لقد حان الوقت لكي ترتفع التمتمة المكبوتة التي يتمتم بها الرجال المفكرون ضد القحط الذي أصاب كنائسنا، وذلك الأنين الذي يصدر عن القلب؛ لأنه حرم العزاء والأمل والجلال الذي لا يأتي إلا من تثقيف الطبيعة الخلقية، يرتفع فيسمع خلال سنة التراخي، ويعلو على طنين العمل المألوف. هذا العمل العظيم الخالد يقوم به الواعظ لم يؤد بعد. الوعظ تعبير عن الإحساس الخلقي عند تطبيقه على واجبات الحياة. خبروني في كم كنيسة، وعن طريق كم من المبشرين، يدفع الإنسان إلى الإحساس بأنه روح لا يحد، وإلى أن الأرض والسموات تتخلل عقله، وأنه يتشرب دائما روح الله؟ وأين اليوم الذي يرن فيه ذلك الصوت الذي يدفع قلبي بموسيقاه إلى سكنى الفردوس، فيؤكد أن أصله في السماء؟ أين أسمع مثل تلك الكلمات التي كانت في العصور القديمة تجذب المرء فيترك كل شيء ليتبعه، يترك الأب والأم والبيت والأرض والزوج والولد؟ أين أسمع القوانين العظمى للوجود الخلقي التي ينطق بها الناطق فتملأ مسمعي، وأشعر بالتكريم عندما أهب أقصى جهدي وأحر عواطفي؟ إن اختبار الإيمان الصادق يجب - من غير شك - أن يكون في قدرته على سحر الروح والتسلط عليها، كما تتسلط قوانين الطبيعة على نشاط الأيدي، يتسلط علينا هذا الإيمان إلى حد أننا نجد المتعة والشرف في طاعته. يجب أن يختلط الإيمان بضوء الشمس المشرقة والشمس الغاربة، وبالسحاب الزائل، والطير المغني، وأنفاس الزهور، بيد أن يوم الدين (يوم السبت) قد فقد الآن عند القسيس سناء الطبيعة، إنه يوم بغيض يسرنا انقضاؤه. وإنا لنستطيع أن نجعل - بل إنا لجاعلون فعلا - حتى جلوسنا فوق مقاعد الكنيسة خيرا لنا من ذلك بكثير وأقدس وأحلى.
وكلما اغتصب منبر الخطابة رجل رسمي، خدع العابد وانتابته الكآبة. إننا ننكمش عندما تبدأ الصلاة التي لا تسمو بنا وإنما تقضي علينا وتسيء إلينا. وإنا حينئذ لنتوق أن نلتف في أرديتنا ونلتمس - ما استطعنا ذلك - مكانا معتزلا لا نستمع فيه إلى أحد. أصغيت مرة إلى واعظ فأغراني بشدة أن أقول إني لن أقصد الكنيسة مرة أخرى، فالناس كما ظننت يذهبون إلى ما ألفوا الذهاب إليه، وإلا لما قصد المعبد أحد في المساء. إن عاصفة ثلجية تهب حولنا، هذه العاصفة حقيقية، وليس الواعظ إلا خيالا، وإن العين لتحس التباين الأليم عندما تنظر إليه، ثم تنظر من النافذة خلفه إلى تلك الظاهرة الجوية الجميلة، ظاهرة التثليج. لقد قضى حياته عبثا. ليست لديه لفظة واحدة تدل على أنه ضحك أو بكى، تزوج أو أحب، أثني عليه أو خدع أو اغتم. وإذا كان قد عاش وعمل، فإنا لم نكتسب من ذلك حكمة. إنه لم يتعلم سر مهنته الرئيسي، وهو أن يحول الحياة إلى الحقيقة. ولم يبث في مبادئه واقعة واحدة من كل خبرته. هذا الرجل حرث وزرع وتكلم واشترى وباع، وقرأ الكتب، وأكل وشرب، وآلمه رأسه، ونبض قلبه، وابتسم وكابد، ومع ذلك ليس في كل حديثه تلميح أو إشارة إلى أنه عاش أبدا. ولم يرسم خطا واحدا من التاريخ الحقيقي. إنما يعرف الواعظ الحق بهذا: إنه يشرح للناس حياته، الحياة التي اكتوت بنيران الفكر. أما الواعظ السيئ فلا تستطيع أن تقول من موعظته في أي عصر من عصور الدنيا عاش، وهل كان له ابن وولد، وهل كان مالكا لعقار أو معدما، وهل كان يسكن المدينة أو الريف، أو أي واقعة أخرى في تاريخ حياته. وإنه ليبدو عجيبا أن يقصد الناس الكنائس، كأن بيوتهم لا تسلي البتة، فآثروا هذا الضجيج الذي لا ينم عن معنى. ويدل ذلك على أن في الإحساس الخلقي قوة جاذبة ترسل بصيصا ضئيلا من الضياء على الملل والجهل وقد اتخذا اسمه ومكانته. إن المستمع الكريم على ثقة من أن قلبه يمس أحيانا، وعلى ثقة من أن هناك ما يبتغى، وأن هناك الكلمة التي يمكنها أن تحقق الهدف. وعندما يستمع إلى هذه الكلمات الباطلة، يعزي نفسه؛ لأنها تمت بالصلة إلى ذكرياته عن ساعات أحسن منها، ولذا فهي تقعقع ويعلو صوتها دون أن يصدها شيء.
لست أجهل أننا حينما نقدم الموعظة التي ليست لها قيمة لا يكون ذلك دائما عبثا باطلا، فإن لبعض الناس آذانا طيبة تستمد من كل طعام تافه غذاء للفضيلة. وهناك حقيقة شعرية تختفي في الأدعية والمواعظ العادية. وهي وإن كانت تذكر في حماقة يمكن الإصغاء إليها في حكمة؛ لأن كل دعاء منها أو موعظة تعبير مختار انطلق في لحظة من لحظات الورع من روح مكتئبة أو مبتهجة، وقد جعلت براعة الصياغة العبارة شيئا مذكورا. إن الدعوات - بل والعقائد الثابتة - في كنائسنا أشبه شيء بالبرج الفلكي في دندره أو الآثار الفلكية عند الهندوس، تنعزل انعزالا تاما عن أي شيء مما يوجد في حياة الناس وأعمالهم. إنها تشير إلى أعلى نقطة بلغتها المياه في وقت من الأوقات. غير أن هذه الدماثة هي من الطيبين المتدينين حد للشر والأذى. إن الصلاة الدينية عند كثير من الناس تنبعث عنها آراء وعواطف أخرى مخالفة. وليست بنا حاجة إلى لوم المصلي المهمل، بل إنا لنشفق عليه من سرعة ما يلاقي من جزاء على استرخائه، ووا حسرتاه على الرجل التعس الذي يدعى إلى اعتلاء المنصة ولا يعطي خبز الحياة. إن كل ما يقع تهمة له. هل يطلب المعونة للإرساليات الأجنبية والداخلية؟ ما أسرع ما يعلو الخجل خديه عندما يقترح على أبناء دائرته الدينية أن يرسلوا مالا على بعد مائة أو ألف ميل لإمداد طعام يسير كالذي عندهم في بلدهم، وربما كان خيرا له أن يسير المائة أو الألف ميل هربا من هذا الموقف. أم هل يحث الناس على طريقة ربانية للعيش، وهل يستطيع أن يطلب إلى زميل له أن يأتي إلى الاجتماعات الدينية يوم السبت، في حين أنه وهم جميعا يعرفون أن أقصى ما يتوقعونه هناك ضئيل؟ وهل يدعوهم دعوة خاصة للعشاء الرباني؟ إنه لا يجرؤ على ذلك. وإذا كان القلب لا يدفئ هذه الشعائر، فإن صورتها الجوفاء الصارخة تصبح واضحة، فلا يستطيع أن يجابه رجلا ذا فطنة ونشاط ويدعوه بغير وجل. وماذا عساه قائل في الشارع للقروي الجريء الذي يكفر بالله؟ إن القروي الكافر يرى الخوف في وجه القسيس وهيئته ومشيته.
دعني لا أصم إخلاص هذه الدعوى بالتغاضي عن حقوق الرجال الأخيار. إنني أعرف وأقدر نقاء الضمير وصرامته عند عدد كبير من رجال الدين. إن ما تحتفظ به الصلاة العامة من حياة إنما مرده إلى فئة مبعثرة من الرجال الأتقياء، الذين يعظون الناس هنا وهناك في الكنائس، والذين يقبلون أحيانا في رقة بالغة مذاهب الأقدمين، بيد أنهم لم يقبلوا من غيرهم - ولكن من قلوبهم - الدوافع الحقيقية للفضيلة، ولذا فهم لا يزالون يرغموننا على حبهم ورهبتهم لقداسة أشخاصهم. ثم إن الاستثناء لا يلتمس في وعاظ قلائل بارزين بمقدار ما يلتمس في أحسن ساعاتنا جميعا، في آمالنا الصادقة. أجل، في لحظات الإخلاص عند كل إنسان، ولكن مهما يكن الاستثناء، فمن الحق مع ذلك أن التقاليد من مميزات الوعظ في هذا البلد، وهو يصدر عن الذاكرة، ولا يصدر عن الروح، وهو يرمي إلى المألوف، ولا يرمي إلى الضروري والأبدي، وإن المسيحية التاريخية بذلك تحطم قوة الوعظ، بصرفه عن كشف الطبيعة الخلقية عند الإنسان، حيث يكون السمو، وحيث مصادر الدهشة والقوة. وما أقسى ما في ذلك من ظلم لذلك القانون - وهو فرحة الأرض بأسرها - الذي يستطيع وحده أن يجعل الفكر عزيزا غنيا، ذلك القانون الذي تحذو حذو صحته الأكيدة المدارات الفلكية فلا تجيد الاحتذاء. لقد انقلب هذا القانون هزلا وانحطت قيمته، ولم يذكر بخير أو بحمد، بل ولم ينطق أحد بصفة من صفاته أو كلمة من كلماته. وإن منبر الخطابة بإغفاله هذا القانون إنما يغفل سبب وجوده، ويتحسس شيئا لا يدركه. ولنقص في هذه الثقافة اعتلت روح الجماعة وفقدت إيمانها، وهي ليست بحاجة إلى شيء حاجتها إلى تربية مسيحية صارمة عالية رواقية، كي تعرف نفسها وتعرف اللاهوت الذي يتكلم بوساطتها. إن الإنسان اليوم ليخجل من نفسه، وهو يتوارى ويتسلل في هذه الدنيا، يقصد التسامح معه ويقصد الإشفاق عليه. وقل أن تجد في كل ألف عام رجلا يجرؤ على الحكمة وعلى الخير، فيستقطر دموع النوع البشري ويستمطر بركته.
ولقد مرت عصور أمكن فيها بالتأكيد أن يظهر إيمان أكبر في الأسماء والأشخاص وسط ركود التفكير في بعض الحقائق؛ فقد وجد البيورتان في إنجلترا وأمريكا في مسيح الكنيسة الكاثوليكية وفي العقائد الموروثة من روما مجالا لورعهم الشديد وتشوقهم إلى الحرية المدنية. غير أن مذهبهم آخذ في التلاشي، ولم ينشأ مذهب آخر ليتخذ مكانته. ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يقصد إحدى كنائسنا، وأفكاره معه، دون أن يحس أن ما كان للكنيسة من سلطان على الناس قد ولى أو هو في سبيل الانتهاء. لقد فقدت الكنيسة سيطرتها على عواطف الأخيار ومخاوف الأشرار. وفي الريف، وفيما يجاورنا من بلاد، أصبحت نصف الدوائر الدينية «تنشد لمجرد النشيد» على حد التعبير المحلي. وبدأت البوادر تدل على أن الأخلاق والدين تختفي من الاجتماعات الدينية. سمعت رجلا متدينا يقيم لليوم الديني وزنه يقول في مرارة القلب: «يبدو أنه من الإثم أن يقصد المرء الكنيسة يوم الأحد.» وليس الباعث الذي يدفع الأخيار إلى هناك اليوم سوى الأمل والانتظار. وما كان فيما مضى أمرا عارضا، وهو أن يلتقي في يوم من الأيام الأخيار والأشرار في الدائرة الدينية، والفقراء والأغنياء، والعلماء، والجهلاء، والشباب والشيوخ، كما يلتقي الزملاء في بيت واحد، دليلا على المساواة في حق الروح؛ قد صار دافعا ذا أهمية قصوى إلى الذهاب إلى هناك.
أظن أنني في هذين الخطأين - أيها الأصدقاء - أجد أسباب انهيار الكنيسة والجحود القاتل بالله. وأية كارثة أكبر من فقدان العبادة يمكن أن تحل بأمة من الأمم؟ إن ذلك يؤدي إلى تدهور كل شيء، وذلك يدعو النابغين إلى هجر المعابد لارتياد الأسواق ومجالس الشيوخ. ويصير الأدب ماجنا، والعلم باردا. ولا تستضيء عيون الشباب بالأمل في عوالم أخرى، وتخلو الشيخوخة من الوقار. ويعيش المجتمع للتوافه، وبعدما يموت الناس لا نذكرهم.
وقد تسألونني الآن يا إخواني: ماذا نستطيع أن نصنع في هذه الأيام البائسة؟ إنني وصفت لكم العلاج في أساس شكواي من الكنيسة، إننا أوجدنا بين الكنيسة والروح تباينا. وفي الروح يجب أن نلتمس الخلاص. حيثما يحل الإنسان يحل التجديد، إنما القديم للأرقاء. إذا جاء الإنسان باتت جميع الكتب مقروءة، وصار كل شيء شفافا، وكل الديانات صورا. الإنسان هو المتدين، وهو محدث العجائب، وإنه ليرى وسط المعجزات، وكل الناس يباركون ويلعنون. والإنسان الصادق وحده هو الذي يقول لا ونعم فقط. إن جمود الدين، والزعم أن عصر الإلهام قد ولى، وأن الإنجيل قد استغلق، والخوف من الحط من شخصية المسيح بتمثيله في صورة رجل، كل ذلك يدل في وضوح كاف على خطأ علمنا بالدين. وواجب المعلم الصادق أن يرينا أن الله كائن اليوم، لا كان فيما مضى. وإنه يتكلم، لا تكلم وانتهى. إن المسيحية الصادقة - أقصد إيمانا كإيمان المسيح في قدرة الإنسان التي لا تحد - قد ضاعت. ولم يعد أحد يعتقد في روح الإنسان، وإنما يعتقد الناس في رجل أو شخص هرم وولى. ويلي! إنني لا أرى أحدا يسير وحيدا. إنما يسير الناس قطعانا إلى هذا القديس أو ذلك الشاعر، غافلين عن الله الذي يرى في الخفاء. إنهم لا يستطيعون الرؤية في الخفاء، ويؤثرون أن يكونوا عميانا وسط الجماهير. إنهم يحسبون أن الجماعة أحكم من روحهم، ولا يدركون أن روحا واحدة، وأن روحهم أحكم من العالم بأسره. انظروا كيف أن أمما وأقواما تسبح فوق بحر الزمن ولا تخلف وراءها موجا خفيفا يدل على المكان الذي طفت فوقه أو غاصت فيه، في حين أن روحا واحدا طيبا يجعل اسم موسى، أو زينون، أو زرادشت، مقدسا إلى الأبد. ليس هناك من يحاول ذلك الطموح الصارم كي يصبح «نفس» الأمة و«نفس» الطبيعة، وإنما كل فرد منكم يود أن يكون تابعا سهلا لفكرة من أفكار المسيحية ، أو رابطة من الروابط الطائفية، أو رجلا من الرجال البارزين. وإنك لو تركت علمك الخاص بالله، وتركت عاطفتك، واتخذت علما ثانويا، كعلم القديس بولس، أو جورج فوكس، أو سودنبرج، بعدت عن الله عاما بعد عام ما دامت هذه الصورة الثانوية، فإذا دامت الصورة - كما هي اليوم - قرونا، فإن الهوة تنفرج إلى حد لا يكاد أن يعتقد الناس معه أن فيهم شيئا إلهيا.
وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم، وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب. وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين، والقديسين والأنبياء لكي تقتدوا بهم. اشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم «أنا كذلك إنسان.» إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج، والمقلد يحكم على نفسه بضعف لا رجاء فيه، وإنما يخترع المخترع؛ لأن الاختراع لديه طبيعة، ولذا فإن لاختراعه سحرا. أما المقلد فالطبيعي عنده شيء آخر: إنه يحرم نفسه جماله كي يقرب من جمال إنسان آخر.
كل منكم منشد من منشدي الروح القدس ولد حديثا، فلينبذ وراءه كل تقليد، وليعرف الناس مباشرة بالله، وليراع كل منكم أولا ذلك فحسب: إن السائد والمألوف والسلطة والمتعة والمال، ليست له شيء يذكر - ليست ضمادات على أعينكم تمنعكم من النظر - وإنما أريدكم أن تعيشوا مع ميزة العقل الذي لا يحد. ولا يشغلنكم شاغل عن زيارة جميع الأسر، وكل أسرة، في حدود دائرتكم الدينية بين الحين والحين. وعندما يقابل أحدكم رجلا أو امرأة منهم، فليكن له إنسانا مقدسا، وليكن له فكرا وفضيلة. ولتجد الآمال المحدودة لهؤلاء الرجال والنساء لديكم أصدقاء، ولتجد غرائزهم الممتهنة متنفسا طيبا في جوكم. ولتعرف شكوكهم أنكم سبقتموها بالشك، وليشعر إحساسهم بالتعجب أنكم سبقتموه بالعجب. إنكم إن وثقتم في أنفسكم ظفرتم بثقة أكبر في نفوس الآخرين. وبرغم ما عندنا من حكمة في الأمور المادية، وبرغم ما في نفوسنا من استرقاق للعادات يحطم الروح، فإنا لا نشك في أن الناس جميعا لديهم أفكار سامية، وإن الناس جميعا يقدرون ساعات الحياة الحقيقية القليلة حق قدرها. إنهم يحبون أن يسمعوا وأن يشاهدوا وهم يحلمون بالمبادئ. إن المقابلات القليلة التي اجتمعنا فيها - في سنوات موحشة من عمل رتيب وخطيئة - بالأرواح التي جعلت أرواحنا أحكم، والتي عبرت عما كنا نفكر فيه، والتي أخبرتنا بما كنا نعلم، والتي سمحت لنا أن نكون ما كنا في دخيلة أنفسنا، هذه المقابلات نجدها مضيئة في الذاكرة. أدوا للناس واجب القسيس، يتبعوكم - في حضرتكم وغيبتكم - بمحبتهم كالملائكة.
ولتحقيق هذا الغرض ينبغي لنا ألا نهدف إلى مراتب عادية من الجدارة. ألا نستطيع أن نترك - لمن يحب ذلك - الفضيلة التي تلمع لكي تظفر بثناء الجماعة، ونقتحم نحن الأماكن النائية المنعزلة القمينة بالتقدير والجدارة المطلقة؟ ما أيسر أن نبلغ مستوى الخير في الجماعة! وما أرخص الحصول على ثناء الجماعة! ويكاد جميع الناس أن يقنعوا بهذا التقدير الميسور. غير أن أول أثر من آثار الاتصال بالله هو إهمال هذا التقدير. من الناس من لا يمثل ولا يخطب، ولكنه ذو أثر. هؤلاء أعظم من الشهرة ومن الظهور. إنهم يزدردون الفصاحة، وكل ما نسميه الفن والفنانين يبدو لهم شديد الصلة بالمظاهر والأغراض القريبة، وبالمبالغة في كل ما هو محدود وأناني، وبكل ما يفقد الصفة العالمية. إن الخطباء والشعراء والقواد إنما يعتدون علينا كما تعتدي علينا النساء الحسناوات، أي بمقدار ما نتسامح ونخضع. استصغر شأنهم بما لديك مما يشغل العقل. استهن بهم - وإنك لتستطيع ذلك جدا - بالأغراض العالمية العليا، استهن بهم يحسوا توا أنك صاحب حق، وأنه ينبغي لهم أن يضيئوا في الأماكن الدنيا. إنهم يشعرون كذلك بحقك؛ لأنهم وإياك معرضون لفيض الروح العليمة بكل شيء، التي تتبدد أمام ظهيرتها الوهاجة الظلال الضئيلة ودرجات الذكاء المختلفة في المؤلفات التي نحسبها أحكم من غيرها أو أحكم من كل شيء.
Halaman tidak diketahui