وانتعشت حياة أمرسن كلها هناك، فزرع حديقة واشتغل بها مستهينا بالوقت الذي كان ينبغي له أن ينفقه في مكتبه. وزرع حديقة للفاكهة أفرط في اعتزازه بها. وأخيرا اشترى قطعة أخرى من الأرض واشتغل بمزرعة صغيرة استأجر فيها العمال. وأغرم بغابات والدن فاشترى بها رقعة من الأرض لمجرد المتعة. وقد أقام ثورو منسكه المشهور في غابات أمرسن. وكانت كنكورد كذلك قريبة من بوسطن التي كانت تسيطر على الحياة العقلية في أمريكا في تلك الأيام. وكانت عربة الانتقال تقف بجوار بيت أمرسن وتبلغ بوسطن في خلال ساعتين أو ثلاث. وبعد ذلك بقليل قرب خط فتشبرج الحديدي بوسطن من كنكورد؛ فكانت كنكورد من جميع نواحيها مجتمعا مثاليا لرجل في مثل مزاج أمرسن. أحبها في شبابه عندما زار الدكتور ربلي في بيته القديم، ولبث على حبه لها، وبمرور الزمن أحبته كنكورد باعتباره شيخ المدينة الوقور.
وفي أول إقامته في بيته الخاص مع زوجته الشابة اعتلى المنابر هنا وهناك وألقى الخطب بين الحين والحين. بيد أنه كان لفترة ما يتدبر كتابا فلسفيا شعريا عن تأثير الطبيعة الأساسي في حياة البشر، وأسماه في بساطة «الطبيعة»، وأتمه ونشره في عام 1836م. نشر منه خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف. ومع أن كارليل قد هلل لهذا الكتاب فإنه لم يقابل بحماسة ولم يعد طبعه حتى عام 1847م.
غير أن أمرسن كان قد بدأ عمله الذي شغل به حياته. وكان خطابه عن «العالم الأمريكي» أمام جمعية هارفارد في بيتاكبا في عام 1837م حدثا مثيرا في تاريخ الثقافة الأمريكية، وقد وصفه أولفر وندل هولمز بأنه «إعلان استقلالنا العقلي». وأثار هذا الخطاب الشباب خاصة، وأقبل الناس بحماسة على شراء النسخ المطبوعة منه بأعداد وافرة بمجرد ظهوره في المكتبات. وفي العام التالي ألقى أمرسن خطابا على الطلبة المتخرجين في مدرسة اللاهوت، وعارض فيه القيمة الحقيقية لتاريخ المسيحية الأولى، وقدح في الأسلوب الرسمي المتكلف للخطب المنبرية. وقابل رجال الدين هذا النقد للكهنوت والتفكير الديني بالاستنكار والسخط، ووصموه بالضلال، ووسموا أمرسن بالكفران، ولم يلق بعد ذلك ترحيبا فوق المنابر أو على منصات المحاضرات التي كانت من قبل تكرم وفادته. ومع أنه لم يشترك في الجدل الذي ثار حوله عدة أشهر، إلا أنه ظن لفترة ما أنه ربما اضطر إلى البحث عن طريقة جديدة للعيش لكي يعول نفسه وأسرته.
بيد أنه سرعان ما اكتشف أن الناس يستمعون بالترحاب يوم الأربعاء إلى الأمور التي تبدو لهم كفرا يوم الأحد؛ فقضى بقية حياته يحاضر بنوع خاص في موضوعات روحية وفلسفية في جميع أرجاء البلاد. وكان في فصل الصيف من كل عام يجمع شتات أفكاره في صيغة خطب. وعندما كان يستيقظ في الفجر وينسل من غرفة النوم تسأله زوجته: «هل أنت مريض؟» فيجيبها: «كلا، إنما أنا أتصيد فكرة.» وكان في فصل الشتاء من كل عام يقرأ محاضراته حيثما دعي، متنقلا بالعربات ومركبات الجليد، والزوارق والبواخر والقطارات، مخترقا نيو إنجلند وولايات الأطلنطي والغرب الأوسط، ويقيم في الفنادق البدائية بجميع أنواعها، ويعبر المسيسبي فوق الجليد، ويستمتع أشد الاستمتاع بتقدم الحياة في البلاد. ومع أنه كان رجلا ذا جسم نحيل وكتفين محدودبين، إلا أنه كان خطيبا شعبيا مصقعا، يجذب إليه الناس بشخصيته الرفيقة، وبصوته ذي الرنين الذي يذهل الأسماع، فاعترف له الجميع بأنه أستاذ في فن الخطابة.
وكانت حياة المحاضرة شاقة؛ إذ إن أمرسن كان رجلا فقيرا من رجال الأعمال، يخطب عادة بأي أجر يقدم إليه، فلم يكسب قط مالا كثيرا، إلا أنه كان ذا مزاج متفائل بطبعه، يعتقد بسهولة في أوجه الخير من كل شيء، وقد أدخل السرور على نفسه طوال حياته إيمانه العميق؛ إذ إن واجب العالم في اعتقاده هو: «أن يدخل البهجة في النفوس، وأن يسمو بالناس، ويرشدهم، ويبين لهم الرشد من الغي.» وفي غضون أسفاره في عرض البلاد «مفرغا ما بجعبته من حكمة شعبية» - على حد تعبيره عن محاضراته - كان يحس أنه يغني حياة الناس ويقوم بالعمل الذي يلائم نبوغه. وكان يلقي محاضراته كتجربة على أوساط مختلفة من المستمعين، ثم يعيد كتابتها كمقالات وينشرها في صورة كتاب. وتكاد كتاباته كلها - ما خلا الشعر - أن تكون حديثا في مبدأ الأمر ملقى من فوق منصة الخطابة.
ولم يفقه كل الناس ما كان يتحدث عنه، أو يوافقه عليه. ويبدو أن الشباب كان أسلس له قيادا من الشيوخ. وقد قال أحد وكلاء النيابة في بوسطن إن محاضرات أمرسن «لا معنى لها البتة لدي، ولكن ابنتي، وعمر إحداهما خمس عشرة سنة والأخرى سبع عشرة سنة، يفقهانها تماما.» وقد سألت مسز هور مرة خادمة كانت تواظب دائما على الاستماع إلى محاضرات أمرسن في كنكورد: «هل تفهمين مستر أمرسن؟» فأجابت الخادمة بقولها: «لا أفهم كلمة واحدة، ولكني أحب أن أذهب وأشاهده واقفا هناك وهو يبدو كأنه يحسب كل فرد إنسانا طيبا مثله.» ويفتخر أحد الفلاحين في بوسطن بأنه استمع إلى كل محاضرات أمرسن في النادي الأدبي «بل وقد فهمها». وقد أدركها بوضوح أحد المواطنين البارزين في كنكورد إلى حد أنه اعترض على ما تضمنته من آراء ثائرة، فاستوقف أمرسن في الطريق ذات يوم وقال له: «لست أعرف غير أشخاص ثلاثة تمقت آراءهم هذه الجماعة، وأولئك هم تيودور باركر ووندل فلبس وأنت يا سيدي، إن جاز لي أن أخلص القول.»
وبعد أكثر من عشر سنوات قضاها أمرسن في البحث المضني والمحاضرة، لبى بسرور بالغ في عام 1847م دعوة لإلقاء بعض محاضراته في إنجلترا، وقضى هناك عاما. وفي أسفاره في بطون إنجلترا أتيحت له فرصة الاتصال الوثيق بكثير من طبقات الشعب الإنجليزي. وباعتباره من رجال أمريكا المشهورين، دعته كثير من البيوت الإنجليزية دعوات خاصة واستقبلته استقبالا حارا. وجدد صداقاته القديمة وبخاصة مع كارليل الذي تغضن قليلا من فعل السنين. وزار أمرسن كذلك فرنسا في خلال فترة من القلاقل السياسية العظيمة. وأهم ما أسفر عنه عام من العمل قضاه أمرسن في الخارج كتاب «الصفات الإنجليزية»، وهو تاريخ وتحليل نفسي في آن واحد للخلق الإنجليزي.
ومع أنه كان رجلا محببا، إلا أنه كان خجولا متواضعا، تنقصه الروح الحية، وكان يحس أن به فتورا لا يمكنه من الاختلاط الاجتماعي. وفي خلال الأيام التي قضاها في التعليم بالمدارس كان اضطرابه أليما، وقد استغل الطلبة هذا الاضطراب للتفكه به. ولم يسيطر على الجماعات بقوة الشخصية، وكانت أقوى أفكاره تطرأ له في خلوته. غير أن الفترة التي عاش فيها كانت فترة اختمار اجتماعي غير عادي؛ فكان المصلحون يجذبون العالم من جذوره، ويصوغون من الأهواء الفردية نظما عامة، تلك كانت فترة الجمعيات الفلسفية، كجمعية بروك فارم وفروت لاندز. وباعتبار أمرسن الفيلسوف الأول لما فوق العقل في عهده، كان يستشيره ويتوسل إليه كل من يبتدع نظاما جديدا، من المتنبئين الصادقين إلى الشواذ وضعاف العقول. كانوا جميعا يقصدون بيته، ويجلسون إلى مائدته، فيستقبلهم ويكرم وفادتهم. غير أن أمرسن لم يكن يستسيغ فكرة الاجتماع، فانتزع نفسه من بينهم في ثبات وحزم، وكانوا يبدون له كأنهم أصحاب آراء متحيزة.
وكان من الناحية السياسية محجما. وقد اعتقد من أول الأمر أن العبيد يجب أن يتحرروا، غير أنه تحاشى ما استطاع الجمعيات الثورية التي كانت تعمل على إلغاء الرق، وحينما استحث لكي يسهم في العمل المباشر قال: «إن روحي حبيسة سجن سحيق، لا يزوره أحد إذا لم أفعل أنا ذلك.» ولكن لما علا الضجيج حول الرقيق بدأ أمرسن يأخذ فيه بنصيب. وحينما صدر قانون العبيد الهاربين، واعتقد أمرسن أن بطله دانيل وبستر قد خان عهد الجمهور، ظهر في المجتمعات العامة في كنكورد وبوسطن ونيويورك وتكلم بحرارة غريبة على رجل في مثل رزانته. وبالرغم من أن غرائزه كلها كانت تعارض في الإسهام في العمل السياسي، وبالرغم من انعدام ثقته في معرفته بالشئون السياسية، فقد ارتبط ارتباطا وثيقا بقضية إلغاء الرق بعد صدور قانون العبيد الهاربين. وذات مرة أبدى لأحد أطفاله ملاحظة، وكان على هذا الطفل أن يكتب موضوعا مدرسيا عن بناء المنزل، فقال له أمرسن: لا ينبغي أن يبنى منزل دون أن يكون فيه مكان لإخفاء عبد هارب. واستضاف جون براون في بيته، وأسهم في قضية الإلغاء بأكثر مما تستطيع مقدرته المالية، وتكلم مدافعا عن جون براون بعد هاربرز فري. وكان في السابعة والخمسين من عمره عندما اشتعلت الحرب الأهلية ولم يأخذ في القتال بنصيب.
وفي عام 1865م دعي أمرسن لإلقاء خطاب في بيتاكبا في هارفارد مرة أخرى. وكانت هارفارد في هذه المرة قد نسيت فضيحة خطبة البكالاريا في عام 1838م. وبعد ذلك بقليل انتخب عضوا في مجلس المراقبين. وفي عامي 1870م و1871م حاضر في الفلسفة في هارفارد، غير أن السن تقدمت به، وبدأت تظهر عليه علامات جهد عمر قضاه في نشاط عقلي متواصل، كما بدأت تخونه الذاكرة؛ فقد كان يقترب من نهاية مستقبل عظيم . وفي يوليو من عام 1872م أتلفت النيران جزءا من بيته، فهرع هو وزوجته للنجاة بحياتهما ولم يتسع لهما الوقت لارتداء ملابسهما، وأجهدا قوتيهما محاولين أن ينقذا بعض ما يملكان. وكانت صدمة هذه الكارثة أشد مما يستطيع أمرسن احتماله؛ فقد كادت أن تودي به، وانتقل مرة أخرى إلى مانس القديمة، حيث قضى طفولته السعيدة، وأعد له مكتب في القرية.
Halaman tidak diketahui