ومع ذلك فإن ما يعوض الكوارث لا يدركه العقل إلا بعد فترات طويلة من الزمان. فإن الحمى، وبتر الأعضاء، وضيعة الأمل الشديدة، وضياع الثروة، وفقدان الصديق، قد تبدو أول الأمر خسارة بغير ثمن ولا يمكن أن ترد. ولكن السنين الثابتة تكشف عن القوة العلاجية العميقة التي تنطوي على جميع الوقائع، فإن موت صديق عزيز، أو زوجة، أو أخ، أو حبيب، قد لا يبدو لنا إلا حرمانا، ولكي يصبح فيما بعد هديا لنا وحكمة؛ لأنه يسبب لنا عادة انقلابا في طريقة حياتنا، ويختم عصرا من الطفولة أو الشباب كان وشيك الانتهاء، ويهدم عملا ألفناه، أو حياة منزلية، أو أسلوبا خاصا من العيش، ويهيئ ألوفا منها جديدة أقرب ملاءمة لنمو الشخصية. إنه يسمح لنا أو يرغمنا على تكوين معارف جدد، وعلى تقبل مؤثرات جديدة تبرهن السنوات المقبلة على أهميتها القصوى . والرجل أو المرأة كالزهرة المشمسة في البستان، لا تمتد جذورها في أغوار الأرض وإن استمتعت أطرافها بفيض من ضياء الشمس، فإن انهارت من حولها جدران الحديقة وأهملها البستاني أمست كالشجرة السامقة تنمو في الغابة وتمد بظلها وثمرها عددا كبيرا من الناس.
الحب
كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني. (حديث قدسي)
1
كل وعد من وعود الروح يمكن أن يوفى على صور لا تعد. وكل شوق من أشواقها يتطور إلى حاجة جديدة. والطبيعة التي لا يحتويها شيء، المتدفقة، المتطلعة، تودع فعلا في عاطفة الشفقة الأولى حبا شاملا للخير يهمل كل الاعتبارات التفصيلية في ضوئه العام. والمدخل إلى هذا الإحساس السعيد إنما يكون بالعلاقة الخاصة الرقيقة بين فرد وفرد. هذه العلاقة هي سحر الحياة البشرية، وهي - كالفورة أو الحماسة الإلهية - تستولي على المرء في فترة ما، وتؤجج ثورة في عقله وجسمه، وتوحد بينه وبين جنسه، وتربطه بصلاته البيتية والمدنية، وتحمله بعطف جديد إلى الطبيعة، وتعزز قوى الحواس وتفتح الخيال، وتضيف إلى شخصيته صفات البطولة والتقديس، وتؤسس الزواج، وتعطي الجماعة الإنسانية صفة الدوام.
يظهر أن العلاقة الطبيعية بين عاطفة الحب وفورة الشباب تستلزم ألا يهرم المرء حتى يمكنه أن يصور هذه العاطفة بألوان حية يعترف كل فتى وفتاة أنها تعبر تعبيرا صادقا عن تجارب قلوبهم النابضة. إن خيالات الشباب المعذبة تنبذ أدنى شيء يفوح برائحة الفلسفة الناضجة؛ لأنه يصيب ازدهارهم البهيج ببرودة الشيخوخة والحذلقة؛ ولذا فأنا أعلم أني أجلب لنفسي تهمة الجمود والتزمت اللذين لا ضرورة لهما من جانب أولئك الذين يؤلفون برلمان الحب وبلاطه. ولكني أشكو إلى من يكبرونني هؤلاء الرقباء الأشداء؛ لأننا يجب أن نذكر أن هذه العاطفة التي نتحدث عنها لا تهجر الشيوخ وإن بدأت مع الشباب، أو على الأصح إنها لا ترضى لمن يخلص في خدمتها أن يشيخ، وإنما تجعل المسنين الذين يحسون هذه العاطفة كالعذارى الرقيقات، لا يقلون عنهن، وإن اتخذت العاطفة عندهم لونا آخر أشد نبلا؛ لأنها نار تشتعل جذوتها الأولى في ركن ضيق من صدر إنسان ما، وقد شبت فيه من شرارة تطايرت من قلب آخر. وهذه النار تتأجج وتنتشر حتى تدفئ وتضيء عددا كبيرا من الرجال والنساء، أو ذلك القلب العام الذي يشمل الجميع، ولذا فإنها تضيء الدنيا كلها والطبيعة كلها بلهيبها السخي. ومن أجل ذلك لا يهمنا أن نحاول وصف هذه العاطفة في سن العشرين، أو الثلاثين، أو الثمانين. ومن يصورها في العهد الأول يفقد شيئا من صفاتها في عهدها الأخير. ومن يصورها في آخر عهدها يفقد شيئا من صفاتها الأولى. ويكفينا أن نأمل أننا ربما نبلغ - بالصبر وبمعونة آلهة الشعر - سر ذلك القانون الذي يصف حقيقة من الحقائق الفتية دائما والجميلة أبدا، حقيقة مركزية تجذب العين من أية زاوية تشاهد.
وأول شرط هو أنه ينبغي لنا أن نتخلى عن التمسك بالوقائع تمسكا شديدا معطلا، وأن ندرس العاطفة كما ظهرت في الأمل لا كما ظهرت في التاريخ؛ لأن كل امرئ يتصور حياته الخاصة ممسوخة مشوهة على خلاف حياة الناس. كل إنسان يرى تجربته الخاصة لوثة من الخطأ، في حين أن تجربة الآخرين تبدو له جميلة مثالية. ولو عاد المرء إلى تلك الصلات الممتعة التي يتكون منها جمال حياته، والتي أمدته بأخلص المعارف والغذاء، لأسف أشد الأسف. وا أسفاه! لست أدري لماذا يعكر وخز الضمير الشديد - في سن النضوج - صفو ذكريات السرور لعهد الحداثة، ويتغلغل في كل اسم عزيز. كل شيء جميل، إذا نظرت إليه من ناحية العقل أو نظرت إليه كحقيقة من الحقائق. ولكن كل شيء مر إذا نظرت إليه كتجربة. التفصيلات كئيبة، ولكن الخطة العامة نبيلة لائقة المظهر. في الحياة الواقعة - دولة الزمان والمكان الأليمة - تسكن الهموم والآفات والمخاوف. ومع الفكر، والمثل الأعلى، يوجد البشر الخالد، أو زهرة السرور. وحوله تغني جميع آلهة الشعر. ولكن الحزن يلتصق بالأسماء والأشخاص والاهتمامات الجزئية واليوم والأمس.
نستطيع أن ندرك ميل الطبيعة الشديد من المكانة التي يحتلها موضوع هذه العلاقات الشخصية في أحاديث المجتمع. ماذا نريد أن نعرف عن أي شخص له قيمته بقدر ما نريد أن نعرف عن مقدار ما لديه من هذه العاطفة؟ وما هي الكتب التي تروج في المكتبات المتنقلة، ما أشد سرورنا بالروايات العاطفية، حينما تروى فيها القصة بشيء من وميض الحق والطبيعة! وماذا يجذب الالتفات في صلات الحياة، مثل ما يدور بين فردين مما ينم عن المحبة؟ ربما لم نرهما من قبل، وربما لا نراهما مرة أخرى. ولكننا نراهما يتبادلان النظر، أو يظهران عاطفة عميقة، فلا نحس أننا غرباء. إننا نفهمهم ونهتم أشد الاهتمام بتطور قصتهما الخيالية. إن الناس جميعا يعشقون العاشق. والمظاهر الأولى للعطف والشفقة أغلى صور الطبيعة ثمنا. إنها بداية الأدب والرقة عند كل جلف ساذج. إن الفتى القروي الفظ يضايق الفتيات عند باب المدرسة، ولكنه اليوم يهرع إلى المدخل، ويقابل فتاة حسناء ترتب حقيبتها، فيحمل كتبها لكي يعينها، ويبدو له فجأة كأنها ابتعدت عنه نهائيا، وأصبحت له حرما مقدسا. فيجري بفظاظة بين جموع الفتيات، ولكن واحدة منهن فقط تبتعد عنه. وهذان الجاران الصغيران، اللذان كانا متقاربين جدا منذ برهة، قد تعلما أن يحترم كل منهما شخصية الآخر. ومن ذا الذي يستطيع أن يغض الطرف عن أساليب فتيات المدارس التي تسترعي الالتفات، تلك الأساليب التي فيها شيء من المهارة وشيء من السذاجة، والتي يتبعها الفتيات عندما يذهبن إلى محلات البيع في الريف لشراء لفافة من الحرير أو صحيفة من الورق، ويتحدثن نصف ساعة عن لا شيء مع الفتى البائع صاحب الوجه العريض والطبيعة السمحة؟ إنهن في القرية على قدم المساواة الكاملة، التي يتصف بها الحب؛ فترى طبيعة الحب السعيدة عند المرأة تنطلق - دون أي تدلل - في هذا الحديث العذب. قد يكون نصيب الفتيات من الجمال ضئيلا، غير أنهن ينشأن في وضوح وجلاء بينهن وبين الفتى أحب العلاقات وأوثقها صلة بما لديهن من هزل وجد عن «إدجر» و«جوتاس» و«ألميرا» وعمن دعي للحفل، ومن رقص في مدرسة الرقص، وعن موعد افتتاح مدرسة الغناء، وغير ذلك من التفاهات التي يهدر بها الفريقان. ثم تمر الأيام، ويحتاج هذا الفتى إلى زوجة، وإنه ليعرف صادقا من كل قلبه أين يجد الرفيقة الحلوة المخلصة، دون أية مخاطرة، كتلك المخاطرة التي يرثي ملتن تعرض العلماء وعظماء الرجال لها.
قيل لي إن تقديري للعقل في بعض محاضراتي العامة قد جعلني فاترا نحو العلاقات الشخصية بغير مبرر، ولكنني الآن أكاد أرتعد من ذكرى هذه الكلمات التي تستخف بي؛ لأن الأشخاص هم دنيا الحب، وأشد الفلاسفة برودة لا يستطيع أن يتحدث عما تدين به الروح الشابة - التي تجوس خلال الطبيعة - لقوة الحب، دون أن يغرى بنفي كل ما سبق له ذكره مما يحط من قدر الغرائز الاجتماعية؛ لأن الحط من شأن هذه الغرائز خيانة للطبيعة. ومع أن السرور الإلهي الذي يهبط من السماء لا يستولي إلا على قلوب الشباب، ومع أننا قل أن نرى بعد سن الثلاثين جمالا يقهر كل تحليل وكل مقارنة ويقذف بنا بعيدا عن أنفسنا، إلا أن ذكرى هذه الرؤى يدوم أكثر من كل الذكريات الأخرى، وهي كإكليل الزهر على أعتق الجباه. وهنا حقيقة عجيبة؛ فقد يبدو لكثير من الناس - عندما يسترجعون تجاربهم - أن كتاب حياتهم ليست فيه صفحة أجمل من الذكرى العذبة لبعض الصلات التي حاول فيها الحب أن يضفي فيها فتنة على بعض الظروف الطارئة التافهة؛ فتنة تفوق الجاذبية الكبرى لصدق الحب ذاته. وعندما يتطلعون إلى الوراء قد يجدون أن أشياء عديدة لم تكن تسحرهم فيها من الواقع - لهذه الذاكرة المتخبطة - أكثر مما في السحر نفسه الذي كانت تتصف به هذه الأشياء. ولكن مهما تكن خبرتنا بالتفصيلات، فإننا لا يمكن أن ننسى تلك الزيارات التي كانت تؤديها لقلوبنا وأذهاننا تلك القوة التي خلقت كل شيء من جديد، والتي كانت لها مبعث الموسيقى والشعر والفن، والتي جعلت وجه الطبيعة يشرق بالضوء البنفسجي، والتي جعلت للصبح والليل ألوانا من السحر، حينما كانت نغمة مفردة من صوت واحد تستطيع أن تجعل القلب ينبض، وأن نودع سويداء الذاكرة أتفه الحوادث ما دام يرتبط بإنسان معين، حينما كان كله عينا في حضرة فرد معين، وكله ذاكرة في غيبة ذلك الفرد، عندما كان الشباب رقيبا للنوافذ، مهتما بالقفاز والقناع والشريط وعجلات العربة، وعندما لم يكن أي مكان تام العزلة تام السكون بالنسبة إليه؛ لأنه يجد في أفكاره رفاقا أعز وحديثا أعذب مما يستطيع أن يقدمه إليه أي صديق قديم مهما كان من الأخيار الأصفياء؛ لأن صور الشيء المحبب وحركاته وكلماته ليست كغيرها من الصور مكتوبة بالماء، ولكنها كما قال فلوطارخس «مطلية بالنار»، وتصلح للدراسة في منتصف الليل:
إنك عند اختفائك، لا تختفين، فحيثما أنت
Halaman tidak diketahui