* ومما حكي من عجائب مصر وكهنتها
قال صاحب التاريخ :
إن كهنة مصر أعظم الكهان علما ، وأجلهم بالكهانة حذقا وفهما ، وكان حكماء اليونان يصفونهم بذلك ، ويشهدون لهم به فيقولون : أخبرنا حكماء مصر بكذا / واستفدنا منهم كذا ، وكان هؤلاء ينحون في كهانتهم بحق الكواكب ، ويزعمون أنها التي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب ، وهي التي علمتهم أسرار الطبائع ودلتهم على العلوم المكنونة ، فعملوا الطلسمات المانعة ، والنوامس الدارعة ، وولدوا الولادات الناطقة ، والصور المتحركة ، وشيدوا العالي من البنيان ، وزبروا علومهم في الصلب من الصوان وانفردوا بعمل البواني ، ومنعوا بها الأعداء عن بلدهم.
وعجائبهم ظاهرة ، وحكمهم واضحة ، وكانت مصر خمسا وثمانين كورة منها سفل الأرض خمسا وأربعون ، وفي الصعيد أربعون ، وكان في كل كورة رئيس من الكهنة ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصة فرعون ، لما أشار على أصحابه بجمعهم ( وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ) [الأعراف : 111 112] ، وكان منهم الذين يتعبدون للكواكب السبعة المدبرة لكل كوكب سبع سنين ، فإذا بلغ هذه المرتبة سمي فاطرا ، ويصير جليسا للملك ، فيصدر عن رأيه ، ويقوم لقيامه ويدخل كل يوم على الملك ، ويجلس إلى جانبه ، ثم تدخل الكهنة ، وأرباب الصنائع فيقفوا بإزاء الفاطر ، وكل واحد من الكهنة منفرد بكوكب لا يتعداه ، ويسمى عبد كوكب ، كما كانت العرب تسمى بعبد شمس ، ثم إن الفاطر يسأل كل كاهن منهم أين صاحبك اليوم يعني كوكبه الذي انطبع به فيقول : في البرج الفلاني في الدرجة الفلانية ، في دقيقة كذا ، حتى إذا علم مستقر الكواكب.
قال : ينبغي للملك أن يعمل في هذا اليوم كذا ، ويصنع بنيان كذا ، ويوجه الجيش إلى ناحية كذا ، ويأكل كذا ، ويجامع في وقت كذا ، والكاتب يكتب ما يقول له الفاطر.
ثم يسأل أرباب الصنائع ، فيقول : انقش أنت صورة كذا على حجر كذا ، واغرس أنت كذا ، واصنع أنت كذا إلى آخرهم. فيعرف كلا منهم مرتبته ويصدروا عن رأيه ، فيأتون دار الحكمة ويفعلون ما قاله / وكذلك الملك لا يخرج عن رأيه ، ويؤرخ ذلك اليوم في الديوان ويودع في خزانة الملك ، وعلى هذا كانت تجري أمورهم. وكان الملك إذا عراه أمر يجمعهم خارج منف فيصطف لهم الناس شارع المدينة فيدخل الفاطر ، والكهان ركبانا يقدم بعضهم بعضا ، ويضرب الطبل قدامهم ، فيدخل كل واحد منهم أعجوبته ، فمنهم من يعلو وجهه نور كنور الشمس ، فلا يستطاع النظر إليه ، ومنهم من
Halaman 60