والرجل العاقل يطبق هذا الدرس على جميع نواحي الحياة، ويعرف أنه من الحكمة أن يواجه كل طالب، وأن يدفع ثمنا لكل مطلب عادل من وقته ومواهبه وقلبه. ادفع دائما؛ لأنك لا بد أن تدفع الدين كله أولا أو آخرا. والأشخاص والحوادث قد يقفون لفترة ما بينك وبين العدالة، ولكن ذلك لا يكون إلا إلى حين. لا بد أن تدفع دينك أخيرا. ولو كنت عاقلا لخشيت النجاح الذي يحملك من هذا الدين المزيد. المنفعة غاية الطبيعة، ولكن لقاء كل منفعة تتلقاها تجبى منك ضريبة. والعظيم من يهب أكثر المنافع. ومن الوضاعة - بل ذلك هو الشيء الوضيع الوحيد في الكون - أن تتلقى الأفضال ولا تقدم فضلا واحدا. وفي نظام الطبيعة لا نستطيع أن نقدم المنافع لأولئك الذين نتلقاها منهم، أو قلما يكون ذلك. ولكن المنفعة التي نتلقاها لا بد أن تبذل لآخر مرة أخرى، خطا بخط، وعملا بعمل، وسنتا بسنت. واحذر من أن تبقي الفائدة طويلا بين يديك. فسرعان ما تفسد وتولد الديدان. أسرع بدفعها على صورة ما.
وهذه القوانين الصارمة عينها تسيطر على العمل. يقول الحكيم: «أغلى الأعمال ثمنا أرخصها.» وما نشتريه في مكنسة أو حصير أو عربة أو سكين هو ما يفيده منها العقل الحكيم باستخدامها في مصلحة عامة. خير لك أن تدفع في أرضك أجرا لبستاني ماهر، أو أن تشتري عقلا حكيما يستخدم الحكمة في فلاحة البستان، أقصد في ملاحك أن يطبق العقل الحكيم على الملاحة، وفي بيتك تطبيق العقل الحكيم على الطبخ والحياكة والخدمة، وفي وكيلك أن يطبق العقل الحكيم على حساباتك وشئونك. هكذا تضاعف وجودك، أو تنشر نفسك خلال مزرعتك. ويترتب على الطبيعة الثنائية لكل شيء أنه لا يمكن أن يكون هناك خداع في العمل أو في الحياة؛ فالسارق يسرق من نفسه؛ لأن الثمر الحقيقي للعمل هو المعرفة والفضيلة، وليس الثراء والامتياز إلا شارة له. وهذه الشارة - كعملة الورق - يمكن تزييفها أو سرقتها، ولكن ما تمثله، أعني المعرفة والفضيلة، لا يمكن أن يزيفا أو يسرقا. وأغراض العمل هذه لا يمكن تحقيقها إلا بالإجهاد الحقيقي للعقل وبالخضوع للدوافع الخالصة. أما الغشاش والمختلس والمقامر فلا يستطيعون أن يسلبوا المعرفة مادية أو معنوية، تلك المعرفة التي يكسبها العامل بجهده المضني وعنايته الصادقة. قانون الطبيعة هو هذا: افعل الشيء تكن لك القوة، أما الذين لا يفعلون ذلك الشيء فلا تكون لهم قوة.
إن العمل الإنساني بكل صوره، من تشذيب الوتد إلى إنشاء المدينة أو الملحمة، مثل واحد كبير للتعويض الكامل في الكون. إن التوازن المطلق بين الإعطاء والأخذ، والمذهب الذي يقول بأن لكل شيء ثمنه، وإذا لم يدفع هذا الثمن، لا تظفر بهذا الشيء، وإنما تظفر بشيء آخر، وأنه يستحيل أن تحصل على شيء دون ثمنه - هذا المذهب لا يقل سموا في أعمدة دفاتر الحساب الخاصة، عنه في ميزانيات الدول، وفي قوانين الضوء والظلام، وفي كل فعل في الطبيعة وما يقابله. ولست أشك في أن القوانين العليا التي يراها كل إنسان في ثنايا كل عمل يؤديه، وأن القواعد الخلقية الصارمة التي تتلألأ على حد إزميله، والتي يقيسها بمسباره ومسطرته، والتي تبدو واضحة في ختام فاتورة العمل التجاري كما تبدو في تاريخ الدولة؛ لست أشك في أن هذه القوانين ترفع له من شأن صناعته، وتمجد له عمله في خياله، وإن قل ذكر هذا العمل.
إن الائتلاف بين الفضيلة والطبيعة يدعو كل شيء إلى أن يقف من الرذيلة موقفا عدائيا. والقوانين والمواد الجميلة في هذه الدنيا تضطهد الخائن وتضربه بالسياط. إنه يجد أن الأشياء معدة للحق والمنفعة، ولكن ليس في الدنيا الواسعة عرين يختبئ فيه إنسان سافل. إن ارتكبت جريمة وجدت الأرض كأنها مصنوعة من زجاج. إن ارتكبت جريمة بدا لك كأن طبقة من الثلج قد سقطت على الأرض، كتلك التي تفضح في الغابات مسير كل حجل وثعلب وسنجاب وخلد. إنك لا تستطيع أن تسترد الكلمة بعد النطق بها، ولا تستطيع أن تمحو أثر القدم. إن شارة سيئة دائما تنضح بما حدث. إن قوانين الطبيعة ومواردها - من ماء وثلج وريح وجاذبية - تصبح للسارق عقوبات.
والقانون - من ناحية أخرى - قائم بدرجة مساوية من الثبات بالنسبة لكل عمل صحيح، أحب تحب. الحب كله متساو مساواة أعداد الحساب، مثله مثل طرفي معادلة جبرية. والرجل الصالح لديه خير مطلق، خير أشبه بالنار التي ترد كل شيء إلى طبيعته، فلا تستطيع أن تصيبه بأذى، ولكن كما أن الجيوش الملكية التي أرسلت لمحاربة نابليون ألقت أعلامها عند اقترابه وصاروا أصدقاء بعد أن كانوا خصوما، فكذلك الكوارث من كل نوع، كالمرض، والإساءة والفقر، تثبت نفعها:
إن الرياح تهب والمياه تموج
قوة للجريء، ونفوذا وقداسته،
وهي - مع ذلك - في ذاتها لا شيء.
إن الأخيار يصادقهم حتى الضعف والنقصان. وكما أن المرء كلما تفاخر بشيء أصابه منه أذى، فكذلك كل نقص عنده لا بد أن يعود عليه بالنفع في ناحية من النواحي، وقد جاء في حكاية خرافية أن الغزال أعجب بقرنيه وألقى اللوم على قدميه، ولكن عندما أتى الصياد أنقذته قدماه، ثم اشتبك بعدئذ في الغابة فقضى عليه قرناه. كل إنسان في حياته يفيد من نقائصه. وكما أن الإنسان لا يفهم الحقيقة فهما كاملا حتى يناضل في وجهها، فكذلك لا يعرف المرء معرفة كاملة مثالب الناس ومزاياهم حتى يقاسي وطأة هذه المثالب ويشهد انتصار تلك المزايا على نفسه لافتقاره إليها. هل عنده نقص في المزاج يجعله غير ملائم للعيش في المجتمع؟ إن هذا النقص عينه يدفعه إلى أن يسلي نفسه وهو وحيد، ويكتسب عادة الاكتفاء بنفسه. وهكذا تراه كالمحار الجريح يصلح صدفه باللؤلؤ.
إن قوتنا تصدر عن ضعفنا، والسخط الذي يسلح نفسه بالقوى الخفية لا يتيقظ إلا حينما نتعرض للأشواك واللدغات والهجمات العنيفة. إن الرجل العظيم يحب دائما أن يكون صغيرا. وبينما يجلس على حشية المزايا تأخذه سنة من النوم. أما إذا دفع، وعذب، وهزم، فإن الفرصة تتاح له لكي يتعلم شيئا؛ لأن ذكاءه ورجولته يوضعان موضع الاختبار. إنه يكتسب الحقائق، ويعرف جهله، ويشفى من جنون الغرور، كما يكتسب الاعتدال والمهارة الحقة. الرجل الحكيم يلقي بنفسه في جانب مهاجميه؛ لأن اكتشاف موطن الضعف فيه يهمه أكثر مما يهمهم، ولأن الجرح بذلك يندمل ويسقط عنه كالجلد الميت، وإذا ما انتصر الخصوم خرج من المعركة محصنا من كل إيذاء. إن اللوم أكثر أمانا من الثناء. وإنني لأمقت أن يدافع عني أحد في صحيفة. وما دام كل ما يقال يقال ضدي فإني أحس الثقة في النجاح. وبمجرد ما توجه إلي عبارات الثناء المعسولة فإني أحس كأني رجل ملقى بغير حماية أمام خصومي. كل شيء لا نخضع له ينفعنا بوجه عام. وكما أن ساكن جزيرة «ساندوتش» يعتقد أن قوة عدوه الذي يقتله وبسالته تنتقل إليه، فكذلك نحن نكتسب قوة الإغراء الذي نقاومه.
Halaman tidak diketahui