما قيل: «صور الله آدم ونفخ في وجهه نسمة الحياة.»
10
وقول أيوب: «أخذت طينا من الأرض وصنعت حيوانا ناطقا ووضعته على الأرض.»
11
وقول زكريا: «خلق الله نفس الإنسان في ذاته.»
12
وقول الإنجيل الطاهر: «الأب إلى الآن يخلق وأنا أيضا أخلق»،
13
وهذا دليل على وجود النفوس الحادثة بحدوث أبدانها. قال غريغوريوس: «أنا خائف من فكر يدخل إلى أحد بأن النفس عاشت في مكان آخر وبعد ذلك أتت إلى البدن الذي ارتبطت به.» وقال ساويرس: «ليس للنفس الناطقة تقدم على البدن ولا للبدن تقدم عليها.» وكذلك أيضا يعقوب الرهاوي.
تنبيه:
اعلم أن علماء البيعة اتفقوا على أن النفوس حادثة غير قديمة، لكنهم اختلفوا في وقت خلقتها، فإن مار أفرام [38] ومار يعقوب وفيلكسينوس المنبجي وثاودريطا، زعموا أن البدن يتصور أولا وبعد ذلك تخلق النفس فيه، وحملوها أيضا على ما قيل في التوراة: «إن التي تلد ابنا تجلس على الدم أربعين يوما ووالدة الأنثى ثمانين يوما.»
14
لأنها حاملة ميتا في تلك الأيام عاريا عن النفس الناطقة. وأوريجانيس زعم أن النفوس قبل الأبدان لكن زعم أنها مخلوقة ليس مثلما زعم الوثنيون أنها غير
15
مخلوقة. أما اليونانيون من أهل البيعة فإنهم رفضوا هذين الرأيين، أعني قدم النفوس وتأخرها عن الأبدان،
16
وقالوا بل جميعها وجدت معا، وهذا الرأي أصح الآراء بأسرها وله نشرح
17
بزيادة الحجج والبراهين.
الفصل الثامن عشر
في بيان آراء أهل التناسخ
قال قوم: إن النفوس وجدت قديمة قبل الأبدان وعندما [39] حصل لها الشوق إلى صحبة الهيولى اتحدت بها مثل الآلة وكملت شهواتها، وحينما يقع
1
لها الضجر من ملامسة الأبدان تنتقل
2
إلى محلها الأول.
وقال آخرون: إن النفس إذا اتحدت ببدن ومزاج ذلك البدن مائل إلى عمل الفضائل وليس له شوق إلى الأمور الجسدانية، تشتاق إلى ما هو أفضل من تلك، فإذا انحل هذا البدن تروم الانتقال إلى بدن أعظم فضائل
3
من الأول، وهكذا تتدرج من بدن إلى غيره حتى تكمل ذاتها وجميع صفاتها، وعند ذلك تنتقل إلى عالم العقول المجردة. وإن كان البدن الذي اتحدت به كثير الشهوات البدنية فتغرم هي أيضا بشهواته، فإذا خرب هذا البدن تنتقل إلى ما يكون أعظم شوقا إلى الخسائس، وكذلك إلى آخر أعظم منه حتى تتحد بأبدان الحيوان وتنتقل منها إلى النبات ومنه
4
إلى الجماد، مثلما حكى القديس غريغوريوس النيصي حيث بكت
5
هذا الرأي القبيح قائلا: «إن بعض الرجال لبس بدن امرأة وبعده طائر وبعده نبات ثم اتخذ أخيرا بدن الماء.» [40] وقال آخرون: مثلما أن النفس الفاضلة إذا انتقلت من بدن إلى بدن تترقى ويحصل لها الالتذاذ مع العقول المجردة، كذلك النفس الخسيسة التدبير تنحط من رتبة إلى رتبة في خسة التدبير حتى تبلغ المقام المستمر مع الأبالسة والشياطين، فثم يكون الخلود إلى أبد الآبدين.
وقال آخرون: إن النفس الرديئة إذا انتقلت من بدن إلى آخر أخس منه، ومنه إلى أخس منه فتنتهي آخر الأمر إلى العدم المحض.
وقال آخرون: قد يمكن انتقال النفوس من أبدان الناس إلى الحيوانات وبالعكس، لكن إلى النبات والمعادن والجماد فذلك غير ممكن.
وقال آخرون: إن النفس إذا اتحدت ببدن إنسي فإن اقتنت به الفضائل اشتهت التلذذ في بدن آخر أعظم من الأول، وذلك من البارئ تعالى، وإن عكست الأمر استحقت أخس من الأول، أعني مثل بدن سارق
6
قد قطعت يده ويستحق القتل بخسة أفعاله وأن يجلد وتقطع آلته، أو بدن حمار أو جمل يزهق بالحمل.
7
الفصل التاسع عشر
في إبطال آراء أهل1 التناسخ بأسرها
[41] نقول: قد بينا بالبراهين القاطعة أن وجود النفوس بوجود أبدانها،
2
فإذا وجد بدن إنسي استحق نفسا تفيض عليه، فلو حلت فيه نفس أخرى متناسخة لوجد في البدن الواحد نفسان، وذلك محال لأنه لا يشعر أحدنا بأكثر من نفسه، فإذن التناسخ محال.
وأنا
3
أقول: لو أمكن النقل على النفوس فإما أن يمكن مكث النفس بغير بدن تنتقل إليه أو لا يمكن، والأول باطل
4
لأنها تبطل عن أفعالها زمنا ما ولا معطل في الطبيعة، والثاني أيضا باطل لأنه يلزم توافق ما يفنى لما يوجد من الأبدان، وذلك ظاهر البطلان في قضية الطوفان.
5
إننا نقول: لو كانت أنفسنا في أبدان قبل هذه الأبدان للزمنا أن نذكر أفعالنا الأولى؛ وذلك لأن النفس ذاكرة بالطبع لا سيما [42] شيئا تعاهدته كثيرا، ونحن لا نرى لنا شيئا مما يدل على بعض هذه الأقوال، فظهر أنها بأسرها باطلة.
وأما شواهد الكتب المقدسة التي تدل على التصديق
6
بقولنا وبطلان التناسخ فهي قول داود: «نفسي طامحة إليك يا إلهي الحي متى آتي وأنظر وجهك.»
7
وقول سليمان: «يعود الجسد إلى الأرض والنفس ترقى عند
8
الرب الذي أوجدها.»
9
والإنجيل الطاهر يقول عند وفاة لعازر: «نقلته الملائكة إلى إبراهيم.»
10
وقال إسطفانوس: «يا ربنا يسوع اقبل نفسي .»
11
وقال بولس: «أنا مشتاق إلى الانتقال لأكون مع المسيح.»
12
الفصل العشرون
في أن نفوس الحيوان غير ناطقة
لو كانت ناطقة للزم
1
تساويها لنفوس الناطقين في الطبع [43] وليس ذلك فيها.
2
لو كانت ناطقة لظهر عنها أمارات الناطقين، وليس، فليس.
لو كانت ناطقة لدخلت تحت السنة والشريعة، وليس، فليس.
أما شواهد الكتب المقدسة على هذه القضية فهي قول داود: «لا تكونوا كالفرس والبغل غير ذوي حكمة.»
3
وقوله أيضا: «إن الإنسان الذي لا يميز مجده يشبه الحيوان في أحواله.»
4
الفصل الحادي والعشرون
في أن النفس لا تموت بموت البدن
ولنقدم على هذا البحث مقدمة تليق بذكره فنقول: اعلم أن تحقق هذا المكان أحرى بنا من باقي الأبحاث؛ لأنه يسدد أقوال الأنبياء والعلماء والأولياء والأبرار وأرباب الرياضات والرباطات والخلوات والأصوام والصلوات المتواترات، وبالأوفر
1
تجسد مولانا الرب يسوع المسيح؛ لأن الزاهدين في هذه الحياة الدنية قليلون والراغبين فيها.
كثيرون والعالمين قليلون والجاهلين كثيرون، [44] ولو لم يكن هناك مقام آخر عزيز غير ما نحن الآن عليه لما
2
اشتاقت النفوس الفاضلة إليه؛ ولهذا يجب علينا الإمعان في إقامة البرهان على هذا البيان:
إن صدق
3
عليها الفساد فإما أن يكون ذلك لوجود المفسد أو لعدم علتها، والأول باطل لأن المفسد لو كان موجودا مع وجود النفس لأبادها من حين وجودها، وإن لم يكن موجودا ثم وجد فلا يخلو أن يكون هذا إما جسما أو عرضا،
4
وكيف يمكن أن يفسد الجسم المهين أو العرض الذي ليس له استقلال بذاته؟ وإن كان المفسد ليس بجسم فيجب أن يكون مساويا في الطباع للنفس؛ ولذلك لا يمكنه إفسادها.
5
والثاني محال لأن علتها الفاعلة لها هي البارئ تعالى، وهو أزلي أبدي لا يتصور
6
عليه الاستحالة والغيار.
نقول: قد بينا أن النفس ليست جسما ولا عرضا،
7
وكل ما كان بهذه الصفات لا يكون قريبا إلى الأجسام ولا بعيدا عنها ولا داخلها ولا خارجها، [45] وتحقق أيضا أن البدن آلة النفس وليس يجب من فساد الآلة فساد صانعها، فعلم من ذلك أن النفس لا يتطرق إلى جوهرها الفساد بفساد آلتها.
إن النفس حي ناطق عالم قادر على سياسة البدن، ولو كان لهذا هذه الصفات لكان سبب الحياة لها، وذلك باطل محال.
لو كانت النفس تموت بموت البدن لوجب أن تضعف بضعفه، وليس، فليس. وذلك معلوم من أوجه أربعة: الأول أن الرياضة تضعف البدن
8
وتقوي النفس. الثاني البعد عن المآكل والمشارب والتنعم يظلم
9
البدن وينير النفس. الثالث أن حواس البدن تتعطل في النوم وتبطل أفعالها، والنفس
10
تستيقظ وتدرك الأمور الغامضة في المنام والرؤيا والكشف وغيرها. الرابع: بعد الأربعين يأخذ البدن في طرف النقصان والنفس في طرف الزيادة. وإذا كانت النفس تقوى [46] بضعف البدن على ما هو ظاهر البيان فيلزم بقاؤها
11
بعد موته.
إن الموت ليس هو فساد أجزاء البدن لأنها باقية فيه بعد موته، لكن الموت هو انطفاء الحرارة الغريزية وهي عرض يحصل للبدن عند اعتدال المزاج الحاصل له، ومن المعلوم أن العرض أضعف من الجسم الذي به قوامه، ومن المعلوم أن الجسم أضعف من النفس. وبرهانه بأدلة أربعة: الدليل الأول أن البدن يفتقر في وجوده إلى محل
12
يحل فيه والنفس ليست كذلك. الدليل الثاني أن البدن مركب فيفتقر إلى أجزائه والنفس ليست بهذه الصفة. الدليل الثالث انفعال البدن من النفس أكثر من العكس. الدليل الرابع أن البدن بعد الموت توجد فيه فنونه الجسمانية والعرضية ولا تقدر على حفظه بغير فساد والنفس
13
وحدها قادرة على ذلك. ولما كان العرض أضعف من الجسم والجسم أضعف من النفس والموت يحصل ببطلان العرض [47] دون الجسم الذي هو أضعف من النفس، فكيف يتصور العقل
14
أن النفس تموت بموت البدن؟ فهذا لا يقوله عاقل، فهي إذن باقية بعد موت البدن وهو المطلوب.
إن النفس لا تمرض
15
بمرض البدن، وكذلك لا تموت بموته، فأما أنها لا تمرض بمرضه فذلك
16
معلوم من البحران الذي يوجد بين الطبيعة والمرض على ما هو مقرر في صناعة الطب. وهذه الطبيعة إما أن تكون مزاج البدن أو النفس الناطقة، والأول محال لأن المريض الضعيف الواهي القوة كيف يقدر على قتال المرض؟ فإذن صدق القول بأن النفس هي
17
التي تقاتل المرض وليست بمريضة، ومن المعلوم أنها لو كانت مريضة لما استطاعت القتال. وإذا كانت النفس هي المقاتلة لشدة المرض فلا يصدق عليها المرض؛ ولذلك امتنع في حقها الموت.
إننا نقول: لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن لوجب أن يكون الإنسان أحقر في لذته وحياته من باقي الحيوانات؛ لأنه قد انفصل عنها بالعقل فقط. وهذا العقل إما أن تكون أفكاره فيما مضى، أو [48] فيما هو حاضر، أو فيما يستقبل، وما قد مضى إن كان شرا امتلأ ندما
18
وإن كان خيرا اكتأب على عدمه، وكذلك الأمر في الحاضر إن كان شرا اكتأب من معاناته
19
وإن كان خيرا أدركه الوجع من فراقه لأنه يرجو ما هو أعظم مما هو فيه، وكذلك يتداركه الفكر فيما يستقبل خوفا من مصادفة ضد ما يروم الوصول إليه. ولما عدمت باقي الحيوانات هذا العقل المذكور تجردت من دواعيه التي ذكرت في حق الإنسان، وبهذه الدلائل نعلم أنه لو لم يكن للإنسان سياسة أخرى غير هذه مختصة بنفسه بعد موت البدن لوجب أن يكون أخس وأحقر من باقي الحيوانات الصامتة وذلك محال. ولما كان أعظم منها وأكرم لزم بقاء نفسه بعد موت بدنه.
إنا نقول: وجود الإنسان بعد عدمه إما أن يكون لفائدة تعود عليه، أو لضرر يتطرق إليه، أو لسلب الطرفين، والقسم [49] الثاني محال لأن البارئ تعالى عام الفيض والإنعام، فكيف يتصور أنه يخلق صورا ليعتريها الضرر بقصده الأول؟ وهذا لا يقوله عاقل، والقسم الثالث محال لأنه تعالى لا يوجد شيئا
20
إلا لفائدة ولا يخلق أمرا باطلا، فإذن صدق القسم الأول. ولما لم يكن للإنسان في هذا العالم سعادة حقيقية دائمة غير مشوبة بالكدورات تعين
21
الحق وهو الخلود في العالم الروحاني والدوام الغير الفاني.
22
إن جميع عقول البشر تشهد أنه بقدر ما يتمكن الإنسان من اقتناء الفضائل ورفض الرذائل تكمل نفسه وتستعلي، ومتى كان الأمر بالعكس تنحط إلى أسفل السافلين، وهم يستخسون القسم الثاني، ويعظمون القسم الأول ويحاولون المساعدة والإعانة بأدعيته ويرومون التعبد له والدخول تحت طاعته والعمل بمرضاته وإرادته. ولو لم يكن للإنسان مقام آخر غير
23
هذا الواقع تحت الحس في ذلك العالم العلوي النوري بعد فراقه هذا الجسد
24
المحسوس، لما شهدت له [50] كافة عقول البشر بهذه الرتبة العليا والمنزلة المدنو منها زلفا للغاية القصوى في الملأ الأعلى. وهذه القضية متفق على تصديقها وتحقيقها سائر عقول الناطقين، الجاهلين والعالمين. فإذن النفس لا تموت بموت البدن وهو المطلوب.
وأما شواهد الكتب المقدسة على تحقيق ما قلناه فقوله تعالى لموسى: «أنا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب.»
25
ومن المعلوم أن أبدان المذكورين لم تكن موجودة في ذلك الوقت المذكورة فيه هذه الألفاظ، ولو كانت الأنفس معدومة في ذلك الوقت لما أشار سبحانه إلى العدم؛ لأن المعدوم لا ينسب إلى الموجود الكلي الوجود. وقول الإنجيل المقدس: «لا تخافوا من قاتلي الجسد فإنهم ليسوا للنفس من القاتلين.»
26
فلو كانت النفس مائتة لصدق عليها القتل. وقول مولانا للص: «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.»
27
ومن المعلوم أن ذلك الشخص قد كانت نفسه مقاربة أن تخرج من بدنه، فكيف يتصور كونه في الفردوس مع عدم بدنه لولا أن الإشارة قد كانت من مولانا إلى نفسه فقط؟ وقول بولس: [51] «نحن عارفون أن هذا المسكن الأرضي ينحل ويزول لكن لنا مسكنا من البارئ تعالى لم تصنعه الأيدي.»
28
الفصل الثاني والعشرون
في بيان أن النفس عالمة بعد فراق البدن، وفيه أوجه
أربعة
الأول:
قد تقرر فيما تقدم أن النفس جوهر غير جسماني سائس البدن،
1
ثم لا تخلو إما أن تدرك البدن بواسطة البدن أو بغير واسطة، والأول باطل لأن البدن لو أمكنه
2
إدراك نقائصه لما افتقر إلى النفس وتدبيرها، فتعين القسم الثاني وهو أنها لا تدرك الأمور بواسطة البدن، وإذا كانت بهذه الصفة وهي مرتبطة بالبدن فبالحري أن تستمر على هذه الحال بعد فراقه.
الوجه الثاني:
أنها تدرك أفاعيل الحواس بإبصار العين وسماع الأذن وغير ذلك، فلو عرفت إدراك العين بواسطة العين لوجب أن تدرك [52] هذه العين المذكورة بواسطة عين أخرى، وكذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال، فتعين الحق وهو أنها لا
3
تدرك شيئا بواسطة البدن، وكذلك إذا عدم البدن تدرك ما يليق إدراكه.
الوجه الثالث:
أننا إذا قلنا: زيد إنسان عندما نشاهد جسده، فأما كلية الإنسان فليست بجسد زيد ولكن نشاهدها
4
بالعقل، وإذا أدرك العقل الأمر الكلي وعرفه فإنه يعلم بالضرورة الجزئي الذي تحته، ولو شاهد ذلك الجزئي بواسطة البدن لوجب أن يشاهده بواسطة بدن آخر، وكذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال، فإذن ليس إدراك النفس بواسطة
5
البدن.
الوجه الرابع:
إن النفس تعلم ذاتها وبدنها وآلاتها، فإما أن يكون ذلك بواسطة آلة جسمانية أو لا يكون، والأول محال لأنها لو أدركت آلتها بواسطة آلة أخرى للزم
6
افتقارها إلى آلة تدرك [53] بها الآلة الأولى، وتتسلسل إلى غير النهاية وهو محال، فإذن تدرك النفس آلتها بغير آلة تفتقر إليها وهي في البدن، وكذلك تدرك
7
المعاني الكلية والمعارف الجزئية بعد فراقها للبدن.
شواهد الكتب المقدسة على صحة هذه القضية قول الإنجيل الطاهر: «فرفع عينيه وشاهد إبراهيم من البعد ولعارز لدنه ورفع صوته قائلا.»
8
فنقول: لو لم تكن المعرفة محفوظة في النفس لما صدق ذلك في حق من قد تعطلت أعضاء بدنه. وقول بطرس: «مات مولانا بالبدن وعاش بالنفس وأنذر النفوس الموجودة
9
في قعر الهاوية.»
10
فلو لم يكن لتلك النفوس معرفة قاطعة لما قدرت على قبول إنذار مولانا إياها. وقال أدى السليح: «لن تتعطل فكرة النفس لأنها صورة الحق تعالى.» وقال غريغوريوس: «كل نفس صالحة محبة لله تعالى مع انفصالها من البدن الذي كانت مرتبطة به تنجو من العالم، [54] وثم يحصل لها الإحساس والنظر العقلي الثابت؛ لأن الذي كان يصدها عن إدراكها التام قد رفع.»
الفصل الثالث والعشرون
في بيان محل الأنفس بعد فراق أبدانها
اعلم أن لفظة أين
1
لا تقال إلا بسكنى الجسم مكانه الساكن فيه، فإذن لا يجوز السؤال من أهل العلوم أين هي النفس بل العلة تشير إلى رتبتها، فنقول: إن جميع أهل البيعة اتفقوا على أن النفس متى حصل لها الانتقال عن البدن يقصدها الملائكة والأبالسة ولأية جهة استحقت دفعوها
2
إليها إلى حين القيامة الكلية، فتعود إلى البدن الذي انفصلت عنه إما للعذاب الدائم أو للنعيم المقيم، فالنفوس التي اقتنت الفضائل بالجهاد في هذا العالم تتوجه إلى الفردوس [55] الذي طرد منه آدم، تتبختر مع العقول المجردة، وأما النفوس التي بالعكس مما ذكرناه ففي
3
قعر الهاوية المظلمة. وهذه القضية ليست من العقليات المبرهنة، بل من المشهورات المسلمة عند الأئمة
4
الأخيار والآباء الأبرار، فمن ذلك ما قاله ديونسيوس: «إن هذه النفوس الفاضلات هي وليات
5
الملائكة ههنا وهناك، ترث معهم الأماكن العالية في ذلك العالم الذي لا يتطرق إليه الزوال والاضمحلال، وتقطن مع البارئ تعالى إلى أبد الآبدين، وأما التي
6
بالعكس من المذكورة
7
فههنا تؤاخي الأبالسة والشياطين، وهناك تهبط إلى أسفل السافلين.» وقال غريغوريوس: «إنه بواسطة النفس صوبت الطريق للص نحو الفردوس.» وحكى الأب أنطونيوس أنه حين اختطف عقله شاهد نفسه طائرا
8
في الفضاء والملائكة محيطة به وهو صاعد إلى
9
البارئ تعالى، ولما قطع مسافة من طريقه شاهد صورا قبيحة المنظر [56] كثيرة الإزعاج هائلة وقفت تجاهه وعاقته عن مرامه
10
وثلبته وبكتته. وقال أوغريس: «إن النفس التي تشرفت بنعمة الله تعالى وانفصلت عن البدن تسكن في أماكن العالم إلى محل ليس فيه ألم مكروه.»
الفصل الرابع والعشرون
في بيان أن اللذات الروحية التي تحصل للنفس بعد الانحلال
أعظم من اللذات الجسمانية والشهوات البدنية
نقول: كثير من الناس الجهال وبعض المتشبهين بأهل العلم زعموا أن اللذة الكلية هي البدنية، وأن لا نعيم سوى الهيولاني، ولذلك لا يطلبون
1
من البارئ تعالى إلا أنه لا يعدمهم شيئا من هذه اللذات، أعني المآكل والمشارب وما يشاكل ذلك في هذا العالم وفي الآتي. وهذا الظن بعيد عن الحق جدا، وهو ضرب من الجنون المحض، والأدلة العقلية على امتناع ذلك كثيرة: [57] الدليل الأول:
لو كانت اللذة الحقيقية هذه لكان القرد أعظم لذة من الإنسان؛ لأجل كثرة أكله، والذئب القرم لسرعة بطشه والباشق
2
لكثرة وقاعه. ولما كانت هذه وأمثالها ظاهرة الزيف والمحال استحال إليها الانتحال
3
فعلم أن اللذة الحقيقية ليست
4
القبائح المذكورة، فإذن هي روحانية.
الدليل الثاني:
لو كانت هذه شرطا في كمال الإنسان لوجب أنه كلما أمعن في زيادتها زادت في كماله، وليس، فليس؛ لأن العقل يشهد أن الممعن في هذه مائل إلى التشبه بالحيوان أعظم منه بالإنسان، وكثيرا ما قد سقط عن الفكرة العقلية التي هي طراز الجبلة البشرية.
الدليل الثالث:
لو كانت هذه اللذات هي الحقيقية لوجب أن يكون الإنسان أخس قدرا من الحيوان؛ لأن الإنسان عقله يمنعه [58] دائما ويزجره عن
5
المطامع في هذه، إما لحياء يلحقه أو لمخافة من قصاص يحل به، أما الحيوان فهو عار عن جميع هذه التكاليف في أحواله وليس له مانع يضاده أو قامع يرده؛ ولذلك وجب أن يتفضل الحيوان على الإنسان. ولما كان الإنسان أعظم وأشرف من الحيوان لزم أن تكون لذته أعظم وأقوم
6
من اللذات الحيوانية.
الدليل الرابع:
أن هذه اللذات البدنية ليست لذات بالحقيقة بل أسباب لميل الشهوة البدنية فقط، ودليل ذلك أنه كلما اشتد ألم السغب
7
اشتدت لذة الأكل، وكذلك الحال في ألم البرد مع اشتداد لذة الكسوة، وكذلك إذا اشتد شوق الجماع من قبل زيادة المادة وحدة المزاج فيعظم قدر اللذة. ولما كانت هذه الفنون وأشباهها ليست لذات حقيقية ولا توجب [59] الالتذاذ الذي يزيل
8
الكآبة والأحزان فكيف تدعى لذات على التحقيق؟ فإذن لذة الإنسان أمر آخر غير هذه المذكورة الحقيرة ولا ما يشاكلها ويماثلها؛ لأن هذه بدنية بهيمية وتلك عقلية روحانية ولا تحصل بالآلة الجسدانية لأنها العلم العاقل
9
لعظمة المعقول وجلاله، وشتان بين لذة الجمال والذئاب وبين التنعم في مجاورة رب الأرباب.
الدليل الخامس:
أن العقل يشهد بأن ابتهاج الملائكة بالأمور المعقولة أعظم من البهائم بالمآكل الخسيسة المرذولة. ومن البين أن ليس للملائكة التذاذ بالحواس، ولو كان كذلك لوجب أن تكون لذة الحيوانات الصامتة أعظم وأقوم مما للملائكة وذلك محال. ولما كان الإنسان متوسطا بين الملاك والحيوان وجب أن تكون لذته غير منوطة بأحد القسمين المذكورين، بل تكون دون الأول في الجلال والكمال وأعظم من الثاني في سائر الأحوال والخلال. [60] الدليل السادس:
لو لم يكن هناك لذات أخر غير هذه البدنية لما حصل لأصحاب النرد والشطرنج الصبر والكظم على السغب والعطش وغيرهما
10
بالنسبة إلى اللذة الحاصلة من هذه الأمور، فإذا كانت لذة اللعب تشغل عن لذة الأكل وغيره وفيها لذة يسيرة عقلية،
11
فكم بالحري اللذة الحاصلة بالجواهر المجردة والأنوار الخارقة بمعرفة جلالها وجلال بارئها أو سر الثالوث المقدس والنعم الفائضة على الاستمرار والدوام؟! فإذن لا نسبة بين اللذات البدنية والعقلية إلا كنسبة الظلمة إلى النور أو العدم إلى الوجود.
الدليل السابع:
لو لم يكن هناك لذة عقلية لما كانت كلاب الصيد تحفظ ما
12
تصيده وتؤديه إلى أصحابها سليما من الجرح والأذى مع وجود مضض الجوع لها، كذلك قد نرى أطيار الحمام تملأ حواصلها من الحبوب وتلقيها لدى أفراخها، وكثيرا من الحيوانات تسلم أنفسها إلى الهلاك فدى [61] أولادها، وأيضا الشجاع يلقي نفسه في المعركة مع علمه بهلاك جسده ابتغاء للشكر والمديح الحاصلين له بعد موته. فهذه وأمثالها تفعلها الحيوانات وغيرها رغبة في اللذة الزائلة، فكم بالحري اللذة الدائمة العقلية التي وصفها بولس الرسول بقوله: «لا تراها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على فكر إنسان، تلك التي أعدت لأولي الفضائل الصالحين.»
13
الفصل الخامس والعشرون
في بيان الوحي والانكشاف الذي يحصل للنفوس البشرية والرؤيا
والأحلام وغيرها
نقول: قد علمتم
1
أن القوة المتخيلة التي مسكنها وسط الدماغ، شأنها التركيب والتفصيل والتحليل، وعند النوم يقوى فعل هذه القوة مع سكون القوة الباطنة ببطلان الحواس الظاهرة، وهذه التراكيب المذكورة قد تكون حقا وقد تكون كذبا. [62] فللكاذبة أسباب أربعة: الأول: الصور التي شاهدناها في اليقظة تبقى أشباحا
2
في لوح الخيال وعند النوم تلوح في الحس المشترك. السبب الثاني: أن القوة المفكرة إذا أمعنت في شيء من الأشياء أو أمر من الأمور جهارا
3
فتنتقش صورة هذا الأمر في المصورة، فإذا عرض سكون الحواس الظاهرة وقت غفلة النوم انطبع شبح ما كان في المصورة في القوة القريبة إلى الحواس وهي الحس المشترك. السبب الثالث: إذا هلكت القوة المتخيلة بسبب عرض للوح الحامل لها فانزعجت أفاعيله، فإن غلبت عليه الحرارة شاهد
4
النيران والكيران والأتاتين المشعولة، وإن غلبت البرودة شاهد الأنهار والثلوج والجليد، وإن كان عنده الامتلاء أحس بانصباب الأثقال عليه. السبب الرابع: فعل الأبالسة في أكثر الأحوال أن يجعلوا الناس يتخيلون
5
في الأحلام ويحتالوا على أن يطغوهم بأسباب تصبو عقولهم إليها.
أما الأحلام الصادقة فنقول: إن جميع ما كان ويكون وهو كائن، هو معلوم عند [63] البارئ تعالى علما لا يشوبه الغيار والقسمة، وهذه الأمور المذكورة معلومة عند أهل العقول المجردة، وضرب من ذلك معلوم
6
عند النفوس التي فارقت أبدانها، وضرب منه عند النفوس التي لم تفارق ولكن فيها قبول الفيض والإنعام من البارئ تعالى ومن العقول المجردة أيضا ومن النفوس التي هي من نوعها. فسبب الامتناع من هذا القبول الدائم العلاقة البدنية، فإذا حصل السكون والهدوء عند النوم وعدم الانقياد للأمور البدنية فلا بد أن يحصل الاتصال بالجواهر الروحانية المناسبة لها وتتصور بصورها وترتسم في ذاتها المعلومات الخفية عنها المختصة بها وببدنها، وبهذه المعلومات المذكورة يجب عليها التذكار في حال اليقظة دون غيرها مثلما قيل ليوسف: «قم بالطفل وأمه وانطلق بهما إلى مصر.»
7
ولما كان طباع القوة المتخيلة شأنه أن يشبه
8
المعاني بالأسماء، فأي شبه كان كاملا فهو غير مفتقر إلى تأويل لأنه قد أوجد [64] الأمر على التحقيق، فإن كان غير كامل ببعض فنونه كالذي يبصر الشيء بصورة ضده بسبب الجنسية التي بينهما أو يرى
9
اللازم ملزوما، والأول مثل البكاء المعبر عنه بالفرح والثاني مثل الثيران السمان الدالة على سنين القحط، وهذا الضرب يفتقر إلى التأويل وهو معرفة نسبة المعاني إلى الصور التي شوهدت
10
بالخيال الماثل له في الحس المشترك.
الفصل السادس والعشرون
في بيان المكاشفات والأوحية
فنقول: منها ما هي كاذبة ، وأسبابها هي الأربعة التي ذكرت في الأحلام الكاذبة: فالأول: إذا كان الإنسان كثير الإمعان في المآكل والمشارب والملابس والمشمومات والمحسوسات الكثيرة بالحواس الظاهرة كان مغرما بها، فإذا زالت المحسوسات بقيت صورها في الخيال [65] تلوح في الحس المشترك فنراها ظاهرة كأنها موجودة بالفعل، وقد عرض هذا الحال للذين ينعمون
1
النظر في القمر كثيرا فيشاهدون أقمارا كثيرة، وكذلك أولو
2
الإدمان في الملاهي والألحان المطربة قد يسمعون أصواتا لذيذة. والسبب الثاني: قد حصل ذلك للساكنين في الأماكن الوعرة الدعرة
3
فيعرض لأفكارهم التجسم بالحس المشترك. والسبب الثالث: أولو الأمراض المعروفة بالماليخولية والسرسام والبرسام فإنهم يشاهدون صورا لا وجود لها البتة. والسبب الرابع: عرض
4
هذه الأمور المذكورة قد يتوافر
5
لأرباب الوحدة والانفراد، خصوصا لضعف المزاج.
وأما المكاشفة الصادقة وأشباهها فنقول: إن النفس الناطقة إذا كانت بحيث لا يمكن الأمور العالمية صدها عن نظر الأمور الروحانية يسهل عليها الالتفات
6
عن المحسوسات والخروج عن العالم [66] ببدنها أيضا، فيحصل ههنا في اليقظة لأرباب الأنفس القوية أن تنال علم الغيب من فيض العقول المجردة كما ذكرناه آنفا،
7
وإذا ارتسمت هذه المعاني في لوح الحس المشترك أدركت متجسمة، وإذا كان الأمر المناسب بين الصور والمعاني كاملا فلا يفتقر البتة إلى التأويل مثل ما جرى لموسى من المناسبة بين المعاني والأسامي إذ قيل له: «اذهب إلى فرعون.»
8
فهذا قيل له بمناسبة الحرف للمعنى اذهب وقل كيت وكيت، ولم يكن فيه خيال وأمثال. وكما جاء أنه قيل لفيلبوس: «قم امض إلى الجنوب في الطريق الفلاني.»
9
وأشياء كثيرة مثل هذه، فإن لم يكن ذلك كاملا افتقر بالضرورة للتأويل مثل ما شاهد حزقيال ودانيال وغيرهما.
أما المكاشفة في النفوس الكاملة كالأنبياء والحواريين والأولياء المؤيدين فهي على مقاصد ثلاثة: المقصد الأول في كيفية حاجة الناس إلى هؤلاء المذكورين، فنقول: كمال الإنسان أن
10
يعلم الحق لأنه حق
11 [67] لذاته، ويعلم الخير لأجل العمل به. والفن الأول يكمل بالقوة النظرية، أعني أنه يقدر على قبول صور الوجود بأسرها بل الموجود
12
بالوجه الذي هو عليه لا أزيد
13
ولا أنقص ، ويرد الموجود موجودا والمعدوم معدوما. وأما الفن الثاني أعني القوة العملية فتكلف الإنسان الابتعاد عن هذا العالم وشهواته الزائلة الفانية، وأن يعيش عيشا روحانيا بقدر طاقته ويصرف همته إلى اللذات العقلية الثابتة الأبدية التي لا تحول ولا تزول. ولما كان الإنسان عاجزا عن إتمام
14
هذه الأمور المذكورة بذاته، أحضر إلى هاد يهديه، وهذا المذكور لا بد أن يكون إنسانا مثله من نوعه ليستطيع قبول أوامره وأقواله؛ فيجب أن يكون إما نبيا أو حواريا أو عارفا أو معلما ماهرا قدسيا أبويا. المقصد الثاني أن من الناس من هو ناقص في القوة النظرية والعملية ومنهم من هو كامل في القوتين ومنهم متوسطون،
15
والناقص والمتوسط يفتقران إلى الهادين المذكورين، ولا يمكن أن يخلو العالم من [68] أحد هؤلاء؛ لأننا نرى العالم سابحا في بحر الخلاف والغيار في علمه وعمله حتى يلقى بعضهم حدا يجانس البهائم في غلبة الشهوة وقلة العلم وعدم المعرفة، فهو بالاسم إنسان وبالرسم شيطان وآخرون متوسطون وآخرون فاضلون وآخرون راجحون، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى شخص مؤيد فاضل بالعلم والعمل معصوم من الخطأ والزلل، هو أحد المذكورين المندوبين إلى الهداية وبشعاع نوره يستضيء البشر وبوجوده فيهم تكمل علومهم وأعمالهم. المقصد الثالث أننا نعلم أن الجسم جنس تحته أنواع ثلاثة؛ الحيوان والنبات والمعدن، ونعلم أن أفضل هذه الثلاثة هو الحيوان، وأفضل من الحيوان
16
نوع الإنسان، وكذلك تحت نوع الإنسان أصناف وألوان مثل الزنجي والهندي والرومي وغيره. وأهل الإقليم الرابع أشد فضيلة من باقي الأقاليم، وأهل هذا الإقليم لا بد أن يتميزوا بالفضائل بعضهم عن بعض، والذين هم بهذه الصفة فلا [69] بد أن يوجد فيهم شخص أعظم فضيلة من الكل وبواسطته يكملون، وهو الهادي الحقيقي وإليه الإشارة في التأديب وبه يحصل الأرب للأريب.
فإن قيل: بماذا تحصل الفوائد من هؤلاء الأئمة المذكورين؟ قلنا: يحصل بأمرين
17
لأن طغيان الأنفس الإنسانية على ضربين: أحدهما البعد من الله تعالى ومن الفضائل الإلهية، والأمر الثاني في الميل للدواعي الطبيعية البدنية. وهؤلاء المتقدم ذكرهم بمنزلة الأطباء الماهرين لأنفس الطاغين، وهذا الأمر ممكن في حق المذكورين، أعني أنهم قادرون
18
على إحالة نفوس البشر من بحر التيه والطغيان إلى ساحل الهدى والإيمان، وذلك بقوى نفوسهم القدسية وتكرير المواعظ الإلهية، وإذا كان هذا الأمر فيهم ومألوفهم فلا حاجة بهم إلى معرفة العلوم الرياضية والطبيعية والطبية والفلسفية؛ فإن معجزهم الظاهر أغناهم عن جميع ما عداهم سوى مولاهم.
فأما خواص هذه الأنفس القدسية فأربع:
19
الأولى [70] أنها إذا استنارت بالبوارق الإلهية والأنوار السماوية
20
قويت وتمكنت مما تختار فعله في عالم الكون والفساد من الخوارق والباهرات
21
وأطاعتها الأطيار والسباع والطباع، وتلك المعجزات تعطى منحة من الله تعالى. الخاصة الثانية أن تكون هذه الأنفس متميزة عن باقي الأنفس بالقوة النظرية والعملية، أما الأول فبعظم إدراكها من الأمور الإلهية ما يزيد عن حد غيرها، وأما الثاني فهو صدق ما تنطق به من المعلومات التي يعجز الغير عن أمثالها. الخاصة الثالثة الأنوار الساطعة على أنفس هؤلاء القوم يمكن انعكاسها من أنفسهم إلى أنفس الطائعين لهم والمستفيدين من تعاليمهم، وذلك أن
22
الشمس إذا أشرقت على جرم صقيل مثل المرآة المصقولة المجلوة والبلور الشفاف فإن ذلك [71] الشعاع يشرق بانعكاسه عن جرم يقابل ذلك الجرم الأول، كذلك البارئ تعالى أو ملاك من العقول المجردة إذا أشرق بأنواره على أنفس قديسيه استنارت وأنارت. الخاصة الرابعة أن الرتبة التي
23
يمكن حصولها لهؤلاء المذكورين من لدن البارئ تعالى يمكن أن تحصل بواسطتهم لمن حذا حذوهم ودخل تحت حوطتهم.
الفصل السابع والعشرون
في بيان اختلاف الناس في هذه المعجزة المذكورة بواسطة القوم
المذكورين
وهؤلاء فريقان: أحدهما المتمسك بالشرائع الإلهية والسنن الدينية اعتقد أن هذه الخوارق تمنح من البارئ تعالى
1
لمن استحق [72] منحتها، ويتفق على هذا الاعتقاد الأمم الثلاث،
2
أعني اليهود والنصارى والمسلمين. وأما أولو الاعتقاد الثاني فأرباب العلوم الفلسفية، والمعجزات عندهم على أوجه أربعة: الأول: قدرة الكاملين على الامتناع من الطعام مدة غير مألوفة ولا معتادة. الوجه الثاني: الأفعال الخارقة التي لا يستطيع الغير وقرها. الوجه الثالث: الإخبار بالغيب. الوجه الرابع: أن تطيعهم
3
العناصر والحيوانات.
أما تصديق الوجه الأول، فقالوا: إننا قد نرى أنه إذا عرض لبعض الناس الأمراض الحارة فيلبث زمانا طويلا دون غذاء لأن الحرارة الغريزية تكون هناك مشغولة بدفع المرض فلا تحلل من البدن شيئا؛ ولذلك لا يفتقر إلى الغذاء مهما دام مشهودا بالمرض، كذلك الكامل إذا اشتغلت نفسه بذكر المعقولات الإلهية فيجذب معها الحرارة الغريزية ولا يفتقر إلى الغذاء زمانا مديدا. [73] وأما تصديق الوجه الثاني، فزعموا أن الإنسان إذا عرض له الغضب الشديد والاهتياج المفرط فإنه يقدر على ضعف قوته، وعند الخوف والوجع والكآبة تسقط قوته بالكلية، فكذلك العارف الكامل إذا استغرق في بحر الابتهاج بالحق تعالى لا غير حصل له أمر خارق في حركاته أو في بعض حالاته.
تصديق الوجه الثالث، قالوا: قد حصل لنا بالتجارب المستمرة أن الإنسان إذا صفت أفكاره وبعدت عن الخسائس الطبيعية فلا يبعد أن يشاهد في منامه أمورا لا تخالف حال اليقظة، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبعد الأمر من شخص كامل بعيد عن العلائق الدنيوية أن تسلك نفسه في تدبير بدنه حال اليقظة فيحصل له ما حصل لغيره في حال النوم.
وأما بيان الوجه الرابع، فإنهم قالوا: قد نرى أفكارنا تفعل الغيار في أبداننا مرارا عديدة [74] مثل المشي
4
على جذع موضوع في الفضاء يوجب الإزلاق، وتصور المرض كثيرا يوجب المرض، فلا يبعد من أفكار شخص عارف أن يفعل فعلا غريبا في أجسام العناصر والحيوانات ويستخدمها لغرضه كما تفعل أفكارنا في أبداننا. وقالوا أيضا: إن الغرائب تحدث في عالمنا هذا لأسباب ثلاثة: أحدها: أن النفس الناطقة تفعل ذلك بخاصتها، فإن كان ذلك خيرا فهي نفس نبي، وإن كان شرا فنفس ساحر. الثاني: إن كان هذا الأمر بواسطة قوى العناصر مثل جذب المغناطيس للحديد فهو بالخاصة فقط. الثالث: الأمور التي بواسطة الحركات الفلكية مع أجسام عنصرية وهي الغرائب المعروفة بالطلسمات. والحمد لله ولي الدائمات.
تمت هذه المقالة النبيلة التي في خلقة النفس الناطقة وخواصها، رحم الله منصفها آمين.
الأسفار التي استشهد بها صاحب هذا
المختصر
الإنجيل.
أعمال الرسل.
رسالة بطرس الرسول.
رسائل بولس الرسول.
سفر الأحبار.
سفر أيوب.
سفر التكوين .
سفر الجامعة.
سفر الخروج.
سفر المزامير.
نبوءة زكريا.
Halaman tidak diketahui