ناثانييل هورثون
دفن روجر مالفن
إدجر أللان بو
نبيذ الأمونتيللادو
تشارلز ديكنز
شجرة الميلاد
وليم ويلكي كولنز
السرير الرهيب
وليم هيل هوايت (مارك روذرفورد)
نفس رضية
ريتشارد جارنت
أناندا: صاحب المعجزات
فرنسيس برت هارت
في نطاق من الجمد
هنري جيمس
أربع مقابلات
روبرت لويس ستيفنسون
سيد الباب
أوسكار وايلد
عيد ميلاد الأميرة
جورج جوسنج
رجل فقير
هنري هارلاند
بيت يولالي
وليم سدني بورتر (و. هنري)
تقرير
ه. ج. ولز
آلة الزمان
ناثانييل هورثون
دفن روجر مالفن
إدجر أللان بو
نبيذ الأمونتيللادو
تشارلز ديكنز
شجرة الميلاد
وليم ويلكي كولنز
السرير الرهيب
وليم هيل هوايت (مارك روذرفورد)
نفس رضية
ريتشارد جارنت
أناندا: صاحب المعجزات
فرنسيس برت هارت
في نطاق من الجمد
هنري جيمس
أربع مقابلات
روبرت لويس ستيفنسون
سيد الباب
أوسكار وايلد
عيد ميلاد الأميرة
جورج جوسنج
رجل فقير
هنري هارلاند
بيت يولالي
وليم سدني بورتر (و. هنري)
تقرير
ه. ج. ولز
آلة الزمان
مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
تأليف
تشارلز ديكنز وآخرين
ترجمة
إبراهيم عبد القادر المازني
تقديم
بقلم إبراهيم عبد القادر المازني
اختيرت هذه الأقاصيص لطائفة من كتاب القرن الماضي في إنجلترا وأمريكا، وإن كان بعضهم قد امتد به العمر إلى أوائل القرن العشرين. وروعي في الاختيار إبراز أسلوب الكاتب وخصائصه الفنية لا تسلية القارئ، والمراد هو التعريف بالكاتب بهذه الواسطة والإشارة إلى فنه لمن يعنيه التوسع في الدرس، ولم نر أن نترجم لأحد أو نزيد على إثبات سنتي الميلاد والوفاة لأن كل ترجمة في مجموعة كهذه لا تكون إلا موجزة جدا ولا خير في مثل ذلك ولا جدوى.
وقد توخينا في الترجمة مثل ما روعي في الاختيار، أي إبراز أسلوب الكاتب لا أسلوب المترجم. ولم يكن هذا سهلا ولا كان مطلبه هينا لشدة التفاوت، ولكنا تكلفناه وعسى أن نكون وفقنا فيه. وقد حرصنا على التزام الأصل حتى ليمكن أن نقول إن الترجمة حرفية على قدر ما يتيسر ذلك في النقل من لغة إلى أخرى بينهما من الاختلاف ما بين العربية والإنجليزية، ولم نحذف من الأصل في هذه المجموعة كلها إلا بضعة سطور لا يزيد عددها على عدد أصابع اليدين، وكانت علة الحذف العجز التام عن الاهتداء إلى ما يؤدي معناها - مع شدة تفهمها - في لغتنا العربية وليس هذا نقصا في اللغة العربية ولكنه نقص في المترجم.
وقد استعملت ألفاظا شائعة في عاميتنا، وكان الظن أنها غير صحيحة، ولكني وجدتها مثبتة في كتب اللغة ومستعملة في كتب الأدب، فلم أر مسوغا لهجر هذا الصحيح المأنوس إلى الحوشي أو غير المألوف أو النابي. وما دامت اللفظة قد استطاعت أن تحيا على ألسنة الناس فإنها أحق بالاستعمال من أخرى عجزت عن الحياة فدفنت في المعجمات. وفي اللغة - كما في الأحياء - يبقى الأصلح لا الذي يظنه المتحذلقون الأفصح، وليس المعول في الفصاحة على القدم بل على الوفاء بحاجة التعبير بالقوة المطلوبة أو الجمال المنشود، وسهولة التلقف للمعنى وسرعة التأثر به. وليس هذا تعريفا للفصاحة، وإنما هو إجمال للمطلوب بها.
وقد نبهت على بعض هذه الألفاظ في الهوامش وأهملت التنبيه في الأغلب اكتفاء باليسير من ذلك، وأقول على الجملة إني ما استعملت لفظا غير صحيح، وإن كان محسوبا من العامية إلا لفظة أو اثنتين أجنبيتين شائعتين على الألسنة، لم أجد لهما مقابلا، أو استثقلت مقابلهما، فوضعتهما بين علامات التضمين أو الاقتباس.
وأقول أخيرا إن ما اختير في هذه المجموعة ليس خير ما في الأدب الإنجليزي من نوعه ولكنه من خيره، وعيب كل اختيار هو الاضطرار إلى ترك الأكثر والاجتزاء بالأقل. وكثيرا ما تؤدي الحيرة إلى سوء الاختيار، ولكن القارئ يستطيع أن يكون على يقين أن ما يقرؤه هنا هو - في الأصل إذا لم يكن في الترجمة - من الجيد على كل حال وبشهادة الزمن.
وأحب أن أشكر لجنة التأليف والترجمة والنشر على ما يسرت وأعانت وصبرت.
ناثانييل هورثون
1804-1864
دفن روجر مالفن
«من الحوادث القليلة التي وقعت في الحرب مع الهنود الحمر، والتي تحتمل بطبيعتها أن تكون موضوعا للقصص الرومانتيكي، تلك الحملة التي قامت بالدفاع عن الحدود في سنة 1725 وانتهت (بمعركة لافيل) المذكورة. وقد يستطيع الخيال - بترك بعض الظروف وإسقاطها - أن يرى كثيرا مما يستحق الإعجاب في بطولة عصبة قليلة قاتلت ضعفي عددها من العدو في قلب بلاده. وقد كانت البسالة الصريحة التي أبداها الفريقان مطابقة لآراء الحضر في معنى الشجاعة ومقتضياتها، ولم تعدم الفروسية ما لا تخجل أن تسجله من أعمال واحد أو اثنين من المقاتلة. ولم تكن المعركة - على هول عنفها بالذين خاضوا غمارها - مشئومة النتائج للبلاد، فقد ألوت بقوة قبيلة وأفضت إلى السلم فاستقرت سنوات عدة. وقد عني التاريخ والراوية الشعبية - على خلاف العادة - بتفاصيل هذه الواقعة. ونال قائد نفيضة من رجال الحدود من الشهرة الحربية مثل ما يغنمه قائد الجيش المظفر. وفي بعض ما أنا مورده في الصفحات التالية ما سيفطن إليه - على الرغم من الاعتياض من الأسماء الحقيقية أخرى مخترعة - من سمعوا من أفواه الشيوخ بمصير القليلين الذين استطاعوا أن يرجعوا بعد معركة لافيل.»
خفقت أشعة الشمس الطالعة في طلاقة وبهجة على رءوس الأشجار التي رقد تحتها من الليلة البارحة جريحان مكدودان، وكان فراشهما ورق البلوط الذاوي اليبيس المنتثر في مستوى ضيق من الأرض، في ظل صخرة قريبة من ضهر نجوة من تلك النجاء التي تختلف بها وجوه الأرض هناك. وكانت كتلة الصخر التي يذهب سطحها الأملس المستوي في الهواء مقدار خمس عشرة قدما أو عشرين، فوق رأسيهما، كأنها حجر قبر ضخم، وكأن عروقها الجارية كتابة بحروف مجهولة. وكان البلوط وما إليه من الشجر العظيم يحيط بالصخرة في رقعة فسيحة، بدلا من الصنوبر وهو الغرس المألوف في هذه المنطقة. وكان هناك عود أخضر قوي على مقربة من الرجلين.
وكان الجرح البليغ الذي أصاب أكبر الرفيقين قد حرمه من النوم على الأرجح، فما كاد أول شعاع من الشمس يلمس أعلى شجرة، حتى جهد أن يغير رقدته، ثم اعتدل قاعدا. وكانت غضون وجهه العميقة وما شاع من الشيب في رأسه، تدل على أنه جاوز خير شطري العمر. غير أن متانة أسره كانت خليقة - لولا ما كلفه جرحه - أن تعينه على احتمال التعب كما يحتمله الشاب في عنفوانه. وكان الفتور والإعياء مرتسمين على محياه المتهضم. وكانت نظرة اليأس التي يمد بها بصره في جوف الغابة تنبئ باقتناعه أن رحلته قد شارفت ختامها. ثم أدار عينه إلى رفيقه الراقد إلى جانبه. وكان هذا الشاب - فما بلغ مبالغ الرجال بعد - نائما ورأسه على ذراعه، وكان نومه مضطربا، وكان يخيل إلى الناظر إليه أن ضربان الوجع من جرحه، سيوقظه في كل لحظة من نومه. وكانت يده قابضة على بندقية. وكان الاضطراب العنيف الذي ترتسم مظاهره على معارف وجهه يوقع في الروع أنه يرى في منامه صورة من القتال الذي كان أحد القليلين الذين نجوا منه. وكأنما أطلق في منامه الذي يتراءى له صيحة عميقة عالية، فاختلجت شفتاه بهمسة خافتة. وعلى أن هذا الصوت الخفيض الذي انبعث منه كان كافيا لإزعاجه من رقاده فاستيقظ فجأة، وكان أول ما فعل بعد أن عاد إليه الوعي، وتنبهت الذاكرة، أن أقبل على صاحبه الجريح يسأله عن حاله بلهفة، فهز رفيقه رأسه وقال: «روبن - يا بني - إن هذه الصخرة التي تقعد تحتها حسب ذلك الصائد الكهل والمقاتل القديم صوى لقبره. فما تزال أمامنا أميال عدة، دونها أميال طويلة، من المفاوز التي تنوح فيها الرياح وتعوي، ولن يجديني حتى أن تكون مدخنة بيتي على الجانب الآخر من هذه الهضبة، لقد كانت رصاصة الهندي أفتك مما ظننت.»
فقال الشاب: «إنما أتعبتك مسيرة الأيام الثلاثة. وأخلق بالراحة أن تعيد إليك نفسك وتنعشك، فابق هنا ريثما أجوب هذه الغابة التماسا للأعشاب والجذور لطعامنا، ثم بعد أن تأكل تتكئ علي ونولي وجهنا شطر البيت، فما أشك في أنك بمعونتي تستطيع أن تصل إلى بعض حاميات الحدود.»
فقال الآخر بهدوء: «ليس في دماء يكفي يومين يا روبن، ولن أحملك عبء جسمي الذي لا خير فيه، وأنت لا تكاد تقوى على حمل نفسك. إن جراحك عميقة وقوتك تنضب بسرعة، ولكنك قد تنجو إذا عجلت بالذهاب، أما أنا فلا أمل لي وسأنتظر الموت هنا.»
فقال روبن بلهجة المصمم: «إذا كان لا بد من هذا فسأبقى وأعنى بك.»
فقال رفيقه: «كلا يا بني، كلا، اجعل لرغبة رجل يجود بأنفاسه وزنا عندك. هات يدك ثم اذهب، وهل تظن أن لحظاتي الأخيرة يخففها علمي أني أتركك للموت البطيء؟ لقد أحببتك كحب الأب يا روبن، وفي مثل هذه الساعة ينبغي أن يكون لي بعض حق الأب وسلطانه، فأنا أدعوك أن تذهب، حتى أقضي نحبي بسلام.»
فقال الشاب: «ومن أجل أنك كنت أبا لي أينبغي لي أن أتركك تموت وتبقى بلا دفن في هذه الفلاة؟ كلا، إذا كان أجلك قد دنا حقا فسأبقى بجانبك، وأتلقى آخر كلماتك، وسأحفر هنا قبرا بجوار الصخرة، فإذا خذلتني قوتي رقدنا فيه معا، أما إذا وهبني الله القوة فسآخذ طريقي إلى البلدة.»
فقال الآخر: «إنهم في المدن وفي حيث تسكن الجماعات من الناس يدفنون الموتى في جوف الأرض، ويحجبونهم عن عيون الأحياء، ولكن هنا - حيث يتفق أن تمضي مائة سنة ولا تدب قدم - لماذا لا أرقد تحت السماء لا تغطيني إلا أوراق البلوط، حيث تنثرها رياح الخريف؟ وإذا كان لا بد مما يذكر بي ويدل على مكاني، فها هنا هذه الصخرة وسأحفر عليها بيدي الضعيفتين اسم «روجر مالفن»، فإذا اجتاز هذه الناحية أحد عرف أن ها هنا يرقد صائد مقاتل، فلا تتلكأ إذن من أجل سخافة كهذه، بل أسرع إن لم يكن من أجلك فمن أجل تلك التي لن تجد مؤاسيا بغير ذلك.»
وكان مالفن ينطق بالكلمات الأخيرة بصوت مضطرب، وكان وقعها في نفس صاحبه واضحا جدا، فأذكرته أن هناك واجبات أخرى أصرح من مشاطرة صاحبه مآله، وأن موته معه لن ينفعه. وليس في الوسع أن يقال إن قلب روبن خلا من كل شعور أناني، وإن كان إدراكه لاضطراب نفسه بهذا الشعور، قد حمله على التشدد في مقاومة الرجاء الذي ألح به عليه زميله.
وقال روبن: «ما أهول أن يقعد المرء منتظرا دلوف الموت إليه في هذه الوحدة! ... إن الرجل المقدام لا يتهيب الموت في إبان المعركة، وحتى المرأة قد تتلقى الموت وهي ساكنة النفس إذا حف بسريرها الأوداء. ولكن هنا ...»
فقاطعه مالفن قائلا: «لن أفرق من الموت حتى هنا يا روبن بورن. وإني لرجل غير منخوب القلب، ولو أنني كنت ذاك لكان لي عون أوثق من عون الإخوان. وأنت شاب والحياة حبيبة إليك وعزيزة عليك، وأنت في ساعاتك الأخيرة أحوج إلى المواساة مني. واعلم أنك بعد أن تدفنني في جوف الثرى وتمسي مستفردا وحيدا، ويلف الليل هذه الغابة في شملته، ستشعر حينئذ بكل مرارة الموت التي تغيب عنك الآن. على أني لن أحض نفسك الكريمة بدوافع من الأثرة. فاتركني من أجلي أنا ليتسنى لي بعد أن أدعو الله لك بالسلامة، أن أتوجه إليه بقلبي مستغفرا من غير أن تزعجني هموم الدنيا وأحزانها.»
فصاح روبن: «وابنتك؟ كيف أجرؤ أن أنظر إليها؟ ستسألني عن مصير أبيها الذي أقسمت أن أبذل حياتي دونه. فهل أقول لها إنه سار معي ثلاثة أيام من ميدان القتال وإني بعد ذلك تركته يموت في الفلاة؟ أليس خيرا أن أرقد وأموت إلى جانبك من أن أعود سالما وأقول هذا لدوركاس؟»
فقال روجر مالفن: «قل لابنتي إنك على الرغم من جراحك البليغة وضعفك وتعبك قدت خطاي المتعثرة عدة أميال وإنك ما تركتني إلا إجابة لرغبتي الملحة لأني لم أرد أن أحمل تبعة موتك. قل لها إنك على الرغم من الألم والخطر كنت وفيا. وأنه لو كان دم قلبك يستطيع أن ينقذني لأريق في سبيلي إلى آخر قطرة، وقل لها إنك ستكون أحنى عليها من أبيها، وإني أدعو لكما جميعا، وإن عيني اللتين يوشك أن يطبقهما الموت تستطيعان أن تريا طريقا طويلا تسلكانه معا وتحمدان السير فيه.»
وكان مالفن وهو يتكلم قد كاد يرفع نفسه عن الأرض، وكأنما بعثت القوة التي نطق بها العبارة الأخيرة صورة من صور السعادة في هذه الغابة الموحشة، ولكنه تحلل به الإعياء فهوى على فراش الورق فانطفأ النور الذي التمعت به عينا روبن وأحس كأن من الإثم والجنون أن يفكر في السعادة في مثل هذه اللحظة. وكان صاحبه يلاحظ ما يتعاقب على محياه من المشاعر المختلفة، فأراد أن يحمله بالحيلة الكريمة على ما فيه خيره، ومضى في كلامه فقال: «عسى أن أكون واهما في أجلي، ولعلي إذا أسعفت بالمعونة أبرأ من جراحي، ولا بد أن يكون أسبق اللاجئين قد حملوا قبل الآن أنباء ملحمتنا الوبيلة إلى الحدود، وأحسب أن جماعات قد خرجت لنجدة أمثالنا، فإذا لقيت جماعة منهم وعدت بها إلى هنا فمن يدري؟ لعله يقسم لي أن أجلس مرة أخرى إلى جانب موقدي.»
وطافت ابتسامة حزينة بمحيا هذا الرجل الذي يجود بنفسه وهو يوحي إلى صاحبه بالأمل الذي لا مطمع فيه، وإن كان قد ترك أثره في نفس روبن. وما كان أي باعث من الأثرة، ولا حتى أسى دوركاس وولهها ليغريه بهجر رفيقه في ساعة كهذه، ولكن هوى قلبه تعلق بالأمل في إمكان إنقاذ مالفن، وأمدته طبيعته المستبشرة بما رفع إلى مرتبة اليقين ذلك الأمل البعيد، البعيد، في الحصول على معونة إنسانية.
وقال كأنما يحدث نفسه: «إن هناك على التحقيق دواعي - دواعي قوية - تبعث على الأمل في أن يكون بعض الإخوان غير بعيدين منا. لقد فر جبان - خرج بلا جرح - في أول القتال، والأرجح جدا أن يكون قد أسرع حتى بلغ مأمنا، ولا شك أن كل ذي نجدة حقيق بأن يحمل بندقيته حين يسمع أنباء الوقعة، وقد لا تتوغل الجماعات في تطوافها إلى هذا المكان من الغابة، ولكني قد ألتقي ببعضها بعد مسيرة يوم واحد.»
والتفت إلى مالفن وقد خامره الشك في حقيقة بواعثه فقال: «أشر علي بإخلاص. لو كنت أنا في مكانك أكنت تتركني وبي ذماء (بقية الروح)؟»
فقال روجر مالفن وهو يتنهد، وما خفي عليه التفاوت الشديد بين الحالتين: «لقد مضت عشرون سنة مذ فررت مع صديق عزيز علي من أسر الهنود قرب مونتريل، فسلخنا عدة أيام ونحن نجتاز الغابة حتى تكسر صاحبي من الجوع والجهد، فرقد وناشدني أن أتركه فقد كان يعلم أن بقائي معه يلحقني به، فجمعت كوما من الأوراق الجافة وجعلت منها وسادة لرأسه، ومضيت في سبيلي وأنا ضئيل الأمل في الحصول على نجدة.»
فسأله روبن: «وهل عدت إليه وأدركته؟»
وانتظر رده كأنه نبوءة تبشره بالتوفيق.
فقال مالفن: «نعم. وقعت على خيام لجماعة خرجت للصيد قبل الغروب في اليوم نفسه، فمضيت بهم إلى حيث كان صاحبي راقدا ينتظر الموت، وهو الآن رجل صحيح معافى يعمل في حقله بعيدا من الحدود، وأنا هنا جريح طريح في قلب هذه الغابة.»
وقد لقيت هذه الرواية، التي كانت عظيمة الأثر في توجيه عزم روبن، عونا خفيا من بواعث أخرى مكنونة القوة، ولم تفت عين روجر مالفن أن الفوز كاد يكتب له فقال: «والآن اذهب يا بني وليكن الله في عونك، ولا تعد مع أصدقائك حين تلقاهم لئلا تطيح بك جراحك وتعبك، ولكن وجه إلي اثنين أو ثلاثة يكونون في فسحة من الوقت والعمل ليبحثوا عني. وصدقني يا روبن حين أقول لك إن كل خطوة تخطوها إلى بيتك تخفف عني ما أجد وتريح قلبي.»
على أن وجهه حال، وصوته تغير، وهو يقول ذلك، ولا عجب، فإنه مصير مرعب أن يترك ليموت في هذه الغابة الموحشة.
ونهض روبن بورن أخيرا عن الأرض ووساوس الشك تساوره في صواب ما هو صانع، واستعد للرحيل. وجمع أولا - على خلاف رغبة مالفن - ذخرا من الجذور والأعشاب التي اتخذا منها طعامهما في اليومين الماضيين، ووضع هذه المئونة العقيمة في متناول صاحبه، وجمع له كذلك كوما جديدا من أوراق الشجر لفراشه، ثم صعد إلى قمة الصخرة - وكان أحد جانبيها خشنا وعرا - وثنى إليه العود الأخضر وربط منديله بأعلى أغصانه، وكان هذا الاحتياط ضروريا ليهتدي بالمنديل من عسى أن يجيء باحثا عن مالفن، إذ كانت الصخرة ما عدا جانبها العريض الأملس يحجبها النبت الكثيف على وجه الأرض. وكان روبن يتخذ من هذا المنديل ضمادا لجرح في ذراعه. وأقسم بالدم الذي عليه وهو يشده إلى الغصن أن يعود لينقذ حياة صاحبه، أو ليواري جثته في قبر. ثم انحدر ووقف مطرقا ليتلقى من روجر مالفن آخر كلماته.
وكانت لتجرية مالفن الفضل في كثير من النصح الدقيق لرفيقه الشاب في اجتيازه هذه الغابة المضلة. وكان وهو يتكلم في هذا هادئا جادا؛ كأنما هو يوجه روبن إلى القتال أو الصيد على حين يقعد هو آمنا في بيته، وكأنما هذا الوجه الإنساني الذي سيتركه ويغيب عنه ليس آخر وجه ستقع عليه عينه، ولكن هذا الثبات تزعزع قبل أن يختم حديثه: «بلغ دوركاس تحيتي ودعائي، وقل لها إن آخر دعواتي كانت لها ولك، ومرها ألا تظن بك سوءا من أجل أنك تركتني، (وهنا أحس روبن بالحز في قلبه)، فإنك ما كنت لتحرص على حياتك وتضن بها لو أن بذلها كان يجديني، وستتزوجك بعد أن تحد على أبيها مدة، أطال الله عمركما وجعلكما من السعداء، وليحف بكما أحفادكما عند الممات. ويا روبن، (وهنا غلبه ضعف الإنسان الفاني) ارجع بعد أن تبرأ جراحك وتندمل، وتسترد العافية - ارجع إلى هذه الصخرة الموحشة وضع عظامي في قبر، وصل علي.»
وكان أهل الحدود يجعلون لمراسم الدفن قيمة تكاد تكون خرافية، ولعل ذلك راجع إلى عادات الهنود الذين كانوا يشنون الحرب على الموتى كما يشنونها على الأحياء. وهناك أمثلة كثيرة للتضحية بالحياة في سبيل السعي لدفن الذين طاح بهم «سيف الفلاة»، ولهذا كان روبن يدرك قيمة العهد الذي أعطاه لروجر مالفن بأن يعود ويدفن رفاته. وكان من الغريب أن مالفن بعد أن أفضى في كلماته الأخيرة بكل ما في قلبه، لم يعد يحاول أن يقنع رفيقه الشاب بأن أسرع النجدات قد يكون لها غناء في إنقاذ حياته. وكان روبن مقتنعا فيما بينه وبين نفسه بأنه لن يرى وجه مالفن حيا مرة أخرى. وكانت مروءة نفسه تنزع به إلى البقاء بالغا ما بلغ الخطر على نفسه حتى يقضي صاحبه نحبه فيدفنه، ولكن إرادة الحياة والأمل في السعادة قويا في نفسه واستوليا على قلبه، فلم يقدر على مغالبتهما.
وبعد أن أصغى مالفن إلى روبن وهو يعاهده أن يعود قال: «كفى، اذهب والله معك.»
فضغط الشاب يده في صمت، ودار على عقبه، وهم بأن يمضي، ولكنه لم يسر إلا قليلا، ثم رده صوت مالفن يناديه بصوت ضعيف: «روبن، روبن»، فارتد إليه روبن وجثا إلى جانبه، فأفضى إليه بآخر رجاء: «ارفعني واجعل ظهري إلى الصخرة، ليكون وجهي شطر البيت، ولأراك لحظة أخرى وأنت تمشي بين الأشجار.»
ففعل روبن ما طلبه صاحبه واستأنف السير، وكان يمشي أول الأمر بأسرع مما تسمح به قوته، لأن شيئا من التحرج الذي يعذب المرء أحيانا، وإن كان عمله لا خطأ فيه ولا وزر، دفعه إلى الاستخفاء عن عين مالفن، غير أنه بعد أن أبعد في سيره على أوراق الشجر انكفأ راجعا تدفعه رغبة ملحة مؤلمة في الوقوف على حال هذا الرجل المستفرد، واختبأ وراء شجرة مقلوعة، وجعل ينظر إليه، وكانت الشمس مشرقة لا يحجبها غيم، والأشجار - كبارها وصغارها - تعب في هواء مايو/أيار الطيب. ولكن وجه الطبيعة كان عليه كالجهامة، كأنما أدركها العطف على آلام الإنسان وأشجانه. وكانت يدا مالفن مرفوعتين بالدعاء الحار، وكان بعض ما يجري به لسانه في هذا السكون الذي يشمل الغابة يصافح سمع روبن، فيعصر قلبه ألم لا سبيل إلى العبارة عنه، فقد كان الصوت الذي يبلغه نبرات متقطعة ترتفع بالدعاء له ولدوركاس بالسعادة، وكان وهو يصغي ينازعه ضميره ووجدانه أن يعود ويرقد معه إلى جانب الصخرة، وشعر بهول المآل الذي قضي به على هذا الرجل الكريم الرحيم الذي يهجره في شدته، وحدثته نفسه أن الموت سيدلف إليه كالجثة ويتسلل نحوه في هذه الغابة خطوة فخطوة، ويطالعه بوجهه المرعب الجامد من وراء شجرة بعد شجرة، ولكن هذا هو ما كان خليقا أن يكون مصير روبن نفسه لو تلكأ يوما آخر. ومن الذي يلومه إذا أشفق من تضحية عقيمة كهذه؟ وكان النسيم يحرك العلم الصغير المشدود إلى العود الأخضر وهو يلقي نظرة الوداع على صاحبه، فأذكره ذلك عهده له. •••
وعاقت الجريح أمور شتى في مسيره إلى الحدود، ففي اليوم الثاني تكاثفت السحب في السماء فمنعت أن يهتدي في سيره بموقع الشمس، وكان أكبر ما يخاف أن ينأى به عن غايته ما يبذله من جهد نفسه المنهوكة القوى. وكان قوته النزر، العنيبات وغيرها من الأثمار. وكانت أسراب من الظباء ربما مرت به وهي تخطف، وكثيرا ما كان الطير يجدف عند قدميه، ولكن ذخيرته كانت قد نفدت في المعركة ولم يكن معه ما يذبح به. وكانت جروحه تهيج وتنتقض عليه من الجهد المتواصل الذي ارتهن به الأمل في الحياة والنجاة، فيستلب هذا قوته، وربما تركه مضطرب العقل مخلطا. ولكنه كان، حتى حين يدور رأسه ويضطرب، يتشبث بالحياة كل التشبث حتى عجز عن الحركة عجزا تاما فقعد تحت شجرة وراح ينتظر الموت.
وهنا أدركته جماعة أرسلت لإسعاف الناجين من المعركة لما وردت أنباؤها الأولى، فنقلوه إلى أقرب حلة واتفق أن كانت هذه حلته. فتولت دوركاس العناية بحبيبها الجريح وبقيت إلى جانب سريره تتعهده على عادة ذلك الزمن، وأولته تلك الألطاف المرهفة التي لا يحسن الاتحاف بها كقلب المرأة ويدها. وقد ظل روبن عدة أيام شارد اللب غائب الوعي والذاكرة بين المخاطر والمصاعب التي عاناها، وكان لا يستطيع أن يرد بجلاء على الأسئلة التي كان كثيرون يقبلون بها عليه متلهفين، فما كانت التفاصيل الصحيحة قد أذيعت على القوم، ولا كان أحد من الأمهات والزوجات والأبناء يعرف هل ذووهم في قيد الأسر أو في قيد الردى. وكانت دوركاس تطوي مخاوفها وجزعها في قلبها حتى كان مساء فأفاق روبن من نيمة مضطربة، وبدا عليه أنه قد عرفها وفطن إليها كما لم يكن يفطن في الأيام السالفة، ورأت أن عقله قد ثاب إليه وعادت إليه وثاقته، فلم تستطع بعد ذلك أن تظل تكبح قلقها على أبيها.
وبدأت تسأله: «وأبي يا روبن؟» ولكن ما اعتام وجهه من التغير ردها عن المضي.
وكان الفتى قد تقبض كأنما ألح عليه ألم مر، وتدفق الدم إلى وجهه المتهضم الممتقع. وكان أول ما فعل أن غطى وجهه ثم غالب نفسه غلابا شديدا، فرفع جسمه وقال بصوت شديد مدافعا عن نفسه مما خيل عليها من التهم: «لقد أصيب أبوك يا دوركاس بجرح بليغ في المعركة، وأمرني أن أعفي نفسي من عبئه وأن أكتفي بأن أمضي به إلى شط البحيرة ليطفئ ظمأه ويموت. ولكني لم أستطع أن أخذله في شدته، فأعنته وإن كان دم جروحي ينزف، ومنحته نصف قوتي وسرت به معي. ولبثنا ثلاثة أيام نسير معا وكان حاله خيرا مما كنت أتوقع أن تكون، ولكني ألفيته في صباح اليوم الرابع خائر القوى منهوكا وعجز عن المشي وأخذ يجود بنفسه بسرعة و...»
فصاحت دوركاس بضعف: «مات؟»
ووجد روبن أن من المستحيل عليه أن يقر لها بأن حبه الأناني للحياة نأى به عن صاحبه قبل أن يصير إلى مصيره، فأمسك عن الكلام وثنى رأسه على صدره، ثم ارتد إلى الفراش من الخجل والإعياء وأخفى وجهه في الوسادة، وبكت دوركاس لما أصبح شكها يقينا، ولكن الصدمة لطول توقعها كانت من أجل ذلك أقل عنفا وشدة.
وكان السؤال الذي ألهمها إياه شعورها البنوي وتقواها: «وحفرت قبرا لأبي المسكين في الفلاة يا روبن؟»
فقال الفتى بصوت مخنوق: «كانت يداي كليلتين ضعيفتين ولكني فعلت ما وسعني. وهناك حجر عال يشرف عليه. ولشد ما أتمنى لو أنني كنت ساكنا كسكونه.»
وأحست دوركاس من عباراته الأخيرة ثورة النفس، فأمسكت في يومها عن الاستفسار، ولكنها وجدت روحا وراحة إذ علمت أن روجر مالفن لم يعدم ما تيسر من مراسم الدفن، وقصت على الأصحاب ما كان من شجاعة روبن ووفائه، ولم تنتقص الإعادة من حسن الرأي فيه شيئا، وكابد الشاب المسكين بعد أن تطرح من فراش المرض إلى الهواء والشمس، ذل الثناء الذي لا يستحقه وعذابه وألمه، وقال الناس جميعا إنه حقيق بأن يطلب يد الغادة الحسناء التي وفى لأبيها «حتى الموت.» ولكن قصتي ليست عن الحب، فحسبي أن أقول إن روبن صار زوجا لدوركاس بعد بضعة شهور، وكانت العروس في حفلة الزواج مضطرمة الوجه من الخفر والحياء، أما روبن فكان ممتقع اللون.
وصار في قلب روبن بورن خاطر لا سبيل إلى الإفضاء به - خاطر ينبغي أن يخفيه بعناية وحرص عمن لها حبه، وبها ثقته. وكان أسفه عميقا على جبنه الذي أغراه بكبح لسانه عن الإفضاء إلى دوركاس بالحقيقة التي كان يهم بأن يبوح لها بها، ولكن الكبرياء والخوف من فقدان حبها له، والإشفاق من الاحتقار العام - كل أولئك منعه أن يصدقها بعد أن كذب عليها. وكان يشعر أنه لا يستحق لوما من أجل أنه ترك روجر مالفن، فما كان بقاؤه والتبرع ببذل حياته إلا ليزيدا آلام الرجل بلا موجب في ساعاته الأخيرة. ولكن كتمانه الحقيقة أفاض على هذا العمل السائغ كثيرا من صفات الإثم وآثاره الخفية، فكان روبن على اقتناعه بأنه ما فعل إلا الصواب، يقاسي إلى حد كبير الآلام النفسية التي تعذب مجترح جريمة مستورة. وكانت خواطره تتداعى أحيانا على نحو يجعله يتصور أنه قاتل. وظل سنوات يعاوده خاطر لا تخفى عليه سخافته وشططه، ولكنه لا يستطيع أن ينفيه ويستريح منه. وكان ذهنه لا يبرح يعذبه بصورة مخامرة - صورة صهره جالسا - إلى الآن - عند الصخرة على أوراق الشجر الذاوية - حيا ينتظر منه الوفاء بالمعونة الموعودة. على أن هذه الخدع العقلية كانت تروح وتجيء، وكان هو لا يغالط نفسه فيها فيخلطها بالحقائق، غير أنه في أصفى حالات عقله وأهدئها كان يشعر بأن في ذمته عهدا لم يف به ولم ينجزه، وأن هناك جثة لم تدفن تصيح به من جوف الفلاة، ولكنه كان من نتائج مغالطته ولفه، أن عجز عن تلبية النداء وإجابة الدعوة. وكان قد مضى الوقت الذي يجوز فيه أن يطلب معونة أصدقاء مالفن للقيام بدفنه الذي طال إرجاؤه. وحالت الأوهام والمخاوف الخرافية التي كان أهل الحدود أحس بها من سواهم دون ذهاب روبن وحده لهذه الغاية. ثم إنه لم يكن يدري أين في هذه الغابة المضلة المترامية الأطراف ينشد تلك الصخرة الملساء المعرقة التي يرقد عند سفحها صاحبه. وكان تذكره لرحلته فيها غامضا، ولم يكن في ذهنه أي أثر للشطر الأخير من هذه الرحلة. على أنه كان لا يفتأ يحس دافعا ملحا، ويسمع صوتا من ذات نفسه يناديه أن يخرج لإنجاز وعده، وكان يخيل إليه أنه لو هم بذلك لقادته رجلاه إلى رفات مالفن مباشرة. ولكن العام كان يمضي تلو العام، وهذا الصوت الذي يحسه ولا يسمعه سواه لا يجد منه مجيبا. وصار هذا الخاطر المكتوم كالقيد، ولكن نفسه هي الموثقة العانية، أو كالحية، يعض وينفض في قلبه، فانقلب رجلا ساهما كاسف البال ولكنه ضجور سيئ الخلق.
وفي خلال سنوات قليلة بعد الزواج بدأت حالة الرخاء في حياة روبن ودوركاس تحول، وكانت ثروة روبن قلبه القوي وساعده المفتول، ولكن دوركاس - وارثة أبيها الوحيدة - جاءت زوجها بضيعة أكبر وأحفل بالأدوات والمواشي من مثيلاتها على الحدود، ولكن روبن بورن كان فلاحا مهملا فكانت أرض سواه تزداد كل عام زكاء وثمرة، وأرضه تزداد على النقيض كدورا وتأخرا، وكانت متاعب الزراعة وأسباب التثبيط عنها قد قلت قلة شديدة بانقطاع الحروب مع الهنود، ولم يعد الناس يتناولون المحراث بيد والبندقية باليد الأخرى ويحمدون حسن حظهم إذا سلمت محاصيلهم من التلف في الأهراء، أو في ميادين القتال حين يغير العدو المتوحش، غير أن روبن لم ينتفع بما صار إليه الأمر من السكينة والأمان وإن كان لا نكران أن الفترات التي كان ينشط فيها للعناية بأموره لم تكن تجزيه إلا نجاحا ضئيلا. وكان فساد أعصابه من الأسباب التي أفضت به إلى الإكداء، وذهاب الخير لأن سوء خلقه كان كثيرا ما يؤدي إلى الشجار والخلاف مع جيرانه في المعاملات التي لا بد منها معهم، فانتهى الأمر بقضايا لا عداد لها، إذ كان أهل «إنجلترا الجديدة» - ولاية بهذا الاسم - في العهد الأول من حياتهم المضطربة بهذه الولاية يؤثرون الوسيلة القضائية لفض منازعاتهم كلما تيسر ذلك. ونقول بإيجاز إن الأمور لم تستقم لروبن بورن فحل به الخراب، وإن كان هذا لم يصبه إلا بعد سنوات عديدة من زواجه، ولم يبق له إلا سبيل واحد ومخرج فرد من النحس الذي لحقه، وذلك أن يفيض نور الشمس على رقعة مظلمة في جوف الصحراء، وأن ينشد العيش والقوت من ثدي هذا المجهل البكر.
وكان الابن الوحيد الذي رزقه روبن ودوركاس قد بلغ الخامسة عشر، وكان شبابه الريان يبشر برجولة بارعة، وكان على استعداد قوي لما تقتضيه الحياة على الحدود من الكفايات، بل لقد بدأ يظهر في ذلك حذقا عظيما، فكان خفيفا مشتد الذراع في الرماية، سريع الإدراك والفطنة، وندبا شديد القلب، وكان كل الذين يتوقعون أن تستأنف الحرب مع الهنود، يقولون عن «سيراس بورن» إنه الزعيم الذي يدخره المستقبل للبلاد، وكان أبوه يحبه حبا عميقا صامتا، كأنما كان كل ما فيه، هو، من الخير والسماحة قد انتقل إلى غلامه ومعه ما يقوى عليه القلب من الحب، حتى دوركاس - وإن كانت محبة محبوبة - صار ابنها أعز على أبيه منها، ذلك أن خواطر روبن المحجوبة، وعواطفه المعزولة جعلته على الأيام رجلا أنانيا، فلم يستطع أن يحب حبا عميقا، إلا ما كان يرى أو يتخيل فيه مشابها من نفسه. وقد طالعته من سيراس صورة مما كان هو في الأيام الماضية، وكان ربما شاطر غلامه نفسيته، فتهب على حياته نفحة منعشة من السعادة. وقد استصحب روبن غلامه في رحلته لانتقاء رقعة من الأرض للإقامة، ولقطع الشجر وحرق الخشب، وهو ما لا بد منه تمهيدا لنقل البيت. وسلخا في هذا شهرين من الخريف عادا بعدهما ليقضيا آخر شتاء في الحلة. •••
وفي أوليات مايو/أيار بتت الأسرة الصغيرة ما كانت تتعلق به، وودعت القليلين الذين كانوا في أيام نحسها يحفظون لها عهد الصداقة. وكان أسى الفراق يخففه عند كل واحد من الثلاثة مخفف، فأما روبن فكان رجلا طويل الوجوم كارها لبني الإنسان لأنه شقي في حياته، فلما آن الرحيل مضى وهو مقطب، مطرق لا يكاد يأسف على شيء، ويأنف أن يعترف بأسف أو ندم. وأما دوركاس فبكت بأربع على الوشائج المبتوتة التي كانت توثق ما بين نفسها الطيبة العطوف وبين كل ما هنالك، ولكنها كانت تحس أن ما حل في السواد من حبة قلبها يسير معها، وأن كل ما خلا ذلك لا تعدم عنه عوضا في حيثما تكون. وأما الغلام فكفكف دمعة واحدة وراح يتصور متع الخطار في الغابة التي لم تطأها قدم أبيه، ومن ذا الذي لم تغره الأحلام في عنفوان نشوتها، بأن يشتهي أن يطوف في عالم من المجاهل المشمسة وإلى جانبه رفيق جميل يعتمد على ذراعه في رفق؟ في الشباب لا تعرف خطواته الحرة الجذلة عائقا سوى عباب اليم المتحدر ورءوس الجبال التي يكسوها الثلج. ثم تجيء الرجولة الساكنة فتؤثر بيتا في واد سخت عليه الطبيعة بالزخرف، وأجرت فيه غديرا رائقا شفافا. حتى إذا دلفت إليه الشيخوخة بعد سنوات طويلات المدد من تلك الحياة النقية إذا به قد صار أبا لقبيل، ورأسا لشعب، ومؤسس أمة عظيمة تتمخض عنها الأيام. ثم يوافيه الحين فيستسلم إليه ويرحب به، كما نرحب بالنوم العذب بعد يوم سعيد، فيبكي ولده رفاته الجليل. ويحيطه كر الأيام بهالة، ويكسبه مناقب وخصائص عجيبة ترفعه في أعين الأجيال التالية إلى قريب من مراتب الأرباب. وترجع الإنسانية بصرها من وراء قرن فتلمح مجده الخافت.
على أن الغابة المظلمة المعقدة المسالك التي كان يضرب فيها من أروي قصتهم، لم تكن تشبه في شيء تلك الأرض التي تصورها الأحلام. ولكنه كان في أسلوب حياتهم ما يجري على نسق الطبيعة، وكانت الهموم المخامرة التي رافقتهم من الدنيا التي خرجوا منها، هي كل ما يعكر الآن صفو حياتهم ويحول دون استفاضة الشعور بالسعادة. وكان معهم جواد أشعث متين الأسر، يحمل كل ما يملكون ولا يجزع أن تضاف دوركاس إلى ما يحمل، وإن كانت نشأتها تعينها على السير إلى جانب زوجها في آخر كل مرحلة يومية. وكان روبن وابنه يمشيان بخطى ثابتة قوية وعلى كتف كل منهما بندقيته، وعلى ظهره فأسه، وعينه تدور باحثة عن قنيصة للطعام. وكلما جاعوا وقفوا وأعدوا طعامهم على شاطئ غدير صاف، فإذا ظمئوا انحنوا بشفاههم على مائه السلسال ليرشفوا من نميره، وهو يترقرق عنهم في مثل دلال الغادة إذ تتلقى القبلة الأولى من فم حبيبها. وكانوا ينامون في كوخ يصنعونه من الأغصان ويستيقظون مع أول خيط من النور، وقد انتعشوا وتهيئوا لمتاعب اليوم التالي. وكانت دوركاس وابنها يمشيان مرحا، حتى روبن كان أحيانا يشرق وجهه ويلمع فيه نور البشر، ولكنه كان يطوي بين أضلاعه كمدا باطنا يقرص قلبه ويتركه فيما يرى كمجرى الغدير جمد فيه ماؤه وغطته أوراق الشجر الخضراء النضيرة.
وكان سيراس بورن أعرف بمسالك الغابات وأخبر بالسير فيها من أن يخفى عليه أن أباه لا يلتزم الجادة التي ساروا فيها الخريف الماضي، فقد كان ينتحي ناحية الشمال وينأى عن الأرض المأهولة ويضرب إلى حيث لا توجد إلا الوحوش وأمثالها من الآدميين. وكان الغلام ينبهه إلى ذلك أحيانا فيصغي له روبن، ويعدل عن الطريق الذي كان آخذا فيه، عملا منه بنصيحة ابنه، ولكنه كان كلما فعل ذلك بدا كالمضطرب، فكان يمد لحظه ويجيله كأنما يتوقع أن يرى أعداء مختبئين وراء جذوع الشجر. وكان سيراس يرى أن أباه يرتد شيئا فشيئا إلى اتجاهه الأول الذي كان قد صرفه عنه، فيحجم عن معاودة الاعتراض، وكان يشعر أن شيئا غامض الكنه قد بدأ يجثم على صدره، ولكن جرأته الفطرية على الخطار أبت له أن يأسف من أجل أن الطريق زاد طولا وغموضا.
وفي عصر اليوم الخامس وقفوا وهيئوا لأنفسهم مكانا قبل الغروب بساعة، وكان وجه الأرض فيما قطعوا من الأميال الأخيرة يعلو ويهبط كأنه أمواج تحجرت. وقد أقاموا في منخفض منها كوخهم وأوقدوا نارهم. وكان في مقامهم هناك - وقد نأوا عن كل حي ووثق ما بينهم الحب - ما يشجو ويملأ القلب حرارة. وكانت أشجار الصنوبر تشرف عليهم وتتخلل الريح أغصانها العالية، فتتجاوب الغابة بمثل أصوات الوله والأسى، أم ترى هذه الأشجار العتيقة تتوجع مخافة أن يكون الإنسان قد أقبل ليضرب في جذورها بفأسه ...؟
ورأى روبن وابنه أن يدعا دوركاس تهيئ الطعام وأن يتجولا في الغابة عسى أن يقعا على فريسة فقد أخطأهما الصيد في نهارهما. ووعد الغلام ألا يبعد وذهب يعدو خفيفا كالظبي الذي يرجو أن يصيد. وشعر أبوه بنفحة عارضة من السعادة وهو يتبعه بعينه. وهم بأن يمضي هو في اتجاه آخر. وجلست دوركاس فوق جذع شجرة قديمة مقتلعة على كثب من العيدان التي أضرمت فيها النار. وكانت تلقي نظرها من حين إلى حين على القدر التي بدأت تفور وتغلي ثم ترد عينها إلى «تقويم ولاية ماساشوستس» وكان هذا التقويم ونسخة قديمة من الإنجيل كل مكتبة الأسرة. وليس أشد عناية بحساب الأيام ممن نأوا عن المجتمع الإنساني، فلا عجب إذا كانت دوركاس قد قالت لزوجها إن اليوم هو الثاني عشر من شهر مايو/أيار كأنما هذا على أعظم جانب من الأهمية. فاضطرب روبن وتمتم: «الثاني عشر من شهر مايو ...؟ إني لحقيق بأن أذكره» وتزاحمت الخواطر في رأسه فأحدثت له اختلاطا يسيرا وراح يسأل نفسه: «أين أنا ...؟ وإلى أين أنا ماض؟ وأين تركته ...؟»
وكانت دوركاس قد ألفت من زوجها غرابة أطواره فلم تعد تلقي بالها إلى ما يبدو من شذوذها. فوضعت التقويم إلى جانبها وقالت له بتلك اللهجة الشجية المعهودة التي يتخذها رقاق القلوب حين تكر بهم الذكرى إلى أحزانهم القديمة التي خمدت نارها: «لقد ترك أبي هذا العالم إلى آخر خير منه في مثل هذا الشهر منذ ست عشرة سنة. ولكنه لم يعدم ساعدا قويا يسند رأسه وصوتا حنونا يخفف عنه غصص الموت يا روبن. إن عنايتك به ووفاءك له قد عزياني مرارا كلما جشأت نفسي وجاشت. ألا ما أهول الموت على المستفرد الوحيد في مثل هذا المكان الموحش!»
فقال روبن بصوت متهدج: «ادعي الله يا دوركاس ألا يدرك الموت أحدنا نحن الثلاثة وهو وحيد، وألا يبقى بغير دفن في هذه الغابة العاوية.»
وأسرع ومضى عنها وتركها تنظر إلى النار تحت الصنوبر.
وخفت وطأة روبن وأبطأت رجله لما خفت حدة الألم الذي أحدثته له دوركاس بما قالته عفوا. ولكن الخواطر الأليمة كانت تتزاحم وتتدافع في رأسه فكان يمشي كالنائم لا كالصائد. ولم يكن عن قصد منه أنه بقي على مقربة من الكوخ فقد كانت رجله كأنما تدب به دائرة. ولم يفطن إلى أنه قد صار على رأس طريق مكتظ بأشجار السنديان وغيره من الأشجار العظيمة. وكانت أصول الشجر قد نمت عليها وازدحمت حولها الأغصان النابتة وبقي ما بين الشجر عاريا لا يكسوه إلا الورق الذاوي المنتثر. وكان روبن كلما سمع حفيف الأغصان أو صوت تمايل الجذوع - كأنما انبعثت الغابة من سباتها - يرفع بندقيته المراحة على ذراعه ويدير عينه بسرعة في كل ناحية. ثم يقتنع بأن لا شيء من الحيوان هناك فيعود إلى ما يدور في نفسه ويضطرب به جنانه. وكان يفكر فيما صرفه عن الطريق الذي كان معتزما أن يأخذه ورمى به قلب الغابة. ولم يستطع روبن أن يتغلغل بعينه إلى مكامن الأسرار من نفسه وأن يهتدي إلى البواعث الحقيقية المكنونة في قرارة الوجدان، فاعتقد أن صوتا من وراء الحس قد دعاه، وأن قوة من وراء الطبيعة قد حالت دون ارتداده، وتمنى أن تكون مشيئة الله قد أتاحت له فرصة للتكفير عن خطيئته، ورجا أن يعثر على العظام التي بقيت هذا الزمن الطويل بلا دفن، فيدرجها في جوف الأرض فتعود إلى نفسه السكينة وتنشر النور بين حنايا ضلوعه التي صارت أحلك من القبر.
وانتبه على حفيف في الغابة على مسافة من الموضع الذي تقوده إليه رجلاه، ولمح حركة وراء النبات الأثيث الملتج، فأطلق بندقيته بدافع من غريزة الصياد وبإحكام الرامي المدرب. ولم يلتفت إلى الأنة الخفيفة التي تنبئ بإصابة المرمى، والتي يستطيع حتى الحيوان أن يعرب بها عما يعاني من أخذ الموت بكظمه.
ولكن ما هذه الذكريات التي بدأت الآن تطوف برأسه؟ ...
لقد كان الموضع المعشوشب الذي أطلق روبن بندقيته قريبا من قمة مرتفع من الأرض ومن أصل صخرة ملساء كأنها حجر ضخم مما يرفع على القبور. وكانت تبدو لروبن كأن لها صورة معكوسة في مرآة ذاكرته - بل لقد تذكر تلك العروق الجارية على وجه الصخرة كالكتابة بلغة منسية - كل شيء بقي كما كان سوى أن النبات الكثيف غطى أصل الصخرة، فهو يستطيع أن يحجب رفات روجر مالفن لو أنه بقي كما تركه قاعدا هناك، ولكن عين روبن لم تلبث أن أخذت بعض ما أحدثه الزمن من التغيير مذ كان واقفا هنا وراء جذع الشجرة الذاهبة في الهواء، وذلك أن العود الذي ربط إليه الخرقة الملطخة بالدم قد نما واشتد وصار شجرة عظيمة كثيرة الفروع المورقة، وإن كانت لم تستوف كل حظها من النماء. وقد رأى روبن في هذه الشجرة ما جعله يضطرب، فقد كانت الغصون الوسطى والسفلى ترف فيها نضرة الحياة، وكانت الخضرة اليانعة تحف بأصل الشجرة، ولكن آفة على ما يظهر أصابت قمتها فبدا الغصن الأعلى ذاويا جافا ميتا. وتذكر روبن أن الخرقة التي نشرها كالراية كانت تخفق على هذا الفرع لما كان أخضر وريقا، فأي خطيئة يا ترى عصفت به وأذوته ...؟ ومن عسى أن يكون ذاك الذي اقترفها ...؟ •••
وكانت دوركاس تواصل عملها في إعداد الطعام بعد أن تركها زوجها وابنها، وقد اتخذت من ساق شجرة غليظة متجدعة مائدة نشرت على أعرض موضع فيها منديلا ناصع البياض، ورتبت فوق هذا ما بقي عندها من الأوعية المعدنية التي كانت تزهي بها في بيتها. وكان لهذه البقية من الأدوات المنزلية منظر غريب في قلب الغابة الموحشة، وكانت الشمس الغاربة لا تزال تضيء قمم الأشجار القائمة على الربى. ولكن ظلال المغيب كانت قد ارتمت وتكاثفت على وجه المنخفض الذي أقيم فيه الكوخ. وكانت النار ترسل ألسنتها فتضيء سيقان الشجر، ويخفق نورها على النبات المحيط بالمكان. ولم يكن في قلب دوركاس حزن، فقد كانت تحدث نفسها بأنه خير لها أن تجوب الغابة مع اثنين تحبهما ويحبانها من أن تكون وحدها بين من لا يعبئون بها.
وشغلت نفسها بإعداد مقاعد من خشب الشجر المتقادم المتجدع المغطى بالورق لنفسها ولروبن ولابنها. وكانت ترسل الصوت في جوف الغابة المظلمة فيرقص على نغم أغنية تعلمتها في صباها. وكانت هذه الأغنية الساذجة التي نظمها شاعر لم يفز بالذكر تصف ليلة شتوية في كوخ على الحدود، حيث كانت الأسرة تمرح وتنعم بالدفء من النار الموقدة، وقد أمنت عدوان المتوحشين بفضل ما تكدس من الثلوج. وكان للأغنية ذلك السحر الخفي الذي تمتاز به الخواطر المبتكرة غير المستعارة. ولكن أربعة أبيات منها كانت تبرز وتضيء وتشع النور والحرارة كلسان النار الذي تصف السرور حوله، وفي هذه الأبيات استطاع الشاعر أن يصوغ السحر بألفاظ قليلة، وأن يستقطر معاني الحب البيتي ويجسد السعادة المنزلية، فصارت الأبيات شعرا وصورة في آن معا.
وكانت دوركاس وهي تغني تحس أن جدران بيتها الذي فارقته تحيط بها هنا، فلم تعد ترى أشجار الصنوبر المظلمة، أو تسمع الأنات الجوفاء التي ينتهي بها نواح الرياح بين الأفنان، ولكن ردها إلى ما حولها طلق بندقية فاضطربت جدا من مفاجأة الصوت، أو من فرط الشعور بالوحدة وهي إلى جانب النار، على أنها ما عتمت أن ضحكت وقد عمر قلبها الزهو بابنها، فقالت تحدث نفسها: «يا له من صائد جميل ... لقد أصاب ابني ظبيا.» فقد تذكرت أن صوت الطلق جاء من الناحية التي ذهب إليها سيراس باحثا عن طريدة. وانتظرت فترة كافية توقعت بعدها أن تسمع وقع قدمي سيراس يعدو إليها ليخبرها بما ظفر به، ولكنه لم يجئ، فأرسلت صوتها المرح بين الأشجار تدعوه إليها: «سيراس ... سيراس ...»
ولكنه أبطأ ولم يجئ، فاعتزمت أن تذهب هي إليه، فقد كان صوت الطلق ينبئ بأنه منها قريب، ثم إنه قد يحتاج إلى معونتها لحمل ما منت نفسها أن يكون قد صاده. ونهضت ومضت مهتدية بذكرى الصوت الذي سمعته، وكانت تغني وهي سائرة، ليسمعها ابنها فيخف للقائها، وكانت ترجو أن يطالعها وجهه من وراء كل شجرة، وكل ما يمكن أن يحجبه من النبات العالي، وأن تسمع ضحكته المنبعثة عن روح العبث في المغامر حين يلقى من يحب. وكانت الشمس قد غابت وراء الأفق، وكان الضوء المختلف بين الأشجار من الخفوت بحيث يجسد الأوهام لخيال المتطلع. وقد خيل إليها مرات أنها لمحت وجهه - ولكن في غير وضوح - مطلا من بين الأوراق، وكبر في وهمها مرة أنه واقف إلى جانب صخرة، وأنه يومئ إليها، على أنها بعد أن أوسعت هذه الصخرة تحديقا، تبينت أن الذي بجانبها ليس إلا ساق شجرة تحف بها أغصان كثيرة، كان أحدها ممتدا وكان النسيم يحركه. وظلت تتقدم حتى بلغت الصخرة، فألفت نفسها بغتة أمام زوجها الذي كان قد جاء من ناحية أخرى، وكان متكئا على صدر بندقيته التي انغرست فوهتها بين الأوراق وهو يتأمل شيئا عند قدميه.
فصاحت به دوركاس: «ما هذا يا روبن ...؟ أتراك صدت الظبي ثم نمت عليه ...؟»
وكانت تضحك مغتبطة بما لمحت أول الأمر من وقفته وهيئته، ولكنه لم يتحرك ولا حول إليها عينه، فدب في قلبها الخوف، وأخذتها رعدة مجهولة المصادر والعلل، وتفرست فتبينت في وجهه الامتقاع والتصلب، حتى لكأنما عجزت معارف محياه أن تغير ما ارتسم عليها من صورة اليأس.
ولم يبد منه ما يدل على أنه أحس بقربها، فصاحت به: «أتوسل إليك يا روبن أن تكلمني» وأفزعها صوتها أكثر مما أفزعها هذا السكون الرهيب.
وتنبه زوجها ونظر إليها ثم جرها إلى الصخرة وأشار بإصبعه، فإذا غلامها هناك راقد ... نائم نوما لا حلم فيه ولا يقظة منه ... على أوراق الشجر الجافة، وخده على ذراعه، وأعضاؤه مسترخية قليلا ... أفتراه أدركه إعياء مباغت ...؟ أيمكن أن يوقظه صوت أمه ويرده إليها ...؟ كلا ... فقد أدركت أنه الموت الذي لا حيلة فيه.
وقال زوجها: «هذه الصخرة العالية هي الحجر القائم على قبر أبيك يا دوركاس ... وستسقط أشجارك على ابنك وأبيك كليهما.»
ولم تسمع دوركاس ما قال، بل أطلقت صرخة جزع انشقت عنها حبة قلبها المطعون، وهوت مغشيا عليها إلى جانب فتاها، وفي هذه اللحظة انقصف الفرع اليابس الذي في قمة الشجرة ... وتهاوى هشيمه وتناثر ما بلي منه على الصخرة ... وعلى الأوراق الذاوية المبعثرة ... وعلى روبن وزوجته وابنهما ... وعلى رفات روجر مالفن.
وانعصر قلب روبن، وتفجرت الدموع من عينيه كما يتفجر الماء من ينبوعه ... لقد وفى الرجل الذي حاقت به اللعنة بالنذر الذي نذره وهو شاب جريح ... وقد كفر عن خطيئته فزالت عنه اللعنة.
وفي هذه الساعة التي أهرق فيها دما أعز عليه من دمه، اختلجت شفتاه بصلاة ارتفعت إلى السماء، وكانت الأولى التي تحركتا بها منذ سنين وسنين.
إدجر أللان بو
1809-1849
نبيذ الأمونتيللادو
احتملت من «فورتيناتو» ألف مساءة ومساءة، ولكنه اجترأ علي بالإهانة، فأقسمت لأنتقمن منه، وأنت يا من تعرف طباعي معرفتها لن تظن بي أني أجريت لساني بتهديد أو نطقت بكلمة وعيد. كلا ... لقد آليت أن أنتقم، ووطنت نفسي على ذلك، وكان هذا مني قرارا حاسما لا رجعة فيه ولا تردد. على أن هذه الصبغة النهائية لما اعتزمته استوجبت أن أتقي المجازفة. فإنه لا يكفي أن يحل به عقابي، وإنما ينبغي أن أكون في أمان من المخاوف وأنا أفعل ذلك، فإن أخذك المرء بذنب كان منه لا يكون فيه معنى الانتصاف إذا تعقبك منه ثأر؛ كذلك لا يكون الانتصاف انتصافا إذا عجزت عن جعل الآثم المسيء يدرك ذلك.
ويجب أن يتقرر في الأذهان أني حرصت على أن أتقي كل لفظ أو عمل يحمل فورتيناتو على الشك في حسن نيتي، ومن أجل هذا ظللت أبتسم له كعادتي كلما لقيته، ولم يدرك هو أن ابتسامي الآن إنما هو لما أتخيله من صورته إذ أقدمه قربانا على مذبح غضبي.
وكان في فورتيناتو هذا موضع ضعف، وإن كان فيما عدا ذلك رجلا جديرا بالاحترام، بل مرهوب الجانب أيضا، وذلك أنه كان يعتز ويباهي بحذقه في تمييز أصناف النبيذ. وقل من الإيطاليين الحاذق الصادق، ويغلب أن يكون ما يلغطون به من ذلك دعوى يدعونها ليسايروا الزمن ويغتنموا الفرص ويخدعوا أثرياء الإنجليز والنمسويين. وقد كان فورتيناتو دعيا كغيره في التصوير وما إليه، أما في الأنبذة المعتقة فكان أستاذا مخلصا، ولم يكن بيني وبينه في هذا تفاوت يستحق الذكر، فقد كان لي مثل براعته، وكنت أشتري مقادير عظيمة لأعتقها كلما تيسر لي ذلك.
وفي إحدى الليالي، عند الشفق، وقد بلغ جنون الناس في موسم المرافع منتهاه، لقيت فورتيناتو، وكان قد أسرف في الشراب قبل ذلك، وكان في ثياب محبوكة التفصيل متعددة الألوان، وعلى رأسه طرطور ذو أجراس، فبلغ من سروري برؤيته أنه خيل إلي أني لن أقضي وطري من مصافحته.
وقلت له: «يا صديقي العزيز، إني سعيد الحظ بلقائك، وتالله ما أنضر وجهك اليوم ... لقد تلقيت بضعة دنان مما يزعمونه نبيذ الأمونتيللادو ولكن الشكوك تساورني.»
فقال: «ماذا ...؟ أمونتيللادو؟ ... مستحيل ... وفي منتصف موسم المرافع أيضا؟ ...»
قلت: «إني عظيم الشك أيضا، ولكني لغفلتي أديت الثمن الوافي لهذا الشراب قبل أن أرجع إليك وأستشيرك، غير أني لم أعثر عليك، وخفت أن تفلت مني الفرصة.»
فجعل يتمتم: «أمونتيللادو ...؟»
قلت: «إني أشك فيه.»
فظل يتمتم: «أمونتيللادو؟»
فقلت: «لا بد أن أتبين.»
فعاد يتمتم: «أمونتيللادو؟»
قلت: «ولما كنت أنت مشغولا فسأذهب إلى لوشيزي فإنه ذواق، ولا شك أنه سيجلو لي ...»
فقال مقاطعا: «إن لوشيزي لا يستطيع أن يميز النبيذ الأبيض من نبيذ الأمونتيللادو!»
قلت: «ومع ذلك يزعم الجاهلون أن ذوقه كذوقك!»
قال: «تعال ... امض بي ...!»
قلت: «إلى أين؟»
قال: «إلى أقبيتك.»
قلت: «كلا يا صديقي، فلن أستغل طيب قلبك، وإني أستطيع أن أرى أنك على موعد، وفي لوشيزي ...»
قال: «لست مرتبطا بشيء ... تعال.»
قلت: «لا يا صديقي فإني أرى أنك مصاب ببرد شديد، والأقبية لا تطاق رطوبتها، وجدرانها مغطاة بطبقة من الأملاح.»
قال: «فلنذهب على الرغم من هذا البرد، فما هو بشيء ... أمونتيللادو ...؟ لقد ضحكوا عليك وخدعوك ... أما لوشيزي فإنه يعجز عن تمييز هذا من النبيذ الأبيض!»
ولف ذراعه بذراعي، فأرخيت على وجهه قناعا من الحرير الأسود، وضممت شملتي وتركته يمضي مسرعا إلى قصري.
ولم يكن في القصر خدم، فقد ولوا جميعا ليقصفوا احتفالا بالعيد، وكنت قد أخبرتهم أني لن أعود إلا في الصباح وأمرتهم أمري صريحا ألا يبرحوا القصر، وكنت على يقين من أن هذا الأمر وحده كاف لإغرائهم بالخروج متى أوليتهم ظهري.
وتناولت مشعلين ناولت فورتيناتو أحدهما وتخللت به حجرات عدة، حتى بلغنا العقد المفضي إلى القبو، ونزلنا سلما طويلا متلويا، وأنا أرجو منه أن يأخذ حذره وهو يتبعني حتى بلغنا الدرجة الأخيرة، ووقفنا معا على الأرض الرطبة في مقبرة «آل مونتريزور.»
وكان صاحبي يترنح قليلا في مشيته، وكانت أجراس طرطوره تتلاقى وهو يخطو فتكون لها رنة.
وسألني: «أين الدنان؟ ...»
قلت: «إنها على مسافة من هنا ... ولكن انظر هذا البياض الملتمع على جدران هذه المغارة.»
فالتفت إلي وأتأرني النظر بعينين كأن عليهما غشاء من سمادير السكر.
1
وسأل أخيرا: «أملاح؟ ...!»
قلت: «نعم، ولكن منذ متى هذا السعال؟»
فراح يسعل، وظل المسكين دقائق كثيرة لا يستطيع أن يجيب مما أخذه من سعاله، ثم قال أخيرا: «إنه لا شيء!»
فقلت بلهجة حازمة: «اسمع، سنعود أدراجنا، إن صحتك غالية، وأنت غني ومحبوب وعزيز مكرم وسعيد أيضا، كما كنت أنا في بعض ما خلا من العمر ... ومثلك يفتقد ... أما أنا فأمري على خلاف ذلك، فسنعود إذن، فإني أخاف أن يثقل عليك الداء ولست أستطيع أن أبوء بهذه التبعة، ثم إن هناك لوشيزي ...»
فقال: «كفى، إن هذا السعال لا شيء، ولن يقتلني، كلا، لن تميتني سعلة.»
قلت: «صدقت، وما كان قصدي أن أثير مخاوفك ووساوسك بلا موجب، ولكن عليك أن تحاذر، ولعل كرعة روية من نبيذ الميدوك هذا يقينا شر الرطوبة.»
وضربت عنق قارورة أخرجتها من صف طويل من القوارير القائمة على الأرض الرخوة وقدمتها إليه وقلت: «اشرب» فرفعها إلى شفتيه وعينه تومض فيها معاني السرور والظفر، وهز رأسه إلى فرنت أجراس طرطوره وقال: «إني أشرب نخب المدفونين الراقدين هنا.»
فقلت: «وأنا أشرب متمنيا لك عمرا مديدا.»
وعاد إلى ساعدي فتناوله واستأنفنا السير.
وقال: «إن هذه الأقبية طويلة.»
قلت: «لقد كان آل مونتريزور كثيرين وسادة.»
قال: «لقد نسيت شارتكم!»
قلت: «قدم عظيمة من الذهب في حقل لازوردي، والقدم تدوس حية قائمة وناباها مغروزان في الكعب!»
قال: «وشعاركم؟ ...!»
قلت: «لا أمن لمن يستفزني.»
قال: «حسن.»
وكانت عينه تلتمع من فعل النبيذ، والأجراس ترن، وكان الشراب قد طار في رأسي أيضا فنشط خيالي، وكنا قد اجتزنا جدرانا تكدست إلى جانبها العظام، واختلطت بالدنان والرواقيد والخوابي، حتى بلغنا أقصى أركان المقبرة، فوقفت وتشجعت وقبضت على ذراعه من فوق المرفق وقلت: «هذه الأملاح ... انظر ... إنها تزداد على الجدران وتبدو معلقة كالطحلب فإنها تحت مجرى النهر، وقطرات الرشح تجري بين العظام، فلنعد قبل أن تضيع الفرصة، فإن سعالك ...»
فقال: «إنه لا شيء فلنستمر، ولكن هات اسقني أولا من النبيذ الميدوك.»
فأطرت عنق زجاجة من نبيذ «دي جراف» وناولته إياها فأفرغها في فمه ولمعت عيناه لمعانا قويا، وضحك ورفع يده بالزجاجة إلى فوق مشيرا بها إشارة لم أفهم لها معنى.
ونظرت إليه مستغربا، فكرر الإشارة - وكانت فيما يبدو لي مضحكة - فقال: «ألا تفهم؟»
قلت: «لا ...»
قال: «إذن أنت لست من العشيرة؟»
قلت: «ماذا تعني؟»
قال: «لست من عشيرة البنائين (الماسون).»
قلت: «نعم، نعم، أنا منهم!»
قال: «أنت؟ بناء ...؟ مستحيل ...»
قلت: «بناء.»
قال: «هات أمارة.»
قلت: «هذه هي.»
وأخرجت له مسجة
2
من ثنايا عباءتي.
فقال وهو يتراجع بضع خطوات: «إنك تمزح، ولكن هيا بنا إلى دنان الأمونتيللادو.»
قلت: «فليكن ما تريد.»
ورددت المسجة إلى حيث كانت تحت مشملتي وناولته ذراعي ليتأبطها فاتكأ عليها بوزنه ومضينا في طريقنا إلى الأمونتيللادو وسرنا تحت سلسلة من العقود الواطئة، وانحدرنا شيئا ثم استقمنا ثم عدنا فانحدرنا كرة أخرى وبلغنا جديرة
3
طويلة فاسدة الهواء حتى لكان المشعلان يتوهجان ولا يرتفع لهما لسان.
وكان في أقصى هذه الجديرة أخرى أضيق منها، وكانت جدرانها قد رصت إلى جانبها العظام البشرية وارتفعت على مستواها إلى العقد على نحو ما في المقابر الكبرى في باريس. وكانت ثلاثة من جدران هذا المخبأ الداخلي مزدانة على هذه الصورة، أما الجدار الرابع، فقد سقطت عنه العظام واختلطت على الأرض وصار بعضها كوما. ورأينا من فرجة في الحائط الذي انكشف لنا بسقوط العظام عنه مخبأ داخليا آخر يبلغ طوله أربع أقدام، وعرضه ثلاث أقدام وارتفاعه من ست أقدام إلى سبع. ولم يكن فيما يبدو متخذا لغرض خاص، وإنما كان فرجة بين عمادين ضخمين يحملان سقف المقابر، وكان آخره أحد حيطانها المبنية من الصخر الأصم.
وعبثا حاول فورتيناتو أن يرفع مشعله ليرى آخر هذا المخبأ فما كان هذا الضوء الخافت ليساعد على الرؤية.
وقلت له: «امش فإن هنا دنان الأمونتيللادو. أما لوشيزي ...»
فقال مقاطعا: «إنه جهول.» وخطا إلى الأمام في اضطراب وأنا في أثره، وما لبث أن بلغ آخر المخبأ، وألفى الصخر يحول دون المضي، فوقف مذهولا كالأبله، وما هي إلا هنيهة حتى كنت قد قيدته إلى الصخرة، وكان على وجهها حلقتان من حديد تتدلى من إحداهما سلسلة قصيرة ومن الأخرى قفل. ولم أحتج إلى أكثر من ثوان قليلة لأشد السلسلة على خصره وأثبتها في القفل، وكان هو من فرط الذهول لا يقاوم.
ونزعت مفتاح القفل وتراجعت خارجا من المخبأ وأنا أقول: «أرح كفك على الحائط فلن يسعك إلا أن تحس الأملاح. والحق أنه مكان رطب جدا. فاسمح لي مرة أخرى أن أناشدك أن ترجع ... لا؟ إذن لا يسعني إلا أن أدعك وما آثرت لنفسك، غير أني سأؤدي لك قبل رحيلي كل ما يدخل في طوقي.»
فصاح: «الأمونتيللادو.» وكان لا يزال في ذهوله لم يفق منه.
فقلت: «صحيح ... الأمونتيللادو.» وأقبلت وأنا أقول ذلك على كوم العظام الذي أسلفت ذكره فنحيته وكشفت عن حجارة وطين. وبهذا وتلك - وبفضل المسج الذي كان معي - شرعت أبني المخبأ وأسده.
ولم أكد أفرغ من أول مدماك
4
حتى تبينت أن فروتيناتو قد راحت سكرته إلى حد كبير وكان أول ما دلني على ذلك أنين خافت من أعماق المخبأ، ولم تكن هذه بأنة رجل سكران، وأعقب ذلك سكون طويل، ورفعت المدماك الثاني ثم الثالث ثم الرابع فسمعت صوت السلسلة وهو يجاهد بعنف أن يفكها، وظلت هذه الضجة دقائق عديدة كففت في أثنائها عن العمل وقعدت على العظام لأنصت. وانقطع الصوت فعدت إلى العمل وبنيت المدماك الخامس فالسادس فالسابع بلا شاغل. وصار الجدار الذي أرفعه محاذيا لصدري فتوقفت مرة أخرى ورفعت المشعل فوق البناء فأراق ضوءه الضعيف على الرجل. وفي هذه اللحظة أطلق فورتيناتو سلسلة صيحات حادة فاجأني بها فأحسست أني رددت إلى الوراء، فترددت لحظة قصيرة واضطربت أيضا وجردت خنجري من قرابه ورحت أضرب به داخل المخبأ، ولكن التفكير السريع أعاد إلى نفسي الاطمئنان فوضعت يدي على البناء المتين وأحسست بالارتياح والرضى. وعدت إلى الحائط الذي أرفع بناءه وأجبت الصارخ من ورائه ... رجعت صدى صوته ... أعنته ... بذذته بأعلى من صياحه وأشد ... فقرت الضجة وعادت السكينة.
وكان الليل قد انتصف وقارب عملي ختامه، فقد أتممت المدماك الثامن فالتاسع فالعاشر، ولم يبق على تمام الحادي عشر إلا حجر واحد أضعه في مكانه وأمسح عليه، فحملته بجهد وشرعت أضعه، ولكن ضحكة ضعيفة ارتفع بها الصوت إلي من أعماق المخبأ، فوقف لها شعر رأسي، وتلاها صوت حزين كان من العسير أن أصدق أنه صوت فورتيناتو النبيل، وكان الصوت يجري هكذا: «ها ها ها ... هي هي هي ... يا لها من فكاهة ... مزحة ظريفة جدا ... سنضحك كثيرا حين نعود إلى القصر ... ها ها ها ... على الشراب ... ها ها ها.»
فقلت: «الأمونتيللادو.»
فردد ضحكته وكلمتي: «هي هي هي ... ها ها ها ... نعم الأمونتيللادو ... ولكن ألسنا قد تأخرنا جدا ...؟ سيطول عليهم الانتظار في القصر ... السيدة فورتيناتو والبقية ... فلنذهب.»
قلت: «نعم فلنذهب.»
فصاح: «أستحلفك بالله يا مونتريزور.»
فقلت: «نعم أستحلفك بالله.»
وعبثا انتظرت أن أسمع جوابا لهذا، فضجرت وصحت: «فورتيناتو»، فلم أسمع جوابا، فصحت مرة أخرى «فورتيناتو.»
فلم يتأد إلي صوت، فدفعت يدي بالمشعل من الفرجة الضيقة الباقية وتركته يقع، فلم أسمع سوى رنين الأجراس، فأحسست بقلبي يعصره شيء، من جراء الرطوبة في هذه المقبرة. فأسرعت وأتممت عملي وثبت الحجر الأخير في مكانه وطليته بالطين، ثم رصصت على البناء الجديد العظام القديمة، وقد مضى نصف قرن لم يزعجها فيه شيء.
هوامش
تشارلز ديكنز
1812-1870
شجرة الميلاد
ثلاثة أفرع (1) الفرع الأول: «نفسي»
احتفظت بسر واحد في حياتي، ذلك أني رجل حيي. وما من أحد يخطر له ذلك، وما من أحد خطر له ذلك، وما من أحد يمكن أن يخطر له ذلك، ولكني بطبيعتي رجل حيي. وهذا هو السر الذي لم تضطرب به شفتاي قبل اليوم.
وفي وسعي أن أحرك نفس القارئ ببيان الأماكن العديدة التي اتقيت أن أذهب إليها، والناس الكثيرين الذين اجتنبت أن أزورهم أو أن أستقبلهم، وما اضطررت أن أتحاماه من المجتمعات لا لسبب سوى أني بطبيعة تكويني، وما بنيت عليه فطرتي، رجل حيي. غير أني أؤثر أن أدع نفس القارئ ساكنة، وأن أمضي إلى غايتي.
وغايتي هي أن أروي ما كان من رحلتي إلى فندق شجرة الميلاد، وما وقفت عليه فيه هناك حيث ضرب علي الجليد نطاقا. وكان ذلك في عام ستظل ذكراه باقية، فارقت فيه «أنجيلا ليث» إلى غير رجعة، وكنت أهم بزواجها، فعلمت أنها تؤثر صديقي الحميم «إدوين»، وكنت منذ عهد التلمذة أقر له فيما بيني وبين نفسي بالتفوق والمزية والرجحان. وقد حز في نفسي تفضيلها له ولكني لم يسعني إلا أن أدرك أن الأمر طبيعي، فحاولت أن أصفح عنهما، وانتويت الرحيل إلى أمريكا، في طريقي إلى الشيطان.
ولم أفض بشيء مما علمت إلى أنجيلا أو إدوين، وقلت أبعث إلى كل منهما بكتاب أضمنه دعائي لهما وعفوي عنهما، ويحمله عامل السفينة إلى صندوق البريد، على حين أكون أنا موليا وجهي شطر العالم الجديد - أقول إني دفنت حزني في صدري، وعزيت نفسي بما وطنتها عليه من التسامح والمروءة، وفارقت كل ما هو عزيز علي، وشرعت في هذه الرحلة الموحشة التي أسلفت الإشارة إليها.
وكان الشتاء على أشد ما يكون قرصا حين غادرت بيتي إلى الأبد، في الساعة الخامسة صباحا. ولا أحتاج أن أقول إني حلقت ذقني على ضوء شمعة، وإن البرد كان يهرؤني هراءة شديدة، وإني كنت أحس كأني قمت من النوم لأشنق، وهو إحساس مقترن عندي بالنهوض قبل الأوان في مثل هذه الأحوال.
وما زلت أذكر جهامة «فليت ستريت»، لما خرجت إليه من حي «التمبل» وكانت ألسنة المصابيح تضطرب من زفيف الرياح النكباء، حتى لكأن الغاز نفسه قد تقبض من البرد. وكنت أرى أعالي البيوت البيضاء، وصفحة السماء المقرورة، والنجوم فيها خفاقة اللمعان، والساعين إلى الأسواق وغيرهم من المبكرين وهم يهرولون ليدور في عروقهم الدم الذي كاد يجمد، وألمح الضوء، وأكاد أحس الدفء من المقاهي القليلة المفتوحة لأمثال هؤلاء الزباين، ولا يسعني إلا أن أشعر بالبرد الذي كان الهواء يجلد به وجهي كالسوط.
وكان باقيا على نهاية الشهر وختام العام تسعة أيام، وكانت السفينة الذاهبة إلى الولايات المتحدة ستغادر ميناء «ليفربول» - إذا كان الجو ملائما - في اليوم الأول من الشهر التالي، فأمامي فسحة من الوقت، فخطر لي أن أزور مكانا (لا داعي لذكر اسمه) على الحدود القصوى لمقاطعة يوركشير. يذكرنيها دائما، ويحببها إلي أني التقيت فيها أول ما التقيت بأنجيلا في بيت ريفي، وقد أحسست أن مما هو خليق أن يخفف لواعجي، أن أودع هذا المكان قبل أن أنفي نفسي، ويحسن أن أقول هنا إني أردت أن أمنع البحث عني قبل إمضاء عزمي، فكتبت إلى أنجيلا ليلا قبل رحيلي - كما كانت عادتي - أقول لها إن عملا لا يحتمل الإرجاء، ستعرف تفاصيله فيما بعد، استوجب سفري وغيابي أسبوعا أو عشرة أيام.
ولم تكن السكة الحديدية الشمالية قد مدت في ذلك الحين، وكان الانتقال والسفر بالمركبات التي أراني أحيانا - كغيري من الناس - أتكلف الأسف على زوال عهدها، وإن كان كل امرئ يفرق من ركوبها ويعده عذابا غليظا. وكنت قد احتفظت بمقعد إلى جانب الحوذي على أسرع هذه المركبات، وكان همي الآن أن أركب شيئا ومعي حقيبتي إلى نزل «البيكوك» في أسلنجتون وهناك أنضم إلى الركب. ولكن الحمال الذي كانت معه حقيبتي روى لي أن كتلا عظيمة من الجليد سابحة منذ بضعة أيام في النهر تلاقت في الليل وصارت معبرا في النهر من «حدائق التمبل» إلى شاطئ «ساري»، فلما سمعت هذا رحت أسأل نفسي «أليس مقعدي إلى جانب الحوذي خليقا أن يضع نهاية سريعة مقرورة لشقائي؟» ولا شك أني كنت محزونا كسير القلب، ولكني لم أكن قد بلغت من ذاك مبلغا يرغبني في الموت بردا.
ولما بلغت نزل البيكوك - حيث ألفيت كل امرئ يحتسي شرابه حارا التماسا للمحافظة على الذات - سألت هل في المركبة مقعد داخلي؟ على أني تبينت أني - في الداخل والخارج - الراكب الوحيد. وكان هذا مما زاد شعوري بشدة الشتاء وسوء الجو، فقد كان الإقبال على هذه المركبة خاصة عظيما. واحتسيت شيئا من الشراب ألفيته سائغا جدا، وركبت فغطوني بالقش إلى وسطي، وبدأت رحلتي وأنا شاعر بما في منظري من بواعث الإضحاك والسخرية.
وغادرنا «البيكوك» والدنيا ما زالت ملفوفة في مثل الشملة من الظلام، وكانت أشباح البيوت والأشجار تبدو غائمة باهتة كأنها منظورة من خلال الضباب ثم طلع النهار جامدا أسود مصرورا. وكان الناس يضرمون النار في مواقدهم والدخان يرتفع مستقيما ذاهبا في طبقات الهواء الرقيق، ونحن نقرقر بمركبتنا إلى «هايجيت ارشوي» على أوعر أرض رن عليها حافر. ودخلنا في الريف فخيل إلي أن كل شيء قد شاخ وعلته شيبة - الطرق والأشجار والسقوف والبيادر - وقد ترك الناس العمل خارج البيوت، وتجمد الماء المعد لشرب الجياد، وخلت الطرق من العابرين، وأحكم إيصاد الأبواب، وعلت ألسنة النار في بيوت الحراس الصغيرة، وجعل الأطفال (حتى الحراس لهم أطفال ويبدو عليهم أنهم يحبونهم) يمسحون الغيم عن الزجاج بسواعدهم البضة لتأخذ عيونهم اللامعة منظر المركبة الفريدة المارة بهم. ولا أدري متى بدأ البرد يتكاثف، ولكني أدري أننا كنا نغير الخيل في مكان ما فسمعت الحارس يقول إن السماء جادة في إلقاء الثلج علينا، فنظرت فألفيته يسقط علينا بسرعة وكثرة.
وانقضى النهار الموحش وقد نمته كما يفعل المسافر المستفرد، وأحسست بالدفء والقوة والشجاعة بعد الطعام والشراب - ولا سيما بعد العشاء - أما ما خلا أوقات الطعام فإني لا أحس فيه إلا بالانقباض. وكنت ذاهلا عن الزمان والمكان، وأكاد أكون في غير وعيي. وكانت المركبة والجياد كأنما تشدو بلحن لا ينقطع ولا يختلف حتى لأزعجتني الدقة في ذلك، وبينما كانت الخيل تغير كان الحراس يدبدبون وهم يتمشون رائحين غادين، ويتركون آثار أحذيتهم على الثلج ويفرغون في بطونهم من الشراب مقادير عظيمة لم تؤثر فيهم، فلما دخل الظلام مرة أخرى اختلط علي أمرهم ببرميلين كبيرين هناك. وتعثرت الخيل في مواضع فأنهضناها، وكان هذا خير ما حدث لي وأمتع ما وقع لأنه أشعرني الدفء. وكان الثلج لا يزال يسقط، ويسقط ولا يكف عن السقوط. وظل الحال على هذا المنوال طول الليل. وهكذا دارت الساعة دورتها وعدنا إلى الطريق على أصوات الحوافر والعجلات، بينما كانت السماء ماضية في إلقاء الثلج علينا لا تكف عن ذلك ولا تني أو تفتر.
وقد نسيت أين كنا ظهر اليوم الثاني، وأين كان ينبغي أن نكون، ولكني أعلم أنا كنا متأخرين عشرات من الأميال، وأن الحال كان يزداد سوءا ساعة بعد ساعة، فقد أخذ الثلج المتساقط يعلو جدا والمعالم تختفي فيه، وصارت الطرق والحقول شيئا واحدا، وبدلا من أن تكون هناك حواجز وأسوار تهدينا في سيرنا كنا نخبط فوق سطح أبيض متصل غير منقطع قد يخوننا في أية لحظة فنرتمي على سفح تل. ولكن الحوذي والحارس - وكانا معا لا ينفكان يتشاوران ويديران عيونهما فيما حولهما - استطاعا أن يسددا خطوات الجياد بدقة مدهشة.
وكنا إذا صارت بلدة على مرأى منا يخيل إلي أنها تشبه رسما كبيرا على أردواز
1
وأن الكنائس والبيوت - حيث الثلج أكثف - كانت أوفر حظا من التخطيط. وكنا ندنو من البلدة فنلقى ساعات الكنائس كلها قد تعطلت ووجوهها قد غطاها الثلج وأسماء الفنادق قد محيت فيبدو لنا المنظر كأنما هو مكسو بالنبات الأبيض. أما المركبة فقد صارت كرة من الثلج. كذلك الرجال والأطفال الذين كانوا يعدون إلى جانبنا إلى آخر البلدة ويساعدون على إدارة العجلات المرتطمة ويستحثون الجياد اللاهثة - هؤلاء أيضا كانوا في رأي العين رجالا وأطفالا من الثلج. أما البيداء الموحشة التي تخلفوا عنا على تخومها فقد كانت صحراء ثلجية. وكان المرء معذورا إذا توهم أن الطبيعة بلغت غاية مجهودها، وأنه ليس فوق ما صنعت زيادة لمستزيد، ولكني أقسم أن السماء ظلت تثلجنا وتثلجنا ولا تزال تثلجنا ولا تكف أو تني عن ذلك أو تفتر.
ولبثنا على هذا الحال النهار كله لا نرى شيئا خارج البلدان والقرى غير الآثار التي يتركها القاقم والأرنب والثعلب والطير أحيانا. وفي الساعة التاسعة ليلا نبهتني نفخة مرحة في بوق المركبة وأصوات أناس تستبشر بها النفس وحركات مصابيح وإذا نحن قد وقفنا في ساحة من أرض يوركشير لتغيير الخيل.
وساعدوني على النزول فقلت لخادم صار رأسه العاري أبيض كرأس الملك لير في دقيقة واحدة: «أي فندق هذا؟»
قال: «فندق شجرة الميلاد.»
فالتفت إلى الحوذي والحارس بهيئة المعتذر وقلت: «أظن أنه لا بد لي أن أتخلف هنا.»
وكان صاحب الفندق وامرأته وكل من في المكان من خدم وعمال قد سألوا السائق على مرأى ومسمع من بقية من هناك من المتطلعين المتلهفين على الجواب: هل ينوي أن يستأنف السفر فكان جوابه: «نعم سأمضي بها (يريد المركبة) إذا لم يتخل عني جورج.» وكان جورج هذا هو الحارس وكان قد أقسم أن يظل معه. ولهذا راح الرجال يخرجون الخيل.
ولم يكن إقراري بالهزيمة بعد هذا الحديث إعلانا بغير تمهيد، بل الواقع أنه لولا أن مهد لي الحديث طريقي إلى إعلان عزمي لكان من المشكوك فيه - وأنا رجل حيي - أن أجترئ على ذلك. على أن رغبتي قوبلت بالرضى حتى من الحارس والحوذي. ولهذا وبعد أن عززت رغبتي وسمعت ملاحظات شتى من بعض الواقفين وهم يتحادثون، ومن بينها أن: «السيد يستطيع أن يسافر مع البريد غدا. أما الليلة فليس أمامه إلا أن يموت بردا. وأي خير في أن يموت امرؤ بردا؟ آه، ودع عنك دفنه حيا! (العبارة الأخيرة مما زاده رجل هزال على سبيل المزاح، على حسابي، وقد قوبلت أحسن مقابلة).
أقول إني، بعد ذلك رأيت حقيبتي تخرج من المركبة وكأنها جسم متجمد، وبذلت للحوذي والحارس ما فيه رضاهما وحييتهما وتمنيت لهما رحلة موفقة وسفرا سعيدا، ثم تبعت صاحب الفندق وامرأته وخادمه إلى الطبقة الثانية، وأنا خجل من ترك الرجلين يكافحان وحدهما.
وخيل إلي أني لم أر في حياتي غرفة في سعة هذه التي مضوا بي إليها. وكان لها خمس نوافذ عليها ستائر حمراء داكنة تستطيع أن تمتص الضوء من زينة عامة، وكانت رءوس هذه الأستار محلاة بضروب معقدة من النسيج ممتدة على الحائط على نحو عجيب. وقد طلبت أن تكون غرفتي أصغر، فقالوا إنه ليس ثم ما هو أصغر من هذه ولكن في وسعهم أن يضعوا لي سترا متحركا. وجاءوني بستر ياباني عليه صور أناس (يابانيين على ما أظن) يباشرون أعمالا سخيفة وتركوني أشوى أمام نار عظيمة.
وكانت غرفتي هذه على مسافة ربع ميل أو حوالي ذلك من بداية دهليز طويل يفضي إليه سلم عظيم. وقل من يدرون أي عذاب يحدثه هذا لرجل حيي. يؤثر ألا يلتقي بأحد على درجات السلم. وكانت الغرفة أكلح ما جثم على صدري فيه كابوس. وكان كل ما فيها من أثاث ضخما عالي الظهر مستدق الوسط كالمغزل ولا أستثني من ذلك عمد السرير الأربعة والشمعدانيين الفضيين القديمين. وكنت فيها إذا أطللت بوجهي من وراء الستر المتحرك، يهجم علي تيار الهواء كأنه الثور المجنون، وإذا بقيت لا أريم مكاني على مقعدي اشتد علي حر النار وتركتني كالآجرة الجديدة، وكانت الصفة التي فوق الموقد عالية جدا وعليها مرآة سوء، أستطيع أن أقول إنها «متموجة» فكنت إذا وقفت ونظرت فيها أرتني ما ينمو فوق رأسي، وقلما يكون ما فوق الحاجبين منظرا حسنا، وإذا أوليت الموقد ظهري استقبلت قبوا جهما من الظلام فوقي، وفيما وراء الستر لا سبيل إلى تحويل العين عنه، وكانت الأستار العشرة على النوافذ الخمس تتلوى وتمسح الجدران كأنها عش من الديدان العظيمة.
وأحسب أن ما أراه في نفسي لا بد أن يراه في أنفسهم غيري ممن لهم مثل طباعي وفطرتي، ومن أجل هذا أجترئ على القول بأني في أسفاري ما نزلت بمكان قط إلا وددت أن أبادر إلى الخروج منه، فقبل أن أرفع يدي عن عشائي - وكان قوامه دجاجة محمرة ونبيذا معتقا ساخنا - شرحت للخادم بالتفصيل تدابير رحيلي في الصباح: الإفطار ومعه بيان التكاليف في الساعة الثامنة ... والسفر في الساعة التاسعة ... جوادان ... أو إذا احتاج الأمر إلى أكثر فأربعة ...
وكنت متعبا مكدودا، ولكن الليل مع ذلك طال علي حتى لكأنه أسبوع. وكنت في فترات الراحة من الكابوس أفكر في أنجيلا. وضاعف شعوري بالهم والحزن أني في مكان على أقصر طريق إلى «جريتنا جرين.» وما لي أنا وجريتنا جرين؟ ... وحدثت نفسي بمرارة أني لست ماضيا إلى الشيطان عن هذا الطريق، بل عن طريق أمريكا ...
وفي الصباح علمت أن الثلج ظل يسقط طول الليل، ورأيت أنه ما زال يسقط، وأدركت أني في نطاق من الجمد. وما من شيء يستطيع أن يخرج من هذا المكان أو يأتي إليه قبل أن يجيء العمال ويرفعوا الثلج عن الطريق. ومتى يشقونه إلى هذا الفندق؟ لا يعلم أحد.
وصرنا في يوم عيد الميلاد. وهو عيد لا اغتباط لي به في هذا العام في أي مكان على كل حال، فلا قيمة للأمر من هذه الناحية، ولكن احتباسي هنا كان أشبه بالموت بردا، وهو أمر لم يكن لي في حساب. وأحسست بوحشة. ومع ذلك لم أستطع أن أقترح على صاحب الفندق وامرأته أن يأذنا لي في مجالستهما (وكان هذا خليقا أن يسرني) كما لا أستطيع أن أطلب إليهما أن يهديا إلي شيئا من الآنية! وها هنا محل الإشارة إلى سري الأكبر، وأعني به أني رجل شديد الحياء بالفطرة، ومن عادة الرجل الحيي أنه يتوهم أن غيره مثله. لهذا خجلت أن أرجو منهما أن يضماني إلى مجلسهما، بل كبر في وهمي أن هذا قد يحدث لهما ارتباكا شديدا.
لهذا بدا لي أن خير ما أصنع هو أن أستقر في غرفتي، فسألت هل هنا شيء يقرأ؟ فجاءني الخادم بكتاب عن الطرق، وصحيفتين أو ثلاث قديمة، وكتاب أغان صغير، ينتهي بمجموعة من «الأنخاب» وكتاب نكت، ونسخة قديمة من «بريجرين بيكل» و«الرجعة العاطفية» وكنت أعرف كل حرف من الكتابين الأخيرين، ولكني مع ذلك قرأتهما مرة أخرى، ثم حاولت أن أشدو بالأغاني، ولم تفتني نكتة مما في كتابها، وقد وجدت فيها ذخرا من الكآبة واءمت حالتي النفسية! واقترحت على نفسي كل الأنخاب المدونة وأعربت عن جميع العواطف المسجلة ، وحفظت ما في الجرائد عن ظهر قلب، ولم يكن فيها سوى إعلانات عن بضائع وبيان عن اجتماع وخبر عن حادثة سطو في الطريق. ولما كنت منهوما بالقراءة فقد التهمت ما أعطونيه قبل دخول الليل، بل لقد فرغت منه كله قبل وقت الشاي، ولم يبق لي إلا ما أستطيع أنا تدبيره لتزجية الوقت، فقضيت ساعة أفكر فيما عسى أن أصنع بعد ذلك. وأخيرا خطر لي (فقد كان يعنيني أن أنقي من رأسي كل خاطر له صلة بأنجيلا وإدوين) أن أنشر المطوي مما وعته الذاكرة من تجاربي المقترنة بالفنادق، وأنظر أي وقت يذهب في ذلك، فحركت النار وأدنيت كرسيا من الستر المتحرك - ولم أجرؤ أن أدنو جدا مخافة أن تهجم علي الريح المتربصة وراءه، وكنت أسمع صوتها - وبدأت.
أقدم ما أذكر من أمر الفنادق يرجع إلى عهد الطفولة، لهذا كررت راجعا إلى ذلك العهد واتخذت منه بداية، فألفيت نفسي على ركبة امرأة شاحبة الوجه ضيقة العينين، قنواء الأنف، خضراء الثوب، لا تعرف من الأقاصيص إلا واحدة عن سري من أهل الناحية كان ضيوفه يختفون بلا سبب، ومضت سنوات ثم ظهر أن همه من حياته أن يصنع من لحومهم «فطيرا» ولكي يكون تخليه أتم لهذا الضرب من الصناعة وتوفره عليه أرقى أنشأ بابا سريا خلف رأس السرير، فإذا نام الضيف (المتخوم بالفطير) دخل عليه هذا الشرير وفي إحدى يديه مصباح وفي الأخرى سكين وقطع رقبته ثم طبخه وصنع منه فطيرا. ولهذا اتخذ في موضع مستور تحت السرير مراجل لا تفتأ تغلي. وكان يحدو رقاقه هذا في فحمة الليل، ومع ذلك لم يسلم من وخز الضمير، فما نام قط إلا تمتم «الفلفل كثير» فما لبث أن أسلمته التمتمة إلى العدالة.
وما كدت أفرغ من قصة هذا المجرم حتى تذكرت أخرى من مخلفات ذلك العهد عن رجل كانت صناعته في الأصل السطو على البيوت، وقد جر عليه ذلك صلم أذنه اليمنى في إحدى الليالي بينما كان يهم بالدخول من نافذة، صلمتها له خادمة جميلة قوية القلب (كانت العجوز ذات الأنف الأقنى وإن كانت أبعد خلق الله عن هذا الوصف، تدع السامع يتوهم أنها هي تلك الخادمة الحسناء الجريئة). وبعد سنين عدة زفت هذه الغيداء الباسلة إلى صاحب فندق وكانت له عادة غريبة هي أنه يلبس قلنسوة من حرير لا ينزعها أبدا في ليل أو نهار كائنة ما كانت الأحوال. ففي إحدى الليالي نزعت هذه المرأة الجميلة الجريئة قلنسوته عن أذنه اليمنى فإذا هي مصلومة! فأدركت أنه هو اللص الذي قطعت له أذنه وأنه تزوجها ليفتك بها، انتقاما منها، فأسرعت إلى السفود أو المحضاء فأحمته وقضت به عليه قبل أن يقضي عليها، فحملوها إلى الملك جورج على عرشه حيث تقبلت منه الثناء الملكي السامي على حكمتها وعقلها وشجاعتها.
وكانت هذه القصاصة العجوز، على ما تبينت من زمان طويل، تجد لذة وحشية في إرعابي وإطارة صوابي من الخوف، وقد روت لي ما زعمته قصة واقعية من تجاربها ولكني أعتقد أنها مولدة من رواية «ريموند واجنز أو الراهبة الدامية» وقد قالت: إن الحادثة وقعت لزوج أختها، وكان على ما ادعت غنيا جدا، ولم يكن أبي كذلك. وكان يسر هذه العجوز الغولية المزاج أن تعرض أقاربي الأدنين وأصدقائي على عقلي الصغير، في صور مستهجنة. قالت: وكان قريبها هذا يخترق غابة وهو ممتط صهوة جواد أصيل (ولم يكن لنا جواد أصيل) يتبعه ويمشي في ركابه كلب قوي لا يقوم بمال (ولم يكن لنا كلب). وأمسى عليه الليل وهو سائر فعرج على فندق ففتحت له الباب امرأة سمراء فسألها: هل يجد عندها سريرا؟ فقالت: نعم، وأدخلت حصانه الإسطبل ومضت به هو إلى غرفة فيها رجلان أسمران، وبينما كان يتمشى شرع ببغاء، كان في الغرفة، يتكلم ويقول: «الدم! الدم! امسحوا الدم!» فنهض إليه أحد الرجلين الأسمرين ولوى عنقه فمات، وعاد وهو يقول: إنه يحب الببغاوات المحمرة، وأنه سيفطر بهذا في الصبح. وبعد أن أكل صاحبنا الغني جدا وشرب حتى هنئ صعد لينام، ولكنه كان ساخطا لأنهم حبسوا كلبه في الإسطبل زاعمين أنهم لا يسمحون بترك الكلاب طليقة في الخان. ولبث ساكنا أكثر من ساعة يفكر، ولما أشفت شمعته على الفناء سمع صوت حك بالباب ففتحه وإذا بكلبه وراءه، ودخل الكلب على مهل وجعل يشم ثم مضى رأسا إلى قش في ركن، قال أحد الرجلين الأسمرين: إنه يغطي تفاحا، ونثر الكلب القش فكشف عن ملاءتين ملوثتين بالدم، وفي هذه اللحظة انطفأت الشمعة، ونظر صاحبنا من ثقب بالباب فألفى الرجلين الأسمرين يصعدان على أطراف أصابعهما ومع أحدهما خنجر يبلغ طوله خمس أقدام، ومع الثاني ساطور وغرارة وفأس. وقد نسيت بقية القصة وأحسب أن الرعب أورثني الخدر وأفقدني القدرة على الإصغاء حوالي ربع ساعة.
وانتقلت من هذه الأقاصيص - وأنا قاعد أمام الموقد في فندق شجرة الميلاد - إلى قصة خان «رودسيد»، وكيف ضبط صاحبه إلى جانب سرير الضيف المقتول، وسكينه عند قدميه، والدم على يديه. وكيف شنقوه على الرغم من قوله إنه صعد إليه ليقتله ولكنه جمد في مكانه إذ وجده قد ذبح قبل ذلك، وكيف أنه بعد سنين عدة، اعترف خادم الخان بالقتل.
ولما بلغت إلى هنا في نشر المطوي من ذكرياتي، استولى علي القلق فنهضت وحركت النار وأوليتها ظهري ولبثت هكذا حتى لم أعد أطيق حرها، وكنت أحدق في الظلام الحالك وراء الستر، وأنظر إلى الستائر التي تتحرك كالديدان في أنشودة «ألونزو الشجاع وإيموجين الحسناء».
وتذكرت خانا في البلدة التي دخلت مدرستها، ولما كانت ذكرياته أحلى وأشرح للصدر، فقد تناولتها وأحييتها. كان ذلك خانا ينزل فيه الأصدقاء وكنا نحن نقصد إليه فيسخو علينا صاحبه بما عنده، وكنت مجنونا بحب ابنته - ولكن دع هذا - وفي هذا الخان حنت علي أختي الصغيرة وهي تبكي لأن عيني ورمت في ملاكمة. وقد ذهبت أختي منذ سنوات طويلات المدد، إلى حيث تجف العبرات، ولكن هذه الذكرى، على بعد مسافة الزمن، عطفت قلبي عليها ورققته لها.
وتناولت شمعتي ومضيت إلى سريري وأنا أقول: «البقية تأتي غدا.» ولكن سريري تكفل بإبقاء خواطري في هذا المجرى، فألفيتني أحمل، على مثل البساط المسحور ، إلى مكان قصي (وإن كان في إنجلترا)، وهناك نزلت من مركبة عند باب خان والسماء تثلجنا. وأعدت وأنا نائم تجربة غريبة وقعت لي بالفعل. ذلك أنه قبل هذه الرحلة التي كرت بي الذاكرة إليها، بأكثر من عام، توفي صديق لي كان عزيزا علي وأثيرا عندي، فصرت أراه كل ليلة في أحلامي سواء أكنت راقدا في بيتي أم في غيره، وكان يبدو لي تارة كأنه ما زال حيا، وطورا كأنه عائد إلي من عالم الأرواح والأشباح ليعزيني ويسليني، ولكنه دائما جميل، ساكن، سعيد، لا يجري في البال أو يحرك في النفس أي معنى من معاني الجزع والأسى. وكان الخان الذي نزلت فيه بعد ذلك الحادث في رقعة فسيحة من الريف، وبعد أن أشرفت من نافذة غرفتي على الثلج الذي يكسو الأرض ويضيئه القمر، جلست إلى جانب الموقد لأكتب رسالة. وكنت إلى تلك اللحظة قد حرصت على أن أكتم أني أرى صديقي العزيز الذي فقدته، في منامي كل ليلة. فدونت هذا في الرسالة التي كتبتها وزدت على ذلك أني أريد أن أرى هل يظل موضوع أحلامي ثابتا على الوفاء لي على الرغم من بعد الشقة (في هذا المكان) ومن تعب السفر ومجهوده؟ ... كلا ... فقدت الخيال لما بحت بالسر! ولم تكتحل به عيني سوى مرة واحدة في ستة عشر عاما، بعد ذلك ... وكنت في إيطاليا، فاستيقظت (أو خيل إلي أني استيقظت) وفي مسمعي ذلك الصوت الذي لا ينسى، كأوضح ما يكون، وأنا أحدثه، فتوسلت إليه - وهو يسمو فوقي، ويحلق ذاهبا في الهواء، صاعدا إلى قبة الغرفة العتيقة - أن يجيبني عن سؤال لي عن الحياة الأخرى. وكانت يداي لا تزالان مبسوطتين إليه بالرجاء والتوسل لما اختفى. فسمعت جرسا يدق على كثب من الحديقة وصوتا في سكون الليل العميق يدعو المسيحيين الصادقين أن يصلوا لأرواح موتاهم ويترحموا عليهم ...
وكان ذلك اليوم، يوم عيد الموتى ...
وأعود إلى فندق شجرة الميلاد الذي أنا فيه، فأقول إني لما استيقظت في صباح اليوم التالي ألفيت الجمد على حاله، والسماء الدانية المسفة تنذر بالمزيد، فأفطرت ثم ارتددت بالكرسي إلى مكانه السابق، واستأنفت ذكريات الخانات ...
كان هناك خان حسن في «ويتشير»، نزلت فيه مرة، وكان ذلك أيام كانت «ويتشير» تصنع جعتها القوية، وقبل أن تفسد الجعة ولا يبقى منها إلا المرارة. وكان الخان على تخوم سهل سالسبري، وكانت رياح الليل التي يخشخش لها شباكي تهب نائحة من «ستونهنج»، وكان هناك خادم أشيب طويل الشعر، عينه زرقاء كأنها حجر الزناد، وكان لا ينفك شاخصا ببصره مرسلا طرفه إلى بعيد، وكانت دعواه أنه راع قديم، وكان يبدو للناظر أنه يرقب أن يظهر على خط الأفق شبح قطيع من الغنم أكل من أزمنة مديدة. وكان له اعتقاد غريب، هو أنه ما من إنسان يستطيع أن يعد حجارة ستون هنج مرتين، ولا يختلف العدد، وأن من عدها ثلاثا في تسع ثم وقف وقال: «إني أتحدى» ظهر له شبح هائل فيموت على المكان. وقد ادعى أنه رأى الحبارى على النحو الآتي: قال إنه خرج إلى السهل في مساء يوم في أخريات الخريف، فلمح شيئا غامضا يحجل حجلانا
2
متقطعا فظنه لأول وهلة مظلة مركبة أطارتها الريح عنها، ثم توضحه فاعتقد أن هذا قزم قميء على مهر صغير. وراح يتبع هذا الشيء مسافة، ولا يدركه، ويناديه ويهيب به ولا يتلقى جوابا، فجعل يذنبه أميالا وأميالا، حتى لحقه أخيرا، فإذا به آخر حبارى في بريطانيا العظمى، وقد انحطت وفقدت جناحيها وصارت تمشي على الأرض! وآلى ليقنصنها أو يموت، فهجم عليها، ولكن الحبارى كانت قد اعتزمت هي أيضا ألا تموت وألا يقنصها أحد، فكرت عليه وصرعته، وشوهدت بعد ذلك تسير غربا. وهذا الرجل الغريب الشأن لعله كان في تلك المرحلة من تطوره، ممن يمشون وهم نائمون، أو لصا، أو غير ذلك. ولكني استيقظت ليلة فألفيته في الظلام إلى جانب سريري يرتل بأعنف صوت وأقواه، فدفعت إلى الخان حسابه في اليوم التالي ورحلت عن المقاطعة كلها بأقصى ما يسعني من السرعة.
وفي خان صغير في سويسرا وقعت حادثة ليست عادية، وأنا نازل به. وكان الخان أشبه بالبيت، في قرية ليس فيها إلا زقاق ضيق يلتوي بالسالك في الجبل، وكان المدخل الرئيسي للخان من حظيرة البقر، ثم يمر الإنسان بالبغال والكلاب والطيور قبل أن يرتقي في السلم الكبير العاري إلى الغرف التي كانت مصنوعة من خشب بلا تمليس أو دهان أو ورق، فكأنها صناديق للتعبئة. ولم يكن هناك، فيما عدا الخان، سوى الزقاق الملتوي وكنيسة صغيرة ذات قبة نحاسية اللون، وغابة صنوبر، وغدير، ثم الضباب وجوانب الجبل. وكان في الخان شاب اختفى منذ ثمانية أسابيع (وكان الوقت شتاء) وقيل، على الظن، إن حبا له خاب، فانتظم في سلك الجندية. وذكروا أنه نهض من فراشه في الليل وألقى بنفسه في الزقاق من الغرفة التي يشاركه فيها رجل آخر. وقد استطاع أن يتسلل من الفراش ويثب من النافذة ويسقط على الأرض في أتم سكينة، حتى إن زميله ورفيقه لم يسمع أي صوت، وظل مستغرقا في نومه العميق حتى أيقظوه في الصباح وسألوه: «لويز، أين هنري؟» وراحوا يبحثون عنه في كل مكان، ثم يئسوا فأقصروا. وكان هناك أمام الخان - ككل مسكن في القرية - كوم من خشب الوقود، ولكن كوم الخان كان أعلى وأكبر من غيره من الأكوام، لأن الخان كان أكبر المنازل وأثراها وأحوجها إلى الوقود الكثير، وقد لوحظ، أثناء البحث عن الغائب، أن ديكا من ديكة الخان كان يدع رفاقه ويزهد في معاشرة الدجاجات، ويأبى إلا أن يصعد إلى قمة كوم الخشب، ويظل هناك ساعات وساعات وهو يصيح حتى ليكاد ينشق ويتفطر. ومضت خمسة أسابيع، وانقضى الأسبوع السادس، وهذا الديك الفظيع لا يزال يهمل واجباته البيتية، ولا يكف عن الارتقاء إلى قمة الكوم، ولا يفتر عن الصياح وإن كانت عيناه تكادان تخرجان من قوة الصوت وعنفه. ولوحظ في ذلك الوقت أيضا أن لويز امتلأ قلبه بغضا لهذا الديك الفظيع وسخطا عليه، ففي صباح يوم رأته امرأة كانت جالسة إلى نافذتها في خيط من أشعة الشمس الفاترة، تعالج غدتها الدرقية، أقول رأته هذه المرأة يتناول جذلا من الحطب، وهو يسب ويلعن، ويرمي به الديك الصائح على رأس الكوم فيقتله. وفي هذه اللحظة انبثق النور في رأس المرأة فخفت إلى الكوم من الخلف، وكانت تحسن التسلق كغيرها من نساء هذه الناحية، فارتقت إلى رأس الكوم وصوبت عينها ثم انطلقت تصرخ وتصيح: «اقبضوا على لويز القاتل!» وقد رأيت هذا القاتل في ذلك اليوم. وإني لأراه الآن وأنا جالس بجوار الموقد في فندق شجرة الميلاد، وهو مقيد بالحبال وملقى على القش في الإسطبل، وعليه عيون البقر الوديعة، وأنفاسها المتدخنة، وهو ينتظر مقدم البوليس، ويتلقى نظرات السخط من أهل القرية. وكان وهو ملقى في الحظيرة يبدو لي أنه حيوان غليظ - بل إنه أبلد ما في الإسطبل - رأس سخيف، ووجه هو كتلة من البهيمية، ولا أثر هناك لإحساس. وقد كان الشاب المقتول يعلم أن قاتله اختلس مبالغ شتى صغيرة من مال سيده، فيظهر أنه لجأ إلى وسيلة القتل ليخلو له وجه حياته من هذا الذي قد يتهمه يوما ما، بما يعلم. وقد اعترف القاتل بهذا كله في اليوم التالي كأنما أراد أن يفرغ من الأمر كله بعد أن قبضوا عليه وانتووا أن يقتصوا منه. ورأيته مرة ثانية يوم رحلت من الخان. ولا يزال السياف في هذه الناحية يعمل عمله بالسيف، وقد رأيت هذا القاتل قاعدا على كرسي ومشدودا إليه، فوق منصة في سوق صغيرة، وكانت عيناه معصوبتين، ثم لمع سيف صقيل ماض «نصله مسقى بالزئبق» وخفق حوله كالريح أو النار، فلم يبق وجود لمخلوق كهذا في الدنيا. ولم يكن عجبي من سرعة العصف به، بل من أن رأسا من هذه الرءوس المحيطة بالمكان لم يقطفه هذا السيف البتار وهو يقطع الهواء!
وثم خان حسن آخر نزلت به في ظل «مونت بلانك» صاحبته طيبة القلب بسامة الثغر أبدا، وبعلها رجل تقي مستقيم السيرة، وكانت الجدران في إحدى غرفه مكسوة ورقا عليه صور حيوان، ولكن الوراق لم يعن نفسه بالإحكام والدقة في وصل قطع الورق بعضها ببعض، فصار للفيل ذيل النمر ورجلاه ، وللأسد خرطوم الفيل وناباه، وللدب صورة الفهد! وقد صادفت كثيرين من الأمريكيين في هذا الفندق وكانوا جميعا ينطقون اسم الجبل «مونت بلانك» «ماونت» ما خلا واحدا منهم سرى النفس حسن العشرة رقيق الحاشية، اتخذ من الجبل صديقا لا حاجة معه إلى التكلف، فكان يقتصر عند ذكره على «بلانك» فيقول عند الإفطار مثلا: «بلانك يبدو اليوم عاليا جدا.» أو يكون في المساء وهو يتمشى في الفناء فيعرب عن اعتقاده أن في بلاده بعض الأقوياء المغامرين الذين يستطيعون أن يتسلقوا «بلانك» ويصلوا إلى ذروته في ساعتين.
وقضيت مرة أسبوعين في خان بشمال إنجلترا حيث لازمني شبح فطيرة مهولة. وكانت كالقلعة إلا أنها قلعة مهجورة خاوية، ولكن الخادم كان يرى أن من الأصول التي ينبغي أن ترعى في كل وجبة أن يضع الفطيرة على المائدة، وبعد بضعة أيام رأيت أن أفهمه بأساليب شتى رقيقة أني أعد هذه الفطيرة مفروغا منها ولا محل لها على السفرة، فكنت أصب فيها سؤر الكأس وأضع في جوفها أطباق الجبن والملاعق كأنها سلة، أو زجاجات النبيذ كأنها ثلاجة، وكان هذا كله مني عبثا وعناء باطلا لا يجدي، فقد كانت الفطيرة تنظف وتعاد إلى مكانها المألوف، فشككت في أمري وخيل إلي أني لعلي مصاب بهذيان العين، وأشفقت أن تضعضع صحتي وتهد كياني أهوال هذه الفطيرة المتخيلة فتناولت السكين وقطعت منها مثلثا عظيما. وما كان في وسع إنسان أن يرى ما سيكون من وراء أستار الغيب، ولكن الخادم عالج الفطيرة وأصلحها ورمها، واستعان بنوع من الملاط ورد المثلث إلى مكانه، فأديت الحساب وفررت!
وكان فندق شجرة الميلاد قد أخذت الجهامة تستولي عليه فقمت برحلة إلى ما وراء الستر وذهبت إلى النافذة الرابعة، ولكن الرياح ردتني منهزما، فعدت إلى مشتاي مرة أخرى وأضرمت النار، واستأنفت نشر ما انطوى من ذكريات الفنادق.
هو خان في أقصى مقاطعة كورنول. وكان المعدنون يحتفلون فيه بعيد سنوي لهم، فأقبلت أنا وزملائي المسافرون ليلا على الجمع المائج وهم يرقصون أمام الخان على نور المشاعل. وكانت مركبتنا قد أصابها عطب في مكان صخري على مسافة أميال، فكان من دواعي الشرف لي أن قدت أحد الجياد المحلولة. وإذا كتب لسيد أو سيدة، ممن يقرءون هذه السطور، أن يقود حصانا ضليعا عاليا تتدلى ربطه وسموطه وأبازيمه
3
إلى قوائمه، وأن يمضي به وفي يده عنانه ويدخل به على حفلة راقصة ريفية فيها مائة وخمسون زوجا من المتراقصين، فإن هذا السيد - أو السيدة - يستطيع حينئذ - وحينئذ فقط - أن يتصور كيف يدوس الحصان قدمي قائده! والأرجح أن يرتد الحصان متهيبا حين يرى ثلاث مائة من الرجال والنساء يدورون أمامه، وقد يرفس ويضرب برجليه أيضا على نحو لا يحفظ لقائده سمته وأبهته. وعلى هذه الصورة التي نالت قليلا من وجاهة مظهري العادي، بدوت أمام الخان فكنت موضع عجب القوم جميعا. وكان الخان غاصا، بل كان فيه عشرون ضعفا لسعته ولا سبيل إلى إيواء مخلوق فيه غير الحصان - وإن كان ربحا ولا شك أن يتخلص المرء من هذا الحيوان الكريم - فوقفنا نتشاور أنا وزملائي في الأمر وكيف نقضي الليل وأكثر النهار الذي سيطلع إلى أن يكون الحداد المرح، والنجار المرح، على حال تسمح لهما بالسير إلى حيث تركنا المركبة لإصلاحها، فخرج علينا رجل من الزحام وعرض علينا طابقا من بيته ذا غرفتين ووعد أن يكون عشاؤنا لحم الخنزير والبيض وشرابنا عليه الجعة، فتبعناه فرحين إلى أنظف بيت نعمنا فيه بالطعام والشراب. ولكن الطريف في الأمر أن صاحب البيت نجار يصنع الكراسي، وأن الكراسي التي قدمت لنا كانت هياكل ليست لها مقاعد، فقضينا الوقت على أطرافها وحافاتها مثنيين إلى الأمام، ولم يكن هذا أسخف ما جربنا، فقد كان أحدنا إذا نسي واعتدل، أو ضحك وارتمى إلى الوراء، يختفي ويغيب. وقد سقطت، ونحن نأكل اللحم والبيض على ضوء الشمعة، خمس مرات وانطويت على نفسي انطواء لا سبيل إلى الفكاك منه بغير معونة، كما يقع أحد اللاعبين الهزالين في حوض ماء.
وألح علي الشعور بالوحشة وأنا في غرفتي بفندق شجرة الميلاد، وبدأت أدرك أن الموضوع الذي اخترته لتزجية الوقت لن يكون حسبي حتى يفرج عني الجليد، فقد أبقى هنا أسبوعا وقد يمتد المقام إلى أسابيع.
وتذكرت قصة عن خان قضيت فيه ليلة في بلدة قديمة جميلة على تخوم ويلز، وخلاصتها أن رجلا انتحر بالسم وهو راقد على أحد سريرين في غرفة كبيرة بالخان، على حين كان النازل معه في الغرفة نائما فلم يشعر بشيء من فرط ما كان به من الإعياء. ولم يستعمل بعد ذلك سرير المنتحر، وترك في الغرفة على حاله لا يزحزح عن موضعه ولا تنال منه يد التغيير. وتقول القصة إن كل من نام في هذه الغرفة ولو كان غريبا آتيا من أقصى المعمورة كان يغادرها في الصباح وهو يتوهم أنه يشم رائحة صبغة الأفيون، وأن خواطره كلها كانت تدور على الانتحار، وأنه كان لا بد أن يشير إلى هذا الموضوع إذا تحدث. ودام الحال على هذا المنوال سنين عدة، ثم رأى صاحب الخان أن الأحجى، والأولى به، أن ينقل هذا السرير الذي لا يستعمل وأن يحرقه كله - الفراش والكلة والأستار وغيرها - قال الرواة فتغير الأثر الذي يخلفه النوم في الغرفة وفتر فصار الذي يرقد فيها، إذا أصبح يحاول أن يتذكر حلما رآه في منامه. وكان صاحب الخان يتظاهر بمعاونته على التذكر فيقترح عليه موضوعات شتى يعلم أنها ليست هي المنشودة. ثم لا يكاد يقول: «السم» حتى ينتفض المسافر ويقول: «نعم» ولم يحدث قط أن قال المسافر «لا» ولم يحدث قط أنه تذكر من حلمه المنسي أكثر من ذلك.
وقد أثارت هذه القصة ذكريات الخانات الفرنسية على العموم ورفعت صورها لعيني، فرأيت النساء بقبعاتهن المستديرة، والعازفين، بلحاهم البيضاء، يضربون على القيثارة وراء الباب وأنا أتعشى. وانتقلت بي الذكرى إلى خانات إيقوسيا الجبلية وفطائر الشعير، والعسل، وشرائح لحم الغزال، والسمك المصيد من الخور، والوسكي، وما إليه من الأشربات. واتفق لي مرة أن كنت عائدا إلى الجنوب من جبال إيقوسيا، وكنت مسرعا، وفي مرجوي أن يتيسر تغيير الخيل في محطة واقعة في واد تظلله جبال تاريخية ، فرأيت، والألم يفري في جوفي، صاحب الخان يخرج وفي يده منظاره ويدير به عينه باحثا عن الخيل، وكانت هذه ترعى فلم تبد للعيان إلا بعد أربع ساعات!
وتداعت الذكر، فانتقلت من سمك الخور إلى خانات الصيادين بإنجلترا (وقد اشتركت مرات عدة في صيد السمك، فكنت أرقد في قاع السفينة أياما كاملة وأثابر على تفادي العمل. وقد وجدت أن هذا ليس أقل جدوى في صيد الأسماك من استعمال الشص والبراعة والحذق فيه) وتذكرت من هذه الخانات غرفها البيضاء النظيفة المعطرة بأنفاس الورود النضيرة، المشرفة على النهر والسفن والفضاء المعشوشب، وقباب الكنائس والجسر، و«إما» الفتانة وعينيها البراقتين وابتسامتها الحلوة وكيف كانت - بارك الله فيها - تقوم على خدمتنا خفيفة رشيقة.
وصوبت عيني إلى الموقد الذي يتوهج فيه الفحم المضطرم فبرزت لي صور عشرات من هذه الخانات التي كانت مراحل للبريد، والتي نفتقدها في هذه الأيام ونأسف على زوالها، وكانت رحيبة مريحة، وكانت فوق هذا عنوانا على الخضوع الإنجليزي للغصب والنهب والابتزاز. ومن شاء أن يشهد هذه المنازل تقضي نحبها، فليمش من «بيسنجستوك» - أو حتى من «وندسور» - إلى لندن، عن طريق «هانسلو» ولينظر كيف يعفي عليها الزمن؛ الإسطبلات تتهدم وتنقض، والسابلة، والعمال الذين أخطأهم الاستقرار ينامون في الغرف المقدمة أمامها، والحشائش تنبت وتفرش في عرصاتها، والحجرات التي كانت مئات من الأسرة اللينة تسوى وترتب فيها، تؤجر للأيرلنديين بشلن ونصف شلن في الأسبوع، وخمارة سوء في مكان الحانة القديمة، وبوابات مخازن المركبات تحرق للوقود، وكلب أعوج الساق واقف في المدخل.
واستطردت إلى خانات باريس، والحجرة الجميلة ذات القطع الأربع، بعد أن نصعد إليها خمسا وسبعين ومائة درجة مصقولة بالشمع، وتدق الجرس النهار طوله فلا ترى أنك استطعت أن تؤثر في جسم إنسان أو عقله، سواك، وتتناول عشاء دون شبعك، إذا اعتبرت الثمن، وتحولت عن هذه إلى خانات الريف بفرنسا حيث تطل بروج الكنائس على الأفنية، وترن أجراس الخيل وهي تضرب الأرض بقوائمها، والساعات من كل ضرب وعلى كل صورة، في كل غرفة، وليس بينها واحدة مضبوطة، إلا إذا اتفق أن تكون قد سبقت الوقت الصحيح أو تأخرت عنه اثنتي عشرة ساعة لا تزيد أو تنقص دقيقة. ومضيت من هذه إلى الخانات الصغيرة على الطريق في إيطاليا، حيث تجد كل الثياب القذرة التي في البيت (غير الملبوسة!) كوما في غرفة الاستقبال، وحيث يحيل البعوض وجهك في الصيف خبيصة محشوة بالزبيب، ويحيل برد الشتاء لونك إلى زرقة السماء عن حمرة الورد، وحيث تأخذ ما يتيسر، وتنسى ما يتعذر، وحيث أشتهي مرة أخرى أن أغلي الشاي في وليقة إذ لا إبريق هناك! ومن ثم انتقلت إلى القصور القديمة والأديرة العتيقة التي صارت خانات، في مدن هذه البلاد المشرقة، وسلاليمها الضخمة، ومنها تستطيع أن تصعد طرفك من خلال العمد المتقاربة، إلى قبة السماء الزرقاء، وارتسمت أمامي قاعات المآدب الفخمة، والمقاصف الرحيبة، وحجرات النوم المحيرة، ولمحات خواطف من شوارع رائعة ليس لها مظهر من الحقيقة، ومن هناك وثب بي الخيال إلى الخانات الصغيرة في المناطق الموبوءة بالملاريا، وخدمها الصفر الوجوه ورائحتها الخاصة المعهودة في كل مكان لا يدخل إليه الهواء، ثم إلى خانات البندقية المهولة العجيبة، وصياح النواتي تحتها وهم يجرون زوارقهم وينعطفون بها، وروائح البحر التي تتشبث بأنفك ولا تعفيك ما دمت هناك، وجرس كتدرائية سان مارك، وهو يدق نصف الليل. وعرجت بعد ذلك على خانات الرين المضطربة، التي لا تأوي فيها إلى فراشك إلا كان هذا إيذانا بنهوض كل امرئ سواك، وفي حجرة الطعام وإلى طرف من مائدتها الطويلة يجلس لفيف من الرجال الضخام الأبدان المستديري الكروش، يلبسون الحلي والأقذار ليس إلا، فما على أبدانهم سوى ذلك فيما ترى العين، ويحيون الليل كله ساهرين يشربون ويقرعون الكأس بالكأس ويتغنون بالنهر الذي يجري، والدوالي التي أينعت، ونبيذ الرين الذي تطيب نشوته، ونساء الرين اللواتي يتبسمن، وهات لي كأسا، وخذ كأسا يا صاحبي، واشرب، واشرب، يا أخي، إلى آخر ذلك. وكان طبيعيا أن أذكر خانات ألمانية أخرى تسغسغ فيها الآكال بما يجعل مذاقها جميعا واحدا، ويزعج المرء فيها أن تقدم له الولائق السخنة، والعناب المغلي، والحلواء، على ترتيب غير متوقع بين الألوان الأخرى. وبعد أن كرعت - بخيالي - كرعة روية من الجعة من قدح مزبد، وألقيت نظرة على مشارب الجعة التي يختلف إليها الطلبة في هيدلبرج وغيرها، ركبت البحر إلى خانات أمريكا حيث يبلغ عدد الغرف المفردة في الواحد منها أربعمائة، وحيث يجتمع على العشاء كل يوم ثمان مائة أو تسع مائة من السيدات والسادة. فرأيتني أقف مرة أخرى في المقصف، وأترشف من فم الكأس، وأصغي ثانية لصديقي «الجنرال»، الذي لم يمض على معرفتي به سوى خمس دقائق استطاع في خلالها أن يوثق أواصر الود والإخاء إلى آخر العمر بيني وبين «صاغين» استطاعا هما أيضا أن يجعلا مني صديقا حميما مدى الحياة لثلاثة «لواءات» صرت بفضلهم أخا لاثنين وعشرين من المدنيين غير المحاربين، كل ذلك في خمس دقائق ليس إلا، أقول إني أصغيت مرة أخرى إلى صديقي الجنرال وهو يشرح لي مزايا الخان وما فيه من أسباب الراحة والترف وكيف أن فيه حجرات عدة للجلوس والاستقبال، للرجال وللسيدات، في النهار والليل، وأخرى للموسيقى والمطالعة، وأربع مائة غرفة نوم، كل هذا وضعت رسومه وتم بناؤه وتجهيزه في اثني عشر شهرا؛ تبدأ من اليوم الذي أزيلت فيه أنقاض البناء العتيق الذي كان قائما، وكيف أن جملة التكاليف بلغت نصف مليون ريال. وألفيتني وأنا أكر بخيالي إلى هذا، أذهب إلى أنه كلما كان المنزل أضخم وأفخم وأبهظ تكاليف، كان ذلك أبعث على الزهد فيه وأقل استحثاثا للرغبة في المقام به. على أني مع ذلك شربت على البعد نخب صديقي الجنرال، وإخواني الصاغات واللواءات والمدنيين جميعا، فإنهم على الرغم من كل قذى رأته عيناي في عيونهم، أبناء شعب عظيم رقيق كريم القلب.
وكنت وأنا أتذكر هذا أغذ السير في رجعتي القهقرى إلى ما مضى وفات، لأنفي الشعور بالوحدة وأخفف ثقل الوحشة، ولكني أضمرني الكلال فانقطعت من الإعياء وكففت عن متابعة هذه الخواطر. وصار السؤال الملح: ماذا أصنع؟ وماذا عسى أن يحل بي؟ أأفعل كما فعل البارون «ترنك» وأبحث عن جرذ أو عنكبوت حتى إذا وجدت واحدا منهما تسليت في سجني هذا بتدريبه ورياضته؟ ولكن هذا لا يخلو من خطر إذا اعتبرنا المستقبل، فقد آلف ذلك وأشغف به حتى إذا رفع الثلج عن الطريق وخرجت فيه مرة أخرى، فمن يدري؟ لعلي حينئذ أبكي وأتوسل - كسجين الباستيل الذي أفرج عنه في شيخوخته - أن يعودوا بي إلى هذه النوافذ الخمس والستائر العشر والأفرشة السميكة المتينة.
وألح علي خاطر أغراني به اليأس. ولو كنت في أحوال غير هذه لتمردت عليه وأبيته، ولكني، وأنا في هذا المأزق، تعلقت به فهل أستطيع أن أغالب حيائي الفطري الذي صدني عن مجلس صاحب الفندق وحرمني ما عسى أن أجد من الأنس عنده، وأدعو إلي البستاني وأرجو منه أن يتناول كرسيا - وشيئا من الشراب أيضا - وأن يحادثني؟ نعم أستطيع ... وسأفعل ... وقد فعلت! (2) الفرع الثاني: «البستاني»
أأسأل أين كان في زمانه؟ أعاد الرجل السؤال لما ألقيته عليه، وقال: إنه كان في كل مكان. وماذا كان عمله؟ لقد كان يعمل في كل شيء يخطر على البال ذكره.
أتراه رأى كثيرا في حياته؟ بلى، ولا شك في ذلك، وإن في وسعه أن يؤكد لي هذا، فليتني أعرف جزءا من عشرين مما صادفه في طريقه! ألا وإنه لأسهل عليه فيما يعتقد أن يذكر لي ما لم ير ...
وما أغرب ما شاهده؟ من يدري؟ ليس في وسعه أن يقول، من عفو الخاطر ما أغرب شيء شاهده - إلا أن يكون الغول،
4
وقد رآه مرة في سوق! ولكن إذا قيل لي إن صبيا يناهز الثامنة من العمر، فر مع بنت في السابعة من عمرها الغض ليتزوجها، ألا يكون هذا في رأيي غريبا؟ لا شك! فلأعلم إذن أنه شاهد بعينيه هذه الأعجوبة وأنه نظف لهما الأحذية التي لبساها حين فرا، وإن الأحذية كانت من الصغر بحيث كان يتعذر عليه أن يدخل يده فيها!
وحكاية ذلك أن والد الصبي «هاري وولمرز»، كان يقيم في ضيعة «إلمز» على مقربة من تلال «شوتر»، وعلى مسافة ستة أميال أو سبعة من لندن. وكان رجلا ألمعيا حديد القلب وسيم الطلعة، يرفع رأسه إذ يمشي، ويشعرك إذ تراه بمثل بأس النار وصولتها. وكان يقرض الشعر، ويركب الخيل، ويعدو، ويلعب «الكريكيت»، ويرقص، ويمثل، ويجيد كل ذلك ويحذقه. وكان مزهوا بابنه «هاري»؛ فقد كان وحيده، غير أنه لم يفسده بالتدليل، فقد كان ذا إرادة ماضية، وعين لا يفوتها شيء، ومع أنه كان يتخذ من ابنه الذكي صاحبا، ويسره أن يراه مقبلا على كتب الأساطير يعب فيها عبا، ولا يمل أن يسمعه يمد الصوت ويرجعه شاديا بأغاني الحب، إلا أنه احتفظ بسلطانه الأبوي على فتاه، فبقي الصبي كما ينبغي أن يكون، فليت كثيرين مثله!
وكيف عرف كل هذا؟ عرفه لأنه كان مساعد البستاني، ولا يمكن أن يكونه، وأن يكون أبدا على المكان، يجز، ويقتلع، ويطعم، ويفعل هذا وذاك، من غير أن يلم بأحوال الأسرة ويحيط بأمورها خبرا. وقد جاءه الصبي هاري مرة وسأله: «كوبز، كيف تتهجى نورا؟»، ثم راح يحفر الاسم على سياج الخشب!
ولم يسبق لكوبز عهد بالأطفال قبل ذلك، ولا كان يعيرهم التفاتا، ولكنه لم يسعه إلا أن يلاحظ هذين الصغيرين وهما يتمشيان معا، وقد غرقا في الحب إلى الرأس! ويا لشجاعة الغلام وشهامته! لقد كان يبدو لي أنه لا يتردد أن يرمي قبعته، ويشمر عن ساعديه الصغيرين، ويهجم على أسد لو اتفق لهما أن يلتقيا بواحد، وأن تفزع الفتاة منه! وقد وقف مرة وهي معه، حيث كان كوبز يعمل وقال: «كوبز، إني أستلطفك.» فقال كوبز: «صحيح يا سيدي! إني فخور بذلك.» فقال الغلام: «نعم، أستلطفك فهل تعرف لماذا يا كوبز؟» فقال: «لا أدري.» قال الغلام: «لأن نورا تستلطفك يا كوبز!» فقال الرجل: «صحيح يا سيدي! إن هذا من بواعث الاغتباط.» فقال الغلام: «من بواعث الاغتباط يا كوبز؟ إنه خير من ملايين من أنفس الماسات، أن تستلطفك نورا.» فقال الرجل: «لا شك يا سيدي.» فسأله الغلام: «إنك ستترك عملك هنا، أليس كذلك؟» قال الرجل: «نعم يا سيدي.» قال الغلام: «أتحب أن أجد لك عملا آخر؟» قال الرجل: «لا مانع عندي إذا كان حسنا موافقا.» قال الغلام: «إذن ستكون البستاني الأول عندنا، بعد أن نتزوج.» وضم عليها شملتها الزرقاء وأحاطها بذراعه، ومضى بها!
وأقسم كوبز أن هذا المنظر كان أبهى وأوقع في النفس من صورة مرسومة وأنه كان أشبه بالرواية أن يرى هذين الطفلين بشعرهما الطويل اللامع المتلوي، وعيونهما البراقة، وخطوتهما الخفيفة الجميلة، يتمشيان في الحديقة، وقد عمر الحب المتبادل قلبيهما الصغيرين. وقال لي: كوبز إنه يعتقد أن العصافير ظنتهما عصفورين فغردت لهما لتسرهما. وكانا ربما جلسا في ظل شجرة، وذراع كل منهما على عنق الآخر، وخداهما الأسيلان يتلامسان من فرط التداني، وراحا يقرآن قصة الأمير والتنين، أو الساحرين الطيب والخبيث، أو بنت الملك الفاتنة. وكان يسمعهما أحيانا يلهجان ببيت ينويان أن يبنياه في الغابة ويتخذا فيه خلية للنحل، وبقرة ويجتزآن من الطعام باللبن والعسل. ومر بهما مرة وهما على البركة فسمع الغلام «هاري» يقول: «نورا، يا معبودتي، قبليني، وقولي إنك تحبينني حبا يزدهف لبك، وإلا ألقيت نفسي في البركة.» ولم يخالج كوبز أي شك في أنه كان حقيقا أن يرمي نفسه في الماء لولا أنها أجابت سؤله. قال كوبز: وقد كان هذا يخيل إليه أنه هو أيضا قد أمسى عاشقا، لولا أنه لا يدري لمن!
وقال له هاري ذات مساء، وكان يسقي الزهر: «إني ذاهب في هذا الصيف لزيارة جدتي في يورك.»
فقال كوبز: «أوفاعل أنت يا سيدي؟ أرجو إذن أن يطيب مقامك، وأن تنعم بما يسرك. أنا أيضا ذاهب إلى مقاطعة يورك بعد أن أغادر هذا المكان.»
فسأله الغلام: «أذاهب أنت إلى جدتك يا كوبز؟»
فقال: «كلا، يا سيدي، ليس لي شيء كهذا.» - «لا جدة لك يا كوبز؟» - «كلا يا سيدي.»
فصوب الغلام عينه إلى الأزهار التي يسقيها البستاني، ثم قال: «سيكون من أقوى بواعث السرور لي أن أذهب يا كوبز، فإن نورا ذاهبة.»
فقال كوبز: «ستكون بخير إذن يا سيدي، ما دام إلى جانبك حبيبتك الجميلة .»
فاضطرم وجه الغلام وقال: «كوبز، إني لا أسمح لأحد أن يمازحني في هذا إذا وسعني أن أمنعه.»
فقال كوبز بلهجة المتطامن: «لم يكن هذا مزاحا يا سيدي، لم أقصد إلى ذلك.» - «يسرني هذا يا كوبز، فإني أستلطفك، كما تعلم. ثم إنك ستعيش معنا. كوبز!» - «نعم يا سيدي!» - «ماذا تظن جدتي ستعطيني حين أذهب إليها؟» - «ليس في وسعي أن أخمن يا سيدي.» - «ورقة بخمسة جنيهات يا كوبز!»
فزام كوبز وقال: «هذا مبلغ يا سيدي!» - «إن المرء يستطيع أن يصنع كثيرا بمبلغ كهذا، أليس كذلك يا كوبز؟» - «صدقت يا سيدي.»
وقال الغلام: «سأفضي إليك بسر، يا كوبز؟ إنهم في بيت نورا يعابثونها ويركبونها بالمزاح من أجلي، ويتظاهرون بالضحك منا، لأنا خطيبان، ويهزءون ويسخرون يا كوبز.»
فقال كوبز: «هذا بعض مظاهر النقص والعيب في الطبيعة الإنسانية.»
فوقف الغلام برهة - وهو صورة مصغرة إلا أنها دقيقة، من أبيه - ومحياه المتقد إلى الشمس، ثم مضى وهو يقول: «عم مساء، يا كوبز، إني داخل.»
ولا يدري كوبز كيف اتفق أن يغادر البيت في ذلك الوقت، وعنده أنه لو شاء أن يبقى هنالك إلى الآن، لبقي، ولكنه كان شابا، وكان يبغي أن يغير عمله عسى أن تنتقل به الأحوال، وقد قال له المستر وولمرز لما أبلغه كوبز أنه اعتزم ترك العمل: «أهناك ما تشكو منه؟ إني أسأل لأني أحب إذا كان لأحد من رجالي شكاة، أن أزيل أسبابها.» فقال كوبز: «كلا يا سيدي، وشكرا لك، وإني هنا لعلي خير ما أرجو أن أكون في أي مكان، ولكن الحقيقة يا سيدي أني راحل لأجرب حظي في التماس الثراء.» فقال المستر وولمرز: «صحيح يا كوبز؟ إذن أرجو لك التوفيق.» وأكد لي كوبز وهو يقص علي ذلك أنه لم يوفق بعد.
ترك كوبز ضيعة «إلمز»، وذهب الغلام هاري إلى جدته العجوز في يورك، وكانت لا تضن على حفيدها بالأسنان التي في فمها (لو كان في فمها شيء) فقد كانت مجنونة به. ولكن ماذا تظن أن هذا الطفل صنع؟ فإن لك أن تسميه طفلا وألا تخشى الغلط؟ لقد فر من جدته مع نورا وقصدا إلى «جريتنا جرين» ليتزوجا هناك!
وكان كوبز يعمل في هذا الفندق عينه - فندق شجرة الميلاد - (وكان كثيرا ما يتركه ليحسن حالته ولكنه كان يعود إليه دائما لسبب ما) وفي مساء يوم من أيام الصيف وقفت المركبة ونزل منها الطفلان! وقال الحارس لصاحب الفندق: «إن أمر هذين الراكبين الصغيرين يبدو لي كاللغز، ولكن الغلام قال لي إنه يريد أن آتي بهما إلى هنا.» ... ينزل الغلام، ويمد يده إلى فتاته ليعينها. وينفح الحارس بشيء على سبيل التجزية، ثم يلتفت إلى رب الفندق ويقول له: «سنبيت هنا الليلة، من فضلك ... وسنحتاج إلى حجرة جلوس وغرفتي نوم ... وهات كفاية اثنين من اللحم المشرح والفالوذ بالعناب.» ويضم على حبيبته شملتها السماوية الزرقة، ويحيطها بذراعه ويدخل ثابت الجنان!
وقال كوبز: إنه يترك لي أن أتصور الذهول الذي استولى على كل من في الخان حين رأوا الصغيرين يجيئان وحدهما، ويفعلان ما فعلا! وكان كوبز يراهما ولا يريانه، فلم يكتم رب الفندق رأيه، في بواعث هذا السلوك والغاية من هذه الرحلة، فقال صاحب الفندق: «إذا كان الأمر كذلك يا كوبز فسأركب إلى يورك لأطمئن آلهما. ويجب عليك أن تجعل عينيك عليهما، وأن تسليهما وتلهيهما حتى أعود. ولكني أحب قبل أن أقدم على هذه الرحلة، أن تستوثق منهما لتعرف أمصيب أنت في رأيك أم مخطئ.»
فقال كوبز: «سيكون ما تريد حالا.»
وصعد كوبز إليهما، فألفى الغلام هاري على أريكة عظيمة، وإنها لعظيمة وكبيرة في كل حال وفي كل وقت، ولكنها بدت أعظم وأضخم لما اتكأ عليها هاري ليكفكف لنورا دموعها ويمسحها بمنديله، وكانت أرجلهما معلقة في الهواء وقد أعرب كوبز لي عن عجزه عن وصف صغرهما وضآلتهما.
وصاح السيد هاري: «هذا كوبز ... هذا كوبز.» وأقبل عليه يعدو، وتناول يده، وجرت إليه الآنسة نورا أيضا، ووقفت إلى جانبه الآخر، وتناولت يده الثانية، وجعلا يتوثبان وينطان من الفرح.
فقال كوبز: «لقد رأيتكما من المركبة، فعرفتكما، وهل كان يمكن أن أغلط أو أنسى؟ ماذا وراء هذه الرحلة يا سيدي؟ الزواج؟»
فقال الغلام: «سنتزوج يا كوبز في جريتنا جرين. وقد فررنا لهذا الغرض. إن نورا مكتئبة قليلا يا كوبز، ولكنها جديرة بأن يسعدها الآن أنا وجدناك فإنك لنا صديق.»
فقال كوبز: «أشكرك يا سيدي، وأشكرك يا آنسة، على حسن ظنك بي. والآن هل معكما أشياؤكما؟»
وإذا صدق كوبز الذي أقسم أن الأمر كما يصف، فقد كان مع نورا شمسية وزجاجة نوشادر، وخبزات يابسات مدهونات بالزبدة، وثماني نعناعات وفرشاة أسنان يخيل إليك أنها مصنوعة للعبة، أما الغلام فكان معه حوالي ست ياردات من الخيط، ومبراة، وثلاث ورقات أو أربع مطوية، وقدح عليه اسمه.
فقال كوبز: «وماذا أعددت من التدابير يا سيدي؟»
قال الغلام، وما أبهر شجاعته: «أن نمضي إلى غايتنا في الصباح فنتزوج غدا.»
قال كوبز: «هو كذلك يا سيدي. فهل يوافقكما أن أرافقكما؟»
فلما سمعا هذا السؤال جعلا ينطان من الفرح ويصيحان: «نعم، نعم، يا كوبز، نعم.»
فقال كوبز: «إذا سمحتما لي باقتراح فهذا هو ... إني أعرف فرسا يمكن أن نشده إلى مركبة أستطيع أن أستعيرها فتحملكما (وأكون أنا الحوذي إذا وافقتما) إلى آخر رحلتكما في أوجز وقت. ولست واثقا من أن هذا الفرس سيكون غدا رهن مشيئتنا، ولكن إذا احتجنا أن ننتظر إلى ما بعد الغد، فإن الفرس جدير بالانتظار. أما الفندق، ونفقات الإقامة فيه، فلا تفكرا في ذلك إذا لم يكن معكما الكفاية من المال؛ فإني شريك في هذا المحل، ومن السهل إرجاء الحساب إلى وقت آخر.»
ويحلف كوبز أنه لما رآهما يصفقان سرورا وينطان ويدعوانه: «كوبز الطيب» و«كوبز العزيز» ويتعانقان ويتلاثمان وهما جذلان مطمئنان واثقان، أحس أنه أنذل من ولدته أم في هذه الدنيا، لأنه خدعهما وغشهما.
وقال كوبز، وبه وخز الضمير ما به: «هل تريدان الآن شيئا يا سيدي؟»
فقال الغلام وهو يطوي ذراعيه على صدره، ويمد إحدى ساقيه، ويحدق في وجه كوبز: «نريد بضع كعكات بعد العشاء، وتفاحتين ... ومربى ... ومع العشاء خبزا محمرا ... واسمع يا كوبز، إن نورا قد اعتادت أن تشرب مع الفاكهة قليلا من شراب الزبيب ... وأنا مثلها.»
قال كوبز: «سأعد لكما ذلك.» وخرج.
وحدثني كوبز أنه، وهو يروي لي هذه التفاصيل، يشعر، كما يشعر حينئذ، بأنه كان آثر عنده، وأحب إليه، أن يلاكم صاحب الفندق في بضع جولات، من أن يتواطأ معه على هذين الطفلين، وأنه كان يتمنى من أعماق قلبه لو أن في الدنيا مكانا يستطيعان فيه أن يتزوجا، ويعيشان بعد ذلك سعيدين. ولكن هذا لا سبيل إليه، فلم يسع كوبز إلا أن يأتمر بهما مع رب الفندق، فركب هذا إلى يورك بعد نصف ساعة.
ويرى كوبز أن من العجائب أن كل أنثى في الفندق - ذات بعل، أو عزبة أو عذراء - صغت بقلبها إلى هذا الغلام لما سمعت قصته. وقد عانى كوبز جهدا جاهدا في صد هؤلاء النسوة عن اقتحام الغرفة واحتضان الغلام وتقبيله. وكن يخاطرن بحياتهن ويصعدن فوق الأشياء لينظرن إليه من وراء الزجاج. وكان سبعة منهن يتزاحمن على ثقب الباب لينظرن في وقت معا! فقد طارت عقولهن وفتنتهن جرأته.
وفي المساء دخل كوبز على الهاربين ليرى كيف حالهما. وكان الغلام على حافة النافذة، وبين ذراعيه فتاته. وكانت العبرات على خديها، ولكنها كانت متعبة وأقرب إلى النوم منها إلى اليقظة، ورأسها على كتفه.
وقال كوبز: «هل السيدة متعبة يا سيدي؟»
قال: «نعم، متعبة يا كوبز، فما اعتادت أن تنأى عن البيت، وقد عاودها الاكتئاب، فهل تستطيع أن تجيئني بمنعش؟»
فقال كوبز: «معذرة يا سيدي، ولكن ما تبغي؟»
قال: «شيء ينعشها، ويرد إليها روحها.»
فخرج كوبز ينشد المنعش المطلوب فلما عاد به، قدمه الغلام إلى الفتاة وأعانها، ولكن النعاس كان يثني رأسها ويثقله، فجعلها ذلك شكسة جافية. وقال كوبز: «ما قولك يا سيدي في شمعدان لغرفة النوم؟» فوافق، وسارت الخادمة في الطليعة، والفتاة في شملتها السماوية الزرقة بعدها، ووراءهما، وفي حراستهما هذا الغلام الشهم. وعانقها عند الباب، ثم ارتد إلى غرفته، فأوصدها عليه كوبز بخفة.
ولم يكن يسع كوبز إلا أن يزداد شعوره حدة بأنه غشاش وضيع، لما سأله الغلام في الصباح وهما يتناولان طعام الإفطار (وكانا قد أمرا أن يعد لهما لبنا وخبزا محمرا ومربى) عن الفرس، وكان يجد مشقة في النظر إليهما وهو يعلم كيف يخدعهما بالأباطيل، غير أنه واصل الكذب وأخبرهما أن من سوء الحظ أن القوم يقصون للفرس شعره، ولكنهم لم يقصوا سوى جانب، ولو خرج على هذه الصورة لأصابه سوء، ولكنهم سيفرغون من القص في هذا النهار، وفي الساعة الثامنة من صباح الغد تكون المركبة معدة. ومن رأي كوبز، وهو يحدثني بهذا في غرفتي، أن الفتاة بدأت في ذلك الوقت تتراجع وتندم؛ فقد نامت من غير أن يرجل لها شعرها، ولم تكن بحيث تستطيع هي أن تمتشط، وصار الشعر يدخل في عينيها فيغيظها ويحنقها، ولكن الغلام ظل ثابتا شديد القلب، وكان وهو جالس إلى المائدة وأمامه فنجان الشاي يلتهم المربى، فيخيل إليك أنه أبوه.
ويميل كوبز إلى الاعتقاد أنهما بعد الإفطار جعلا يتسليان برسم الجنود على الورق، فقد وجدت جنود كثيرة مصورة على الورق في الموقد، وكلها على ظهور الخيل. ودق هاري الجرس وسأل كوبز، وما أعجب ثباته: «أليس في جوار هذا المكان ميادين صالحة لأن يمشي فيها المرء؟»
قال كوبز: «نعم يا سيدي، طريق العشاق.»
فصاح الغلام به: «رح. رح. إنك تمزح.»
فقال كوبز: «عفوا يا سيدي، ولكن هناك طريقا اسمه طريق العشاق. وإنه لجميل، وإنه ليكون من دواعي فخري أن أريكه أنت والسيدة.»
فقال هاري: «يا عزيزتي نورا، إن هذا لاتفاق عجيب، وينبغي أن نرى طريق العشاق هذا. فالبسي قبعتك يا حبيبتي ولنذهب إليه مع كوبز.»
ودعاني كوبز أن أتصور قوة شعوره بنذالته ولؤمه لما قال له هذان الطفلان الغريران، وهما يمشيان إلى جانبه، إن عزمهما صح على أن أكون البستاني الأول لهما، بألفي جنيه في العام، لأني صديق وفي لهما. وقد تمنى كوبز في تلك اللحظة أن تنشق الأرض فتبتلعه؛ فقد أحس بشدة الضعة والحقارة وهما ينظران إليه بعيونهما البراقة، ولا يخالجهما شك في صدقه! فاحتاج أن يغير موضوع الحديث، ويعطفه عن مجراه، ومضى بهما في طريق العشاق إلى البحيرة، وكاد هاري يغرق فيها وهو يحاول أن يقطف لفتاته زنبقة، وأخيرا تعبا، وأضناهما الجهد، فاستلقيا على الأرض المخضرة، والأقاحي ترف عليهما، وناما.
ولا يدري كوبز - ولعلي أنا أدري، ولكن دع هذا فما له قيمة - لماذا يرق قلب المرء حين يرى هذين الطفلين الجميلين راقدين تحت السماء الصافية في النهار المشمس، لا يحلمان بشيء وهما نائمان، كما يحلمان وهما مفتوحا العيون، ويذهب كوبز إلى أن المرء لا يسعه إلا أن يفكر في نفسه، وفيما كان من سيرته وتقلب الأحوال به مذ كان في المهد، وكيف أنه لم يبلغ في الحياة مبلغا، وليس له إلا الذكرى، والأمل ولا حقيقة بينهما.
واستيقظا أخيرا، وتبين كوبز أن الفتاة بدأت تشمس وتعسر، فلما طوق هاري خصرها بذراعه قالت إنه يضايقها، فلما قال لها: «يا نورا، يا قمر الربيع، هل يضايقك هاري؟» قالت: «نعم. وأريد أن أعود إلى البيت!»
على أن دجاجة مسلوقة، وشيئا من الحلواء، فترا من حدتها، وردا إليها سجاحة الطبع، ودماثة الخلق، ويقول كوبز إنه كان يود لو أنه رآها أعظم عناية بالصوت الهاتف بحبها منها بالحلواء التي نسيت نفسها وهي تلتهمها. أما هاري فلم يزعزعه شيء، وظل قلبه الكبير يخفق بالحب، كما كان. ودخلنا في الغسق فخفق رأس الفتاة وشرعت تبكي ... ولهذا أوت إلى فراشها كما فعلت في الليلة السابقة ... ولم ينس الفتى أن يقوم بواجب المرافقة والتوديع، على نحو ما كان منه البارحة.
وحوالي منتصف الليل أقبل صاحب الفندق في مركبة، ومعه المستر وولمرز وسيدة عجوز، وكان المستر وولمرز يبدو عليه الجد الصارم، والتفكه في آن معا وقد قال لزوجة الفندقي: «إننا مدينون لك يا سيدتي بالشكر على عنايتك بولدينا وإنا لعاجزون عن تجزيتك. أين الغلام يا سيدتي؟» فقالت: «إن كوبز يسهر على الولد العزيز ويرعاه يا سيدي. أره الغرفة الأربعين يا كوبز.»، فقال المستر وولمرز: «إني مسرور بأن أراك يا كوبز. فقد علمت أنك هنا.» فقال كوبز: «نعم يا سيدي، وما زلت خادمك المطيع.»
ويقول كوبز: إني قد أستغرب منه أن يذكر لي أن قلبه كان يدق كالمطرقة وهو يصعد درجات السلم، ولكن هذه هي الحقيقة، وقد قال المستر وولمرز، وهو يفتح له الباب: «معذرة يا سيدي، ولكني أرجو ألا تكون حانقا على السيد هاري. إنه غلام شهم يا سيدي، وسيكون مفخرة لك.» ويؤكد لي كوبز أن نفسه كانت جائشة في تلك اللحظة، فلو أن المستر وولمرز ذهب إلى العناد، للكمه واحتمل ما عسى أن يكون من نتائج ذلك.
ولكن المستر وولمرز قال: «كلا يا كوبز ... لا يا صاحبي. وشكرا لك.» وكان الباب قد فتح، فدخل.
وتبعه كوبز وفي يده الشمعة، فرأى المستر وولمرز يمشي إلى السرير ويحنو عليه في رفق، ويلثم ذلك المحيا الصغير، ثم يعتدل، ويتئره النظر لحظة، فيعظم الشبه بين الوجهين (ويقال إن المستر وولمرز فر مع من تزوجها)، ثم يهز كتف الغلام برفق ويناديه: «هاري ... يا ولدي العزيز ... هاري!»
فيتنبه هاري وينظر إليه، وإلى كوبز أيضا، كأنما أراد أن يتبين هل أوقعه كوبز في ورطة.
ولكن المستر وولمرز يقول له: «لست غاضبا يا بني، وكل ما أريد منك هو أن تلبس ثيابك لتعود إلى البيت.»
فيقول الغلام: «نعم يا أبي.»
وينهض فيرتدي ثيابه بسرعة، ويعلو صدره وهو يكاد يفرغ من ارتدائها ويزداد علوا حين يقف أخيرا، ناظرا إلى أبيه، وأبوه واقف ينظر إليه، وكلاهما صورة دقيقة من الآخر.
ويقول الغلام، وهو يتشدد ويتجلد ويرد الدموع التي تهم بالتحدر: «من فضلك يا أبي ... هل تسمح لي ... أن أقبل نورا قبل أن أذهب؟»
فيقول المستر وولمرز: «لك ذلك يا بني.»
ويتناول يد الغلام، ويمضي به، وكوبز أمامهما بالشمعة حتى يبلغوا الغرفة الأخرى فإذا السيدة العجوز متكئة على السرير والفتاة غارقة في النوم. فيرفع الوالد غلامه إلى الوسادة، فيسند خده الصغير لحظة إلى جانب خد الفتاة الذاهلة ثم يدني محياها منه ويلثمه، ويبلغ من وقع هذا المنظر في النفوس أن تصيح الخادمة، وكانت تنظر من ثقب الباب: «من العار أن تفرقوا بينهما.» ولكن هذه الخادمة كانت معروفة برقة القلب، وإن لم تكن امرأة سوء ... حاشا لله!
قال كوبز، وانتهى الأمر بذلك. ركب المستر وولمرز عائدا إلى بيته، ومعه ابنه. أما السيدة العجوز، والفتاة التي لم يقسم لها أن تكون المسز وولمرز (لقد تزوجت بعد ذلك ضابطا في الجيش وماتت في الهند) فعادا في اليوم التالي. وقد سألني كوبز في ختام كلامه هل أوافقه على رأيين له؛ الأول: أنه قل أن يكون هناك اثنان على وشك الزواج، في مثل طهر هذين الطفلين. الثاني: أن من الخير لكثيرين ممن يهمون بالزواج أن يؤخذ عليهم الطريق، ويحال بينهم، فيرتد كل منهم إلى بيته على حدة؟ (3) الفرع الثالث: «الحساب»
لبثت في الفندق محصورا، من جراء الثلج المتساقط، أسبوعا كاملا. وكانت الأيام تمضي سراعا، فيما أحس، فلولا وثيقة موضوعة على المنضدة أمامي لما صدقت أني قضيت هنا أسبوعا.
وكان الثلج قد رفع عن الطريق في اليوم السابق، أما الوثيقة التي أمامي فهي حساب الفندق. وهي تشهد شهادة حاسمة بأني أكلت، وشربت، وادفأت، تحت الأغصان الورقية الوريفة الظليلة لشجرة الميلاد سبعة أيام كاملة.
وكنت قد آثرت أن أدع الطريق يتحسن أربعا وعشرين ساعة أخرى لأني احتجت إلى هذه المسافة من الزمن لإتمام عملي. وأمرت أن يبين لي الحساب وأن تكون المركبة معدة أمام الباب «في الساعة الثامنة من مساء الغد.» وكانت الساعة قد بلغت الثامنة من «مساء الغد» لما جمعت أدوات الكتابة التي أتخذها في أسفاري وطويتها في حقيبتها الجلدية، وأديت الحساب، وتعطفت بأرديتي الدافئة، وتلفعت بشملتي. وكان الوقت قد صار أضيق من أن يسمح بالذهاب لإضافة عبرة متجمدة إلى بلورات الثلج التي تكسو البيت الريفي الذي رأيت فيه أنجيلا أول مرة. ولم يبق إلا أن أغذ السير في أقصر طريق إلى ثغر ليفربول وهناك آخذ حقائبي الكبيرة وأركب السفينة. وكفى بهذا عملا، ولا سبيل إلى إرجائه ساعة واحدة.
وودعت كل من عرفت في الفندق - وكدت أودع حيائي أيضا - ووقفت بالباب أراعي الخادم وهو يلف الحبل الذي يشد به حقيبتي إلى المركبة وإذا بمصابيح تقترب سراعا من الفندق. وكان الطريق مغطى بالثلج فلم نسمع للعجلات صوتا، ولكنا جميعا رأينا المصابيح تقبل علينا وتدنو منا بسرعة، بين جدارين من الجليد الذي رفع عن الأرض وصار كوما على كل جانب. وتنبأت الخادمة وصاحت: «توم ... هذه رحلة إلى جريتنا.» وكان توم يعرف أن لها قدرة فطرية على التنبؤ بالزواج وما إليه، فانطلق يعدو ويصيح: «أعدوا الجياد الأربعة الأخرى.» وفي لحظة واحدة صار المكان كله هرجا ومرجا.
وشعرت برغبة في رؤية ذلك السعيد، المحب المحبوب، فتلكأت على الباب حتى بلغه القادمان. ووثب من المركبة رجل براق العين متلفع - ومتلثم - بشملة، فكاد من شدة الوثبة والسرعة فيها يلقيني على الأرض، فالتفت إلي ليعتذر وإذا به «إدوين!»
فصاح وهو يتراجع: «شارل! يا إلهي، ماذا عساك تصنع هنا؟»
فقلت وأنا أتراجع أيضا: «إدوين! ماذا تصنع أنت هنا؟»
وضربت جبيني وأنا أقول ذلك، فأحسست أن لسانا من النار لا يطاق خطف أمام عيني.
فأدخلني إلى القاعة (وكان في موقدها دائما نار فاترة، ولا محرك هناك) حيث وقف المسافرون ينتظرون تغيير الجياد، وقال وهو يرد الباب: «سامحني يا شارل!»
قلت: «إدوين! هل كان هذا جميلا منك؟ وأنا الذي أحبها كل هذا الحب؟ وأنا الذي طويت أضلاعي على هواها كل هذا الزمن؟»
ولم أستطع أن أزيد على ذلك. فراعه أن يقرأ في وجهي ما أكن من الألم والأسى، وقال وهو لا يدري ما في ذلك من القسوة: إنه ما كان يحسب أن يبلغ من قلبي الحزن هذا المبلغ.
فنظرت إليه - أقصرت عن العتاب - ولكن نظرت إليه.
وقال: «شارل، يا صديقي العزيز الأثير، أرجو ألا تظن بي سوءا، وإني لأعلم أن لك حقا في أن أطلعك على دخيلة قلبي. وصدقني حين أقول إني ما ضننت قط من قبل عليك بالثقة بك والاطمئنان إليك، وإني لأمقت الكتمان فإنه لؤم لا يطاق، ولكني أنا وفتاتي حرصنا على الكتم من أجلك .»
هو وفتاته! لقد جعل ذلك قلبي حجرا.
وقلت وأنا أتعجب لوجهه الصريح كيف وسعه أن يلقاني به: «حرصت على الكتمان من أجلي أنا يا سيدي؟»
قال: «نعم، ومن أجل أنجيلا أيضا.»
فأحسست أن الأرض تدور بي، وتضطرب، كالنحلة
5
وقلت وأنا أعتمد على الكرسي بيدي: «هل لك أن تفسر معنى ذلك؟»
فقال إدوين بلهجته الودية: «يا عزيزي شارلي. فكر! لقد كنت على خير حال وأسعده مع أنجيلا، فكيف أزج بك في ورطة مع أبيها بإشراكك في العلم بأمر خطبتنا، وبما عزمنا عليه سرا، بعد أن رفض؟ من المحقق أنه خير لك أن تستطيع أن تقول، وأنت صادق: «إنه لم يستشرني قط، ولم يخبرني بشيء، ولم ينبس بكلمة على مسمع مني.» وإذا كانت أنجيلا قد فطنت إلى الباطن من أمري، وأولتني كل ما في طاقتها من العطف والتأييد، بارك الله فيها من فتاة منقطعة النظير، وزوجة يعيي الزمان مكان ندها، فما كان لي في هذا حيلة، وما قلنا لها - لا أنا ولا إميلين - شيئا، كما لم نقل لك شيئا، وقد توخينا الكتم عنها، كما توخيناه عنك، لنفس السبب، فثق بي، وصدقني.»
كانت إميلين بنت عم أنجيلا، وكانت تعيش معها، وقد شبا معا، وكان والد أنجيلا قيما عليها، فإن لها مالا.
فقلت وأنا أعانقه عن أحر عاطفة: «هل إميلين في المركبة يا إدوين؟»
فقال: «وهل تحسبني ذاهبا إلى جريتنا جرين بغيرها؟»
فخرجت أعدو مع إدوين، وفتحت باب المركبة، وعانقت إميلين، وضممتها إلى صدري، وكانت ملفوفة في فراء أبيض ناعم كهذا الوادي المكسو بالثلج، ولكنها كانت كاعبا جميلة حارة. وقد ربطت الجوادين المقدمين إلى مركبتهما بيدي، ونفحت الخادم بخمسة جنيهات، وحييتهما أحر تحية وهما يمضيان، ثم ركضت بي الخيل في الطريق إلى لندن.
لم أذهب إلى ليفربول، ولم أرحل إلى أمريكا، وإنما رجعت إلى لندن وتزوجت أنجيلا، ولم أكشف لها إلى هذه الساعة عن سري، ولا قصصت عليها كيف كلفني الغلط هذه الرحلة، وسيجيء يوم تقرأ فيه هي، وهما - أعني - إدوين وإميلين - وأبناؤنا الثمانية ، وأبناؤهما السبعة (وقد صارت كبراهم تشابه أمها) هذه الصفحات - وأين المفر من ذلك؟ - فيعرفون جميعا ما كان خافيا عليهم، لا بأس؛ فإن في مقدوري أن أحتمل ذلك، ولقد بدأت في الفندق - بمحض المصادفة - أقرن وقت عيد الميلاد بالعوامل الإنسانية، وأعنى بالبحث في حياة من ألفيتني محوطا بهم، وفي مرجوي ألا أكون قد خسرت بذلك، وألا يكون أحد - قريبا كان أو بعيدا مني - قد خسر بذلك، وإني لأدعو أن تزدهر شجرة الميلاد الوريفة النضيرة، وأن تضرب جذورها وتغوص وتتقرر في أرضنا الإنجليزية، وأن تنفض طيور السماء لقاحها على العالم قاطبة.
هوامش
وليم ويلكي كولنز
1824-1889
السرير الرهيب
بعد أن أتممت تحصيلي في الكلية بقليل، اتفق لي أن أقيم في باريس مع صديق إنجليزي. وكنا يومئذ في عنفوان الشباب، وأعترف أننا كنا نسيم سرح اللهو في هذه المدينة البهيجة ونركب الحياة بشبابنا، فحدث ذات ليلة أن كنا نتمشى على مقربة من «الباليه رويال»، وكنا حائرين لا نستقر على رأي فيما نشغل به أنفسنا من لهو، فاقترح صاحبي أن نذهب إلى محل «فراسكاتي» ولكن اقتراحه لم يرقني، فقد كنت أعرفه - كما يقول الفرنسيون - عن ظهر قلب. وقد خسرت وربحت فيه كثيرا، ابتغاء التسلي، حتى لم يبق فيه لا تسلية ولا تلهية، ومللت مظاهر السمت والأبهة لذلك الشذوذ الاجتماعي الذي ينطوي عليه محل مقامرة. وقلت لصاحبي: «نشدتك الله إلا ما ذهبنا إلى حيث نجد قمارا حقيقيا عنيفا على الرغم من الفاقة، ليس فيه تمويه ... لندع فراسكاتي الوجيه إلى مكان لا يأنف أصحابه أن يدخلوا فيه ذا ثوب خلق لبيس، أو من لا ثوب له، لبيسا كان أو غير لبيس.» قال صاحبي: «حسن، على أنه لا داعي للإبعاد والخروج من نطاق الباليه رويال، للفوز ببغيتك، هذا هو المحل أمامنا. وإنه، فيما تتواتر به الرواية عنه، لكما تشتهي أن يكون ضعة وخشونة.»
وبلغنا الباب، ودخلنا البيت الذي رسمت ظهره.
1
وصعدنا بعد أن تركنا القبعتين والعصوين مع البواب، فمضوا بنا إلى قاعة القمار الكبرى، فلم نجد فيها كثيرين ، ولكن القليلين الذين كانوا فيها والذين رفعوا رءوسهم لينظروا إلينا ونحن ندخل، كانوا جميعا نماذج - صادقة دقيقة لسوء الحظ - من طبقاتهم.
لقد جئنا وفي مرجونا أن نرى جماعة من الطغام والهمج، فوقعنا على شر من ذلك، وإن لكل ضرب من الضعة لجانبها الفكاهي المضحك، أما هنا فما تحس النفس سوى المأساة ... مأساة خرساء لا فكاك منها ولاحيلة فيها، وكان السكون في الغرفة فظيعا؛ هنا فتى نحيل متهضم الوجه، طويل الشعر، يرشق بعينيه الغائرتين أوراق اللعب، ولا ينطق بحرف. وهنا آخر مترهل خرج البثر بوجهه الغليظ، وهو يخرق ورقة أمامه ليحصي كم مرة كسب الأسود، وكم مرة كسب الأحمر، ولا ينطق بحرف. وها هنا شيخ قذر مغضن الوجه، له عين الصقر، وعليه ثوب طال ترداده إلى الرفو، وقد خسر آخر فلس، ومع ذلك يأبى إلا أن يراقب اللعب الذي لا يستطيع أن يشترك فيه، ولكنه لا ينطق بحرف! حتى صوت الضريب
2
كان مكتوما مخنوقا وغليظ الجرس في جو هذه الغرفة. وقد كان رجائي وأنا أدخل هذا البيت أن أجد فيه ما يضحك، فإذا أمامي منظر يبعث الأسى ويغري بالبكاء. فلم يسعني إلا أن ألتمس معاذا من هذه الكآبة التي تستولي علي بسرعة، وشاء سوء الحظ أن أقبل على أول ما وجدت، فذهبت إلى المائدة وشرعت ألعب. وأبى لي الحظ السيئ، كما سترى، إلا أن أربح ... أربح مقادير جسيمة ... مقادير يخطئها الحساب، ولا تدخل في عقل عاقل ... حتى أحاط بي اللاعبون، وراحوا يحدجون مكاسبي على المائدة بعيون ناطقة بالنهم والروعة، ويتهامسون فيما بينهم بأن الإنجليزي سيخرب «البنك.»
وكان القمار على «الأحمر والأسود» وقد جربت حظي في هذه اللعبة في كل مدينة بأوروبا، ولكن من غير أن أعنى «بنظرية الحظ» التي تعد «حجر الفلاسفة» عند المقامرين. وما كنت قط مقامرا بالمعنى الصحيح، فقد سلمت من هذه الشهوة الجائحة فلعبي للتسلية وتزجية الفراغ، وما أعرفني قامرت بدافع من الحاجة أو الضرورة، لأني لم أعان قلة المال أو النقص فيه. وكنت إذا قامرت لا أعكف حتى أمنى بخسارة لا قبل لي باحتمالها، أو أفوز بمكسب يدير رأسي ويخرج بي عن طوري من الاتزان. وأقول بإيجاز إني كنت أختلف إلى أندية القمار كما أختلف إلى المراقص والمسارح لأني أجد فيها تلهية، ولا أدري بأي شيء آخر أشغل نفسي وأزجي الفراغ.
ولكن الحال في هذه المرة كان مختلفا جدا، الآن - وللمرة الأولى في حياتي - جربت شهوة القمار الحقيقية وعرفت كيف يكون عصفها بالنفس، واستحواذها على اللب. وكانت مكاسبي قد أذهلتني في أول الأمر، ثم أسكرتني، بأدق المعاني الحرفية لهذا اللفظ. ومن الحقائق الغريبة التي يتعذر تصديقها أني كنت لا أخسر إلا حين أحاول أن أقدر فرص الربح والخسارة، وأقامر على مقتضى ما تبين لي من الحساب السابق. أما حين أدع الأمر كله للحظ، وألعب بلا حساب أو تدبر، فالربح لا شك فيه ولا مفر منه على الرغم من كل عامل من عوامل الترجيح لكفة «البنك.» وكان اللاعبون يخاطرون في أول الأمر بمالهم، وهم مطمئنون، على اللون الذي أختاره، ولكني زدت المبالغ التي أقامر بها إلى حد لا يستطيعون أن يجاروني فيه، فكفوا - واحدا بعد واحد - عن اللعب، واكتفوا بالمشاهدة وأنفاسهم معلقة.
وطفقت أزيد المبالغ التي أخاطر بها، وأكسب مع ذلك، فجاشت النفوس وسرت الحمى في الدماء. وصار السكون لا يقطعه إلا التمتمة كلما دفع الذهب على المائدة إلى ناحيتي. حتى الضريب الرزين رمى بمجرافه على الأرض وقد ثارت نفسه ثورة «فرنسية» من فرط دهشته لنجاحي. ولكن رجلا واحدا في الغرفة كان يضبط أعصابه ويحتفظ باتزانها. وأعني به صديقي. وقد جاء إلي، وهمس في أذني بالإنجليزية بالرجاء أن أرحل عن هذا المكان وأن أقنع بما ربحت. وأنصفه فأقول إنه أعاد تحذيره ورجاءه مرات عديدة، ولم يتركني ويخرج إلا بعد أن رفضت نصحه (وكانت سورة القمار قد اشتدت بي) بألفاظ جعلت من المستحيل عليه أن يخاطبني مرة أخرى في تلك الليلة.
وبعد أن خرج صديقي ببرهة، سمعت صوتا أجش يقول من ورائي: «اسمح لي يا سيدي العزيز، اسمح لي أن أعيد إليك جنيهين سقطا. يا له من حظ يا سيدي! إني أقسم بشرفي، أنا الجندي القديم، أني في تجربتي الطويلة للعب لم أر قط مثل حظك أبدا. استمر يا سيدي، استمر بجرأة واخرب البنك.»
فأدرت وجهي فرأيت رجلا مديد القامة في معطف خفيف عليه شارات عسكرية، يهز لي رأسه ويبتسم في أدب جم، ولو أن عقلي لم يعزب، لكان الأرجح أن أشتبه فيه وأستريب به، فقد كانت عيناه جاحظتين وحمراوين كالدم وكان شارباه منفوشين متهدلين وبأنفه أثر من كسر، وكان لصوته نبرات عسكرية، ولكن من أحط طبقة. أما كفاه فأقذر ما رأيت في حياتي، حتى في فرنسا. ولكن هذه المميزات الشخصية لم يكن لها عندي أي تأثير منفر فقد تركني الجنون الذي أورثتنيه مكاسبي الهائلة مستعدا أن أؤاخي كل من يشجعني على اللعب. فتقبلت من هذا الجندي القديم مقدار شمة من السعوط، وربت له على كتفه وحلفت أنه خير من دب على الأرض، وأنه أمجد أثر تخلف من «الجيش الكبير»
3 ، فقال صديقي العسكري وهو يفرقع أصابعه مغتبطا: «استمر استمر واربح. اخرب البنك. أي نعم يا صديقي الإنجليزي الشهم، اخرب البنك.»
وقد مضيت في اللعب، ولججت فيه حتى صاح الضريب بعد ربع ساعة أخرى: «أيها السادة. إن البنك يكف الآن وينقطع.» وصار كل ما كان في «البنك» من أوراق النقد والذهب كوما أمامي ... رأس مال البيت كله أصبح تحت يدي ينتظر أن أفرغه في جيوبي.
وقال لي الجندي العتيق وأنا أدفع يدي في كوم الذهب: «ضع المال في منديلك يا سيدي، صره فيه. صره، واجمع أطرافه واعقدها كما كنا نفعل بطعامنا في الجيش الكبير، فإن مكاسبك أثقل من أن يحتملها جيب. هكذا ... تماما ... ضع الورقات والذهب جميعا ... يا له من حظ ... انتظر ... هذا جنيه آخر على الأرض ... والآن يا سيدي نعقد عقدتين متينتين، هكذا، بعد استئذانك، وإذا المال في أمان! تحسس المنديل ... تحسسه أيها السعيد المجدود! ناشف، ومستدير كالقنبلة. أما لو أنهم كانوا يطلقون علينا في أوسترلتز
4
قنابل من هذا القبيل ...! ليتهم كانوا يفعلون! والآن ماذا بقي علي أن أفعل أنا المدفعي القديم والجندي الباسل سابقا؟! أسألك ماذا أصنع؟ ... أتقدم برجائي إلى صديقي الإنجليزي الحميم أن يشرب معي زجاجة من الشمبانيا، لنشرب نخب ربة السعود في قدحين مزبدين قبل أن نفترق!»
فيا له من جندي باسل! وما أطيبه وأرق حاشيته من مدفعي قديم! فلتدر الشمبانيا علينا، وليهتف الإنجليزي بالجندي الفرنسي القديم! هورا! هورا! ولنهتف مرة أخرى بربة السعود! هورا! هورا!
وصاح الجندي: «مرحى! وأحبب بالإنجليزي العطوف الكريم الذي يجري في عروقه الدم الفرنسي المرح! أترع الكأس مرة أخرى! أوه، إن الزجاجة فارغة! لا بأس! فليحيا النبيذ! أنا الجندي القديم آمر أن تدار علينا زجاجة أخرى ومعها نصف رطل من المسكرات!»
فصحت به: «كلا، يا صديقي الباسل! ولا، أيها المدفعي القديم! كانت تلك زجاجتك، والآن هذه زجاجتي! هذه هي! انظر إليها ... وتعال نشرب أنخاب الجيش الفرنسي ... ونابليون العظيم ... وهذا الجمع ... والضريب ... وزوجته ... وبناته، إذا كانت له بنات ... والسيدات كافة ... وكل امرئ في هذه الدنيا!»
وأحسست، لما فرغت الزجاجة الثانية، كأني أشرب نارا سائلة. فالتهب دماغي. ولم يسبق لي في حياتي كلها أن كان للشراب مثل هذا الغول والخمار عندي. فهل هذا الأذى نتيجة لفعل المسكر المنبه في كياني الفائر إلى درجة الحمى؟ أم ترى معدتي على حال من الاضطراب غير معهود؟ أم هذه الشمبانيا قوية الأخذ جدا؟
وصحت وبي من النشوة مثل الجنون: «أيها الجندي القديم في الجيش الفرنسي الكبير! إن النار مستعرة في بدني، فكيف حالك أنت! لقد أضرمت في النار، فهل أنت سامع ما أقول يا بطل أوسترلتز؟ فلنشرب زجاجة ثالثة لنطفئ الحريق ونخمد ألسنة اللهب.»
فهز الجندي القديم رأسه، ودوم حدقتيه الجاحظتين، حتى لتوقعت أن أراهما تسقطان من محجريهما، ثم لمس جانب أنفه المكسور بإصبعه القذر، وقال: «القهوة!» وذهب يعدو إلى غرفة داخلية.
وقد كان لهذه اللفظة المفردة التي نطق بها ذلك الجندي العتيق الشاذ، من الوقع ما يشبه السحر في الحاضرين، فنهضوا جميعا دفعة واحدة لينصرفوا، ولعلهم كانوا يطمعون أن ينالوا شيئا بفضل ما كسبت، فلما وجدوا صديقي الجديد تأبى له شهامته ومروءة نفسه أن يدعني أسكر حتى لا أعي، ذهب أملهم فيما كانوا يتطلعون إليه من المتعة على حسابي، ومهما تكن البواعث التي حملتهم على الخروج، فإن الواقع أنهم انصرفوا معا. ولما عاد الجندي وجلس مرة أخرى إلى المائدة أمامي، كانت الغرفة خالية إلا منا، وكنت بحيث أستطيع أن أرى الضريب فيما يشبه الدهليز، يتناول عشاءه. وصار السكون أعمق وأرهب. وتغير الجندي السابق بغتة، واتخذ هيئة الجد الصارم، وصار إذا تكلم لا يزين عبارته أو يؤكدها بالأيمان، أو فرقعة الأصابع، أو الصيحات أو غير ذلك.
وقال لي بلهجة من يفضي إلي بسر: «اسمع يا سيدي العزيز نصيحة جندي قديم. لقد ذهبت إلى ربة الدار (وهي سيدة ظريفة ونابغة في الطبخ) لأقنعها بوجوب العناية بإعداد قهوة قوية جيدة لنا. فعليك أن تشرب هذه القهوة لتذهب عنك سورة الشراب قبل أن تمضي إلى بيتك، لا غنى بك عن ذلك يا صديقي الكريم. فإن عليك أن تحمل كل هذا المال معك إلى بيتك الليلة، ومن واجبك نحو نفسك أن تحتفظ بعقلك. وقد عرف جسامة مكاسبك ناس كثر كانوا هنا الليلة، وهم جديرون بالثقة ولكن الإنسان إنسان، يا سيدي العزيز، فهم لا يخلون من مواطن ضعف، وقد لا يستطيعون أن يقاوموا الفتنة ويصدوا عما يغريهم. فهل أحتاج أن أقول أكثر من ذلك؟ كلا! فإنك تفهم عني وتدرك ما أعني. والآن هذا ما ينبغي أن تفعل: تبعث في طلب مركبة حينما ترى أن نفسك قد ثابت إليك، وأغلق نوافذها كلها عندما تركب، ومر السائق أن يجتاز بك إلى بيتك الشوارع الكبيرة المضاءة. افعل هذا تسلم ويسلم لك مالك. افعل ما أشير به، وغدا ستدرك أنك مدين بالشكر لجندي هرم على ما أخلص لك النصح فيه.»
وما كاد الجندي السابق ينتهي من خطبته التي ألقاها بصوت شجي، حتى جاءت القهوة، مصبوبة في فنجانين. وناولني صديقي المحتفي بي أحد الفنجانين وهو ينحني لي . وكان ريقي جافا من الظمأ فشربت القهوة دفعة واحدة. ولم أكد أرد الفنجان إلى مكانه حتى انتابني دوار شديد، وأحسست أني ازددت سكرا، وصارت الغرفة تدور بي بعنف، وصار الجندي فيما يبدو لي يصعد ويهبط أمامي كأنه كباس آلة بخارية. وأصمني صوت يدوي في مسمعي، واستولى علي الشعور بالحيرة والذهول، والعجز، والغباء، فنهضت عن الكرسي، وأنا أعتمد على المائدة لأحتفظ بتوازني، وتمتمت أني مريض ثاقل
5
فلست أدري كيف أذهب إلى بيتي.
فقال الجندي، وكان صوته أيضا فيما يخيل إلي، يضطرب ويعلو ويهبط كبدنه: «يا صديقي العزيز، إن من الجنون أن تذهب إلى بيتك وأنت على هذا الحال. فستفقد مالك على التحقيق. وقد تسرق وتقتل أيضا بسهولة. إني أنا سأنام هنا، فنم هنا أيضا، فإنهم يجيدون إعداد الأسرة وتسويتها في هذا البيت. خذ سريرا، وأفسد سورة الخمر بالنوم، ثم عد غدا إلى بيتك، وأنت آمن، ومعك مكاسبك، في وضح النهار.»
ولم يبق في رأسي سوى خاطرين؛ الأول: أن لا أدع الصرة المحشوة بالمال تفلت من يدي. والثاني: أنه يجب أن أرقد حالا وأنام لأرتاح مما أعانيه، ومن أجل هذا قبلت ما اقترحه الجندي من النوم هنا، وتناولت ذراعه، وحملت الصرة بيدي الأخرى. وتقدمنا الضريب فاجتزنا بعض الممرات وصعدنا درجات إلى الغرفة التي سأنام فيها. وهز الجندي يدي مصافحا بحرارة، واقترح أن نفطر صباح غد معا، ثم خرج يتبعه الضريب.
فأسرعت إلى حوض الغسيل، وشربت بعض ما في القلة من الماء، وصببت الباقي في الحوض ووضعت وجهي فيه، ثم قعدت على كرسي وحاولت أن أستعيد وثاقة حالي. فسرعان ما أحسست أني أفيق وأن قوتي ترجع إلي، وقد كان الانتقال من الجو الفاسد في حجرة القمار إلى الهواء البارد في هذه الغرفة، ومن نور مصابيح الغاز الوهاجة إلى ضوء الشمعة الخافت الهادئ مما قوى الانتعاش الذي أفادنيه الماء البارد، فزال عني الدوار وبدأت أشعر أني قاربت حالة الأصحاء العقلاء. وكان أول ما جرى ببالي هو الخطر الذي يستهدف له من ينام الليل كله في بيت من بيوت القمار، وكان الذي جرى ببالي بعد ذلك هو الخطر الأكبر الذي يتعرض له من يحاول الخروج من البيت بعد أن يوصد بابه، والذهاب إلى البيت وحده في الليل، مخترقا شوارع باريس ومعه مبلغ ضخم من المال. ولقد نمت في شر من هذا البيت خلال أسفاري العديدة. ولذلك صح عزمي على أن أسك الباب وأضببه
6
وأترسه، وفي الصباح أرى ما يجيء به الحظ.
وهكذا اتقيت التطفل علي، ثم نظرت تحت السرير، وفي الصوان
7
واختبرت مشابك النافذة، ولما اقتنعت بأني لم أقصر في الحيطة خلعت ثيابي الفوقية، ووضعت الشمعة على الموقد بين رماد الخشب، ورقدت على السرير، ودسست صرتي تحت المخدة.
وما لبثت أن تبينت أن النوم لن يؤاتيني، وأني لن أستطيع حتى أن أغمض جفوني، فقد كنت تام التنبه وفيما يقارب الحمى، وكان كل عرق في بدني ينبض، وكل حاسة من حواسي مرهفة، فجعلت أتقلب، وأجرب كل رقدة، وألتمس المواضع الباردة من الفراش، ولكن بلا فائدة، وكنت تارة أريح ذراعي على ظهارة الفراش، وتارة تحتها، وتارة أدفع رجلي وأمدهما إلى آخر السرير، وطورا آخر أطويهما إلى قريب من ذقني، ومرة أهز المخدة وأقلبها على الوجه الآخر، وأسويها وأرقد على ظهري، ومرة أثنيها وأقيمها على حدها وأسندها إلى ظهر السرير وأحاول أن أنام وأنا راقد كقاعد. ولكن هذا كله كان عبثا فتوجعت وسخطت وأدركت أن أمامي ليلة طويلة سأقضيها مسهدا.
وماذا أستطيع أن أصنع؟ لم يكن معي كتاب فأتسلى بالقراءة، وإذا لم أهتد إلى ما أشغل به نفسي وألهي به عقلي فإن من المحقق أن يفضي بي ذلك إلى حال أتوهم فيه كل ضرب من المخاوف والأهوال، وأتصور كل ممكن وكل مستحيل من المخاطر، أي أن أقضي الليلة وأنا أقاسي كل أنواع الفزع العصبي.
واتكأت على مرفقي وأجلت عيني في الغرفة، وكان القمر يريق عليها ضوءه اللين من النافذة، وفي مأمولي أن أجد صورة أو حلية أتأملها. وتذكرت وأنا أدور بعيني من جدار إلى جدار، ذلك الكتاب الممتع «رحلة في غرفتي» فاعتزمت أن أحذو حذو الأديب الفرنسي، وأن أنشد من التسلية ما يخفف آلام السهاد وسآمته، وذلك أن أحصي - في رأسي - كل ما أستطيع أن أرى من متاع الغرفة وأثاثها وأن أتتبع إلى مصادرها جمهرة الذكريات التي لا يعجز عن إثارتها حتى كرسي أو مائدة أو حوض.
على أن اضطراب أعصابي جعل الإحصاء أسهل علي من التفكير، فما لبثت أن يئست من قدرتي على انتهاج الطريق الذي ضرب فيه صاحب «رحلة في غرفتي»، لا، بل من القدرة على أي تفكير، فأدرت عيني في الغرفة، ونظرت إلى قطع الأثاث المختلفة، ولم أزد على ذلك.
وكان هناك، أولا، السرير الذي أرقد عليه، وله عمد أربعة، وذاك آخر ما كنت أتوقع أن أجد في باريس؛ سرير إنجليزي الطراز ذو أربع قوائم، يحيط به من فوق، سجف منقوش، وينسدل عليه ستران مقرونان خانقان، تذكرت أني لما دخلت الغرفة رددت كل شق منهما إلى القائمة من غير أن أجعل بالي إلى السرير نفسه. وكان هناك أيضا حوض من الرخام للغسل، هو الذي صببت فيه الماء بلا تحرز أو أناة، ولا تزال بقية مما أريق على حافته يقطر ببطء على الأرض. وثم أيضا كرسيان صغيران ألقيت عليهما ما خلعت من ثيابي، وكرسي آخر كبير ذو ذراع، وقد طرحوا عليه حبسا
8
أبيض إلا أنه قذر، وعلى ظهره بنيقتي وربطة رقبتي، وصوان له أدراج، مقابض بعضها منزوعة، ودواة من الصيني مزخرفة ولكنها مكسورة موضوعة على ظهر الصوان كأنها حلية، ومنضدة للزينة، عليها مرآة صغيرة جدا، ومدبسة كبيرة جدا، ثم الشباك وهو أكبر من المألوف، وكانت هناك أيضا صورة قاتمة قديمة رأيتها على ضوء الشمعة، وهي صورة رجل على رأسه قبعة إسبانية عالية مزدانة بالريش، ووجهه وجه شرير نذل، وعيناه تنظران إلى فوق، ويده على حاجبه كأنه يستشرف، وكان يحدق فيما فوق، فلعله كان يرمق مشنقة عالية يوشك أن يتدلى منها. ومهما يكن من ذلك، فلا شك أن هيئته كانت هيئة رجل يستحق هذا المصير بلا جدال .
وكأنما أعدتني الصورة فرحت أصعد بصري إلى ما فوق، إلى سقف السرير. ولكن منظره كان كريها؛ فحولت عيني إلى الصورة، ورحت أعد الريشات التي تزدان بها القبعة، فإذا هي ثلاث بيضاء، وثلاث خضراء، وتأملت قمة القبعة فألفيتها مخروطية الشكل، من الطراز الذي كان يميل إليه ويؤثره «جيدو فوكس»، وتساءلت عما ينظر إليه هذا الرجل المرسوم! لا يمكن أن تكون النجوم همه، فإن شريرا مثله لا يكون فلكيا ولا منجما، فلا بد أن تكون عينه على المشنقة العالية التي سيرفع إليها ويتدلى منها بعد قليل! فهل يرث الجلاد قبعته العالية المريشة؟ وأحصيت الريش مرة أخرى فألفيته كما كان؛ ثلاث ريشات بيضاء، وثلاث ريشات خضراء!
وبينما كنت أتشاغل بهذا شردت خواطري، وأذكرني ضوء القمر في الغرفة ليلة مقمرة في إنجلترا، بعد رحلة للنزهة في واد ببلاد ويلز. وتمثل لخاطري كل ما شاهدته وأنا عائد مع رفاقي من هذه الرحلة؛ من المناظر الجميلة التي زادها القمر جمالا، وأكسبها فتنة لا تكون لها بغيره، ومن العجيب أني كنت نسيت هذه الرحلة ولم أفكر فيها كل هذه السنوات الطويلة، ولو أني حاولت أن أتذكرها لكان المحقق أن لا أستعيد إلا قليلا من مشاهدها. فيا لهذه الذاكرة التي لا تزال تعيننا على الاعتقاد بأنا خالدون على الرغم من الفناء المادي! ها أنا ذا في بيت مريب لا عهد لي به، وفي موقف قلق لا يخلو من خطر من شأنه أن ينفي التفكير الهادئ، ومع ذلك أراني أتذكر، عفوا وبلا جهد مني، أماكن وأشخاصا، وأحاديث ودقائق من كل ضرب، كنت أظنها قد طويت طيا ليس له من نشر، وما كان من الممكن أن أتذكر ذلك بإرادتي حتى في أحسن الأحوال. وما الذي أثار هذه الذكرى في لحظة واحدة، وأحدث هذا الأثر العجيب المعقد الخفي السر؟ لا شيء سوى أشعة القمر الداخلة من نافذة غرفتي!
وكنت لا أزال أفكر في تلك الرحلة، وفي مرحنا ونحن عائدون منها، وفي السيدة الشابة التي تأبى إلا أن تنشد أبياتا من قصيدة «تشايلد هارولد» - بيرون - لأن القمر كان يضيء الدنيا، وردتني هذه المناظر والملاهي المنسية إليها واستولت علي، وإذا بالخيط الذي تعلقت به ذكرياتي ينبت في ثانية واحدة، وإذا بي أرد إلى الحاضر الذي أنا فيه بقوة، وإذا بي ألفي نفسي - لا أدري لماذا؟ - أنظر بحدة إلى الصورة المعلقة مرة أخرى!
أنظر باحثا عن أي شيء.
يا إلهي! لقد شد الرجل المرسوم قبعته على حاجبيه! كلا! بل اختفت القبعة كلها! أين ذهبت القبعة المخروطية الشكل؟! وأين الريشات الست؛ الثلاث البيضاء، والأخر الخضراء؟! لم يبق لها وجود! وما هذا الذي يحجب جبينه الآن وعينيه ويده المرفوعة إلى ما فوق !حاجبيه؟
أفي السرير شيء يتحرك؟
انقلبت على ظهري، وحدقت. أتراني جننت؟ أما أنا سكران؟ أم هو حلم؟ أم عاودني الدوار؟ أم سقف السرير يهبط ببطء، ولكن باطراد، وفي سكون؟ يهبط كله شيئا فشيئا، بطوله وعرضه، ويدنو مني قليلا فقليلا وأنا راقد تحته؟
وأحسست كأنما جمد الدم في عروقي، وابترد جسمي وسرى مثل الشلل في بدني، وأنا أقلب خدي على الوسادة، أنظر إلى الرجل المرسوم في الصورة وأرى هل يهبط سقف السرير حقا أو هو ثابت لا يتحرك؟
وكانت نظرة واحدة إلى الصورة حسبي، فقد كان السجف المنقوش المحيط بجوانب السرير من سقفه محاذيا لخصر الرجل! وظللت أنظر وقد احتبست أنفاسي، ورأيت الصورة المرسومة تختفي، والإطار من تحتها يغيب، والسقف يهبط ببطء، وفي اطراد، وبلا صوت!
وأنا لا جبان، ولا ضعيف القلب. وقد تعرضت للمخاطر والمهالك أكثر من مرة في حياتي، ولم أفقد عقلي لحظة واحدة، ولكني لما أيقنت أن سقف السرير يتحرك وأنه يهبط علي، نظرت إليه وأنا أرعد، وقد فاجأني الروع فلا حيلة لي تحت هذه الأداة القاتلة الشنيعة التي تقترب مني لتخنقني وأنا أرقد.
خذلني الرشد، وخانني اللسان، وتعلقت أنفاسي وأنا أنظر، وكانت الشمعة قد نفدت فانطفأت، ولكن القمر كان يضيء الغرفة. وكان السقف يهبط بلا توقف، ولا صوت، وأنا من الفزع كأنما شددت إلى المرتبة، وبلغ من دنو السقف مني أن شممت رائحة التراب الذي في السجف المحيط به.
وفي هذه اللحظة الأخيرة تنبهت غريزة المحافظة على الذات، وأنقذتني من الذهول الذي استولى علي فتحركت، ولما أكد، فما كان هناك من المسافة بين المرتبة والسقف أكثر مما يسمح بالانقلاب على جنبي والتدحرج عن السرير. وبينما كنت أهوي إلى الأرض بلا ضجة أو ضوضاء لمست بكتفي سجف هذا السقف القاتل.
ولم أنتظر حتى تنتظم أنفاسي، ويثوب إلي جسمي، ولم أعن بأن أمسح العرق البارد الذي تصبب من وجهي، بل أسرعت فنهضت على ركبتي لأرى سقف السرير من سطحه. وأعترف أني سحرت فسمرت في مكاني، فلو أني سمعت حينئذ وقع أقدام خلفي لما استطعت أن أدور أو أتلفت، ولو أن وسيلة للنجاة أتيحت لي بمعجزة لما وسعني أن أتحرك لأنتفع بها، فقد صار كل ما في من قوة وحياة مركزا في عيني.
ظل السقف كله يهبط، ومعه السجف الذي يدور به، حتى لم يبق بينه وبين المرتبة ما يكفي لدس إصبع، فمددت يدي وتحسست جوانب السقف، فإذا الذي كنت أحسبه، وأنا راقد، سقفا عاديا لسرير ذي قوائم أربعة، مرتبة سميكة عريضة يحجبها السجف ويسترها من تحتها الكلة، فصعدت طرفي فأبصرت القوائم الأربعة عارية. وفي وسط السقف الهابط بزال
9
عظيم خارج من سقف الغرفة، وهو ولا شك الذي نزل بالسرير، على نحو ما تفعل المكابس. وكانت هذه الأدوات الضاغطة الرهيبة تتحرك من غير أن تحدث أخفت صوت. فما سمعت شيئا وأنا راقد، ولا كان هناك أدنى جرس من الغرفة التي فوقي. وفي هذا السكوت المروع، وفي القرن التاسع عشر، وفي عاصمة فرنسا المتحضرة، رأيت أداة للقتل خنقا، مثلها لعله كان موجودا في أحلك أيام محكمة التفتيش، أو في الفنادق النائية المنقطعة في جبال الهارتز أو في محاكم وستفاليا السرية. وكنت، وأنا أتأملها، لا أزال عاجزا عن الحركة، ولا أكاد أستطيع أن أتنفس، ولكني استعدت قدرتي على التفكير فتجسدت لي المؤامرة التي دبرت لهلاكي في أفظع صورها.
لقد كانت القهوة التي قدمت لي، فيها مخدر ، ولكنه كان أقوى مما يجب فأنجاني من الموت اختناقا أني تناولت فوق الكفاية من المخدر، ولشد ما كنت أتبرم وأسخط على الأرق الذي أنقذني! ولشد ما وثقت بالوغدين اللذين قاداني إلى هذه الحجرة، وقد اعتزما أن يقضيا على حياتي ليظفرا بمكاسبي! وما أكثر الذين ربحوا مثلي، وناموا مطمئنين، كما كنت أحب أن أنام، على هذا السرير ثم لم يرهم، ولا سمع بهم أحد بعد ذلك! وسرت في بدني الرعدة وأنا أتصور هذا المصير الذي كنت صائرا إليه.
وتعطل كل تفكير، مرة أخرى، حينما رأيت أداة الهلاك تتحرك مرة أخرى فبعد أن لبثت جاثمة على المرتبة حوالي عشر دقائق - على قدر ما استطعت التخمين - بدأت ترتفع، ولا شك أن الأوغاد الذين كانوا يحركونها من فوق اعتقدوا أنهم بلغوا غايتهم وحققوا مأربهم. وكما كانت تهبط في بطء وسكون كذلك أخذت تصعد إلى مكانها الأول، فلما بلغت أطراف القوائم الأربع للسرير كانت قد بلغت السقف أيضا، واختفى الثقب والبزال جميعا، وعاد السرير - كما كان يبدو للعين - سريرا عاديا، وسقفه السقف المألوف الذي لا يبعث على أي استرابة.
ووسعني الآن - لأول مرة - أن أتحرك، وأن أنهض عن ركبتي وأرتدي ثيابي وأفكر في النجاة والتماس الطريق إليها. وكنت أدرك أن علي أن أتقي أن أحدث صوتا يدل على أن الذين حاولوا خنقي أخفقوا، وإلا قتلوني على التحقيق. فهل تراني أحدثت صوتا؟ أرهفت أذني، وجعلت عيني على الباب لأتبين ... كلا. لم أسمع وقع قدم في الدهليز، ولا صوتا، لا خفيضا ولا عاليا من الغرفة التي فوقي. وكان السكون تاما في كل مكان، وكنت قد حرصت قبل الرقاد على السرير، على إيصاد الباب وتضبيبه، ولم يكفني ذلك فوضعت خلفه صندوقا قديما من الخشب وجدته تحت السرير، فاتخذت منه مترسا. وكان من المستحيل نقل هذا الصندوق الآن من موضعه وراء الباب بلا ضجة (وقد اقشعر بدني وأنا أفكر فيما عسى أن يكون مخبأ فيه!) كذلك كان من الجنون أن أفكر في الخروج من البيت من بابه الموصد. فلم يبق لي إلا النافذة، فمشيت إليها على أطراف أصابعي.
وكانت غرفتي في الطابق الأول فوق كنة، وهي تطل على الشارع الخلفي الذي خططته في رسمك، فرفعت يدي لأفتح النافذة وأنا أعلم أن سبيل النجاة رهن بهذا؛ فإن بيتا كهذا يقتل فيه الناس لا بد أن يكون عليه حراس لا ينامون، وإني لجدير بأن أقضي نحبي على نحو ما، إذا أط الشباك أو صوت نجرانه.
10
وقد قضيت خمس دقائق - في حساب الزمن - وخمس ساعات فيما كنت أحس، في فتح هذا الشباك، ووفقني الله إلى فتحه في سكون، كما كان يمكن أن يفعل أمهر اللصوص وأحذقهم، ثم أشرفت على الشارع وأدرت عيني فيه، فوجدت أن إلقاء نفسي من النافذة، يكون فيه هلاكي المحقق، فأجلت طرفي في جوانب البيت، فرأيت على الجانب الأيسر منه أنبوبة الماء الغليظة التي رسمتها، وكانت قريبة من الشباك، وما كدت أراها حتى أيقنت من النجاة، فخلصت أنفاسي لأول مرة مذ رأيت سقف السرير يهبط علي!
وقد يرى بعض الناس أن وسيلة النجاة التي اهتديت إليها خطرة، ولكن انزلاقي على الأنبوبة إلى الطريق، لم يتمثل لي فيه أي خطر، فقد استطعت بالمواظبة على الرياضة البدنية أن أحتفظ بقدرتي على التسلق وبراعتي فيه، وكنت واثقا أن رأسي ويدي ورجلي لن تخونني. لهذا لم أتردد في الإقدام، فركبت حافة النافذة، ولكني تذكرت صرة المكاسب المدسوسة تحت الوسادة، وكان في وسعي أن أدعها، ولكني آليت ألا أترك لأشرار هذا البيت ما كانوا يمنون النفس باستلابه، ولهذا عدت إلى السرير، وربطت الصرة الثقيلة برباط رقبتي، وألقيتها على ظهري.
وخيل إلي، بعد أن فرغت من ذلك، أني سمعت حسيس أنفاس وراء الباب، فسرت رعدة الفزع في بدني مرة أخرى، وأنا أنصت وأتسمع. كلا! لا ركز، ولا شيء غير السكون في الدهليز، وإنما كان ما سمعته هسيس الهواء الداخل في الغرفة، ولم أضع وقتا، فوثبت إلى حافة النافذة، ومن ثم تعلقت بأنبوبة الماء بيدي وركبتي.
وانحدرت إلى الشارع بسهولة وبغير ضجة، كما كنت أتوقع، وذهبت أعدو بأقصى ما يسعني من السرعة إلى مركز الشرطة، وكنت أعرف أنه في جوار هذا الحي. وكان هناك ضابط وبعض الجنود يحكمون تدبير خطة، على ما أعتقد، للاهتداء إلى من ارتكب جريمة خفية كانت باريس كلها تلغط بها يومئذ، فلما شرعت أقص قصتي، بسرعة، وبلغة فرنسية محطمة، كان من الجلي أن الضابط يحسبني إنجليزيا مخمورا سطا على بعضهم وسرقه، ولكن سرعان ما غير رأيه بعد أن مضيت في قصتي، وقبل أن أتمها كان قد دس ما أمامه من الأوراق في درج، ولبس قبعته، وأعارني قبعة (فقد كنت عاري الرأس) وأمر صفا من العسكر أن يستعدوا، وطلب من الصناع أن يهيئوا كل ضروب الآلات اللازمة لفتح الأبواب عنوة ورفع بلاط الأرض، وتناول ذراعي كأني صديق حميم، وخرج بي. وأجازف فأقول إن الضابط، لما كان طفلا صغيرا، وحمله أهله أول مرة إلى الملعب لم يكن فرحه بذلك كفرحه الآن بما يتوقع أن يجد في البيت الذي هربت منه.
واجتزنا الشوارع والضابط يستجوبني ويهنئني في وقت معا ونحن سائران على رأس القوة التي صحبتنا، ولما بلغنا البيت وضع الحراس أمامه وخلفه ثم أهوى على الباب يدقه ويقرعه فظهر نور في نافذة، فأمرني أن أتوارى وراء الشرطة، وتلت ذلك قرعات أخرى أشد وأقوى، وصيحة «افتحوا باسم القانون.» فانفتحت المزاليج والمغاليق أمام هذه الصيحة المرعبة، وما كاد المصراع يتحرك حتى كان الضابط في الدهليز يواجه خادما ممتقع اللون في نصف ثيابه فدار بينهما هذا الحوار الوجيز: - «نريد أن نرى الإنجليزي النائم في هذا البيت.» - «قد خرج منذ ساعات.» - «لم يفعل شيئا من ذلك، انصرف صاحبه وبقي هو. فاذهب بنا إلى غرفته.» - «إني أقسم لك يا سيدي الضابط أنه ليس هنا ... إنه ...» - «إني أقسم لك يا سيدي الخادم إنه هنا. نام هنا ثم لم يجد سريركم مريحا فجاء إلينا يشكو - هذا هو بين رجالي، وهذا أنا جئت لأبحث عن هناة أو اثنتين في سريركم! يا رينو دان (أحد أعوانه) شد وثاق هذا الرجل واربط يديه وراء ظهره. والآن فلنصعد.»
وقبضوا على كل رجل وكل امرأة في البيت، وفي طليعتهم ذلك «الجندي القديم» وأريتهم السرير الذي رقدت عليه ثم صعدنا إلى الغرفة التي فوقه. فلم نر أي شيء فيها يمكن أن يستغرب أو يلفت النظر، فأجال الضابط عينه فيها وأمر الحاضرين أن يلزموا الصمت وضرب الأرض برجله مرتين ودعا بشمعة.
وفحص الموضع الذي ضربه برجله، وأمر بأن ينزع البلاط، فكان ما أراد في أوجز وقت، وجيء بالأنوار الكافية فرأينا فجوة عميقة مدعمة بالخشب بين أرض الغرفة وسقف الغرفة التي تحتها، وفي هذه الفجوة صندوق قائم من الحديد عليه شحم كثير وفي جوفه البزال المتصل بسقف السرير، ووجدنا عدا ذلك ضروبا أخرى من البزال حديثة التزييت، وروافع مكسوة بالمخمل، وكل ما تركب منه آلة ضاغطة ثقيلة، وهي جميعا مصنوعة بحيث يسهل وصلها بما أعد في الغرفة التحتية، وبحيث تفك وتوضع في أضيق مكان. وبعد قليل من العناء استطاع الضابط أن يركب هذه الآلة، ثم ترك رجاله ليديروها وانحدر هو إلى الغرفة التي فيها السرير، وأنزل السقف الخانق ولكن نزوله أحدث صوتا لم أسمعه وأنا راقد، وقد ذكرت هذا للضابط فكان جوابه العظيم الدلالة: «إن رجالي يستعملون هذه الآلة للمرة الأولى، أما الذين ربحت مالهم فإن خبرتهم أطول ومرانتهم أوفى.»
وغادرنا البيت في حراسة اثنين من رجال الشرطة فقد نقل كل من كان فيه إلى السجن. وبعد أن دون الضابط أقوالي في مكتبه ذهب معي إلى فندقي ليرى جواز سفري. وقد سألته وأنا أقدمه له: «أتظن أن أحدا خنق حقيقة على هذا السرير كما حاولوا أن يخنقوني؟»
فقال: «لقد رأيت عشرات من جثث الغرقى في معرض المجهولين، وقد وجدت معهم إقرارات بأنهم انتحروا في نهر السين لأنهم خسروا مالهم على مائدة القمار. ومن أدراني أنهم لم يدخلوا البيت الذي دخلته؟ وربحوا كما ربحت؟ وناموا حيث رقدت؟ واختنقوا فيه؟ ثم ألقوا بهم في النهر وفي ثيابهم إقرار كتبه القتلة؟ إنه ما من أحد يستطيع أن يقول كم لقوا الحتف الذي نجوت أنت منه.
وقد كتم أهل هذا البيت سر آلتهم عنا نحن الشرطة، وتكفل الموتى بكتمان باقي السر. والآن عم مساء، أو على الأصح عم صباحا يا سيد فولكنر. وأرجو أن تعود في الساعة التاسعة، وإلى الملتقى!»
ولم يبق من قصتي إلا قليل، سئلت مرة وأخرى، وفتش كل مكان في البيت، واستجوب المقبوض عليهم، كل واحد منهم بمفرده، واعترف اثنان منهم. وتبينت أنا أن «الجندي القديم» هو صاحب بيت القمار، وأظهر التحقيق أنه طرد من الجيش من سنين لسوء سيرته، وأنه اقترف كل ضروب الآثام بعد ذلك، وأن عنده مسروقات شتى عرفها أصحابها، وأنه هو والضريب وشريك آخر والمرأة التي وضعت لي المخدر في القهوة، يعرفون جميعا سر السرير، وكان هناك شك في أن غيرهم ممن يعملون في هذا البيت يعرفون شيئا عن الأداة الخانقة المركبة فيه، فانتفعوا بهذا الشك، وعدهم القضاء لصوصا ومتشردين. أما الجندي القديم وشريكاه فحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأما المرأة فكان نصيبها السجن سنوات نسيت عددها. وعد الذين يختلفون إلى هذا البيت بانتظام «مشتبها فيهم» ووضعوا تحت المراقبة ولبثت أسبوعا كاملا (ما كان أطوله!) وأنا أبرز رجل في المجتمع الباريسي. واتخذ ثلاثة من مشاهير الروائيين، حادثتي موضوعا لقصصهم المسرحية، ولكنها لم تر الضوء ولم تمثل منها واحدة لأن الرقابة منعت أن تظهر على المسرح صورة صادقة لهذا السرير.
على أن الحادثة أثمرت خيرا لا شك أن أية «رقابة» لا يسعها إلا أن تحمده. ذلك أنها شفتني وزهدتني في لعبة «الأحمر والأسود» وبغضت إلي التسلي بها، وسيظل منظر الغطاء الأخضر، وعليه أوراق اللعب، وأكوام الفلوس، مقرونا عندي بمنظر سقف سرير يهبط علي ليخنقني في ظلام الليل وسكونه.
هوامش
وليم هيل هوايت (مارك روذرفورد)
1831-1913
نفس رضية
منذ أربعين سنة خلت كنت «كاتبا» في ديوان للحكومة في «هوايتهول» وكنت قد قضيت في عملي هذا ثلاث سنوات. وكان أبي على شيء من الخفض في العيش وله ألف وخمس مائة فدان، ولما لم يكن له من الولد سوى بنت وغلام فقد وسعه أن يدخلني في مدرسة «هارو» التي تعلم هو فيها، وقد انتقلت من «هارو» إلى «كمبردج» وأديت الامتحان الخاص بالخدمة المدنية بنجاح، وما لبثت أن خطبت «مرغريت راشورث» بنت راعي الكنيسة ببلدة «همسورث» على مسافة خمسة أميال من بلدتنا، وفي سنة 1870 بنيت بها. وكان أبي يوسع علي بمائة جنيه في العام غير ما أتقاضاه من عملي، وكان لمرغريت خمسون جنيها في العام، فاتخذنا لنا بيتا في «بلاك هيث.»
ولم تكن مرغريت ذات ولوع بالقراءة، وإن كانت تجيد تحصيل ما تقرأ وقد حدثت نفسي أنها ستتفتح، أعني أن تشغف بالأدب وتغرى بالاطلاع عليه ولكنها لم تفعل ولم يصدق ظني، ولعله كان لا يسعها إلا أن تنمو وتنضج وفق طبيعتها، وعسى أن يكون الله قد شاء - وإن كانت هي لا تدري - أن تبقى طبيعتها الخاصة غير مشوبة أو متأثرة بطبيعة أخرى. أما أنا فكنت على نقيضها ولم تكن لي حياة إلا في الكتب، وكنت أيام كمبردج قد دخلت في الأدب دخولا ثابتا فأصبحت أمقت اللهو ولا أطيق الفراغ. وكان حبي للكتب هو الذي يرجع إليه بعض ما في من عيوب، ومن بينها فقدان الشعور بالتناسب، والإدراك الصحيح للقيم الحقيقية للأشياء. فقصيدة قصيرة من ثلاثة مقاطع أو أربعة، أو بضعة أبيات من قصة «اغتصاب خصلة الشعر» ترجح عندي بأخبار الحوادث الجسام، بل كان خيرا عندي، وأولى بي في رأيي، أن أعرف كيف كان شكسبير يربط حذاءه من الإلمام بأحكام قانون ثوري كقانون الإصلاح. وكان الحديث لا يطيب لي إلا إذا دار على ما أقرأ، ولا شك أن كثيرين كانوا يعدونني مغرورا مفتونا متحذلقا، وأعترف أن مخالطتي كانت لا رضية ولا مطلوبة، وكان الهزالون والفارغو القلوب والرءوس يضحكون مني ويتهكمون علي، لأن الرجل الجاد مثلي يكون لأمثالهم عرضة استهزاء من العسير عليهم أن يصدوا أنفسهم عن ركوبه بالعبث والمجانة.
على أن هذه الطبيعة الخاصة لم تتكشف إلا بعد الخطبة بقليل. وقد كنت يومئذ أطمع في السعادة مع مرغريت، وأحلم بأن أقضي الأمساء الطويلة ونحن معا ندرس شيللي (الشاعر) ونبحث سياق قصته «ثورة الإسلام» وهي مسألة كانت لا تزال مستعصية الحل علي. وكنت عضوا في ناد يسمى، لغير داع خاص، «نادي السبت» وقوامه اثنا عشر رجلا من أترابي وأشباهي في النزعة يجتمعون في اليومين الثاني والخامس عشر من كل شهر للاستفادة وتفتيش الكلام والنظر في المعارف. وما من ريب في أن كثيرين يستغربون ذلك، ولكنه لا يبدو لي غريبا، حتى الآن أن يجلس اثنا عشر من أبناء هذا العالم المبتذل، إلى مائدة وأن يحاولوا، بغير معونة من شراب أو طباق أو قهوة، أن يجيلوا النظر ويتبادلوا الرأي في موضوعات يعدها الأكثرون ثقيلة منفرة. وقد عدت مرة إلى البيت ورأسي مكتظ بأسلوب الشاعر ملتون في النظم، فشرعت أصب على رأس مرغريت ما دار في اجتماعنا، وأفضي إليها بآرائي وملاحظاتي على الخصوص، ولكن لما كانت لم تقرأ قط قصيدة «الفردوس المفقود» ولا تعرف شيئا عن البحر المرسل، فقد أقصرت، وشعرت بخيبة الأمل. وأسفت هي أيضا، وانقضى المساء، كما تنقضي الأمساء في أخريات سبتمبر/أيلول الذي قل أن توقد فيه النار، ومع ذلك يجيء فيه المطر البارد مع الظلام المتكاثف. وكانت عادتنا إذا وقع الثاني أو الخامس عشر من الشهر، في يوم سبت، أن نجتمع في الساعة الرابعة، فاتفق مرة أن حاولنا أن نتبين حقيقة ما حدث للزورق المسحور في قصيدة «ألاستور» فإن الماء المائج يرتفع «درجة فوق درجة» والزورق يستولي عليه الموج المتسامي. فحيرني ذلك واشتقت إلى الفهم، وعدت إلى البيت فلم أستطع أن أصد نفسي عن عرض المعضلة التي تحيرني، على مرغريت، فقرأت لها من قصيدة «ألاستور» كل ما له علاقة بحركة الزورق، وأفضت في الشرح والبيان وكنت أراها تجشم نفسها أن تتبعني وأن تستوضح مجرى الماء ولكنها لم توفق، وأغضبني ما تقوله مما لا دخل له في الأمر، وسألتني من عسى أن يكون هذا المطوف، وما الغرض من رحلته؟ فلم أطق صبرا وقلت لها وأنا معتمد بمرفقي على المائدة، ورأسي بين كفي من الغم : «لشد ما أتمنى يا مرغريت أن أجد عندك أكثر من هذا العطف قليلا! وما أخلقني بالسعادة لو أنه كان يعنيك ما يعنيني!» فلم تقل شيئا، وتركتها وخرجت ولكني، وأنا خارج، خيل إلي، أن الدمع متحير في عينها، ففزعت! فقد كنت أحبها حبا جما، وحدثت نفسي أن هذا لعله بداية الفتور في حبي لها. فماذا ينبغي أن أصنع؟ وكيف أكون إذا حلت بيننا الجفوة، ووقعت النبوة؟ وشعرت بالفزع القريب من الجنون الذي يشعر به الناس حين تزلزل الأرض وترتج تحت أقدامهم.
وفي تلك الليلة تعشى معنا صديق قديم من أيام الدرس، وكنت لم أره منذ سنتين. واسمه روبرت باركلي. وكان أبوه قسيسا درس اللاهوت في مدرسة سيميون، فهو لهذا من الإنجيليين، وكذلك كان ابنه روبرت الذي تعلم في كمبردج، ولكنه تغير لما بلغ الخامسة والعشرين، كأنما أفاق من سبات، وشرع يتساءل، وكانت النتيجة أن العقيدة التي ربي عليها بدت له كأنها غير ذات أساس، وكأنما هي معلقة في الفضاء. وظل هكذا حتى أصبح لا يستطيع أن يقول شيئا غير «لا أدري.» غير أنه كان من المستحيل أن يطمئن إلى هذا ويرضى به، فقد كان ممن تغريهم فطرتهم بالنزوع إلى التقرير والحسم، فما لبث أن تحول إلى العقيدة الكاثوليكية وحل بهذه الطريقة، على نحو يرضيه، المعضل الناشئ عن إيجاد سند للسلطان البابوي، يرجع إلى المركز الذي أعياه أن يجده في المذهب السيميوني. وقد اقتنع بأن يقف حيث وقف نيومان: «إنه لا حيلة في ذلك، فإما أن نرفض الإيمان بالكنيسة باعتبارها إلهية وإما أن نقر لها ونعترف بها في النظام الذي يرأسه البابا. وعلينا أن نتقبل الأشياء كما هي كائنة. فإنك إن تؤمن بالكنيسة تؤمن بالبابا.»
وكان باركلي كثيرا ما يزورنا في بيت أبي قبل هذا التحول، فأحب فيرونيكا - أخت مرغريت - وكانتا في ضيافة أمي. وبادلته فيرونيكا حبا بحب، فخطبها، وإذا به بعد ذلك تستولي عليه الرغبة، شيئا فشيئا، أن يكون قسيسا، ويعمق في نفسه الإيقان، بأن من واجبه أن يفعل ذلك، وكانت فيرونيكا قد صارت كاثوليكية أيضا، وساعفتها قوة النفس فكانت تحضه على أن يلبي ما كان كلاهما يعتقد أنه نداء إلهي. وليس في وسع إنسان أن يحيط بما قاساه واحتمله هذان، الله وحده هو العليم بهما. وكنت أنا ألمح، بين آونة وأخرى، آيات المجاهدة النفسية، والصراع الذي يدفع الدم في مسام الجلد.
ولم تكن الصعوبة في عمل ما كانا يعتقدان أنه الصواب، بل في الاهتداء إلى الصواب ما هو؟ فقد كان يبدو لهما أحيانا أن ما يدعوهما إلى الحب، جلي الصوت لا خفوت به ولا غموض فيه، ولا تردد، وقد كان كلاهما حارا، مشبوب العاطفة، قوي الخيال. فهل من الممكن أن يتصور الإنسان أن هذا الهاتف القوي ليس من الله؟ أما ما يهيب بروبرت أن يكون قسيسا فلم يكن له مثل هذا الجلاء وذلك الوضوح، غير أن كلا من روبرت وفيرونيكا كان أذكى وأعلم من أن يغيب عنه أن الوضوح ليس شرطا في التوجيه، وأن الطريق القويم قد توحي به همسة خافتة ولكن لها مثل قوة النفخ في النفير، فينهج المرء النهج ولو إلى البوار والتلف. على أني لا أدري ماذا جعل الفراق بين فيرونيكا وروبرت أشق وأقسى، وقد يكون في هذه السطور التي أنقلها من رسائل روبرت إلي، بعض البيان قال:
إن في هذه المأساة ما لا قبل لي بالعبارة عنه، فإنه الكشف التام عن كل ما تنطوي عليه كلمة «أبدا» والتجسيد الدقيق لحقيقة معناها.
وهل يستطيع الإنسان أن يعبر بالألفاظ عن منديل أبيض يخفق من نافذة قطار، أو عن رصيف خال كانت تقف عليه قبل عشر دقائق امرأة معينة لا تزال صورتها ماثلة وإن غاب عن العين شخصها؟ إن في هذا شيئا غير الأسى بمجرده، عسى أن يكون تفتح الهاوية الرهيبة الكائنة تحت حياة الإنسان. وقد كانت إحدى نتائج هذه المحنة الإخلاص الصافي من كل شائبة، فقد هذبه الامتحان، وصفت نار التجربة معدنه من الأخلاط، وصارت ألفاظه تقوم مقام الحقائق وتغني غناءها، ولعل إخلاصه هذا هو الذي أكسبه ذلك السلطان على نفسي، وقد عجز عن حملي على اعتناق المذهب الكاثوليكي، ولكن الفضل في ذلك يرجع إلى مرغريت التي ردتني عن متابعته، فقد كانت هي الوحيدة التي تستطيع أن تمكنني من المقاومة.
وقد أعجب روبرت بما حدثته به مرغريت - على العشاء - من أسلوبها في معونة جيرانها الفقراء، فما كانت تعطيهم مالا، أو ثيابا، أو طعاما، أو تكتفي بالزيارة، وإنما كانت تدخل بيوتهم، وتعمل فيها، فتطبخ لهذه، وتغسل ثياب تلك، أو تنظف الغرف، أو تمسح البلاط. ولم تكن هذه معونة حقيقية فحسب، وإنما كانت كذلك فرصة تغتنمها مرغريت لتعليم هؤلاء النسوة كيف ينبغي أن يعملن عملهن ويؤدين واجباتهن، وقالت مرغريت وهي تصف مساعيها تلك: «وقد يتاح لي من حين إلى حين أن ألحن بكلمة تنفعهن، فإني واثقة أن الكلمة تلقى عرضا، أفعل في نفوس هؤلاء النسوة وأجدى عليهن. ومن العبث أن تتحدث إليهن في مسائل نظرية أو عامة، أو أن تعظهن وتفيض في الكلام على الخطيئة وفظاعتها. ولكن إذا كان جار إحداهن قد ضرب امرأته، أو كان يشرب ولا يعطيها شيئا مما يكسب فإن في وسعك أن تقول في سوء سيرته ما يعن لك، وأن ترجو أن يكون لكلامك وقعه. أما الدين كما نفهمه حين نركع ونصلي، فذلك ما لا سبيل إلى تعليمهن إياه. وإنه ليتطلب موهبة سماوية كالتي لا بد منها للشاعر العظيم، ألا وإن رد اليد عن النشل والسرقة لعسير ...»
ونهضت مرغريت إلى فراشها؛ فقد كانت بطفلتنا، التي بلغت من العمر ستة شهور، حاجة إلى عنايتها. وبقينا نحن صامتين بضع دقائق، ثم قال روبرت فجأة وبلا تمهيد: «مرغريت آية ... عبقرية ... ولقد شرفتك بزواجها فكانت بركة عليك، وليقل الأغبياء ما شاءوا، فإن الابتكار والعبقرية في الزوجة من أكبر الأنعم وأعظم البركات. ولكن هناك مع ذلك ما هو أكبر وأعظم.» وكان صوته يرتجف ويضطرب وهو يقول ذلك.
عبقرية! ابتكار! هذا ما لم يخطر لي من قبل. وتذكرت الزورق في قصيدة «ألاستور» ولكن سلطان روبرت كان أقوى من الذكرى، وكان له من الصولة والسطوة ما يكفي لا لتغيير رأي ما، فقط، بل لتغيير وجوه الأمور تغييرا تاما شاملا. كما أدرك
Saul
في مثل لمح البصر، وبلا جدال، أنه كان مخطئا. وهكذا كشف لي روبرت عن حقيقة مرغريت التي كانت محجوبة عني، وكان هذا منه أشبه بالمعجزة، إذا اعتبرنا الأداة والوسيلة وقسناهما إلى النتيجة والأثر.
ودخلت غرفتها؛ فتحت الباب برفق فرأيتها نائمة وإلى جانبها الطفلة، ولكن مصباح الليل كان مضاء، فخلعت نعلي عند الباب وتسللت على أطراف أصابعي إلى المنضدة الصغيرة الموضوعة إلى جانب السرير، فإذا عليها نسخة من ديوان شيللي وأرتني علامة فيه أنها كانت تدرس الأبيات التي قرأتها لها عن الزورق، فعدت إلى غرفتي، ولكني لم أنم. وفي بكرة الصبح ذهبت إلى غرفتها، فتبينت أنها استيقظت في الليل، فقد أرتني العلامة أنها قلبت صفحة. ولكن عينيها كانتا مغمضتين، وكان ذراعها على الغطاء. فركعت وتناولت راحتها الجميلة الصغيرة ولثمتها لثمة خفيفة. فتنبهت، واعتدلت وحنت علي، وأحسست شفتيها على رأسي، وتهدل شعرها الوحف فكساني. وقد ماتت منذ عشر سنين، ولكن المحيا الذي يطالعني ويتراءى لي دائما، سعيد، والحمد لله.
ريتشارد جارنت
1835-1906
أناندا: صاحب المعجزات
لما أرسل بوذا رسله ليدعوا إلى دينه وينشروه في الهند، لم يفته أن يزودهم بالوصايا لهدايتهم، وناشدهم أن يتوخوا الوداعة والتواضع والرحمة والقصد، وأن يخلصوا في بث دعوته، وأمرهم أن لا يأتوا - في حال من الأحوال - بمعجزة.
ويروون أن رسله كانوا يعانون عناء شديدا، ويكابدون مصاعب جمة في العمل بأوامره، وأنهم كانوا أحيانا يخفقون، إلا النهي عن المعجزات، فما خالفوا ذلك قط ولا مرة واحدة، ما خلا أناندا التقي الورع الذي نورد فيما يلي سيرته في العام الأول من رسالته.
ذهب أناندا إلى «مجادا» وشرع يفقه الأهالي في دين بوذا، ولما كان المذهب مقبولا، وكان هو رطب اللسان، مقنع البيان، فقد أقبل عليه الناس يصغون طائعين، وانصرفوا شيئا فشيئا عن البراهمة الذين كانوا يوقرونهم من قبل ويعدونهم هداة مرشدين. «ألا بارك الله في رسول ينشر الحق بقوة الإقناع والقدوة الحسنة والبيان المشرق لا بالخطأ والدجل والشعوذة كما يفعل أولئك البراهمة التعساء!»
ولم يكد يدور في شدقه هذا الزهو حتى تضاءل جبل فضائله، وهجرته الفصاحة والبراعة والفضيلة، فلما خطب الجمهور مرة أخرى بعد ذلك سخروا منه واستهزءوا به ثم رشقوه بالحجارة.
ولما صار الأمر إلى هذا الحال رفع أناندا عينيه فأبصر عددا من البراهمة، من طبقة دنيا، حافين بغلام مصروع على الأرض، وكانوا يحاولون عبثا أن يردوا إليه نفسه بالرقى والعزائم وما إلى ذلك من وسائل الشفاء المقررة، ثم قال أحكمهم: «فلنترك بدن هذا المريض مسكنا غير حميد للشيطان، فلعله حينئذ يزهد فيه ويهجره.»
وعلى أثر ذلك شرعوا يكوون الغلام بالحديد المحمي، وينفخون الدخان في منخريه، ويفعلون ما وسعهم غير ذلك لإزعاج الشيطان المتطفل. فكان أول ما خطر لأناندا «أن الغلام مصاب بنوبة صرع.» وكان الخاطر الثاني «أن إنقاذه من معذبيه عمل طيب.» والخاطر الثالث «إذا أحسنت التدبير فقد يخرجني هذا من المأزق الذي أنا به، ويعلو به اسم بوذا المقدس.»
ولان للإغراء، فتقدم وطرد البراهمة بصوت الآمر المسيطر، ورفع وجهه إلى السماء وتلا أسماء الشياطين السبعة. ولما لم يحدث هذا أثرا تلا أسماء سبعة آخرين، ثم غيرها وغيرها. واتفق أن زالت النوبة من تلقاء نفسها، وانقطع اضطراب الغلام وتلويه، وفتح عينيه، فرده أناندا إلى أهله. ولكن الناس صاحوا بأعلى صوت: «معجزة! معجزة!» فلما عاد أناندا يعظهم أصغوا له، واعتنق كثيرون منهم مذهب بوذا. فسر أناندا سرورا عظيما، وأثنى على نفسه لما كان من براعته وحضور ذهنه، وقال: «لا شك أن الغاية تبرر الوسيلة.»
وما كاد ينطق بهذا الكفر حتى تضاءل جبل فضائله ومزاياه، وصار في القدر قرية من قرى النمل، وفقد قيمته ووزنه في عيون القديسين، ما عدا بوذا الرحيم الواسع المغفرة.
وذاع حديث المعجزة في طول البلاد وعرضها، حتى بلغ مسامع الملك، فدعا به وسأله هل أخرج الشيطان وطرده حقا؟
قال: «بلى.»
قال الملك: «هذا يسرني، فإني أريد منك أن تشفي ابني، فقد غشيه سبات لا يفيق منه منذ تسعة وعشرين يوما.»
فقال أناندا بلهجة وديعة: «وا أسفاه يا مولاي! إن الفضائل التي لا تكاد تكفي لشفاء منبوذ تعس، كيف تجدي في إبراء ابن ملك هو فيل بين أفيال الصيد؟»
فسأله الملك: «وبماذا تكتسب هذه الفضائل؟»
قال أناندا: «بالتكفير عن الذنوب، ورياضة النفس على النسك، وبفضل هذا يستطيع الناسك المتبتل أن يركد الرياح، ويرقد الموج، ويجادل ويقنع النمور، ويحمل القمر في كمه، ويفعل غير ذلك كل ما يطمع فيه من ساحر متجول.»
فقال الملك: «أما والأمر كما تقول، فإن من الواضح أن عجزك عن شفاء ابني سببه نقص الفضل، والنقص في الفضل سببه نقص في التكفير، لهذا سأكل أمرك إلى براهمتي ليساعدوك على سد هذا النقص.»
وعبثا حاول أناندا أن يبين له أن التكفير الذي يعنيه عقلي وروحي ليس إلا. وقد سر البراهمة أن يقع بين مخالبهم ملحد في رأيهم، فانقضوا عليه وحملوه إلى معبد، وهناك نزعوا عنه ثيابه فأذهلهم أن لا يروا على بدنه أثرا لجرح من ضرب أو كي. فصرخوا: «يا للفظاعة! هذا رجل يطمع أن يدخل ملكوت السماء بجلد سليم!» وأرادوا أن يصلحوا هذا الخطأ، فبطحوه
1
وأهووا عليه بالسوط يجلدونه حتى عفوا على سلامة جلده البغيضة. ثم انصرفوا عنه على وعد بأن يرجعوا إليه في اليوم التالي ليعيدوا الكرة، وأكدوا له ساخرين أن فضله بعد ذلك لن يكون دون فضل القديس «باجيراتا» أو حتى فيسوامترا نفسه.
وبقي أناندا، حيا كميت، على أرض المعبد، وإذا بالهيكل يضيئه شبح باهر اللألاء يقول: «والآن أيها المرتد، هل اقتنعت بحماقتك؟»
فلم يسغ أناندا اتهامه في دينه بالفتون، ولا الطعن في عقله وحكمته، ولكنه مع ذلك تطامن فقال: «معاذ الله أن أندم أو أتبرم بما يصيبني في سبيل ديني وأداء رسالة مولاي.» - «أتحب أن تبرأ أولا، ثم تكون أداة لتحويل أهل «مجادا» جميعا عن دينهم؟»
فسأله أناندا: «وكيف يستطاع ذلك؟»
قال الروح: «باللجاجة في طريق الغش والعصيان.»
فانتفض أناندا وارتاع، ولكنه حرص على الصمت انتظارا للإيضاح.
ومضى الروح في كلامه فقال : «اعلم أن ابن الملك سيفيق من سباته في نهاية اليوم الثلاثين، أي ظهر الغد، فليس عليك إلا أن تمضي في الوقت المناسب، إلى السرير الذي يرقد عليه، فتضع يدك على قلبه وتأمره أن ينهض. وسيعزى شفاؤه إلى قواك السحرية، وسيفضي ذلك إلى تقرير دين بوذا. ولا بد قبل ذلك أن أداوي ظهرك، وما أسهل هذا علي، وكل ما أدعوك إليه هو أن لا تنسى أنك في هذا تخالف أوامر مولاك وأنت مدرك لذلك، ومن الواجب أن تعلم أيضا أن إنقاذك من المأزق الذي أنت فيه الآن سيوقعك في مآزق أخرى أدهى وأمر.»
فحدث أناندا نفسه أن روحا شفافا ليس له بدن يحل فيه لا يستطيع أن يقدر ما يحسه رسول مجلود، وقال للروح: «داوني إذا استطعت، واحتفظ بتحذيرك إلى وقت يكون أنسب من هذا.»
قال الروح: «فليكن ما تريد.» ومد راحته فأمرها على جسم أناندا، فاكتسى ظهره جلدا جديدا، وزال عنه الوجع. واختفى الروح وهو يقول: «إذا احتجت إلي فليس عليك إلا أن تعزم علي بهذه العزيمة «جنو إمداب إنام موا
2 » فأظهر لك.»
ومن السهل أن يتصور المرء غضب البراهمة ودهشتهم حين عادوا ومعهم السياط والدرات الجديدة فألفوا فريستهم سليما معافى في بدنه، ولعلهم كانوا خلقاء أن يعتاضوا من السياط حبالا للشنق لولا أنه كان معهم حاجب من حجاب الملك، فبوأ أناندا كنفه، وحمله معه إلى القصر فمضوا به من توتهم إلى مخدع الأمير الصغير حيث كان هناك حشد كبير من الناس، ولما كان وقت الظهر لم يجئ، فقد أخذ أناندا يزجي الوقت الباقي بالتحدث إليهم عن استحالة المعجزات إلا معجزة يأتي بها أتباع بوذا، ثم نزل عن منبره، وفي اللحظة التي توسطت فيها الشمس كبد السماء وبلغت سمتها، أراح يده على قلب الأمير فانتبه من فوره، وأجرى لسانه ببقية كلام عن لعبة النرد، كان يقوله فقطعه عليه ما انتابه من السبات.
فضج الحضور، واستخف الفرح حاشية الملك، ووجم البراهمة وامتقعت وجوههم. حتى الملك بدا عليه التأثر والاقتناع، وطلب من أناندا أن يزيده تعريفا بالبوذية، فأجابه أناندا إلى ما طلب، ولكن الأربع والعشرين ساعة الأخيرة كانت قد علمته الحكمة وحسن النظر في عواقب الأمور، فلم ير أن يقول شيئا عن القواعد الأصلية والأركان الرئيسية للبوذية، ولا أن يشير إلى حقارة الحياة والحاجة إلى الخلاص بالتضحية، والسبيل إلى السعادة، وتحريم إراقة الدم. واكتفى بأن يقول إن كهنة بوذا مقضي عليهم بالفقر الأبدي، وأنه بمقتضى الشريعة الجديدة تؤول كل الأملاك الكنائسية إلى أولي الأمر المدنيين.
فصاح الملك: «أما وحق البقرة المقدسة، إن هذا لدين!»
وما كاد الملك ينطق بذلك حتى أعلن رجال الحاشية اعتناقهم لدين بوذا. وتبعتهم الجماهير واقتدت بهم، وألغيت معابد البراهمة وحرمت ما كانت توهب، وارتكب في يوم واحد باسم الدين الجديد الصافي من الأكدار أكثر مما ارتكب في ظل القديم الفاسد في مائة عام.
وسر أناندا إحساسه بأن في وسعه أن يعفو عن أعدائه، وارتفع قدره في عينيه تبعا لذلك، وتمت سعادته بأن ضم إلى القصر ووكلت إليه تربية الأمير ابن الملك فتولى تعليمه شريعة بوذا على وجه مرضي. وكان هذا أمرا شاقا لأنه كان يتقاضاه صرف الأمير عن ملهاته المحبوبة وهي تعذيب الزواحف الصغيرة.
وبعد فترة وجيزة دعي مرة أخرى إلى حضرة الملك فألفى عنده اثنين من أفظع الأشرار أحدهما يحمل فأسا عظيمة وفي يد الآخر كلبتان.
3
وقال الملك: «هذا رئيس الجلادين، وهذا رئيس المعذبين.»
فأعرب أناندا عن اغتباطه بمعرفة هذين الرجلين الكبيري المقام.
ومضى الملك في كلامه فقال: «يجب أن تعلم أيها التقي الورع أن الحاجة قد نشأت مرة أخرى إلى رياضة النفس على الجلد وإنكار الذات من جانبك، فقد غزا العدو بلادي وألحق الهزيمة بجنودي، وكنت خليقا أن يروعني ذلك ويهولني لولا التعزي بالدين، ولكن اعتمادي إنما هو عليك يا أبي في الروح، ومن المحتم أن نكتسب أعظم مقدار من الفضل في أوجز زمن وأقصر مدة، ولم أستطع أن أستعين على هذه الغاية بالبراهمة أصدقائك القدماء فإنهم الآن، كما تعلم، مغضوب عليهم. ولكني دعوت هذين الخبيرين الموثوق بهما. على أنهما قد اختلفا، فأما رئيس المعذبين فإنه رجل لين رقيق القلب رحيم، ولهذا يرى أنه يكفي في البداية أن نتخذ أخف التدابير كأن نعلقك من رجليك، وندلي رأسك في دخان حطب موقد، ونملأ منخريك بالفلفل الأحمر، أما رئيس الجلادين فإنه على ما يظهر ينظر إلى الأمر نظرة فنية، ويرى أن الأولى أن نلجأ دفعة واحدة إلى الصلب أو الخازوق. ويسرني أن أعرف رأيك في الموضوع.»
فأعرب أناندا - على قدر ما سمح له الرعب بذلك - عن استنكاره الشديد لكلتا الوسيلتين.
فقال الملك بلهجة المذعن لما لا حيلة له فيه: «حسن. إذا كنا لا نستطيع أن نتفق على إحدى الوسيلتين فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نجربهما جميعا. وسنجتمع إذن لهذا الغرض صباح غد في الساعة الثانية. والآن، اذهب بسلام.»
فذهب أناندا، ولكن ليس بسلام، وكان الرعب خليقا أن يذهب بلبه لولا أنه تذكر ما وعده به منقذه. فلما بلغ مكانا يأمن فيه العيون نطق بالعزيمة السحرية. وما كاد يفعل حتى ظهر له، لا الروح، بل رجل من أهل النسك والتقشف رأسه معفر بالتراب والرماد وجسمه مدهون بروث البقر.
وقال الفقير: «إن الأمر لا يحتمل التلكؤ، فاتبعني والبس مراقع الفقير.»
فثارت نفس أناندا على هذا، فقد تلقى عن بوذا الحكيم الوديع الاحتقار الذي يستحقه هذا التقشف الفظيع الذي يحيل المرء إلى ما يشبه الجيفة المرمة. على أن الضرورة لم تدع له حيلة يحتالها، فتبع الفقير إلى مقبرة اختارها الفقير مسكنا له. وهناك أخذ الفقير ينعي نعومة شعر أناندا وقصر أظافره، ثم دهنه على مثاله، وطلاه بالطين والكلس حتى صار الرسول الوديع لأرق دين، أشبه بنمر من نمور البنغال. ثم زين له جيده بعقد من جماجم الأطفال ووضع في إحدى يديه جمجمة شرير، وفي الأخرى عظمة فخذ عراف، ومضى به بعد الغروب إلى المقبرة المجاورة حيث أجلسه على رماد جثة محروقة حديثة وأمره أن يقرع الجمجمة بالعظمة كما يفعل الطبال، وأن يردد التعازيم التي بدأ يطلق الصوت صارخا بها وهو متجه إلى الغرب. ويظهر أن هذه الرقى والتعازيم كانت فعالة فقد ثار إعصار شنيع ونزل المطر كالسيل وأثخنت البروق الخاطفة بقلب السحب، وخرجت الذئاب والضباع من أوجرتها تعوي وترغو، وانشقت الأرض عن عفاريت ومردة تمد أذرعتها المعروقة إلى أناندا وتحاول أن تجره فأطار لبه الفزع وراح يقلد صاحبه ويدق، ويضرب، ويصيح، حتى كاد يشفي على التلف، وإذا بالرياح العاصفة تركد، والأشباح تختفي، بقدرة قادر، وتحل محلها صيحات فرح، ودقات طبول ودفوف، وأصوات معازف، تنبئ بحادث سار في المدينة.
وقال الفقير: «مات الملك العدو، وتفرق جيشه، وسيعزى هذا إلى تعازيمك وهم الآن قادمون في طلبك. فوداعا حتى تفتقر إلى معونتي مرة أخرى.»
واختفى الفقير، ودنا الموكب، وأصبح دب الأقدام مسموعا، ثم ظهرت المشاعل الخافتة النور في الفجر المطلول، وترجل الملك عن فيله وألقى وجهه على الأرض بين يدي أناندا وقال: «أيها الرجل الفذ، لماذا لم تقل إنك فقير؟ لن يساورني الخوف بعد اليوم من أعدائي ما دمت مقيما بهذه المقبرة!»
وطردوا جماعة من أبناء آوى من قبر مهجور أفردوه لأناندا ليسكنه. ولم يسمح الملك بأدنى تغيير في هيئته ولباسه، وحرص على أن يخلو الطعام الذي يقدم له من كل ما عسى أن يفقده القداسة التي بلغ مظهرها غاية ما يطمع فيه الطامع في أقصر وقت، فتلبد شعره واختلط به الوحل، وطالت أظافره، وإذا بزائر جديد من لدن الملك ينبئه أن الراجا أصيب فجأة بمرض خطير خفي، وأن الملك على يقين من أن أناندا سيخف إلى نجدته بالرقى والعزائم.
فتناول أناندا، عظمة الساقة والجمجمة، وهو كاره لذلك، وراح يقرع هذه بتلك، وينتظر ما سيكون، ولكن العزيمة فقدت مزيتها على ما يظهر فما أخذت عينه سوى وطواط؛ فبدأ أناندا يحدث نفسه بأن الأحجى به أن يكف، وإذا برجل مديد القامة له سمت ووقار، وعليه ثياب سود، وفي يده صولجان، يبدو له ويقف إلى جانبه كأنما خرج من جوف الأرض.
وقال الرجل الغريب: «إن المرجل مهيأ.»
فسأله أناندا: «أي مرجل؟»
قال: «الذي سيلقى بك فيه.»
قال أناندا: «أنا يلقى بي في مرجل؟ ولماذا؟»
قال الغريب: «لأن تعزيماتك عجزت عن إفادة جلالته. ولما كانت جدواها في مرة سابقة لا تسمح بأن يظن أحد بها العقم، فقد انتهى به الأمر إلى الاعتقاد بأن تأثيرها السيئ هو الذي ضاعف الألم الذي يعانيه. وقد عززت له رأيه ذهابا مني إلى أنه من مصلحة العلم أن يحل غضب الملك بمشعوذ دجال مثلك لا بطبيب عالم حاذق مثلي. ومن أجل ذلك أمر جلالته بأن توقد النار تحت المرجل الأكبر طول الليل، على أن يلقي بك في مائه عن الصباح ما لم تفده عزائمك قبل ذلك.»
فصاح أناندا: «يا إلهي! أين المفر؟»
فقال الطبيب: «إنه لا مهرب لك من هذه المقبرة ... فإن عليها نطاقا من حرس الملك.»
فسأله أناندا: «إذن كيف السبيل إلى النجاة؟»
فقال الطبيب: «في هذه الزجاجة؛ إن فيها سما زعافا. فاطلب أن تشخص أمام الملك، وقل إنك تلقيت دواء شافيا من أرواح خيرة، فيتجرعه ويموت ويجزيك خلفه خير جزاء.»
فصاح أناندا، وقد استشاط غضبا، ورمى الزجاجة: «اذهب عني أيها الشيطان الموسوس! إني أتحداك وأعوذ مرة أخرى بمنقذي ... جنو إمداب إنام موا.»
ولكن العزيمة لم تحدث أثرا، ولم يبد لعينيه مخلوق أو شبح سوى الطبيب الذي كان ينظر إليه نظرة الأسف والمرثية، وهو يضم طيلسانه، ويختفي في الظلام الشامل.
وبقي أناندا وحده يجادل نفسه، وقد هم مرات لا عداد لها أن ينادي الطبيب ويتوسل إليه أن يجيئه بزجاجة سم كالتي رماها، ولكنه كان كلما هم بذلك شعر بشيء يصعد إلى حلقه ويحبس صوته، حتى أضناه الاضطراب، وأعياه فنام ورأى هذا الحلم.
رأى، فيما يرى النائم، أنه واقف عند مدخل «بتالا»
4
الشاسع المظلم، وكان هذا المكان الموحش يبدو كأنما فيه احتفال شيطاني، فقد كانت هناك جموع من الشياطين على كل صورة، ومن كل حجم، تتدافع في المدخل لتنظر إلى ما خيل إليه أنه زينة تقام، وكانت مئات من العفاريت والأمساخ تنظم المصابيح الملونة عقودا وأكاليل، وهي تقفز، وتضوضي، وتلجلج، وتقهقه ، وتتدلى من أذنابها وتتطوح في الهواء، كالقردة، وكان العمل يديره من تحت هؤلاء، شياطين كبار عليهم سمت ولهم أبهة، وفي أيديهم صولجانات تدل على منازلهم ومراتبهم يشع من أطرافها لهب أصفر كانوا يلسعون به أذناب العفاريت إذا رأوا أن النظام يوجب ذلك. فلم يستطع أناندا أن يكبح نفسه عن السؤال عن الداعي إلى هذه الاستعدادات للاحتفال.
فقال الشيطان الذي تلقى سؤاله: «هذا احتفال بتكريم أناندا الورع، أحد رسل الرب بوذا ونحن ننتظر حضوره بيننا بلهفة وارتياح.»
وبعد جهد شديد استطاع أناندا المرتاع أن يجمع قواه الخائرة، ويسأل لماذا يجب أن يتخذ الرسول المذكور - يعني نفسه - مقامه في مناطق الجحيم؟
فقال الشيطان المسئول بإيجاز: «من أجل السم.»
فهم أناندا أن يطلب منه الإيضاح، ولكنه شغل بجدال عنيف بين اثنين من الشياطين المشرفة على العمل.
وكان أحدهما يقول: «كاموراجا، بالطبع.»
فيقول الثاني: «بل دامبورانانا ولا شك.»
فالتفت أناندا إلى الشيطان الذي كان يكلمه وقال: «هل تسمح لي أن أستفسر عن كاموراجا ودامبورانانا، ما هما؟»
فقال الشيطان: «هما جحيمان، ففي كاموراجا يغمس النازل في القار المذاب ويطعم الرصاص المصهور، وأما في دامبورانانا، فهو يغمس في الرصاص المصهور ويطعم ذوب القار، وزميلاي هذان اللذان تسمعهما يتحاوران، يتجادلان في أي الجحيمين أولى بخطايا ضيفنا أناندا.»
وقبل أن يتدبر أناندا هذا النبأ انحدر عفريت شاب من فوق، ببراعة وخفة، وتقدم من الشياطين اللذين يتجادلان وانحنى لهما وقال: «أيها الشيطانان الجليلان، هل تسمحان لعفريت ضئيل الشأن أن يقول إن كل تكريم مهما عظم، دون ما يجب لضيفنا أناندا إذ كان هو الوحيد الذي يحتمل أن نحظى بعشرته من بين رسل بوذا أجمعين؟ لهذا أجترئ على القول بأنه لا جحيم كاموراجا تصلح مقاما له، ولا جحيم دامبورانانا تليق به، بل يجب أن تجمع محاسن كل جحيم من الأربع والأربعين ألفا والمائتي ألف، وأن تحشد جميعا في جحيم واحدة جديدة تقام لاستقباله خاصة.»
فتعجبت الشياطين الكبار لذكاء العفريت الصغير وقالوا: «أما إنك لعفريت صغير ممتاز حقا؟» ثم انصرفوا ليعدوا الجحيم الجديدة ويجهزوها بما يليق بمقام الضيف الكريم.
واستيقظ أناندا وهو يرعد من الفزع ويصيح: «لماذا كنت رسولا؟ إيه يا بوذا! ما أوعر طريق الهدى والقداسة! وما أسهل أن يعثر المرء ويضل وإن حسنت نيته! وما أسخف الزهو وأحمق صاحبه!»
فناداه صوت عذب رقيق: «أوأدركت هذا يا بني؟»
فأدار وجهه فألفى أمامه بوذا في هالة من النور اللين، وخيل إليه أن سحابة تقشعت عن عينه، فأدرك أن مولاه هو الروح، والفقير، والطبيب جميعا، وأنه كان يتراءى له في هذه الصور المختلفة.
فقال وهو شديد الاضطراب: «أيها المعلم المقدس، إلى أين أذهب؟ إن خطاياي تنهاني عن الدنو منك.»
فقال بوذا: «إن خطاياك ليست هي التي تصدك عن الاقتراب مني يا بني، بل ما ورطك فيه العصيان والشعوذة، وقد ظهرت لك لأذكرك بأن رسلي يجتمعون اليوم على جبل فنديا ليؤدوا الحساب عن رسالتهم، وأنا أسألك هل أؤدي عنك الحساب أو تؤديه أنت بنفسك؟»
فقال أناندا: «بل أؤديه أنا بنفسي، ومن العدل والحق أن أحتمل ذلة الاعتراف بحماقتي وطيشي.»
فقال بوذا: «أحسنت يا بني، ولهذا أسمح لك أن تنضوي عنك مراقع الفقير، وأن تظهر في الاجتماع في الطيلسان الأصفر الذي هو رداء الرسل. بل إني لأتجاوز عن بعض قواعدي، لأجلك، وفي سبيلك، وآتي بمعجزة غير هينة فأنقلك الآن إلى قمة الجبل حيث بدأ الرسل يفدون. ذلك أنك، بغير ذلك، تتعرض لبوار محقق وهلاك مؤكد فيمزقك الجمهور المقترب الذي شرع يقتلع ديانتي بإيعاز الملك الجديد تلميذك المرجو الغد. فقد مات الملك الهرم، سمه البراهمة!»
فبكى أناندا، بأربع، وجعل يقول وهو ينتحب: «مولاي! مولاي! وهل ضاع كل شيء؟ بخطئي، وحماقتي؟»
فقال بوذا: «إن ما يبنى على الغش والدجل لا بقاء له ولا ثبات، وهذا هو الحق، ولا تحزن، فستدعو إلى ديني، وتوفق، في بلاد أخرى. إن الحساب الذي ستؤديه عن رسالتك حساب سوء، ولكنك تستطيع أن تقول، وأنت صادق، إنك أطعت أمري مبنى لا معنى، فما يسع أحدا أن يزعم أنك أتيت بأية معجزة.»
هوامش
فرنسيس برت هارت
1839-1902
في نطاق من الجمد
لما خرج المستر جون أوكهيرست - المقامر - إلى السكة الرئيسية في «بوكر فلات» صباح اليوم الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1850 أحس أن جو اليوم غير جو الليلة البارحة، فقد كان هناك اثنان أو ثلاثة يتحادثون، ورءوسهم متدانية، فلما اقترب منهم أمسكوا عن الكلام وتغامزوا وتبادلوا نظرات لا تخلو من دلالة. وكان في الجو هجعة كهجعة «السبت» وهي في حلة لم تألف فتور السبت، لا تكون إلا نذيرا.
ولم يبد على محياه الوسيم الساكن قلق من جراء هذه النذر. أما أنه كان يدرك البواعث على هذا التغيير، فشيء آخر. وقال يناجي نفسه: «أحسبهم يطلبون واحدا. وعسى أن أكون أنا المطلوب.» ورد إلى جيبه المنديل الذي كان ينفض به التراب عن حذائيه النظيفين، وأعفى نفسه من عناء التخمين.
والواقع أن حلة «بوكر فلات» كانت «تطلب واحدا» فقد منيت أخيرا بخسارة عدة آلاف من الريالات، وحصانين عتيدين،
1
ورجل من أبرز رجالها، فغضبت لهذا، وانتابتها نوبة فضيلة، وثارت نفوسها ثورة جامحة جائحة كالأعمال التي استفزتها وأخرجتها عن طورها. واعتزمت لجنة سرية أن تطهر الحلة من الطغام والرذال وغير الصالحين. وقد طهرتها على وجه حاسم من رجلين كانا حينئذ معلقين من جميزة في بطن الوادي، ومن آخرين لا ترضى سجاياهم، بالنفي. ويؤسفني أن أقول إن بين هؤلاء المنفيين نساء. على أن واجب الإنصاف لهذا الجنس يقتضي أن نذكر أن هؤلاء كن محترفات لما أثار السخط عليهن، وأن حلة «بوكر فلات» ما اجترأت على القعود مقعد الحكم إلا على هؤلاء.
وقد أصاب المستر أوكهيرست في اعتقاده أنه داخل في هذه الزمرة. وقد ذهب بعض أعضاء اللجنة إلى وجوب شنقه ليعتبر بمصيره غيره، وليستردوا ما غنمه من مالهم في القمار. وقال جيم ويلو في الاحتجاج لذلك: «إنه ليس من العدل أن نسمح لهذا الشاب الذي جاء من «رورن كامب» - فهو غريب - أن يحمل مالنا ويمضي به.» ولكن الشعور بالعدل في نفوس الذين كتب لهم حسن الحظ أن يربحوا من المستر أوكهيرست تغلب على هذا الهوى والجنف.
وتلقى المستر أوكهيرست الحكم عليه بمثل سكينة الفيلسوف، وخاصة لأنه كان يدرك ما يخالج قضاته من التردد. وقد علمه القمار أن يتقبل ما تجيء به المقادير. ولم تكن حياته إلا لعبة مجهولة العواقب، وما كان يخفى عليه مقدار حظ الموكل بالتوزيع.
ورافقت المنفيين سرية من المسلحين إلى ما وراء حدود الحلة، وكان هناك غير المستر أوكهيرست - الذي كان مشهورا بأنه مجازف رابط الجأش، والذي أريد إرهابه بهذا الحرس المسلح - امرأة في مقتبل العمر يطلقون عليها اسم «الدوقة» وأخرى تعرف باسم «الأم شبتون» ثم «العم بيللي» وهو سكير مدمن متهم باللصوصية. ولم يثر مرور الركب أية ملاحظة من النظارة، ولا نطق الحرس بكلمة، إلا بعد أن بلغوا بطن الوادي الذي لا تتجاوزه حدود الحلة، فقد تكلم الرئيس بإيجاز وأنذرهم الموت إذا عادوا.
وما كاد الحرس يغيب عن النظر حتى انطلق ما كان محبوسا من المشاعر فذرفت الدوقة بضع عبرات، وأجرت الأم شبتون لسانها ببضع شتمات، وأطلق العم بيللي سيلا من اللعنات. أما أوكهيرست الفيلسوف فقد لزم الصمت، وكان يصغي وهو وادع ساكن إلى ما تعرب عنه الأم شبتون من الرغبة في جز بعض الرقاب، وإلى ما أبدأت فيه الدوقة وأعادت، من أنها ستموت في بعض الطريق لا محالة، وإلى اللعنات الحرار التي كانت تخرج من فم العم بيللي وهو راكب وكأنها تطرد من جوفه طردا، وقد آثر أوكهيرست المساناة على عادة أمثاله، فأصر على أن يترك جواده للدوقة ويركب هو بغلها البليد، على أن هذه المجاملة لم تجعل الجماعة أشد تعاطفا وأوثق مودة، فعدلت الدوقة قبعتها المريشة القذرة بدلال فاتر، ورمت الأم شبتون الجواد بالنظر الشذر، وصب العم بيللي على الجماعة كلها لعنة شاملة.
وكان الطريق إلى «ساندي بار» - وهي حلة لم تمتد إليها عوامل الصلاح من بوكر فلات، فثم أمل في أن يأوي إليها المهاجرون - على جبال وعرة منقادة في الأرض، والمسافة إليها سفر يوم لا هوادة فيه، وما لبث القوم أن جاوزوا الوادي الرطب المعتدل الجو إلى الجبال الجافة الباردة المنعشة الهواء، وكان طريقهم في الجبل ضيقا كالأنبوب، ووعرا صعب المرتقى. ولما انتصف النهار تدحرجت الدوقة عن سرجها إلى الأرض وأعلنت أنها لن تنتقل من مكانها، فألقى الجماعة عصا التسيار.
وكان المكان الذي وقفوا فيه موحشا إلا أنه رائع، فقد كان عبارة عن مدرج من الشجر تحيط به من جهات ثلاث صخور وعرة من الصوان العاري، وينحدر في رفق ولين إلى ذروة نجوة مشرفة على الوادي، وكان هذا بلا شك أصلح مكان للإقامة لو كان ذلك من سداد الرأي. غير أن المستر أوكهيرست كان يعلم أنهم ما قطعوا نصف المسافة إلى «ساندي بار» وأنه ليس معهم من المئونة والعدة ما يسمح بالتلكؤ، وقد نبه رفقاءه إلى هذا بإيجاز وبين لهم خطل الكف عن مواصلة «اللعب» قبل الفراغ منه ولكنه كان معهم خمر، وقد نابت الخمر عندهم في ذلك الموقف مناب الطعام والوقود والراحة والعقل وبعد النظر. ولم يمض غير قليل حتى كان الشراب قد فعل فعله على الرغم من اعتراض أوكهيرست وتحذيره. وانتقل العم بيللي بسرعة من حالة الشراسة إلى حالة الخمود. وأخذ الشراب في الدوقة فأصابها منه فتار،
2
وعلا شخير الأم شبتون. وبقي المستر أوكهيرست وحده معتدل القامة يتكئ على صخرة ويلحظهم بعينه في سكون.
وكان المستر أوكهيرست لا يشرب، لأن الشراب يفسد حرفة
3
تتطلب الاتزان وضبط النفس وحضور الذهن، وكان على قوله لا تسمح له الحال بالمخاطرة بالشراب. وبينما كان ينظر إلى هؤلاء الرقود من رفقائه المنفيين ثقلت على نفسه، لأول مرة، وطأة الشعور بالوحدة والوحشة الناجمتين من حرفة المنبوذين، ومن عادات حياته، وأساليب عيشه، ونقائصه. فجعل يتلهى بنفض التراب عن ثيابه السود، وغسل يديه ووجهه، وغير ذلك مما اقتضته خصائص طباعه وشدة حرصه على النظافة وحسن السمت، فنسي شجنه لحظة. ولم يخطر له أن يهجر رفاقه الضعاف الجديرين بالمرثية أو يخذلهم في محنتهم، إلا أنه لم يسعه إلا أن يشعر بالحاجة إلى القمار الذي يثير نفسه ويبعثها والذي كان - ويا للغرابة - يفضي به إلى السكينة واعتدال المزاج اللذين اشتهر بهما. ومد بصره إلى الصخور التي تذهب في الهواء ألف قدم فوق أشجار الصنوبر المحيطة بالمكان، وصعد طرفه إلى السماء المكفهرة المنذرة الركام،
4
ثم صوبه إلى الوادي الذي تتكاثف فيه الظلال، وإذا به يسمع اسمه بغتة.
ونظر فإذا فارس يرتقي في الطريق ببطء، فعرف وجهه الصابح الصريح «توم سيمون» الذي يسمونه «الغرير» في «ساندي بار» وكان قد لقيه قبل بضعة شهور وقامره فقمره، وسلب من هذا الفتى الغرير كل ما يملك - حوالي أربعين ريالا - وبعد أن نهضا عن المائدة مضى به المستر أوكهيرست إلى ما وراء الباب وقال له: «توم، إنك فتى طيب، ولكنك لا تحسن القمار، ولا أمل لك في حذقه، فلا تحاول ذلك مرة أخرى.» ورد إليه ما ناله، ودفعه فأخرجه من الغرفة، فصار توم سيمون لهذا عبدا مخلصا له مدى الحياة.
وكان في الحماسة والطلاقة الصبيانية التي يحيي بها المستر أوكهيرست ما يشي بذكر هذا الجميل، وقال إنه أراد أن يذهب إلى «بوكر فلات» التماسا للثراء فسأله أوكهيرست: «وحدك؟» فقال الفتى: «لا. لا أعد وحدي. الواقع (وضحك) أني فررت مع «بيني وودز.» ألا تعرفها يا مستر أوكهيرست؟ تلك التي كانت تقوم بالخدمة على المائدة في «تمبرنس هوس.» وقد ظللنا خطيبين زمنا طويلا، ولكن أباها جاك وودز اعترض ففررنا، وكانت وجهتنا بوكر فلات لنتزوج. وها نحن أولاء قد صرنا هنا! وإنا لمتعبون، وإنه لمن الحظ أن قد وجدنا هذا المكان وهذه الرفقة!»
أفضى «الغرير» بهذا كله بسرعة، ثم برزت «بيني» - وهي فتاة وسيمة بدينة في الخامسة عشر من عمرها - من وراء الشجرة حيث كان وجهها لا يرى أحد اضطرامه من الخجل، ودنت بجوادها فحاذت حبيبها.
وكان المستر أوكهيرست قلما يعني نفسه بالعواطف الإنسانية، أو بما يليق وما لا يليق، وما يجب، وما لا يجب، ولكن إحساسا غامضا شاع في نفسه بأن الموقف خال مما يسمى حسن الحظ، على أنه كان له من حضور الذهن وسرعة الخاطر ما يكفي لإلهامه أن يرفس العم بيللي الذي كان يهم بكلام، وكان في العم بيللي بقية من الإدراك تجعله يفطن إلى ما وراء هذه الرفسة من القوة التي لا تحتمل العبث ولا تصبر عليه. ثم حاول المستر أوكهيرست، عبثا، أن يثني توم سيمون عما عزم عليه. ثم أنبأه أنه لا مئونة هناك ولا مأوى ولا وسيلة لمأوى. ولكن الغرير، لسوء الحظ، قابل هذا بأن أكد للقوم أن معه بغلا مثقلا بالزاد، وبأن أشار إلى كوخ من الخشب قريب من الطريق. وقال الغرير، وهو يومئ إلى الدوقة: «بيني تستطيع أن تكون مع السيدة (المسز) أوكهيرست. أما أنا فأستطيع أن أدبر أمري.»
ولولا ضغطة زاجرة من قدم المستر أوكهيرست لانفجر العم بيللي ضاحكا مجلجلا. وعلى أنه، على الرغم من هذا الانتهار، لم يستطع أن يكبح الضحك، فاضطر أن ينهض ويمضي إلى مجرى الوادي حتى يستعيد ضبط أعصابه. وهناك أفضى ببواعث الضحك إلى أشجار الصنوبر وهو يقرع ساقيه بكفيه وينحني بوجهه المغضن، ولا ينسى بذاءاته المألوفة. ولما عاد إلى القوم ألفاهم جلوسا حول نار، فقد صار البرد قارسا، وغلظ السحاب وتراكب. وكان الحديث على ما يبدو له وديا، وكانت بيني تتحدث على طريقتها الصبيانية الفطرية إلى الدوقة التي كانت تصغي بعناية واهتمام لم تظهر مثلهما في أيام كثيرة. وكان الغرير يتحدث على هذا النحو أيضا إلى المستر أوكهيرست والأم شبتون، فيحدث في نفسها مثل ذلك الأثر، حتى لقد ثابت إلى الأم شبتون نفسها فتطلق وجهها. وقال العم بيللي، عن احتقار كامن، وهو يتأمل الجمع والنار المشبوبة والدواب المشكولة:
5 «أترى هذه نزهة؟» ثم كأنما طافت برأسه المضطرب المخمور فكرة مغرية بالضحك فقد قرع ساقه بكفه ودس قبضته في فمه.
وارتمت الظلال شيئا فشيئا على الجبل، فهب النسيم بأشجار الصنوبر فحرك رءوسها وناح بين أغصانها. وأفرد الكوخ للسيدات بعد أن رموه وغطوه بأغصان الصنوبر، وافترق الحبيبان - الغرير وصاحبته - فتبادلا قبلة لا تكلف فيها - قبلة صريحة مخلصة من الممكن أن يسمع صوتها فوق حفيف الشجر المترنح ... قبلة أذهلت بما كشفت عنه من غرارة النفس وطهارة القلب، الدوقة الخوارة، والأم شبتون اللئيمة، فدارتا ودخلتا الكوخ بلا كلام. وألقي الحطب في النار، ورقد الرجال أمام الباب، وما لبثوا أن ناموا.
وكان المستر أوكهيرست خفيف النوم، فقبل أن ينبلج الصبح استيقظ مقرورا، وبجسمه خدر، وحرك النار المشفية على الخمود، فحملت الريح القوية إلى وجهه ما امتص الدم منه؛ الثلج!
فوثب إلى قدميه وفي عزمه أن يوقظ النائمين، فما بقي وقت يضاع. والتفت إلى حيث كان العم بيللي مستلقيا فلم يجده، فاختلج الشك في صدره، وجرى لسانه بلعنة، وذهب يعدو إلى حيث كانت الدواب مربوطة فلم يجدها! وكان الثلج المتساقط يطمس الآثار بسرعة.
ورجع المستر أوكهيرست، بعد هذا الاضطراب الوقتي، وهو ساكن كعادته. ولم يوقظ النائمين. وكان الغرير ينام نوما هادئا وعلى محياه ابتسامة، وكانت بيني العذراء راقدة إلى جانب صاحبتيها الطامحتي الطرف، وكأن عليها من الأملاك حفظة أمناء. وسحب المستر أوكهيرست غطاءه على كتفيه وراح ينتظر انبثاق الفجر، فطلع ومعه رهج
6
من الثلج تسفره الريح، فيزوغ البصر. وتغير ما كان باديا من وجه الأرض كأنما مرت عليه عصا ساحر، فنظر إلى الوادي ولخص الحاضر والمستقبل في أربع كلمات «في نطاق من الجمد.»
ودل الفحص الدقيق للزاد الموجود - وكان لحسن الحظ موضوعا في الكوخ، فنجا من العم بيللي - على أنه مع الحرص والحكمة يكفي عشرة أيام. وقال المستر أوكهيرست للغرير: «هذا إذا كنت ترضى أن تضيفنا وتطعمنا، أما إذا أبيت - وخير لك أن تأبى - فإن في وسعك أن تنتظر حتى يعود العم بيللي بالمئونة.» فقد عجز المستر أوكهيرست لسبب خفي أن يفضح العم بيللي ويظهر نذالته، ولهذا زعم أن العم بيللي خرج فنفر الدواب عفوا، وحذر الدوقة والأم شبتون، وكانتا قد عرفتا الحقيقة. وقال لهما: «سيعرفان حقيقة أمرنا جميعا، متى عرفا شيئا. ولا خير في إرعابهما الآن!»
ولم يكتف توم سيمون بأن يجعل كل ما معه من زاد ومئونة رهن مشيئة المستر أوكهيرست، بل أظهر السرور والاستمتاع بهذه العزلة الاضطرارية، وراح يقول : «سنبقى أسبوعا، ثم يذوب الثلج، فنعود جميعا معا.» وأعدت القوم بشاشة الشاب وسكينة المستر أوكهيرست. واستطاع الغرير، بفضل أفرع الصنوبر أن يصنع سقفا للكوخ، وتولت الدوقة إرشاد بيني في ترتيب الحجرة، وأظهرت في ذلك من الذوق والفطنة ما فتح عيني هذه الغادة الريفية الساذجة، فقالت: «أحسبك ألفت في حياتك مناعم العيش في بوكر فلات.» فأدارت الدوقة وجهها بسرعة، لتخفي الدم القاني الذي صبغ وجهها تحت دهانه المألوف. وتقدمت الأم شبتون إلى الفتاة بالرجاء أن لا «تثرثر» ولما عاد المستر أوكهيرست بعد طول الكد والعناء في البحث عن الطريق الذي ضاع أثره، سمع أصوات الضحك ترجعه الصخور المتجاوبة به، فوقف وقد ارتاع، ووثب به الخاطر أولا إلى الويسكي الذي حرص على أن يخبئه، ولكنه عاد فقال: «ولكن هذه الأصوات ليست من فعل الويسكي.» ولم يطمئن قلبه إلا بعد أن أبصر النار المستعرة من خلال العاصفة الثائرة، ورأى الجالسين حولها.
ولا أعلم هل خبأ المستر أوكهيرست، أو أهمل أن يخبئ أوراق اللعب أيضا، حتى لا يجعلها في متناول الجماعة، ولكن المحقق أنه - كما قالت الأم شبتون - لم يجر لسانه بذكر الورق ولا مرة واحدة في تلك الليلة، وزجي الفراغ بقيثارة أخرجها توم سيمون من أحرازه وهو مباه بها. واستطاعت بيني على الرغم من بعض الصعوبات أن تخرج من هذه الآلة بعض الأصوات، وكان الغرير يصحبها بصنجين يضرب أحدهما على الآخر، غير أن هذه الحفلة لم تبلغ ذررتها إلا حين رفع الحبيبان الصوت عاليا بنشيد ديني ساذج، ويداهما متشابكتان. وأعديا غيرهما، فانضموا إليهما وأنشدوا معهما: «إني فخور بأن أحيا في خدمة الرب، وأن أموت في جيشه.»
وتمايلت أشجار الصنوبر، وهاجت العاصفة، وزفزفت الرياح، ودارت فوق هؤلاء التعساء، ووثبت ألسنة النار في هذا «المعبد» نحو السماء كأنها شهود على هذا العهد.
وخفت العاصفة حوالي منتصف الليل، وتفرقت السحب المتراكمة، وتلاحمت النجوم الخفاقة اللمعان فوق النوام. وكان المستر أوكهيرست قد تركته عادات حرفته (القمار) قليل النوم خفيفه، فلما اقتسم مع توم سيمون واجب الحراسة، استطاع بطريقة ما، أن يختص نفسه بالنصيب الأوفر منها، وكان مما أقنع به الغرير قوله إنه كثيرا ما كان يقضي أسبوعا كاملا بلا نوم، فسأله توم: «وماذا كنت تصنع؟» فقال أوكهيرست: «ألعب البوكر ... متى وقع المرء على حظه فإن التعب لا يعتوره ... وما أقوى الحظ وأعجب حاله! كل ما نعرفه عنه على وجه التحقيق هو أنه لا بد أن يتغير ويتقلب، وإدراك المرء أن الحظ يوشك أن يتحول هو الذي يسعده. ولقد وقعنا على حظ سيئ بعد أن غادرنا بوكر فلات، وإذا بك تجيء وتقع معنا! وأنت بخير ما وسعك أن تصبر لأني (قال المقامر هذا بلا مناسبة؛ ولكنه كان واضح البشر) لأني فخور بأن أحيا في خدمة الرب، وأن أموت في جيشه.»
وطلع اليوم الثالث، وأطلت الشمس من خلال الغمام الأبيض، على الطرداء وهم يقتسمون بعض ما بقي من زادهم المتناقص، لطعام الإفطار، وكان من خصائص هذا الإقليم الجبلي أن أشعة الشمس تنشر فيه الدفء على وجوهه الشاتية، كأنما تعرب بذلك عن عطفها وأسفها لما مضى وفات، ولكنها كشفت عن طبقة فوقها طبقة من الثلج المتراكب المتعالي حول الكوخ، عن بحر مجهول لا طريق فيه، ولا درب له، ولا أمل لسالكه، من الثلج المتراكم تحت الشطئان الصخرية التي يتعلق بها هؤلاء المقذوف بهم عليها. وكان الجو عجيبا في صفائه، حتى لكانوا يرون الدخان المتصاعد من حلة بوكر فلات على مسافة أميال وأميال، وقد رأته الأم شبتون فقذفت الحلة، من ذروة معقلها الصخري، بلعنة أخيرة. وكانت هذه آخر بذاءاتها، ولعلها لهذا السبب كانت على حظ من الجلال. وقد أخبرت الدوقة أن هذه اللعنة التي أطلقتها نفعتها وشفت نفسها، ودعتها أن تحذو حذوها قائلة: «اخرجي إلى هناك، والعني، ثم انظري.» ثم رجعت إلى واجب تسلية «الطفلة» كما كانت هي والدوقة تسميان الفتاة «بيني»، ولم تكن بيني ضعيفة، ولكنه كان يسر هاتين المرأتين أن تعداها كذلك، لأنها كانت لا بذية صخابة، ولا عسوسا فاجرة.
وأقبل الليل مرة أخرى، فعادت ألحان القيثارة تعلو وتهبط متقطعة، وبعد فترات طويلة، حول النار الموقدة، غير أن أصوات الموسيقى لم تستطع أن تملأ الفراغ الوجيع الذي أحدثته قلة الكفاية في الطعام، فاقترحت بيني ملهاة جديدة هي أن يقص كل واحد قصته. ولم يكن لا المستر أوكهيرست ولا رفيقتاه على استعداد لذكر شيء من سيرهم أو تجاربهم الشخصية، فكاد الاقتراح يحبط، لولا الغرير، فقد عثر قبل بضعة شهور على نسخة من ترجمة المستر بوب (الشاعر) لإلياذة هومر، فرأى أن يقص حوادثها الكبرى باللهجة الدارجة في حلة ساندي بار، فقد نسي عبارة الشاعر وألفاظه، وإن كانت الحوادث منقوشة على صدره. وهكذا عاد أبطال هومر وأربابه فمشوا على الأرض مرة أخرى في تلك الليلة، وكان زفيف الريح كأنما يمثل صراع الطرواديين الصخابين، والأغارقة الماكرين، وكأنما كانت أشجار الصنوبر العظيمة تنحني أمام غضب ابن بلياس.
وكان المستر أوكهيرست ينصت وهو راض ساكن، وقد اهتم على الخصوص بمصير أخيل.
وهكذا - بقليل من الطعام، وكثير من هومر والقيثارة - انقضى أسبوع على هؤلاء الطرداء. وخذلتهم الشمس مرة أخرى، فاحتجبت عنهم، وألقت السماء المدجنة، رقائق من الثلج المنخول، على الأرض. وأخذ نطاق الثلج يزداد كل يوم ضيقا حتى صاروا ينظرون من سجنهم إلى جدران من الجليد اللماع، ترتفع مقدار عشرين قدما فوق رءوسهم. وتعذر شيئا فشيئا تقوية النار بإلقاء الحطب عليها حتى من الأشجار المنقصفة القريبة التي اختفى نصفها في الجمد. ومع ذلك لم يشك منهم أحد، فكان الحبيبان ينصرفان بوجهيهما عن هذا المنظر الجهم، وينظر كل منهما في عين صاحبه فيسعد، ووطن المستر أوكهيرست نفسه على السكون إلى هذه اللعبة الخاسرة، وتولت الدوقة التي صارت أكثر بشاشة وطلاقة مما كانت من قبل، العناية ببيني، أما الأم شبتون التي كانت أقوى الجميع، فقد بدأت تفتر، وتعتل، وتدنف، وفي منتصف ليلة اليوم العاشر دعت المستر أوكهيرست إلى جانبها، وقالت له بصوت الساخط على الضعف: «سأقضي نحبي، ولكن لا تقل شيئا، ولا توقظ الطفلين، وخذ الحزمة التي تحت رأسي وافتحها.» ففعل المستر أوكهيرست كما أمرت، فألفى نصيبها من الزاد طول الأسبوع، لم تمسه يدها. وقالت، وهي تومئ إلى بيني: «أعطه للطفلة.» فقال المقامر: «لقد أمت نفسك من الجوع.» فقالت المرأة بضجر: «كذلك يقولون.» واستلقت، ثم أدارت وجهها إلى الحائط، ولفظت النفس الأخير في سلام.
وأهملت القيثارة والصنج في ذلك اليوم، ونسي هومر، وبعد أن دفنوا رفات الأم شبتون في الثلج، انتحى المستر أوكهيرست بالغرير ناحية وأراه حذاءين للسير على الثلج صنعهما من سرج قديم، وقال: «هناك فرصة - واحد في المائة - لإنقاذها.» وأشار إلى بيني، ثم إلى ناحية بوكر فلات وقال: «إذا استطعت أن تصل إلى هناك في يومين، فإنها تنجو.»
فسأله توم سيمون: «وأنت؟»
فكان الجواب الموجز: «سأبقى هنا.»
وافترق الحبيبان بعد عناق طويل، ونظرت الدوقة إلى المستر أوكهيرست، فخيل إليها أنه ينتظر ليصحب توم، فسألت: «أأنت ذاهب كذلك؟» فقال: «إلى مجرى الوادي فقط.» والتفت إليها فجأة، وقبلها، وترك وجهها الشاحب مضطرما، وأعضاءها المضطربة متصلبة من فرط الذهول.
وجاء الليل، ولكن المستر أوكهيرست لم يجئ، وثارت العاصفة مرة أخرى، وراحت الرياح الدائرة تلقي الثلج، وأججت الدوقة النار، ووجدت أن بعضهم ترك إلى جانبها كوما من الحطب يكفي بضعة أيام؛ فاغرورقت عينها بالدموع، ولكنها أخفتها عن بيني.
وصارت الفتاة والدوقة لا تنامان إلا غرارا. ولما أصبح الصباح قرأت كل منهما مصيرها في وجه صاحبتها. ولم تنطق إحداهما بكلمة، ولكن بيني نحلت نفسها حق الذي هو أقوى، فدنت من الدوقة، وأحاطت خصرها بذراعها، وظلتا هكذا بقية النهار. وبلغت العاصفة في تلك الليلة أعنف ثوراتها. فمزقت أشجار الصنوبر التي كانت كالوقاء للكوخ، واقتحمته عليهما.
وقبيل الصبح وجدتا أنهما عاجزتان عن تقوية النار، فما لبثت أن خمدت، وبينما كانت الجمرات تسود، والذكوات تهمد اقتربت الدوقة من بيني، وخرجت من الصمت الذي ظل ساعات، وقالت: «بيني، هل تستطيعين أن تصلي؟» فقالت بيني ببساطة: «كلا، يا عزيزتي.» فأحست الدوقة لسبب ما، أن عبئا انحط عن صدرها، وأراحت رأسها على كتف بيني، ولم تقل شيئا بعد ذلك، وغلبهما النوم وهما على هذا الحال، صغراهما وأطهرهما ، تحمل على صدرها البكر العف، رأس رفيقتها الملوثة.
وهدأت الريح، كأنما أشفقت أن توقظهما. ونفضت أغصان الصنوبر الطويلة ثلجها، فطار كالريش، وخفق كالحمائم البيضاء، ثم هبط عليهما وهما نائمتان. وأطل القمر من خلل السحاب الممزق على المكان. ولكن كل لوثة، كل أثر من آثار الجهد والكد على الأرض، انطوى تحت هذا الستر الناصع النقي الذي ألقته رحمة السماء!
ونامتا طول ذلك اليوم، واليوم التالي، ولم تستيقظا لما عصفت أصوات القادمين بالسكون. وامتدت الأصابع الرحيمة، فنحت الثلج عن الوجهين، غير أنه ما كان يسع أحدا أن يقول، وهو ينظر إليهما، أيهما كانت المخطئة، حتى أهل بوكر فلات، بقانونهم الصارم، أدركوا هذا، فمضوا عنهما وتركوهما في عناقهما. ولكنهم، على رأس الوادي، وعند شجرة من أضخم أشجار الصنوبر، وجدوا ورقة من أوراق اللعب مسمرة إلى الجذع بمدية، وعليها ما يأتي، مكتوبا بالقلم الرصاص، وبيد ثابتة:
تحت هذه الشجرة يرقد جثمان جون أوكهيرست الذي عثر به الحظ في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1850 وقد أسلم أمره لقضاء الحظ فيه في السابع من ديسمبر/كانون الأول سنة 1850.
ووجدوا هذا الذي كان أقوى المنفيين من بوكر فلات، وأضعفهم في آن معا، راقدا تحت الثلج، وقد انقطع النبض وابترد الجسم، وإلى جانبه مسدس، وفي قلبه رصاصة!
هوامش
هنري جيمس
1843-1916
أربع مقابلات
رأيتها أربع مرات، ليس إلا. ولكني أتذكرها كأوضح ما تكون؛ فقد وقعت من نفسي وأعجبتني طلاوتها وحسنها، وعددتها نموذجا بارع الظرف لطراز بعينه. وقد أحزنني نعيها، ولكني أعود فأفكر في الأمر، فلا يسعني إلا أن أتساءل: لماذا يؤسفني ذلك؟ إنها على التحقيق، لم تكن في آخر مرة لقيتها فيها، ولكني سأصف مقابلاتنا على الترتيب.
1
كان أول لقاء لنا، في الريف، على الشاي في حفل صغير، في ليلة مثلوجة، ولا بد أن يكون ذلك منذ سبع عشرة سنة. وكان صديقي «لاتوش» ذاهبا لقضاء عيد الميلاد مع أمه، فدعاني إلى مرافقته، واحتفت بنا هذه السيدة الطيبة وأرادت أن تكرمنا بهذه الحفلة التي أسلفت الإشارة إليها. وقد أفدت من هذه الرحلة متعة حقيقية، فما سبق لي أن أوغلت في «إنجلترا الجديدة» في مثل هذا الوقت. وكانت السماء قد ظلت تثلجنا طول النهار فارتفع ما ألقته على الأرض إلى الركب، ووددت أن أعرف كيف وصل السيدات إلى البيت.
وسألتني السيدة لاتوش عن الصور الشمسية وهل أستحسن أن أعرضها على الفتيات؟ وكانت هذه الصور في محفظتين كبيرتين جاء بهما ابنها الذي عاد مثلي من أوروبا في الأيام الأخيرة. فأدرت عيني في الجمع، فلاحظت أن أكثر الفتيات يشغلهن ما هو أحق بأن يستغرقهن من أية صورة شمسية مهما بلغ من دقتها وإحكامها ووضوحها. ولكن كانت هناك واحدة واقفة على مقربة من الصفة وهي تجيل عينها في الحجرة، وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة لا توائم، فيما بدا لي، العزلة التي آثرتها. فنظرت إليها مليا ثم قلت: «إني أحب أن أعرض الصور على هذه الآنسة.»
فقالت السيدة لاتوش: «أي نعم. لقد وفقت في اختيارك فإنها رزان.
1
لا تعبأ شيئا بالمغازلة. سأكلمها.»
فأجبت بأنها لا تكون طلبتي إذا كانت لا تميل إلى المغازلة، ولكن السيدة لاتوش كانت قد ذهبت لتعرض عليها الأمر.
وقالت، وقد عادت: «إنها مغتبطة. وهي طلبتك على التحقيق ... هادئة وذكية ...»
ثم أخبرتني أن اسمها الآنسة كارولين سبنسر، وقدمتني إليها وقامت بواجب التعريف.
ولم تكن الآنسة كارولين سبنسر بارعة الحسن، ولكنها كانت وضيئة رقراقة، ولا بد أن تكون قد ناهزت الثلاثين، غير أنها كانت غضة، ولها محيا الطفل، وكان رأسها دقيقا جميلا، وشعرها معقوصا، على نحو ما يكون في تماثيل الإغريق، وإن كان من المشكوك فيه أن تكون قد رأت في حياتها تمثالا إغريقيا. ووقع في روعي أنها «فنانة» على قدر ما تسمح جريمونتر بتشجيع الميول والنزعات الفنية. وكان في عينها لين، وفي نظرتها دهشة، وفي شفتيها رقة، ولأسنانها وضاءة وجمال. وكانت تلف جيدها بمنديل تجمع طرفيه بدبوس، رأسه من المرجان، وتحمل في يدها مروحة من القش المضفور يزينها شريط قان. وكان ثوبها القصير من الحرير الأسود. وكانت تتكلم برقة مع الضبط ، وتفتح فمها الدقيق، وتفرج شفتيها الرقيقتين، فتكشف عن أسنانها البيضاء اللامعة، وقد بدا عليها السرور، بل التأثر، لرغبتي في عرض الصور عليها. وقد تم ذلك بسهولة بعد أن أخرجت المحفظتين من مكانهما ووضعت كرسيين قريبا من مصباح. وكانت الصور رسوما لأشياء أعرفها؛ مناظر من سويسرا، وإيطاليا وإسبانيا، ولقصور وصور وتماثيل شهيرة. وقد أدليت بما وسعني من الشرح، وكانت، وهي تصغي إلي، وتنظر إلى الصور التي أرفعها لعينها، ساكنة لا تتحرك وطرف مروحتها على شفتها السفلى. وكانت ربما قالت برقة وأنا أرد إحدى الصور إلى مكانها: «هل رأيت هذا المكان؟» وكان جوابي في الأغلب والأعم أني رأيته مرات عديدة (فقد كنت كثير الأسفار) وكنت أحس بعد أن أقول ذلك أنها تلحظني بعينيها الجميلتين. وقد سألتها في بداية الأمر: هل سافرت إلى أوروبا؟ فكان جوابها «لا، لا» وكان صوتها همسا خافتا، كأنما تسر إلي شيئا، ولكنها بعد ذلك لم تكد تقول شيئا، وإن كانت لم تحول عينها عن الصور، حتى توهمت أنها ضجرت، فلما فرغنا من إحدى المحفظتين اقترحت أن أقصر عن عرض ما بقي، إذا كانت تؤثر ذلك. وشعرت أنها لم تسأم، ولكن صمتها حيرني، واشتهيت أن أحملها على الكلام، فأدرت وجهي ونظرت إليها فرأيت على خديها احمرارا خفيفا، وكانت تروح على وجهها ولا تنظر إلي، بل تحدج المحفظة الثانية المسندة إلى المنضدة.
وقالت بصوت فيه بعض التهدج والارتعاش: «ألا تريني ما في هذه؟» فكدت أعتقد أنها مضطربة، وقلت: «يسرني ذلك، إذا كنت لم تتعبي.»
قالت: «لا، لست متعبة. إني أحب ذلك.»
وتناولت المحفظة الثانية فأراحت كفها عليها ومسحتها برقة.
وسألتني: «وهل سافرت إلى هذه البلاد أيضا؟»
وفتحت المحفظة فتبين أني سافرت إلى هذه الأقطار، وكان من بين الصور الأولى منظر كبير لقصر شيلون على بحيرة جينيف.
وقلت وأنا أريها هذا: «لقد زرت هذا المكان عدة مرات. أليس جميلا؟» وأشرت إلى الصور المنعكسة في الماء الصافي الساكن، للصخور الوعرة والصروح الذاهبة في الهواء، فلم تقل: «ما أبدع هذا» ثم تدفعه لترى الرسم الذي يليه، بل تأملته مليا ثم سألت: أليس هذا هو المكان الذي حبس فيه بونيفار على ما جاء في شعر بيرون؟ فقلت: نعم، وحاولت أن أنشدها بعض أبيات بيرون في الموضوع ولكن الذاكرة لم تساعفني كما ينبغي.
فروحت على وجهها لحظة ثم أنشدت الأبيات على الوجه الصحيح بصوت لين مطرد النبرة إلا أنه حسن، واتقد وجهها لما فرغت، فأثنيت عليها وقلت لها إنها مزودة بما يلزم لزيارة سويسرا وإيطاليا، فنظرت إلي بمؤخر عينها لترى أجاد أنا أم أنا أمزح، فقلت لها: إذا كان المراد أن تعرف المواضع من وصف بيرون لها فإن الواجب أن تعجل بالسفر فإن أوروبا تحول بسرعة عن العهد بها في أيام بيرون.
فسألتني: «متى ينبغي إذن أن أذهب؟»
قلت: «إني أمهلك عشر سنوات.»
قالت بلهجة متزنة: «أظن أن في وسعي أن أسافر في خلال ذلك.»
قلت: «ستستمتعين بالرحلة جدا، وستلقينها حافلة بالمطرب المعجب.»
وعثرت على صورة لركن في مدينة أجنبية كنت كلفا بها، وكانت لي فيها عهود يحن القلب لذكراها، وأحسبني أفضت في الكلام عنها، وكنت فيما قلت، رطب اللسان، فقد كانت مرهفة الأذنين، وأنفاسها محتبسة.
وسألتني بعد أن أقصرت ببرهة: «هل طال مقامك في البلدان الأجنبية؟»
قلت: «سنين عديدة.»
قالت: «وهل رحلت إلى كل مكان؟»
قلت: «كانت أسفاري كثيرة فإني كلف بالتجوال. ومن حسن الحظ أني كنت قادرا على ذلك.»
فنظرت إلي مرة أخرى بمؤخر عينها وسألت: «وهل تعرف اللغات الأجنبية؟»
قلت: «إلى حد ما.»
قالت: «هل في معرفتها والكلام بها مشقة؟»
فقلت: «أعتقد أنك لن تجدي في الأمر صعوبة.»
قالت: «لا يعنيني أن أتكلم أنا، إنما يكون همي أن أنصت.»
وأمسكت ثم قالت: «يقولون إن المسرح الفرنسي بديع.»
قلت: «هو خير ما في العالم في بابه.»
قالت: «هل كثر تردادك إليه؟»
قلت: «لما كنت في باريس كنت أذهب إليه كل ليلة.»
قالت: «كل ليلة!» وفتحت عينيها الصافيتين جدا «إن هذا في رأيي ...» وترددت هنيهة «رائع جدا» ثم سألت بعد دقائق: «أي البلاد تفضل ؟»
قلت: «هناك بلاد أفضلها على كل ما عداها، وما أظن برأيك إلا أنه سيكون كرأيي.»
فنظرت إلي قليلا ثم قالت برقة: «إيطاليا؟»
قلت: بمثل رقتها «إيطاليا.» ورشق كل منا صاحبه بلحظه. وكان يخيل إلي وأنا أنظر إلى إشراق محياها ووضاءته وصباحته كأني كنت أغازلها وأبثها حبي، ولم أكن أريها صورا شمسية. ومما قوى هذا الوهم أن وجهها صبغه الدم فحولته عني. وساد الصمت هنيهة قالت بعدها: «هذا هو المكان الذي كنت أفكر في الذهاب إليه على الخصوص.»
قلت: «أوه ... هذا هو ... هذا هو.»
وقلبت صورتين أو ثلاثا في صمت ثم قالت: «يقولون إن النفقة ليست باهظة.»
قلت: «كما هي في بعض البلاد الأخرى؟ نعم، وليس هذا أقل مزاياها.» - «ولكنها غالية كلها، أليست كذلك؟» - «تعنين أوروبا؟» - «السفر والطواف والتنقل ... هذه هي الصعوبة إلى الآن، فإن المال عندي قليل. إني مدرسة.»
قلت: «لا شك أن المال ضروري ولا غنى عنه، ولكن الإنسان يستطيع أن يدبر أموره بمبلغ معتدل.»
قالت: «أظن أن في وسعي ذلك، فقد ادخرت شيئا، ولا أزال أضيف إليه ... لهذا الغرض» وسكتت برهة ثم انطلقت تتكلم بلهفة كأنما كانت مكبوتة، وكأنما كان إخباري بذلك فيه لذة نادرة إلا أنها عسى أن تكون غير بريئة «ليس المال كل ما عاق ... كل شيء عاق. كل شيء كان يصد، وقد انتظرت، وانتظرت، فما عدوت حال الذي يبني القصور بخياله في الهواء، وإني لأكاد أخاف أن أتكلم في هذا ... وقد خايلني الأمل بالتحقيق مرتين أو ثلاثا فتكلمت به، فانتسخ الحلم! ألا لقد تكلمت كثيرا ... أكثر مما ينبغي.» قالت ذلك منحية به على نفسها، وكانت تجد في هذا بعض المتعة على ما بدا لي «ولي صديقة عزيزة لا تريد أن تسافر، ولست أمل تكليمها في هذا حتى لأضجرها جدا. وقد قالت لي مرة إنها لا تدري ماذا عسى أن يكون مآلي، فإني خليقة أن يطير عقلي إذا لم أسافر إلى أوروبا، وسيطير عقلي على التحقيق إذا سافرت.»
فقلت: «على كل حال، هذا أنت لم تسافري ، ولم يطر عقلك مع ذلك.»
فنظرت إلي مليا ثم قالت: «لست على يقين من ذلك. فما أراني أفكر في شيء آخر. أفكر في السفر دائما، حتى ليمنعني ذلك أن أفكر فيما هو أدنى إلي - فيما ينبغي أن أعنى به - وهذا ضرب من الجنون.»
قلت: «الدواء أن تسافري.»
قالت: «إن لي ثقة وإيمانا بأني سأسافر. ولي في أوروبا ابن عم!»
وقلبنا بضع صور أخرى وسألتها هل قضت كل حياتها في «جريمونتر»؟
فقالت: «لا يا سيدي. لقد قضيت ثلاثة وعشرين شهرا في بوستون.»
فقلت مازحا: «إنه ما دام الأمر كذلك فإن أوروبا ستخيب أملها على الأرجح.» ولكني لم أزعجها.
وقالت، وعلى فمها ابتسامتها اللطيفة الوديعة: «إني أعرف عن أوروبا أكثر مما تظنني أعرف، أعني بالقراءة عنها. فقد قرأت كثيرا، ولم أقتصر على بيرون وحده، بل قرأت كتب التاريخ وكتب إرشاد السياح. وأنا واثقة أني سأرضى عن رحلتي حين يتاح لي أن أقوم بها.»
فقلت: «إني أعرف حالتك، وأدرك بواعثها. هو الهوى الذي يلج بنفس الأمريكي ... هوى الجمال والروعة. وأحسب أن هذا عندنا مقدم على كل ما عداه، وسابق لكل اختيار وتجربة. فإذا جاءت التجربة لم ترنا إلا ما كنا نحلم به.»
فقالت كارولين سبنسر: «أعتقد أن هذا صحيح. فقد حلمت بكل شيء. وسأعرف كل شيء حين أراه.»
قلت: «أظنك ضيعت وقتا طويلا جدا.»
قالت: «نعم وهذا شر ذنوبي.»
وكان الذين حولنا قد بدءوا ينصرفون، فنهضت ومدت إلي يدها في دعة ورقة ولكن عينها كانت فيها لمعة غريبة.
فقلت وأنا أهز يدها مودعا: «إني عائد إلى هناك، وسأتطلع إلى لقائك.»
فقالت: «سأخبرك إذا خاب أملي.»
ومضت عني، وعليها أمارات الاضطراب الخفيف، وفي يدها المروحة تتحرك.
2
عدت إلى أوروبا بعد هذه المقابلة ببضعة شهور، وانقضت ثلاث سنوات. وكنت مقيما في باريس، وفي أخريات أكتوبر/تشرين الأول رحلت عنها إلى «الهافر» لأقابل أختي وزوجها. وكانا قد كتبا إلي يقولان إنهما يوشك أن يصلا إليها. فلما بلغت الهافر وجدت أن الباخرة قد سبقتني إليها وأني تأخرت حوالي ساعتين؛ فانكفأت إلى الفندق الذي نزل فيه قريباي. وكانت أختي قد أوت إلى فراشها من الإعياء الذي سببه لها ركوب البحر، فقد عانت منه شر ما يصيب الإنسان. وكانت ترغب ألا يزعجها أحد من راحتها أو ينغصها عليها فلم أمكث معها إلا خمس دقائق. ومن أجل هذا اتفقنا على البقاء في الهافر إلى اليوم التالي. وكان زوجها من فرط قلقه عليها لا يريد أن يغادر غرفتها ولكنها أصرت أن يخرج معي ويتمشى لينفي عنه ما يشعر به راكب البحر، ويستعيد إحساسه بالوثاقة والاستقرار. وكنا في الخريف، وكان الصباح دافئا، منعشا، وأعجبتنا المناظر وسرتنا ونحن نجتاز الشوارع البهيجة الألوان الغاصة بالناس في هذا المرفأ الفرنسي القديم. وسرنا على أرصفة الميناء المشمسة العالية الضوضاء ثم دخلنا في شارع جميل واسع، بعضه تضيئه الشمس والبعض في الظل، وكان لقدمه، ولما عليه من الصبغة الريفية يبدو للناظر كأنه رسم بالألوان المائية، فهذه مساكن عالية كثيرة الطبقات مغبرة اللون، وسقوفها الحمراء الآجر على هيئة المثلث، وعلى نوافذها شبابيك خضراء وفوقها الزخرفة، وفي الشرفات الزهريات، وعلى العتبات النساء وقد لففن رءوسهن بمناديل بيضاء. وقد سرنا في الظل، وكنا نرى هذه المناظر على الجانب المشمس فكأنها صورة. وإذا بنسيبي يقف بغتة ويضغط ذراعي ويحدق! فنظرت إلى حيث ينظر، فرأيت أننا وقفنا على مسافة قصيرة من مقهى رصت أمامه المناضد والكراسي تحت طنف.
2
وكانت النوافذ مفتوحة، وعلى جانبي الباب شجيرات ست مرصوصة في مغارسها، وقد فرش الرصيف بالتبن النظيف. وكان المقهى صغيرا، عتيقا، ولكنه هادئ، ورأيت بداخله، في الظلام النسبي، امرأة حسناء سمينة على قبعتها شرائط قرمزية، ووراءها مرآة، وهي تبتسم لشخص متوار عن النظر. على أني لم ألاحظ هذا إلا فيما بعد. أما الذي رأيته أول الأمر فسيدة جالسة وحدها على منضدة من تلك المناضد الرخامية المبعثرة على الرصيف. وكان نسيبي قد وقف لينظر إليها، وكان أمامها شيء على المنضدة، ولكنها كانت مضطجعة، وساعداها مطويان على صدرها، وعينها إلى الناحية الأخرى من الشارع. ولم أر منها سوى لمحة جانبية ومع ذلك كبر في ظني أني رأيتها من قبل.
وقال نسيبي: «سيدة الباخرة!»
فسألته: «أكانت على الباخرة معكم؟»
قال: «من الصباح إلى الليل. ولم يصبها الدوار. وكانت تجلس على جانب السفينة وساعداها مطويان كما تراها الآن، وترسل لحظها إلى الأفق الشرقي.»
فسألته: «أتنوي أن تكلمها؟»
قال: «لست أعرفها ... لم نتعارف ... وكنت سيئ الحال من الدوار، ولكني كنت أراقبها، ولا أدري لماذا كنت معنيا بها. وإنها لأمريكية صغيرة رشيقة. وأكبر الظن أنها مدرسة، وأنها في إجازة، وهي تتنزه بما ادخرته من تلاميذها.»
وأدارت في هذه اللحظة خدها قليلا ونظرت إلى المساكن العالية المغبرة الجدران فقلت: «سأكلمها أنا.»
فقال نسيبي: «لو كنت مكانك لما فعلت فإنها حيية جدا.»
قلت: «يا صديقي العزيز، إني أعرفها. وقد أريتها مرة بضع صور شمسية في حفلة شاي.»
وقصدت إليها، فلفتت وجهها ونظرت إلي، فأيقنت أنها الآنسة كارولين سبنسر، ولكنها لم تعرفني بمثل هذه السرعة، فقد بدت عليها دهشة المفاجأة، وقلت، وقد سحبت كرسيا وقعدت: «أرجو ألا يكون أملك قد خاب.»
فحدقت في، وقد احمر وجهها قليلا، ثم انتفضت قليلا انتفاضة المعرفة والإدراك وقالت: «أنت الذي أراني الصور الشمسية في جريمونتر؟»
قلت: «نعم، أنا هو بعينه، هذه مصادفة جميلة فإني أحس كأن علي أن أقيم لك استقبالا وترحيبا رسميين. فقد كلمتك كثيرا عن أوروبا.»
فقالت بلهجة رقيقة: «لم تقل أكثر مما يجب. وإني لسعيدة.»
وكانت السعادة بادية عليها، ولم يكن ثم ما يدل على أن سنها زادت وأنها صارت أكبر، واحتفظت وسامتها بمزايا الرزانة والوداعة. وإذا كانت قد بدت من قبل زهرة من أزاهير الطهر على عودها الأملود، وببهجة ألوانها الرقيقة، فما كانت نضرة هذه البهجة الرقيقة أقل ظهورا، الآن، وكان إلى جانبها رجل كهل يحتسي شراب «الأبسنت» ووراءها السيدة ذات القبعة المزدانة بالشرائط القرمزية، تصيح «ألسبياد!» «ألسبياد!» للخادم ذي الفوطة الطويلة الملفوفة على وسطه، وأخبرت الآنسة سبنسر أن زميلي كان معها على السفينة، وأنه زوج أختي، فتقدم وعرفته بها فنظرت إليه كأنها ما وقعت عليه عينها من قبل، ولا عجب فقد حدثني أنها كانت لا تنفك تنظر إلى الأفق الشرقي، ومن الجلي أنها لم تفطن إلى وجوده على الباخرة. وابتسمت له ابتسامة حيية ولم تحاول أن تزعم أنها رأته من قبل، وبقيت معها في المقهى، ورجع هو إلى الفندق وزوجته. وقلت للآنسة سبنسر: إن مقابلتي لها بعيد نزولها من السفينة اتفاق عجيب جدا، ولكني مغتبط بذلك ويسرني أن تخبرني عن وقع السفر في نفسها.
قالت: «لا أدري! ولكني أشعر كأني في حلم. وإن لي هنا لساعة، ولست أريد أن أتحرك. كل شيء جميل. ومن يدري؟ لعل القهوة أسكرتني، والحق أنها كانت لذيذة!»
قلت: «إذا كان هذا مبلغ سرورك بمرفأ الهافر الممل وكنت تفيضين عليه كل هذا الإعجاب، فإنك لا تبقين شيئا من السرور والإعجاب بما هو خير منه. كلا، لا تنفقي كل ذخرك من الإعجاب في أول يوم. واذكري أن هذه وثيقة الاعتماد الأدبية ... تذكري كل البلدان والأشياء الجميلة التي تنتظرك. تذكري إيطاليا الفاتنة!»
فقالت بلهجة الجذل، وعينها على المساكن أمامها: «لست أخشى الإفلاس وإن في وسعي أن أجلس هنا طول النهار، وأقول لنفسي إني صرت ها هنا أخيرا. كل شيء قاتم، وقديم، ومغاير لمألوفي!»
فسألتها: «على فكرة، كيف اتفق لك أن تقعدي هنا؟ ألم تقصدي إلى فندق من الفنادق؟» فقد استغربت سذاجة القلب التي جعلت هذه المرأة الحسناء الرقيقة تتخذ مكانها في هذه العزلة البارزة على حافة الطريق.
فكان جوابها: «جاء بي ابن عمي إلى هنا. أتذكر أني قلت لك إن لي ابن عم في أوروبا؟ استقبلني هذا الصباح على الباخرة.»
قلت: «لم تكن به حاجة إلى تجشيم نفسه عناء الاستقبال إذا كان سيهجرك بهذه السرعة.»
قالت: «إنما تركني مسافة نصف ساعة. ذهب ليجيء بمالي.»
فسألتها: «وأين مالك؟»
فضحكت ضحكة خفيفة وقالت: «إني أشعر بأن لي شأنا حين أخبرك أنها كلها أوراق نقد.»
فسألتها: «وأين أوراقك النقدية؟»
قالت: «في جيب ابن عمي.»
قالت هذا بهدوء، ولكن الخبر - لا أدري لماذا؟ - أجرى في بدني قشعريرة البرد، ولو أني سئلت في تلك اللحظة عن الباعث لعجزت عن تعليل هذا الشعور فما كنت أعرف شيئا عن ابن عمها فالمفروض أن يكون أمينا، ولكنه أقلقني فجأة أن تكون مواردها القليلة قد انتقلت إلى يديه بعد نصف ساعة من نزولها من السفينة.
وسألتها: «أتراه سيسافر معك؟»
قالت: «إلى باريس فقط. فإنه يدرس الفن فيها. وكنت قد كتبت إليه أني قادمة ولكني لم أكن أتوقع أن يجيء إلى هنا ليستقبلني، ولم أطمع في أكثر من أن يلقاني على المحطة في باريس. وإنها لمروءة منه. ولكنه ذو مروءة، وذكي أيضا.»
فشعرت برغبة ملحة في أن أرى ابن عمها الذكي الذي يدرس الفن.
وسألتها: «هل ذهب إلى المصرف؟»
قالت: «نعم، إلى المصرف. ذهب بي إلى فندق، مكان صغير غريب ولكنه جميل، وفي وسطه ساحة، تحيط بها من فوقها شرفة تدور بها، وصاحبة الخان سيدة ظريفة تلبس ثوبا محبوك التفصيل على قدها. وبعد قليل خرجنا لنتمشى إلى المصرف لأنه ليس معي شيء من النقود الفرنسية، ولكني كنت دائرة الرأس من ركوب البحر فاستحسنت أن أقعد، فجاء بي إلى هنا وذهب هو إلى المصرف، وسأنتظر حتى يعود.»
وقد يبدو هذا مني إغراقا في التخيل، ولكنه مر بخاطري أنه لن يعود أبدا. فاعتدلت على الكرسي وقد صممت على البقاء إلى جانبها حتى أرى ما يكون. وكانت دقيقة الملاحظة لا يفوت عينها شيء، مما تعرضه علينا حركة الشارع؛ غرابة الثياب، وأشكال المركبات، والخيل النورماندية الجسيمة، والقساوسة الضخام الأبدان، والكلاب الحليقة. وتحدثنا عن هذه الأشياء، فوجدت متعة من جدة مشاهدتها وكيف كان ذهنها الواسع الاطلاع يدرك الأشياء ويغتبط بها.
وسألتها: «وبعد أن يرجع ابن عمك، ماذا تنوين أن تصنعي؟»
فترددت لحظة ثم قالت: «لا ندري تماما.»
قلت: «ومتى تذهبين إلى باريس؟ إذا ركبت قطار الساعة الرابعة فإنه يكون من دواعي سروري أن أكون في خدمتك في هذه الرحلة.»
قالت: «لا أظن أننا سنفعل ذلك فإن ابن عمي يرى أن أبقى هنا بضعة أيام.»
فقلت: «أوه » ولبثت خمس دقائق لا أنبس بحرف. وكنت أتعجب لابن عمها هذا ماذا يبغي من وراء ذلك؟ وأدرت عيني في الشارع وأرسلت لحظي فيه إلى آخر مدى البصر، ولكني لم أر أحدا يمكن أن يعد أمريكيا ذكيا من طلاب الفنون. وأخيرا سمحت لنفسي أن ألاحظ أن الهافر ليس بالمكان الذي يختاره من يطوف في أوروبا ليتلبث فيه ويعجب به. فما هو بأكثر من استراحة، ومعبر ومجاز ينبغي أن ينفذ منه المرء بسرعة، ونصحت لها أن تسافر إلى باريس على قطار العصر، وأن تتسلى في أثناء ذلك بالركوب إلى القلعة القديمة عند مدخل الميناء، ذلك البناء الدائر الجميل الذي يحمل اسم فرنسيس الأول ويبدو للعين كأنه قصر صغير من قصور سنت أنجلو.
وكانت تصغي بعناية، ثم بدا عليها الجد وهي تقول: «أخبرني ابن عمي أنه بعد عودته سيحدثني في أمر خاص، وقال إننا لا نستطيع أن نفعل شيئا أو نقرر أمرا إلا بعد أن أستمع إلى ما عنده، ولكني سأحمله على الإسراع في إخباري، ثم نذهب بعد ذلك إلى القلعة القديمة. ولا داعي للتعجيل بالسفر إلى باريس، فإن الوقت فسيح.»
وكانت تبتسم بشفتيها الرقيقتين الحادتين قليلا وهي تقول هذا، ولكني كنت أتفرس في وجهها، فلمحت طيفا من الخوف في عينيها.
وقلت: «لا تقولي إن هذا الرجل التعس سيفضي إليك بأخبار سيئة!»
قالت: «أحسب أنها ستكون سيئة قليلا، ولكني لا أعتقد أنها سيئة جدا. على كل حال لا بد من الاستماع.»
فنظرت إليها هنيهة ثم قلت: «ما أظنك جئت إلى أوروبا لتصغي إليه أو لغيره، إنما جئت لتنظري!»
وأيقنت أن ابن عمها سيعود، ما دام أن لديه أخبار سوء يريد أن يطلعها عليها فلا بد أن يرجع. وسألتها عن البلدان التي تنوي أن تزورها، فألفيتها قد رتبت رحلتها على أدق نحو، وسردت لي أسماء البلاد بلهجة الجد، فهي ستذهب من باريس إلى ديجون وأفينيون، ومن ثم إلى مارسيليا وطريق الساحل «الكورنيش» ثم إلى جنوة، وسبيزا، وبيزا، وفلورنسة، ورومية. ويظهر أنه لم يخطر لها قط أن في السفر وحدها وبلا رفيق أي عناء، ولما كان لا رفيق لها؛ فقد حرصت على اجتناب إقلاقها أو إضعاف شعورها بالاطمئنان والثقة.
وأخيرا جاء ابن عمها. رأيته يخرج علينا من زقاق جانبي، وما كادت عيني تأخذه حتى أيقنت أنه هو الأمريكي الذكي الذي يدرس الفن في باريس. وكان يلبس قبعة ناعمة عريضة الحافة، وسترة لبيسة
3
من المخمل الأسود، رأيت أمثالها كثيرا في «شارع بونابرت»، وكان قميصه ينفرج عن جانب كبير من عنق لم يبد لي على البعد جميلا. وكان طويلا نحيفا وشعره أحمر، وفي وجههه حطاط،
4
وقد لاحظت هذا كله وهو يدنو من المقهى ويحدق في مستغربا وجودي. ولما صار معنا عرفته بنفسي وقلت إني صديق قديم للآنسة سبنسر، فأحد النظر إلي بعينيه الضيقتين المحمرتين. ثم انحنى لي على الطريقة الفرنسية ملوحا بقبعته العريضة.
وقال: «أكنت على السفينة؟»
قلت: «كلا، لم أكن هناك، فإني في أوروبا منذ ثلاث سنوات.»
فانحنى مرة أخرى بتؤدة وأومأ إلي أن أجلس كما كنت، فقعدت لأراقبه وأفحصه قليلا، فقد آن لي أن أعود إلى أختي، وبدا لي أن ابن العم هذا غريب، فما خلقه الله في صورة يلائمها زي بيرون أو روفائيل، ولا كانت سترته المخملية، وعنقه العاري على اتساق مع خصائص وجهه، وكان شعره مقصوصا إلى قريب من جلدة الرأس، وأذنه عظيمة مقبلة على الوجه، متباعدة عن الرأس. وكان في هيئته فتور، وفي قامته انحناء يناقضان ما في عينه الغريبة اللون من الحدة والشدة. ولعلي كنت متحاملا عليه، ولكنه خيل إلي أن في عينيه غدرا. وظل لحظة لا يقول شيئا، وكان يعتمد بيديه على عصاه ويصعد طرفه ويصوبه في الشارع، وأخيرا رفع عصاه ببطء وأشار بها وهو يقول: «هذا حسن.» وكان يميل رأسه ويداني بين جفونه وهو ينظر، فوجهت عيني إلى حيث كان يومئ بعصاه، فرأيت خرقة حمراء معلقة من شباك قديم. وقال: «لون حسن.» وحول إلي لحظه من غير أن يحرك رأسه وقال: «يكون جميلا في الرسم.» وكان صوته ناشفا جامدا خاليا من الصقل.
فقلت: «أرى أن لك لنظرا. وقد أخبرتني ابنة عمك أنك تدرس الفن.»
فنظر إلي بعينه المغضية ولم يجب، فمضيت في كلامي بلطف متكلف: «أحسبك تعمل مع واحد من هؤلاء العظماء.»
فظل ينظر إلي ثم قال برقة: «جيروم.»
قلت: «أحسبك مغتبطا هناك؟»
قال: «هل تعرف الفرنسية؟»
قلت: «إلى حد ما.»
فأبقى عينيه على وجهي ثم قال بالفرنسية: «إني أعبد التصوير.»
فقلت: «أوه. إني أستطيع أن أفهم هذا حين تقوله.»
ووضعت الآنسة سبنسر راحتها على ذراع ابن عمها، وكان في حركتها اضطراب خفيف من السرور، وكأنما أعجبها أن يكون المرء ذرب اللسان في اللغات الأجنبية! ونهضت لأودعهما، وسألت الآنسة سبنسر أين في باريس يتاح لي أن أتشرف بلقائها؟ وإلى أي فندق تنوي أن تقصد؟
فالتفتت إلى ابن عمها مستفسرة، فشرفني مرة أخرى بنظرة فاترة بمؤخر عينه وسألني: «أتعرف فندق الأمراء؟»
قلت: «أعرف مكانه.»
قال: «سآخذها إليه.»
فقلت لكارولين سبنسر: «إني أهنئك. فإني أعتقد أن هذا خير فندق في العالم. وإذا اتفق أني استطعت أن أختلس من وقتي هنا لحظة أراك فيها، فأين أجدك؟»
فقالت بلهجة الجذل: «ما أحلاه من اسم ... ألا بل نورماند!»
ولما غادرتها انحنى لي ابن عمها ملوحا بقبعته في دائرة واسعة.
3
تبين أن أختي لم تعد إليها نفسها إلى حد يسمح بأن تغادر الهافر على قطار العصر، فلما كان الغسق ألفيت نفسي في فسحة من الوقت، وأن في وسعي أن أزور فندق «ألا بل نورماند.» ويجب أن أعترف أني قضيت وقتا طويلا أفكر فيما عسى أن يكون هذا القريب الرذل لصديقتي الجميلة قد أفضى إليها به من أخبار السوء. وكان «ألا بل نورماند» خانا صغيرا في سكة ظليلة مريبة، لا يرتاح المرء حين يتصور أن الآنسة سبنسر لا بد أن تكون قد صادفت فيها كثيرا من «اللون المحلي»، وكان هناك - في الخان - فناء ضيق يتخذ للسمر، وسلم إلى غرف النوم، درجه على ظاهر الحائط، ونافورة صغيرة يقطر منها الماء وفي وسطها تمثال من الجص، وغلام يلبس طاقية بيضاء ويلف وسطه بفوطة، ينظف بعض الأواني النحاسية في مدخل المطبخ الظاهر، وربة الفندق وهي سيدة ثرثارة، في شفوف نظيفة، ترتب الكمثرى والعنب على هيئة الهرم في طبق قرمزي. فأجلت عيني في المكان فرأيت كارولين سبنسر على دكة خضراء، خارج باب مفتوح كتب عليه: «حجرة الطعام»، وما كادت عيني تأخذها حتى تبينت أن شيئا حدث بعد أن تركتها في الصباح؛ فقد كانت مضطجعة على الدكة، ويداها متشابكتان في حجرها، وعينها على ربة الخان في الناحية الأخرى من ساحة البيت وهي ترتب الكمثرى.
ولكني أدركت أيضا أنها لم تكن تفكر في الكمثرى، وإنما كانت تشخص وهي ذاهلة عما حولها، مفكرة في خلافه، ودنوت منها فتبينت أنها حديثة عهد بالبكاء. وقعدت على الدكة إلى جانبها قبل أن تراني، فلما أبصرتني لم تزد على أن تلتفت بلا دهشة، وأن تريح عينها على وجهي. ولا بد أن ما وقع كان غاية في السوء، فقد تغيرت جدا.
ولم أتوان في مصارحتها برأيي فقلت: «إن ابن عمك قد أبلغك خبرا سيئا فإني أراك في كرب شديد.»
فلبثت لحظة لا تقول شيئا، وخيل إلي أنها تخشى أن تتكلم لأن الدموع تتحير في عينيها. ولكني ما لبثت أن تبينت أنها أراقت كل عبرة في الفترة الوجيزة التي غبت عنها فيها، وأنها استرجعت، واستردت جلدها وسكينتها.
وقالت أخيرا: «إن ابن عمي المسكين مكروب، وقد كان ما أبلغنيه سيئا.» وترددت قليلا ثم قالت: «كانت حاجته شديدة إلى المال.»
فقلت: «تعنين حاجته إلى مالك؟»
قالت: «إلى أي مال يمكن أن يحصل عليه، بطريقة شريفة! وكان مالي كل ماله إلى وسيلة.»
فسألتها: «وأخذ ما معك؟»
فترددت مرة أخرى، وكانت عينها تتوسل إلي وتضرع، ثم قالت: «أعطيته ما عندي.»
وما زلت أذكر نبرة صوتها وهي تنطق بهذه الكلمات، وما فتئت أعدها أشبه ما سمعت، بأصوات الملائكة، ولكني حين سكت أذني هذه الألفاظ انتفضت قائما كأنما أصابتني مساءة شخصية وقلت: «يا لله! هل تسمين هذا حصولا على المال بوسيلة شريفة؟»
وكان هذا شططا مني، فقد اتقد محياها وقالت: «دع الكلام في هذا؟»
فقلت وأنا أقعد ثانية: «بل يجب أن نتكلم في هذا! إني صديقك، ويخيل إلي أن بك حاجة إلى صديق. فما خطب ابن عمك؟ ماذا دهاه؟»
قالت: «إنه مدين.»
قلت: «لا شك، ولكن ماذا يجعل من حقه أن تؤدي عنه دينه؟»
قالت: «قص علي قصته كلها، وأنا آسفة جدا له.»
قلت: «وأنا مثلك، ولكني أرجو أن يرد إليك مالك.»
قالت: «لا شك في ذلك ... متى وسعه أن يفعل.»
فسألتها: «ومتى يكون هذا؟»
قالت: «بعد أن يتم رسم الصورة العظيمة التي يعمل فيها الآن.»
فصحت: «يا سيدتي العزيزة، لعنة الله على صورته العظيمة! أين ابن العم السادر هذا؟»
فترددت ترددا واضحا ثم قالت: «يتعشى.»
فتلفت ونظرت من الباب المفتوح في «حجرة الطعام»، فأبصرت ذلك الشاب الذكي، طالب الفنون في باريس، وموضع عطف الآنسة سبنسر، قاعدا إلى طرف مائدة طويلة. وكان مقبلا على الطعام فلم يرني في بادئ الأمر، ولكنه - وهو يضع على المائدة قدحا أفرغ ما كان فيه من النبيذ في جوفه - لاحظ أني أراقبه. فتوقف عن الأكل، وأمال رأسه إلى ناحية، ورشقني بلحظه كما أرشقه، وفكاه يتحركان ببطء. ثم مرت بنا ربة الخان وعلى يديها طبق الكمثرى.
فقلت: «وهذه الفاكهة اللذيذة له؟»
فنظرت إلى الطبق برقة وقالت: «إنهم يحسنون تقديم ما عندهم.»
فسخطت وأحسست أنه لم تبق لي حيلة، وقلت: «تعالي، تعالي! هل توافقين على أن يأخذ منك هذا الشاب الطويل القوي مالك؟»
فحولت وجهها عني، وكان من الواضح أني أؤلمها. وخامرني اليأس، فما من شك في أن هذا الشاب الطويل القوي «يعنيها.»
وقلت: «اغفري لي أن أتكلم عنه بلا كلفة. ولكنك أسخى يدا مما ينبغي أن تكوني، وهو أقل تعففا مما يجب. لقد جر على نفسه الدين، فحقيق به أن يؤديه ويرده بنفسه ومن موارده.»
فقالت: «لقد كان أحمق. أعرف ذلك، فقد قص علي كل شيء. وطال حديثنا في هذا صباح اليوم. وقد قصد إلي في حاجته. فقد وقع سندات بمبالغ جسيمة.»
قلت: «ما أعظم حماقته!»
قالت: «إنه يعاني هما ثقيلا. وليس الأمر بقاصر عليه وحده، فإن هناك أيضا زوجته المسكينة.»
قلت: «آه! أوله زوجة مسكينة؟»
قالت: «لم أكن أعرف هذا حتى أقر لي به. تزوجها منذ سنتين سرا.»
وتلفتت كارولين سبنسر حولها كأنما كانت تخشى أن يسترق السمع أحد، ثم قالت برقة، وبنبرة مؤثرة: «لقد كانت كونتيسة.»
فسألتها: «أواثقة أنت من ذلك؟»
قالت: «لقد كتبت إلي رسالة ما أجملها!»
قلت: «تطلب منك فيها قرضا حسنا؟»
قالت: «بل تلتمس الثقة والعطف، فقد حرمها أبوها حقوقها. وقد خبرني ابن عمي بقصتها، وفصلتها هي لي في رسالتها. إنها أشبه بالقصص القديمة. فقد رفض أبوها أن يوافق على هذا الزواج، ولما عرف أنها خالفت أمه سرا رمى بها. الحقيقة أنها حادثة مؤثرة. وأسرتها أعرق الأسر في مقاطعة بروفنس.»
وكنت أنظر وأصغي وأنا أتعجب. وبدا لي أن هذه المسكينة تجد لذة حقيقية في هذه الرواية التي تدور وقائعها على كونتيسة منبوذة يتزوجها ابن عمها، وقد بلغ من استغراق هذه الرواية لها أن صرفتها عن التدبر في أمرها وفيما يجره عليها ضياع مالها.
وقلت: «يا سيدتي العزيزة، هل تريدين أن تخربي في سبيل الخيال؟»
قالت: «لن أخرب! وسأعود بعد قليل لأقيم معهما. فإن الكونتيسة تلح في ذلك وتصر عليه.»
فسألت: «تعودين؟ هل تعنين أنك راجعة إلى بلادك؟»
فغضت طرفها هنيهة، ثم قالت وهي تجاهد أن تخفي اضطراب صوتها: «ليس معي مال للسياحة.»
قلت: «أوأعطيته كل ما معك؟»
قالت: «احتفظت بما يكفي للإياب.»
فتوجعت من الغيظ، وفي هذه اللحظة خرج من غرفة الطعام ابن عمها السعيد الذي استحوذ على مدخرها، وعلى يد الكونتيسة أيضا! ووقف لحظة على العتبة، يقشر كمثراة، ثم دسها في فمه، وتركها فيه ملتذا بها، وجعل ينظر إلينا وساقاه متباعدتان، ويداه في جيبي سترته. فنهضت الآنسة سبنسر، ورمت إليه نظرة لم تفتني، واشية بالاستسلام والافتتان، بل بالنشوة. وقد كان هذا الشاب قبيحا، وسوقيا، ودعيا خائنا، في رأيي، ولكنه استطاع أن يخلب لبها ويسحر خيالها . وقد كان حنقي عليه شديدا، وتقززي منه عظيما، ولكنه لم يكن لي حق في الدخول في الأمر، وعلى أنه لم يغب عني أن الدخول في هذا عبث لا طائل تحته.
ولوح الشاب بيده تلويحا مسرحيا وقال: «ساحة جميلة. ومكان طيب. هذه الآجرة لونها حسن. وهذا السلم الملتوي أيضا!»
فنفد صبري، ولم تعد لي طاقة على الاحتمال، ومددت يدي إلى كارولين سبنسر من غير أن أرد على ابن عمها، فنظرت إلي بوجهها الدقيق وعينيها الواسعتين وبدت لي أسنانها، كأنما أرادت أن تبتسم وقالت: «لا تأسف من أجلي، فإني واثقة أني سأرى شيئا من هذه القارة العتيقة يوما ما.»
فقلت لها إني لا أودعها، وإني سأعود إليها في صباح الغد. وكان ابن عمها قد لبس قبعته العريضة، فنزعها ولوح لي بها على سبيل التحية، فانصرفت.
ورجعت في صباح اليوم التالي إلى الخان حيث التقيت بربته، وكانت أقل عناية بثيابها مما كانت في المساء، فلما سألتها عن الآنسة سبنسر قالت: «سافرت يا سيدي. غادرتنا في الساعة العاشرة البارحة مع ... مع ... إنه ليس زوجها، هه؟ على كل حال مع السيد ... وذهبا إلى الباخرة الأمريكية.»
فانصرفت. فيا لها من مسكينة! لم تقض في أوروبا إلا حوالي ثلاث عشرة ساعة!
4
وكنت أسعد حظا منها فقضيت في أوروبا حوالي خمس سنوات. وفي هذه المدة فقدت صديقي لاتوش، فقد أصيب بحمى الملاريا أثناء رحلة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فقضى نحبه. وكان أول ما صنعت بعد عودتي إلى أمريكا أن قصدت إلى بلدة «جريمونتر» لأعزي أمه المسكينة، وكانت شديدة الحزن، فجلست معها الصباح كله (وكنت قد وصلت في ساعة متأخرة من الليلة السابقة) أصغي لحديثها الباكي، وأتغنى بسجايا صديقي. ولم يكن لنا كلام في غير ذلك، ولم يقطع حديثنا إلا وصول سيدة صغيرة خفيفة تسوق مركبتها، وقد رأيتها ترمي الأعنة على ظهر الجواد بمثل سرعة النائم أفزعه شيء فرمى الغطاء ونهض. ووثبت من المركبة، ودخلت الغرفة وثبا من فرط النشاط في حركتها والخفة فيها. وعرفت أنها زوجة القسيس، وأنها «راوية» البلدة، وكان يبدو عليها أن لديها نخبة متخيرة من الأحاديث تتلهف على الإفضاء بها، وكنت على يقين من هذا، كيقيني من أن السيدة لاتوش لا يمنعها جزعها على وحيدها وثكلها له أن تصغي إلى صاحبتها. ورأيت أن الانصراف أكيس فقلت: إني سأذهب لأتمشى قبل الغداء، وسألت قبل الخروج: «وعلى فكرة، إذا استطعت أن تدليني على بيت الآنسة سبنسر، ذهبت إليها.»
فردت زوجة القسيس وأخبرتني أن الآنسة سبنسر تسكن في البيت الرابع بعد الكنيسة، وهي على اليمين، وفوق بابها طنف محمول على عمودين، تراه هي أشبه بإطار السرير.
وقالت السيدة لاتوش: «نعم، اذهب وزر كارولين المسكينة، فسيرد إليها نفسها أن ترى وجها غريبا.»
وقالت زوجة القسيس: «أحسبها رأت فوق الكفاية من الوجوه الغريبة!»
فأصلحت السيدة لاتوش العبارة وقالت: «إنما أعني أن ترى زائرا.»
فعادت صاحبتها تقول: «وأحسبها شبعت من الزوار! ولكنك أنت لا تنوي أن تبقى عشر سنين؟»
فقلت وأنا متحير: «أوعندها زائر من هذا الضرب؟»
قالت: «سترى ضربه. ومن السهل أن ترى زائرتها، فإنها تجلس عادة في الساحة المقدمة أمام البيت، وعليك أن تكون لبقا وشديد الحذر في كلامك، وتوخ الأدب على الخصوص.»
فقلت: «آه، حساسة جدا، أليست كذلك؟»
فوثبت زوجة القسيس إلى قدميها، وانحنت لي، انحناء سخر وتهكم، وقالت: «هي كما تقول، من فضلك، فإنها كونتيسة!»
ونطقت اللفظ بلهجة لاذعة، حتى لخيل إلي أنها تضحك ساخرة، في وجه الكونتيسة، فوقفت لحظة أحدق، وأتعجب، وأتذكر.
ثم قلت: «أوه ... سأكون مؤدبا جدا.» وتناولت قبعتي وعصاي، وانصرفت.
ولم أجد مشقة في الاهتداء إلى بيت الآنسة سبنسر، فقد عرفت الكنيسة بلا جهد، وكان البيت الصغير الحائل البياض، ذو المدخنة الكبرى والنباتات الزاحفة، أخلق مسكن بعانس مقتصدة لها ذوق وخيال.
وتباطأت لما دنوت من البيت، فقد سمعت أن بعضهم لا يفتأ جالسا في الساحة المقدمة، فأحببت أن أستطلع وأتبين أولا، ورفعت رأسي محاذرا ونظرت من فوق السور الأبيض الواطئ الذي يفصل الحديقة الصغيرة عن الطريق، ولكني لم أر كونتيسة أو سواها ، وكان هناك ممر مستقيم يؤدي إلى عتبة الباب وعلى الجانبين رقعة صغيرة من الحشيش حولها إطار من شجيرات العنب الجافة وفي وسط الرقعة - في كلا الجانبين - شجرة كبيرة، حافلة بمظاهر الشظف والقفول.
5
وتحت إحدى الشجرتين منضدة صغيرة، وكرسيان. وعلى المنضدة شقة من النسيج لم ينته العمل فيها، وكتابان أو ثلاثة مجلدة بورق زاهي الألوان. فدخلت من البوابة، ووقفت في منتصف الممر، ونقضت المكان عسى أن أبصر ما يدل على حال ساكنته التي ترددت فجأة، بلا داع أعرفه، أن أقدم نفسي إليها. ثم خطر لي أن البيت رث، وأنه ليس من حقي أن أتطفل، فقد كان الشوق إلى استطلاع طلعها هو كل باعثي، ولكن هذه الرغبة بدت لي الآن غير لائقة. وبينما كنت مترددا ظهرت سيدة في مدخل الباب ووقفت تنظر إلي، فعرفت أنها كارولين سبنسر، ولكنها هي كانت تنظر إلي كأنها ما رأتني قط من قبل، فتقدمت بتؤدة وإشفاق إلى الباب، ثم قلت وأنا أتكلف اللهجة الودية: «لقد انتظرت هناك عودتك ولكنك لم تجيئي أبدا.»
فقالت برقة، وقد زادت عيناها اتساعا: «انتظرت أين يا سيدي؟»
لقد كبرت، وظهر عليها التعب، والتلف.
وقلت: «انتظرت في الهافر.»
فحدقت في، ثم عرفتني، وتبسمت، واحمر وجهها، وضمت راحتيها وقالت: «الآن تذكرتك، وتذكرت ذلك اليوم.» ولكنها ظلت واقفة، لا تخرج إلي، ولا تدعوني أن أدخل، وكانت مرتبكة.
وكنت أنا أيضا مرتبكا. فغرزت عصاي في الأرض وقلت: «ظللت أترقب مجيئك عاما بعد عام.»
فهمست: «أتعني في أوروبا؟»
قلت: «في أوروبا، طبعا. أما هنا فإن من السهل أن يهتدي إليك المرء، على ما يظهر.»
فأراحت رأسها على جانب الباب غير المدهون، ونظرت إلي لحظة بلا كلام، وخيل إلي، أني اجتليت في وجهها ما يرتسم على وجه المرأة حين تشفى على البكاء، وإذا بها فجأة تخطو إلى الحجرة أمام العتبة، وتغلق الباب وراءها، ثم بدأت تتبسم، وقد بقيت أسنانها كأجمل ما عهدتها، ولكنه كان هناك دموع أيضا، ولا شك.
وسألت بصوت كالهمس: «أوكنت هناك طول الوقت منذ ذلك اليوم؟»
قلت: «عدت منذ ثلاثة أسابيع، وأنت؟ ألم تذهبي قط؟»
وكانت تنظر إلي، وعلى ثغرها ابتسامتها الثابتة، ثم مدت يدها من خلفها وفتحت الباب وقالت: «إني أهمل واجب الضيافة، ألا تدخل؟»
قلت: «أخشى الإثقال عليك وإزعاجك.»
قالت: «كلا» وهي تبتسم، ودفعت الباب، وأومأت إلي أن أدخل.
فدخلت وتبعتها، فمضت بي إلى غرفة صغيرة على يسار الردهة الضيقة، أحسبها غرفتها، وإن كانت في الناحية الخلفية، ومررنا بباب غرفة أخرى، موصد، تطل، فيما قدرت، على رقعة الحشيش والشجرة، وكانت الغرفة التي دخلناها تشرف على خص من الخشب، ودجاجتين تصيحان، وكانت الغرفة جميلة جدا، ولكن ما فيها مما يكسبها معنى الأناقة والرشاقة، ينبئ بشدة التدبير ودقة الاقتصاد، وقد زاد هذا في حسنها، فما رأيت من قبل أثاثا باهتا، وصورا قديمة في إطارات من أوراق الخريف المموهة، مرتبة على خير من هذا النظام أو آنق وأحلى. وقعدت الآنسة سبنسر على حرف الأريكة، ويداها متشابكتان في حجرها. وكانت تبدو أسن بعشر سنين، ولو قلت إنها وسيمة لكان هذا القول الآن غير سائغ، ولكنها كانت في عيني وسيمة، أو على الأقل لهيئتها وقع في النفس. وكانت مضطربة، فحاولت أن أتكلف الإغضاء ولكني قلت لها فجأة وبلا أدنى تدبر، وبدافع لا يقاوم من ذكرى صداقتنا في الهافر: «إني أثقل عليك، فإنك مهمومة.»
فرفعت يديها إلى وجهها، وأبقته مدفونا فيهما لحظة، ثم ردتهما وقالت: «ذاك لأنك تذكرني ...»
قلت: «أتعنين أني أذكرك بذلك اليوم المشئوم في الهافر؟»
فهزت رأسها وقالت: «لم يكن مشئوما؛ كان حسنا.»
فقلت: «لم أصدم قط كما صدمت ساعة ذهبت إلى الخان في صبيحة اليوم التالي لأسأل عنك فإذا بك قد سافرت.»
فلبثت قليلا لا ترد، ثم قالت: «أرجو أن تعفيني من الكلام في هذا.»
فسألتها: «هل عدت إلى هنا مباشرة؟»
قالت: «عدت إلى هذه البلدة بعد ثلاثين يوما ليس إلا من سفري منها.» - «وبقيت هنا بعد ذلك دائما؟»
فقالت برقة: «نعم.» - «ومتى تذهبين إلى أوروبا كرة أخرى؟»
وكان السؤال عن هذا لا يخلو من قسوة وإيلام، ولكن طراوة استسلامها استفزتني، وأغرتني بأن أنتزع منها عبارة تدل على الملل والتبرم.
فصوبت عينها إلى دائرة ضيقة من نور الشمس على السجادة، ثم نهضت وأرخت الشباك قليلا لترد هذا النور، وقالت، بلهجتها اللينة، ردا على سؤالي: «لن أذهب أبدا.» - «عسى أن يكون ابن عمك قد رد إليك مالك؟»
فحولت وجهها عني وهي تقول: «لست أبالي هذا الآن.» - «ألا تحفلين بمالك؟» - «للسفر إلى أوروبا.» - «أتعنين أنك لن تذهبي ولو قدرت على السفر؟»
فقالت: «لا أقدر - لا أقدر - انتهى الأمر ... ولست أفكر في هذا أبدا.»
فقلت: «إذن لم يرد إليك مالك؟»
فبدأت تقول: «أرجو ... أرجو ...»
ثم أمسكت، وكانت تنظر إلى الباب، فقد تأدى إلينا من ورائه حفيف ثوب، ووقع قدم.
ونظرت مثلها إلى الباب، وكان مفتوحا؛ فظهرت فيه سيدة أخرى على عتبته، وجاء وراءها شاب، وأحدت السيدة النظر إلي جدا، وطال لحظها حتى وسعني أن أنقش صورتها على لوح صدري، ثم التفتت إلى كارولين سبنسر، وقالت بنبرة أجنبية واضحة: «اغتفري لي تطفلي، لم أكن أعرف أن معك أحدا؛ فقد دخل السيد في سكون تام.»
وردت إلي لحظها مرة أخرى.
وكانت غريبة حقا. ومع ذلك كان أول ما وقع في نفسي أني رأيتها من قبل، ثم أدركت أني إنما رأيت سيدات يشبهنها، ولكني رأيتهن بعيدا جدا من جريمونتر، فأحدثت لي رؤيتها هنا إحساسا غريبا، فإلى أين يحملني مرآها؟ إلى باب مفتوح على غرفة مقدمة قذرة، وإلى سيدة تميل على درابزين وعلى ذراعها مشملة باهتة الألوان، وهي تصيح بالخادمة أن تصعد إليها بالقهوة.
وكان ضيفة الآنسة سبنسر سيدة ضخمة، جاوزت ميعة الشباب، ووجهها السمين في مثل صفرة الموت، وشعرها مسرح إلى الخلف على الطريقة الصينية، وعينها صغيرة، ولكن نظرتها حادة نافذة، ولها ما يسميه الفرنسيون ابتسامة مرضية، وكانت ترتدي طيلسانا قديما قرمزيا من الكشمير موشى بنقوش بيض. وكانت - كالصورة التي رفعتها ذاكرتي لعيني - تضم طرفيه أمامها بذراع عارية مستديرة، ويد بضة كثيرة الحطاط.
وقالت للآنسة سبنسر: «إنما جئت لأذكرك بقهوتي، فإني أرجو أن ترسل إلي في الحديقة تحت الشجرة الصغيرة.»
وكان الشاب الذي خلفها قد دخل الغرفة ووقف ينظر إلي، مثلها، وهو شاب جميل المحيا، وعليه سيما الريفي المتأنق، وله أنف دقيق معتدل القصبة، وذقن صغيرة حادة، وقدمان لم أر أصغر منهما أو أدق، وكان ينظر إلي كالأبله وفمه مفتوح.
وقالت الآنسة سبنسر وعلى خديها جمرتان طافئتان: «ستجيئك القهوة.»
وقالت السيدة ذات الطيلسان: «حسن» والتفتت إلى الشاب وقالت: «هات كتابك.»
فأدار عينه في الغرفة وقال بصوت من لا حيلة له: «أتعنين أجروميتي؟»
وكانت السيدة ترشقني بلحظها متعجبة، وتضم طرفي كسائها بذراعها البيضاء وتقول: «هات كتابك يا صديقي.»
فقال وهو يرميني بعينه: «هل تعنين ديوان الشعر؟»
فقالت صاحبته: «لا بأس! دع الكلام، ولنتمش اليوم. وسنتحدث. ولكنه لا ينبغي لنا أن نقطع عليهما حديثهما، تعال.» واستدارت وهي تقول للآنسة سبنسر على سبيل التذكير: «تحت الشجرة الصغيرة.»
ورمت إلي ما يشبه التحية، وكلمتي «أيها السيد» وانصرفت، والشاب في إثرها.
ووقفت كارولين سبنسر وعينها على الأرض.
فسألتها: «من هذه؟» - «الكونتيسة، زوجة ابن عمي.» - «ومن هذا الشاب؟» - «تلميذها، المستر مكستر.»
فأغراني وصف العلاقة بين هذين الشخصين اللذين غادرا الغرفة، بالضحك، فنظرت إلي الآنسة سبنسر بجد وقالت: «إنها تدرس اللغة الفرنسية، فقد فقدت ثروتها.»
قلت: «يظهر أنها مصممة على ألا تكون حميلة على أحد، وهذا هو الواجب.»
فصوبت كارولين عينها إلى الأرض مرة أخرى وقالت: «يجب أن أذهب لأعد لها القهوة.»
فسألتها: «هل لها تلاميذ كثيرون؟»
قالت: «المستر مكستر تلميذها الوحيد، وهي تهبه وقتها كله.»
ولم أستطع أن أضحك من هذا، وإن كنت قد أحسست بالاستفزاز، فقد كانت الآنسة سبنسر جادة جدا، وما لبثت أن قالت ببساطة: «إنه يدفع أجرا حسنا، فهو غني جدا، ورقيق وعطوف جدا، يخرج بها في مركبته للتنزه.»
وهمت بأن تمضي فسألتها: «أذاهبة أنت لإعداد قهوة الكونتيسة؟» - «إذا أذنت لي ... بضع دقائق.» - «أليس هنا أحد غيرك يستطيع أن يعدها لها؟»
فرمت إلي نظرة عذبة السكون وقالت: «ليس لي خدم.»
فسألتها: «ألا تستطيع أن تخدم نفسها؟» - «لم تتعود هذا.»
فقلت بأرق لهجة أقدر عليها: «مفهوم. ولكن قبل أن تذهبي، خبريني من هذه السيدة؟» - «لقد أخبرتك من قبل، في ذلك اليوم. زوجة ابن عمي الذي رأيته.» - «السيدة التي نبذتها أسرتها على إثر زواجها؟» - «نعم. ولم ترها أسرتها بعد ذلك أبدا. نبذتها كل النبذ.» - «وأين زوجها؟» - «مات» - «وأين مالك؟»
فانتفضت المسكينة من حز الألم، فقد كانت أسئلتي واضحة السياق، جلية الغاية. وقالت بضجر وتعب: «لا أدري.»
وألححت في خطتي فسألتها: «وبعد أن مات زوجها جاءت السيدة إلى هنا؟» - «نعم، جاءت ذات يوم.» - «وكم لها هنا؟» - «سنتان.» - «وبقيت مذ جاءت؟» - «طول الوقت.» - «وكيف رضاها عن مقامها هنا؟» - «ليست راضية.» - «وكيف رضاك أنت؟»
فأخفت وجهها بين كفيها لحظة، كما فعلت قبل عشر دقائق، ثم خرجت مسرعة لتعد قهوة الكونتيسة.
وبقيت وحدي في الغرفة، فقد أردت أن أرى فوق ما رأيت، وأن أعرف أكثر مما عرفت. وبعد خمس دقائق أقبل الشاب الذي قالت الآنسة سبنسر إنه تلميذ الكونتيسة، ووقف ينظر إلي وشفتاه متباعدتان، فلم يخالجني شك في أنه شاب غرير جدا.
وأخيرا قال: «إنها تريد أن تعلم هل تحب أن تخرج إليها؟» - «من هو الذي يريد أن يعلم؟» - «الكونتيسة ... تلك السيدة الفرنسية.» - «هل طلبت منك أن تجيئها بي؟»
فقال بضعف وهو يتأمل قامتي الطويلة: «نعم يا سيدي.»
فخرجت معه فألفينا الكونتيسة جالسة في ظل شجرة من الأشجار الصغيرة المغروسة أمام البيت. وكانت تعمل بالإبرة في رقعة النسيج التي كانت على المنضدة، وتلطفت فأومأت إلي أن أقعد على الكرسي إلى جانبها، ففعلت. وتلفت المستر مكستر ثم قعد على الحشيش عند قدميها. ورفع عينه، وراح ينقلها من وجه الكونتيسة إلى وجهي.
وقالت الكونتيسة وهي ترشقني بعينيها الصغيرتين البراقتين: «إني واثقة أنك تتكلم الفرنسية.»
فقلت بالفرنسية: «نعم يا سيدتي إلى حد ما.»
فصاحت: «أرأيت! لقد فطنت إلى ذلك من أول نظرة؛ لا شك أنك أقمت في بلادي.» - «زمنا طويلا.» - «وتعرف باريس؟» «أتم معرفة يا سيدتي.» وتعمدت أن أنظر إليها، في عينيها.
فما لبثت أن حولت عينيها وصوبتهما إلى تلميذها المستر مكستر، وسألته: «في أي شيء كنا نتكلم؟»
فرفع ركبتيه، وقلع بعض الحشيش، واضطرم وجهه وهو يقول: «إنكما تتكلمان بالفرنسية.»
فقالت الكونتيسة: «لي عشرة أشهر وأنا أدرس له. لا تخف أن تقول إنه أبله، فلن يفهم.»
فقلت: «أرجو أن يكون تلاميذك الآخرون أبعث على رضاك.» - «ليس لي تلميذ غيره، فإنهم لا يعرفون ما اللغة الفرنسية، ولا يحفلونها هنا ولا يريدون أن يعرفوها، ففي مقدورك أن تتصور سروري بلقاء من يتكلمها مثلك.»
فأجبت بأن سروري ليس دون سرورها، وأقبلت على النسيج تعمل فيه إبرتها وخنصرها مثني، وكانت كل بضع دقائق تدني عينها مما تصنع على نحو ما يفعل قصيرو النظر. فوقع في نفسي منها أنها شخص بغيض، فقد كانت خشنة غير مصقولة، ومتكلفة خائنة، وليست كونتيسة ولا شيئا من هذا القبيل، كما أني أنا لست خليفة.
وقالت: «حدثني عن باريس. فإن ذكر اسمها بمجرده يحرك نفسي. كم لك مذ تركتها؟» - «شهران.» - «ما أسعدك! حدثني عنها. قل لي ماذا يصنعون هناك؟ إيه ما أشوقني إلى ساعة واحدة في البوليفار؟» - «إنهم يصنعون ما لا يزالون يصنعون، يتسلون على قدر ما يسعهم!»
فتنهدت وقالت: «في المسارح؟ وفي المراقص؟ وحول المناضد الصغيرة أمام الأبواب؟ يا لها من حياة! إنك تعرف أني باريسية من رأسي إلى قدمي.»
فتشجعت وقلت: «إذن كانت الآنسة سبنسر مخطئة حين قالت لي: إنك من بروفنس.»
فحدقت أمامها لحظة ثم دست أنفها فيما تنسج، وقالت: «أنا من بروفنس مولدا، ولكني باريسية هوى.»
فقلت: «وتجربة أيضا فيما أظن؟»
فتفرست هنيهة في وجهي بعينيها الحادتين وقالت: «التجربة! في وسعي أن أتحدث عن التجربة إذا شئت، فما كنت أتوقع مثلا أن تدخر لي التجربة هذا»، وأشارت بكوعها العاري وبهزة من رأسها إشارة تشمل كل ما يحيط بها البيت الصغير، والشجرة، والسياج، والمستر مكستر أيضا.
فقلت بابتسامة: «إنك في منفى.» - «يمكنك أن تتصور أي منفى هو! السنتان اللتان قضيتهما هنا عشتهما ساعة فساعة، والمرء يعتاد الأشياء والحالات، ويخيل إلي أحيانا أني ألفت هذا. ولكن هناك أشياء ولا تزال تبدأ من جديد، قهوتي مثلا.»
فسألتها: «أتشربين القهوة دائما في هذه الساعة؟»
فرمت رأسها إلى الوراء وراحت تفحصني وتزنني.
وقالت: «في أية ساعة تفضل أن أشرب قهوتي؟ إنه لا بد لي من فنجان قهوة بعد الإفطار.» - «آه! الإفطار في هذه الساعة؟» - «في منتصف النهار، هنا يفطرون بعد الساعة السابعة بربع ساعة ... وقت ظريف!»
فقلت بلهجة العطف: «ولكنك كنت تحدثينني عن قهوتك؟»
فقالت: «إنها (تعني كارولين) لا تؤمن بها، ولا تستطيع أن تفهمها. هي فتاة رائعة، ولكن فنجان القهوة وعليها قطرة من الكونياك، في هذه الساعة، هذا يتجاوز نطاق فهمها وإدراكها، فأنا مضطرة أن أنبهها كل يوم، وأنت ترى ما يستغرقه من الوقت صنع هذه القهوة، ووصولها إلي، وعندما تصل ... آه يا سيدي، لا تلمني إذا لم أقدم لك شيئا منها، فإني أعرف أنك شربتها في البوليفار ...»
فحز في نفسي هذا التحقير لمروءة كارولين سبنسر وكرمها، ولكني اتقيت أن أقول شيئا اجتنابا لإساءة الأدب، ونظرت إلى المستر مكستر الذي طوق ركبتيه بساعديه، وقعد يرقب حركات الكونتيسة وهو مفتون، ولاحظت هي أني أتأمله، وألقت إلي نظرة وابتسامة تفسيرية جريئة، وقالت: «إنك ترى أنه يعبدني.» ودست أنفها ثانية فيما تطرز، فأعربت لها عن تصديقي لذلك، واقتناعي به، ومضت في كلامها فقالت: «إنه يحلم بأن يكون عشيقي. نعم، هذا حلمه. وقد قرأ رواية فرنسية ... من عمره ستة شهور ... وما زال منذ ذلك الوقت، يتوهم أنه هو البطل وأنا البطلة.»
وكان من الجلي أن المستر مكستر لم يخطر له أنه موضوع كلامها، فقد كان ذاهلا عن ذلك بما هو فيه من نشوة التأمل. وفي هذه اللحظة برزت كارولين سبنسر من البيت تحمل إبريق القهوة على صحن صغير، ولاحظت أنها وهي تقطع المسافة من الباب إلى المنضدة، ألقت إلي نظرة خاطفة، نظرة توسل غامض. ولم أدر ماذا تعني بها، وحسبت أن المراد أنها اشتاقت، وهي واجفة الفؤاد، أن تعرف رأي خبير بالحياة عاش في فرنسا مثلي، في الكونتيسة ، ولم أسترح إلى هذا الظن، فما كان يسعني أن أقول لها إن الكونتيسة ليست على الأرجح سوى زوجة حلاق فرت منه. وقد حاولت على العكس أن أبدي لها الاحترام والتوقير. ولكني نهضت. ولم أعد أطيق أن أبقى. وساءني أن أرى كارولين سبنسر واقفة كأنها خادمة!
وقلت للكونتيسة: «هل تتوقعين أن تبقي زمنا آخر في جريمونتر؟»
فهزت كتفيها هزة عنيفة وقالت: «من يدري؟ ربما أقمت هنا سنين، وسنين. متى كان المرء بائسا ...» والتفتت إلى الآنسة سبنسر وقالت: «يا عزيزتي لقد نسيت الكونياك.»
واستبقيت كارولين سبنسر حين همت، بعد أن ألقت نظرة صامتة على المنضدة الصغيرة، بأن تذهب لتجيء بالشراب الناقص. ومددت إليها يدي في سكون، مودعا. وكان التعب باديا عليها، ولكنه كان على وجهها الصغير الوديع لمحة غريبة من ذخيرة الجلد والصبر. وكبر في وهمي أن انصرافي يسرها. وكان المستر مكستر قد نهض وأقبل على إبريق القهوة يصب منه في الفنجان. وخطر لي وأنا أمر في عودتي بالكنيسة أن الآنسة سبنسر المسكينة كانت موفقة حين قالت لي في الهافر إنها سترى «شيئا» من أوروبا العتيقة!
هوامش
روبرت لويس ستيفنسون
1850-1894
سيد الباب
كان «دنيس ده بولييه» دون الثانية والعشرين، ومع ذلك كان يعد نفسه رجلا مجتمعا تاما، وفارسا مدربا أيضا. وكان الغلمان يخوضون القتال في حداثتهم في ذلك العهد الحافل بالحروب. ومتى اشترك الواحد في وقعة، وبضع غارات، وأردى خصما وهو ينازله، وعرف شيئا عن الناس والحروب، فإن مما يغتفر له أن يكون في مشيته بعض الاختيال والتبختر. وكان دنيس قد ربط جواده وعلفه، ثم تعشى على مهل، ثم خرج، وهو أتم ما يكون رضى عن الدنيا ليؤدي زيارة في الغسق. ولم يكن هذا من الحكمة فقد كان خيرا له أن يدفئ على النار، أو أن يأوي إلى فراشه، فقد كانت البلدة غاصة بجنود برجندي، وإنجلترا تحت قيادة مختلطة. ومع أن دنيس كان يحمل ترخيصا وتأمينا، فإن هذا كان خليقا أن يكون ضئيل الجدوى إذا اعترضه معترض.
كان ذلك في شهر سبتمبر من سنة 1439، وكان البرد قارسا، والرياح الزفزافة
1
المتقلبة، المثقلة بالماء تضرب البلدة وتعصف بالأوراق الذاوية في الطرق وكان المرء يرى هنا، وههنا، نافذة ينبعث منها الضوء، وكانت أصوات المقاتلة وهم يتناولون عشاءهم ويشربون، ويسمرون عليه، تسمع متقطعة، وتحملها الرياح ولا تلبث أن تبتلعها. وأظلم الليل بسرعة، وصار علم إنجلترا الخافق يزداد غموضا وخفاء مع تكاثف السحب السابحة، حتى صار نقطة سوداء، كأنه العصفور في عماية السماء المطبقة الدجن، ومع الليل ثارت الرياح وصارت تصفر تحت العقود، وتزأر بين رءوس الأشجار في الوادي تحت البلدة.
وأغذ دنيس ده بولييه السير، وما لبث أن بلغ بيت صاحبه وقرع بابه وكانت نيته ألا يطيل المكث وأن يبكر في الأوبة، ولكنه وجد من الحفاوة والأنس والإكرام ما أذهله عن الوقت فتقضى من الليل أكثر من نصفه قبل أن يودع صاحبه على عتبة بيته، وكانت الريح قد سكنت في خلال ذلك، ولكن الليل كان أحلك من القبر، فلا نجم يومض، ولا سنا قمر يبدو من خلال السحاب المتبسط. ولم يكن دنيس خبيرا بمداخل الطرق ومخارجها في «شاتو لاندون.» حتى في النهار كان يجد عناء في سلوك هذه الطرق الألغاز
2
فضل في هذا الظلام الطاغي. على أنه كان على يقين من شيء واحد، هو أن سبيله أن يصعد في الجبل، فقد كان بيت صديقه في الجانب المتطامن من «شاتو لاندون» أما الخان فكان في رأس الجبل، وفي ظل الكنيسة الكبيرة. فمضى - ولا هادي له إلا علمه هذا - يتعثر ويتحسس طريقه، فتخلص أنفاسه تارة في المواضع الرحيبة التي تتسع فوقها رقعة السماء، وتارة أخرى يمشي وراحته على الحائط في المضايق الخانقة. وإنه لمن بواعث الرعب والخشية أن يغرق المرء على هذا النحو في لجة صماء من السواد في مدينة مجهولة، فإن السكون يكون منطويا على احتمالات مرعبة، وتلمس اليد المتحسسة قضبان الشباك الباردة فكأنما لمست ثعبانا من ثعابين الماء. وتتعثر الرجل من قلة استواء الطريق فيثب القلب إلى الفم، ويكثف الظلام في موضع فيكون هذا نذيرا بكمين ، أو مدعاة للخوف من الوقوع في فجوة أو حفيرة، وإذا كان الهواء أصفى والسواد أخف، اتخذت المساكن مظاهر غريبة محيرة كأنما تتعمد أن تزيد المرء ضلالا. وكان على دنيس أن يعود إلى الخان من غير أن يلفت إليه الأنظار، وكان معرضا لخطر جدي فضلا عما يعانيه من مشقات هذا السرى. فكان يمشي محاذرا مرهف الأذن ولكن في غير وجل، وكان يتمهل عند كل زاوية ومنعطف ليتسمع وينفض الطريق.
وقضى وقتا ما، يخترق زقاقا بلغ من ضيقه أن وسعه أن يلمس الجدارين على الجانبين بيديه، وإذا بالزقاق يتفتح ويرحب وينحدر انحدارا شديدا صعبا. فلم يبق عنده شك في أن هذا ليس طريقه إلى الخان، غير أن الرغبة في شيء من النور والوضوح أغرته بالتقدم ليتبين. وكان الزقاق ينتهي بشرفة مسورة، كأنها وهي تطل من بين المنازل العالية على الوادي الغامض المظلم تحتها، المرقب في الحصن. وصوب دنيس لحظه إلى الوادي فتبين رءوس بضع أشجار تخفق، ونقطة مضيئة واحدة في حيث يجري ماء النهر عند السد. وكان الجو قد بدأ يصفو، والسماء تفصح، فبدا رحى السحاب ومستداره في حيثما كان أغلظ، وبانت خطوط الجبال. ورأى دنيس، على هذا الضوء الخافت، منزلا على يساره ينبغي أن يكون على حظ غير قليل من الفخامة، وكان على مستداره من أعاليه أبراج ومراقب وقد برزت من بنائه مؤخرة مستديرة لمعبد قائم على عمد ذات عقود. أما الباب فتحت طنف مشرف خارجا عنه وعليه نقوش بارزة ومن فوقه ميزابان طويلان. وكانت نوافذ المعبد يلتمع من خلال زخارفها المعقدة ضوء كأنه منبعث من شموع كثيرة فصارت العمد والسقف الناتئ أشد سوادا تحت السماء. وكان من الجلي أن هذا بيت أسرة كبيرة من أهل هذه الناحية، فتذكر دنيس بيتا له في بورج ووقف لحظة ينظر إليه ويقيس براعة المهندسين ومنزلتي الأسرتين.
ولم يبد له أن للشرفة منفذا غير الزقاق الذي وصل منه إليها، ولم يكن يسعه إلا أن يعود أدراجه من حيث جاء، ولكنه ألم بالمكان فصار في مرجوه أن يهتدي إلى الطريق الأعظم ليبلغ منه خانه. وكان لا يدور في خلده أن سيقع له من الحوادث في ليلته هذه ما يجعلها أبدا بالذكر بين عينه وقلبه طول حياته؛ ذلك أنه ما كاد يرجع نحو مائة ذراع حتى أبصر ضوءا مقبلا عليه وسمع أصواتا عالية في هذا الزقاق الذي تتجاوب فيه الأصداء. وكان القادمون نفرا من الحراس يعسون ومعهم المشاعل، ولم يخالج دنيس شك في أنهم قد ارتووا من النبيذ، وأنهم ليسوا بحيث يعبئون شيئا بالرخصة التي يحملها أو يحفلون بأحكام الفروسية وأصول النزال. ومن المحتمل أن يقتلوه كما يقتل الكلب. وأن يتركوه حيث يقع. وكان الموقف يثير النخوة، ويغري بالإقدام ولكنه يبعث على الاضطراب. وقد خطر له أن مشاعلهم خليقة أن تخفيه عن عيونهم، وأن وقع قدميه حقيق أن يغرق في لجة أصواتهم الفارغة. وإذا ساعفه الحظ فمضى مسرعا وفي سكون فقد يستطيع أن يفلت من غير أن يتنبهوا.
ولكن من سوء الحظ أنه وهو يدور ليتراجع صادفت قدمه حصاة فوقع على الحائط، وندت عنه صيحة ورن سيفه على الحجارة، فارتفع صوتان أو ثلاثة تطلب أن تعرف من هناك - بعضها بالفرنسية، والبعض بالإنجليزية - غير أن دنيس لم يجب، وذهب يعدو بأسرع ما يستطيع في الزقاق، حتى إذا بلغ الشرفة وقف ونظر وراءه، وكانوا لا يزالون يصيحون به، وضاعفوا سرعتهم في تعقبه ومطاردته، وكانت قعقعة السلاح، وهم يجرون، عالية، وجلبته عظيمة، والمشاعل تدفع إلى هنا، وههنا، في الزقاق الضيق.
فأجال دنيس لحظه فيما حوله، واندفع إلى ما تحت الطنف، وهناك قد يخطئونه فلا يرونه، أو إذا كان هذا أملا بعيدا، فهو في مكان ليس أصلح منه للحوار والدفاع، واطمأن إلى هذا فجرد سيفه وأسند ظهره على الباب. فما راعه إلا أن الباب انفتح وراءه، ومع أنه وقف في مدخله هنيهة إلا أن الباب ظل يضطرب على عقبه المزيت بلا صوت، ثم سكن، وبقي مفتوحا على المغيب وراءه في ظلمة الليل. والإنسان حين يسعفه الحظ بمنجى مما يتقيه لا يفكر في الأمر كيف كان، ولماذا كان، بل يعد راحته الشخصية، وإلحاح مطالبه التي لا تحتمل الإرجاء سببا كافيا لأغرب الغرائب وأعجب ما تحور إليه الأحوال ليستر ملجأه. ولم يكن أبعد من ذهنه، من أن يوصد الباب، ولكن الذي حدث هو أن الباب، لسبب خفي، عسى أن يكون زنبركا أو لزازا
3
أفلتت كتلته البلوطية من أصابعه وانغلق، وأحدث ضجة عظيمة وضوضاء كالتي يحدثها مزلاج يغلق ويفتح من تلقاء نفسه.
وكان العسس قد بلغوا الشرفة في هذه اللحظة، وراحوا يدعونه إليهم بالصيحات واللعنات. وكان هو يسمعهم يبحثون عنه في الأركان المظلمة، بل لقد اصطدمت صعدة رمح بالباب الذي يحتجب خلفه، غير أنهم كانوا سكارى فلم يطل تلكؤهم، وما عتموا أن انحدروا في طريق ملتو كالبزال لم يفطن إليه دنيس، ثم غابوا عن العين والسمع في المدينة.
فتنفس دنيس الصعداء، وترك دقائق تمضي تفاديا للحوادث، ثم ذهب يتحسس باحثا عن وسيلة لفتح الباب والخروج من حيث دخل. وكان سطحه أملس، فلا مقبض، ولا زخرفة، ولا نتوء من أي نوع، وقد أدخل أظافره فيما يلي إطار الباب وشد، ولكن الكتلة كانت رازحة لا تتقلقل. وهز الباب فألفاه أثبت وأمتن من الصخرة الصماء، فقطب وصفر صفيرا خافتا. وتعجب للباب ما خطبه يا ترى؟ لماذا كان مفتوحا؟ ثم كيف اتفق أن يوصد بمثل هذه السهولة والإحكام بعد دخوله؟ ولم يرتح دنيس إلى ما بدا له في هذا من الغموض والخفاء والخدعة، وخيل إليه أن هذا شرك، ولكن من الذي يخطر له أن ينصب شركا في زقاق هادئ كهذا، وبيت ظاهره له مثل هذه الوجاهة والأبهة، وعلى أنه سواء أكان هذا أم لم يكن شركا، وكان ما حدث قد حدث عفوا أو عمدا، فالواقع من الأمر أنه في فخ، وأنه لا يدري كيف يتسنى له النجاة منه. وثقلت وطأة الظلام عليه، فأرهف أذنه. وكان السكون تاما في الخارج، أما في الداخل وعلى مقربة منه، فخيل إليه أنه سمع تنهدا خافتا وشهيق باك، وحفيف ثوب، وحسيسا خفيفا كأنما دنا منه أشخاص، يحرصون على السكوت ويحبسون حتى أنفاسهم بحذق وإحكام. وأزعجه هذا الظن، فدار فجأة كأنما يريد أن يدافع عن حياته، فأبصر - لأول مرة - ضوءا بحيال عينيه، وعلى مسافة في داخل البيت خيطا أفقيا من النور يعرض في نهايته كأنه خارج من فرجة بين سترين مقرنين على باب. ووجد دنيس روحا وراحة في أن يرى شيئا ما، فقد كان كالذي يمشي في أرض سبخة نزازة فخرج منها إلى أرض صلبة، وتعلقت نفسه بهذا الضوء، بلهفة، ووقف شاخصا يحاول أن يضم أشتات ما يحيط به ويؤلف منه صورة يأنس بها العقل. وكان من الواضح أن هناك سلما يبدأ من الرقعة التي هو فيها ويرتقي إلى الباب الذي ينبعث منه الضوء، بل لقد كبر في وهمه أنه يرى شعاعا آخر من النور، دقيقا كالإبرة وخافتا كأنه من جسم مضيء بطبيعته، فمن الممكن أن ينعكس على الخشب المصقول للدرابزين. ولما كان يتوهم أنه ليس وحده فقد جعل قلبه يدق بعنف خانق، ومن أجل ذلك لجت به الرغبة في عمل شيء ما. واعتقد أنه مستهدف لخطر عظيم. وأن حياته مهددة، فمن الطبيعي أن تحدثه نفسه بالصعود على السلم، ورفع الستار أو تنحيته، ومواجهة ما عسى أن يكون وراءه، فيخرج بهذا مما هو فيه من الحيرة والقلق، وأقل ما في هذا من الجدوى أن يصبح أمام شيء محسوس وأن يخلص من الظلام والجهل. ومشى يخطو ببطء، ويداه ممدودتان أمامه حتى ضربت قدمه أولى درجات السلم، فارتقى فيه بسرعة، ثم وقف هنيهة يضبط أعصابه، ثم نحى الستر ودخل.
وألفى نفسه في حجرة كبيرة مصقولة الجدران، ولها ثلاثة أبواب، لكل حائط باب، وعلى الأبواب أستارها، أما الحائط الرابع ففيه نافذتان كبيرتان وموقد من الحجر نقش عليها شعار «آل مالتروا.» وعرف دنيس الشعار وسره أنه في بيت قوم من ذوي المحتد والأرومة الكريمة، وكان الضوء في الحجرة قويا، ولم يكن فيها من الأثاث والمتاع سوى مائدة ثقيلة وكرسي أو كرسيين. ولم يكن في الموقد نار، وكان على البلاط قليل من القش، من الواضح أنه ألقي منذ بضعة أيام.
ورأى دنيس أمامه، وهو يدخل، رجلا هرما ضيئل الجسم متلفعا بالفرو على كرسي عال بجانب الموقد، وكانت إحدى ساقيه على الأخرى وإحدى يديه على الأخرى في حجره، وعلى صفة للجدار، قريبا من كوعه، كأس من النبيذ، أما وجهه فكانت معارفه كأنها مصبوبة في قالب حاد يطالعك منه، لا ما تراه في محيا آدمي، بل ما يطالعك من وجه ثور أو جدي، أو خنزير أليف، وتقرأ فيه معاني الخب، والغدر، والنهم، والقسوة، والفتك. وكانت الشفة العليا غليظة جدا، كأن بها ورما من ضربة أو وجع في الأسنان، وكانت ابتسامته وحاجباه المحددان، وعيناه الضيقتان القويتان، ناطقة بالشر. وكان شعره الأبيض الجميل يسيل فينسدل حول رأسه، كشعر القديس ويلتوي عند التقائه بالفرو، وكانت لحيته وشارباه تكسبه جلالا وتفيض على محياه عذوبة ملطفة، ولم تترك الشيخوخة على راحتيه أثرا، وعسى أن يكون ذلك من الدقة في تحري القصد، والتزام الاعتدال في المعيشة. وكانت «يد» آل مالتروا مشهورة، ومن العسير أن يتصور المرء كفا كثيرة اللحم ودقيقة الخلق في آن معا، كهذه. وقد كانت الأصابع الطرية تنتهي بأنامل كرأس الشمعة فكأنها أصابع امرأة مما صور ليوناردو، وكان الإبهام حين ينطوي تبرز عظمته جدا، والأظافر بارعة الشكل وشديدة البياض، وقد زاد في جلال منظره وعمق وقعه في النفس أن تكون له هاتان الكفان وأن يريح إحداهما على الأخرى في حجره، كأنه ضحية بكر، وأن يكون لمحياه هذا التعبير الحاد المزعج، ويجلس صامتا يتأمل الناس بعين لا تطرف كأنه رب من الأرباب أو تمثاله. وكان سكوته هذا يبدو كأنه من السخر والغدر، فما يلائم ما ينطق به وجهه.
وكان هذا هو «ألين» كبير آل مالتروا.
ومضت ثانية أو اثنتان، وكل من الرجلين يرشق الآخر بلحظه.
ثم قال السيد مالتروا: «تفضل بالدخول. لقد كنت أنتظر مقدمك طول هذا المساء.»
ولم ينهض وهو يدعوه، ولكنه شفع دعوته بابتسامة، وحنى رأسه قليلا على سبيل التلطف. فشعر دنيس بقشعريرة قوية من المقت والتقزز تسري في عظامه، وكان هذا وقع الابتسامة وفعل تمتمة غريبة مهد بها الرجل لكلامه. وقد كاد دنيس، لما عراه من اضطراب الذهن، وما جاشت به نفسه من بغض الرجل، لا يجد كلاما يقوله في جواب ما سمع.
ثم وجد لسانه فقال: «أظن أن خطأ مزدوجا قد وقع، فإني لست من تتوهمني. ويظهر أنك كنت ترتقب زائرا، ولكني أؤكد لك أن هذا التطفل مني لم يكن يجري لي في خاطر، ولا كانت تدفعني إليه رغبة.»
فقال الرجل بلهجة المتسامح: «حسن. حسن. هذا أنت هنا، وهذا هو المهم. اقعد يا صاحبي، واسترح. وسنرتب ما بيننا من الأمور التافهة حالا.»
ورأى دنيس أن الغلط لا يزال يعقد الأمر فأراد أن يمضي في بيانه وقال: «إن بابك ...»
فرفع الرجل حاجبيه المحددين وقال: «بابي؟ إنه آية صغيرة من آيات الذكاء والبراعة.» وهز كتفيه «هوى لي في الكرم! وقد قلت إنك لم تكن راغبا في لقائي ومعرفتي. ونحن الشيوخ نعرف هذا الزهد فينا والعزوف عنا أحيانا، وإذا مس ذلك شرفنا التمسنا وجوه الحيلة للتغلب عليه. لقد جئت غير مدعو، ولكن صدقني حين أقول إني أرحب بك.»
فقال دنيس: «إنك تلج في الخطأ يا سيدي، فما ثم أي شأن بيني وبينك وإني لغريب في هذه البلدة. واسمي دنيس ده بولييه. وإذا كنت تراني الآن في بيتك فذاك ...»
فقاطعه الرجل: «يا صاحبي أرجو أن تسمح لي برأيي في هذا الموضوع وأحسبه يخالف رأيك في اللحظة الحاضرة» ثم أضاف بضحكة: «وستظهر الأيام أينا كان المصيب وأينا المخطئ.»
فأيقن دنيس أن هذا الرجل مخبول ملتاث العقل، وهز كتفيه وقعد، وقد راض نفسه على الصبر حتى يرى ختام الأمر. وتلت ذلك فترة صمت خيل إليه في أثنائها أنه سمع همهمة كهمهمة الصلاة وراء الستر المقابل له. وكانت حرارة الصوت على الرغم من خفوضه تشي بالعجلة الشديدة أو الألم الوجيع. وخطر له أن هذا الستر يحجب مدخل المعبد الذي رآه من الزقاق.
وكان الرجل في أثناء ذلك يلحظ دنيس ويقيسه من رأسه إلى قدمه، وهو يبتسم، وكان من حين إلى حين يخرج أصواتا كأصوات الطير أو الجرذان تدل على الرضى والارتياح. وصارت الحالة بسرعة مما لا يطاق، وأراد دنيس أن يضع حدا لها فقال بتلطف: إن الرياح قد سكنت.
فعرت الرجل نوبة من الضحك الصامت، طالت واشتدت حتى لقد اتقد منها وجهه. فوثب دنيس إلى قدميه ووضع قبعته على رأسه ملوحا بها وقال: «سيدي، إذا كان عقلك في رأسك فإنك تكون قد امتهنتني جدا، وإذا كان عقلك عازبا عنك فإني أحسب أن في وسعي أن أجد شيئا آخر أشغل به نفسي غير الكلام مع المجانين. إن ضميري مرتاح. وقد هزئت بي من أول لحظة، ورفضت أن تصغي إلى بياني وإيضاحي، فالآن لا توجد قوة غير قوة الله تضطرني أن أبقى هنا، وإذا لم أستطع أن أخرج على نحو آخر يكون أكرم وأمثل، فسأقطع بابك وأحطمه بسيفي.» فرفع الرجل يمناه لدنيس وحركها وكانت السبابة والخنصر والبنصر ممدودة دون البقية.
وقال: «اجلس يا ابن أخي العزيز.»
فصاح دنيس: «ابن أخيك؟ إنك كاذب.» وفرقع أصابعه في وجهه.
فصاح به الرجل بصوت حاد كنباح الكلب: «اجلس أيها الوغد! أتظن أني لما نصبت هذا الباب، اجتزأت به واقتصرت عليه؟ إذا كنت تفضل أن تقيد يداك ورجلاك حتى تشتكي عظامك التوصيم فانهض وحاول أن تخرج! أما إذا كنت تؤثر أن تظل حرا وأن تحادث شيخا كبيرا فاقعد حيث أنت في سلام، وليكن الله معك!»
فسأله دنيس: «أتعني أني هنا سجين؟»
فقال الرجل: «إنما أسرد الحقائق. وأرى أن أترك لك أن تستخلص مدلولها.»
فقعد دنيس مرة أخرى، وحاول أن يكون في الظاهر هادئا ساكن الطائر أما باطنه فقد كان جائشا، فتارة تفور نقمته وحنقه، وتارة أخرى تشيع في بدنه رعدة من الحذر. وتزعزع يقينه بأنه يخاطب مجنونا. ولكن إذا كان الرجل سليم العقل، فماذا يتوقع؟ وما هذه الحادثة الفاجعة أو السخيفة التي وقعت له؟ وبماذا ينبغي له أن يواجه الموقف؟
وبينما كان يفكر في هذا غير مسرور به أو مرتاح إليه، رفع السجف المرخى على باب المعبد ودخل قسيس طويل القامة عليه مسوح الكهنة، ورمى دنيس بنظرة طويلة حادة ثم قال شيئا بصوت خفيض للشيخ.
فسأله هذا: «أوصارت أسلس وألين؟»
فقال القسيس: «إنها أكثر استسلاما.»
فقال الشيخ متهكما: «كان الله في عونها فإن مرضاتها عسيرة. شاب وجيه وسيم، وليس بوضيع الأصل، فماذا تبغي الفاجرة أكثر من هذا؟»
فقال القسيس: «إن الموقف غير مألوف، ومخجل لفتاة خفرة.»
فقال الشيخ: «كان عليها أن تتدبر هذا وتنظر في العواقب قبل أن تقدم على هذه الرقصة! وما كنت أنا الذي اختار لها هذا علم الله. ولكن لما كانت قد دخلت في هذا، فوحق العذراء لتمضين في الأمر إلى ختامه.»
ثم التفت إلى دنيس وقال يخاطبه: «هل لي أن أقدمك إلى ابنة أخي يا سيد ده بولييه؟ لقد كانت تنتظر قدومك بصبر أنفد من صبري.»
وكان دنيس قد أسلم أمره لقضاء الحظ فيه، فكل ما كان يبتغي هو أن يعرف آخر الأمر بأسرع ما يستطاع. ولهذا نهض من توته وانحنى موافقا. واحتذى كبير آل مالتروا مثاله وسار يعرج متكئا على ذراع القسيس، إلى باب المعبد، فنحى القسيس السجف، ودخل الثلاثة. وكان المكان على حظ وافر من جمال الهندسة وبراعتها. وكان عقد القبة محمولا على ستة عمد متينة، وقد تدلى مصباحان في حفل من الزينة. وكان المعبد في نهايته - وراء الهيكل - مستديرا مفرط الزخرف، وله نوافذ صغيرة على صور النجوم وأوراق الشجر والعجلات، ولم يكن زجاج النوافذ سليما كله، فكان هواء الليل يتخلل المكان، وكانت الشموع المضاءة على الهيكل لا تقل عن خمسين، وكان الهواء ينفخها بلا رحمة، فينتقل النور من السفر والالتماع إلى ما يشبه الكسوف. وكانت هناك فتاة في ثياب عرس تركع على درجة أمام الهيكل. فأحس دنيس بالبرد في بدنه لما رأى ثيابها، وجاهد مجاهدة اليائس أن ينفي الخاطر الذي يأبى إلا أن يدور في نفسه. فما يمكن أن يكون الأمر كما يخشى، ولا ينبغي أن يحدث هذا.
وقال الشيخ بأعذب أصواته: «بلانش! لقد جئت بصديق ليراك يا فتاتي الصغيرة. فأولنا وجهك ومدي إليه يدك الجميلة. حسن أن يكون المرء ورعا تقيا ولكن من الواجب أن يكون مهذبا مؤدبا يا ابنة الأخ.»
فنهضت الفتاة إلى قدميها ودارت فواجهت القادمين. وكان جسمها يتحرك كله معا. وكان الخجل والإعياء باديين على كل خط من خطوط جسمها البض الصابح، وكانت مطرقة، وعينها على الأرض وهي تخطو على مهل، وأبصرت - وهي تتقدم - رجلي دنيس، وكان فخورا بقدميه بحق، وشديد العناية برشاقة حذائيه حتى حين يكون على سفر، فوقفت - انتفضت كأنما كان حذاءاه الأصفران قد أوحيا إليها بمعنى مفزع - ورفعت عينها بغتة إلى وجه دنيس. فالتقت عيونهما، فحل الجزع والفزع في عينيها محل الخجل، واصفرت شفتاها، وندت عن صدرها صرخة عالية وغطت وجهها بيديها وهوت إلى الأرض.
وصاحت: «هذا رجل آخر، يا عمي، هذا رجل آخر.»
فقال الشيخ بلهجة الراضي: «بالطبع لا ... لقد كنت أتوقع هذا ... من سوء الحظ أنك لم تستطيعي أن تتذكري اسمه.»
فعادت تصيح: «صدقني. صدقني. ما رأيت قط وجه هذا الرجل إلا الساعة - لم تقع عيني عليه من قبل - ولست أريد أن أراه مرة أخرى.»
والتفتت إلى دنيس وقالت: «سيدي. إذا كنت رجلا شريفا فليس يسعك إلا أن تشهد لي، فهل رأيتك قط؟ هل رأيتني قط؟ قبل هذه الساعة المشئومة!»
فقال دنيس: «أما عن نفسي فأقول إنه لم يكتب لي هذا الشرف من قبل. وهذه أول مرة يا سيدي التقيت فيها بابنة أخيك الجميلة.»
فهز الشيخ كتفيه وقال: «يحزنني أن أسمع هذا. ولكن الابتداء لا يضيع وقته ولا تذهب فرصته مهما تأخر. وما كانت معرفتي بزوجتي التي توفيت أوثق من معرفتكما - قبل زواجنا - وهذا يثبت أن الزواج المرتجل كثيرا ما يسفر عن تفاهم بديع على العموم. ولما كان الزوج يجب أن يكون له رأي في الموضوع، فسأدعه ساعتين ليعوض ما فات من الوقت قبل أن نمضي بالمراسم إلى غايتها.»
واتجه إلى الباب والقسيس وراءه.
فنهضت الفتاة على قدميها بسرعة وصاحت : «عمي! لا يمكن أن تكون جادا. إني أقسم أمام الله أني أوثر أن أقتل نفسي على أن أرمى على هذا الرجل؛ إن النفس تثور على هذا. الله يحرم مثل هذا الزواج، وأنت تلوث شعرك الأبيض، وتجر عليه العار. عمي! ارحمني. ما من امرأة في العالم إلا وهي تفضل الموت على مثل هذا الزواج. هل من الممكن (باضطراب وتردد) هل من الممكن أن لا تصدقني ... هل يمكن أن تظل تعتقد (وأشارت إلى دنيس وهي ترعد من الغضب والاحتقار) أن تظل تعتقد أن «هذا» هو الرجل؟»
فقال الشيخ وهو واقف على العتبة: «أقول لك الحق. نعم، ولكن دعيني أبين لك، يا بلانش ده مالتروا، أسلوب تفكيري في هذا الموضوع. لما نزا بك الطيش، فلوثت كرامة أسرتي والاسم الذي أحمله في السلم والحرب منذ ستين سنة، أسقطت بذلك حقك في مجادلتك فيما أصنع، بل في أن تنظري إلى وجهي. ولو كان أبوك حيا لبصق عليك وطردك. فقد كانت يده من حديد ومن واجبك أن تشكري الله لأن يدي من المخمل يا آنسة! لقد كان واجبي أن أزوجك بلا تلكؤ، ودفعني طيب القلب وحسن النية فبحثت لك عن حبيبك وأعتقد أني وفقت. وأقسم بالله وملائكته أني لا أعبأ شيئا إذا كنت لم أوفق يا بلانش ده مالتروا. لهذا أنصح لك بأن تكوني مؤدبة مع صاحبنا الشاب. إذ من يدري!؟ قد يكون الذي يليه أقل لياقة!»
وخرج، والقسيس في أثره. وانسدل الستر عليهما.
وواجهت الفتاة دنيس بعينين تقدحان شررا وسألته: «ماذا يمكن أن يكون معنى هذا يا سيدي؟»
فقال دنيس باكتئاب: «الله وحده هو العليم، إني سجين في هذا البيت الغاص بالمجانين على ما يظهر. ولست أعرف أكثر من هذا ولا أنا فاهم شيئا.»
فسألته: «وكيف جئت إلى هنا، من فضلك؟»
فأخبرها بأوجز ما يستطيع ثم قال: «وقد يكون الأصوب أن تحتذي مثالي وتحلي لي هذه الألغاز، وتقولي لي ما آخر هذا؟»
فوقفت برهة وهي صامتة، وكان دنيس يرى شفتيها ترتجفان، وعينها التي جمدت فيها الدموع، تتقد وتومض بنار الحمى، ثم أراحت جبينها على كفيها وقالت بفتور وتعب: - «وا أسفاه! لشد ما يوجعني رأسي! بله قلبي! ولكن من حقك أن تعرف قصتي وإن كانت تبدو غير لائقة. اسمي بلانش ده مالترو. وأنا يتيمة - لا أم ولا أب - منذ - أوه ... مذ صرت أعرف شيئا. وكنت، وما زلت، شقية طول عمري. ومنذ ثلاثة شهور، بدأ ضابط شاب يقف إلى جانبي كل يوم في الكنيسة. وتبينت أنه يحبني. وإني لملومة، ولكنه سرني أن أجد إنسانا يحبني. ودس في يدي رقعة، فحملتها معي إلى البيت وقرأتها وأنا فرحة. وقد كتب إلي رقعا كثيرة بعد ذلك. وكان يتلهف على محادثتي - مسكين - وجعل يلح علي أن أدع الباب مفتوحا في بعض الليالي لنتبادل كلمتين على درج السلم، فقد كان يعرف مبلغ ثقة عمي بي.»
وشهقت وهي تقول ذلك، ولم تستطع أن تستأنف الكلام إلا بعد لحظة. «وعمي رجل قاس. ولكنه ذكي حاذق. وقد أبلى بلاء حسنا في الحروب وكان ذا حظوة ومقام في بلاط الملك، وكانت الملكة إيزابو تثق به في الأيام السالفة. ولا أدري كيف استراب بي وشك في أمري، غير أن من الصعب أن يخفي الإنسان عنه شيئا. وفي الصباح، ونحن عائدون من صلاتنا وضع يدي في يده، وأكرهني على فتحها، وقرأ الرقعة التي كتبها الضابط. وكان يقرأ وهو يمشي، ولما أتم القراءة ردها إلي بلطف. وكان الرقعة رجاء جديدا أن أدع الباب مفتوحا. فكان في هذا خرابنا جميعا. فقد أبقاني عمي في غرفتي وحرص على أن لا أبرحها حتى دخل الليل ثم أمرني أن ألبس هذه الثياب التي تراها علي - فيا لها من سخرية بفتاة مثلي! أليس هذا رأيك؟ وأحسبه لما عجز عن حملي على الإفضاء باسم الضابط، نصب هذا الفخ له، فوقعت أنت فيه، ويا للأسف! وقد توقعت ارتباكا كثيرا إذ من أدراني أنه يقبل أن يتخذني زوجة بهذه الشروط؟ ولعله كان يلهو غير جاد من أول الأمر، وعسى أن أكون أرخصت نفسي في عينه. ولكني لم أكن أتوقع مثل هذه العقوبة الفاضحة! ولم يكن يخطر لي أن الله يأذن أن يعصب رأس فتاة بالعار على هذا النحو أمام شاب. والآن انتهت قصتي. ولست أجرؤ أن أرجو ألا تحتقرني.»
فانحنى لها دنيس احتراما وقال: «سيدتي. لقد شرفتني بثقتك بي ومصارحتك لي، وقد بقي علي أن أثبت لك أني لست غير أهل لهذا الشرف. فهل السيد ده مالتروا قريب من هنا؟»
قالت «أظنه ينتظر في الحجرة الأخرى.»
فسألها دنيس وهو يعرض عليها ذراعه بأقصى ما يسعه من التلطف: «هل تسمحين لي أن أمضي بك إليه؟»
فقبلت، فخرجا من المعبد؛ بلانش مكتئبة خجلة، ودنيس يخطر وهو معتز بغايته وثقته الصبيانية بقدرته على تحقيقها وسلامة شرفه بذلك.
ونهض السيد ده مالتروا لاستقبالهما، وانحنى لهما ساخرا.
وقال دنيس بأقصى ما يسعه من الشموخ: «سيدي. إني أعتقد أنه سمح لي بإبداء رأي في هذا الزواج، فلأقل بلا تلكؤ، إني لن أكون شريكا في إرغام هذه السيدة. ولو أن الأمر عرض علي، بغير إكراه، لكان من دواعي الشرف لي أن أقبل يدها. فإنها لنبيلة بقدر ما هي جميلة، فأما والأمر كما هو فإن لي الشرف يا سيدي أن أرفض.»
فنظرت إليه بلانش شاكرة، أما الشيخ فابتسم، وظل يبتسم حتى صارت ابتسامته تغثي نفس دنيس.
وقال الشيخ: «أعتقد يا سيد ده بولييه أنك لا تدرك حق الإدراك ما أعرضه عليك من الخيار. فأرجو أن تتبعني إلى هذه النافذة.» ومضى أمامه إلى إحدى النوافذ الكبيرة المفتوحة على ظلام الليل وقال: «ترى أن في البناء من فوق حلقة من الحديد، فيها حبل متين. والآن أصغ إلي: إذا وجدت أن زهدك في ابنة أخي لا يغالب ولا يفتر، فسأشنقك بهذا قبل طلوع الشمس. ولن أفعل ذلك حين أضطر إليه إلا وأنا شديد الأسف، لو صدقت، فليس موتك طلبتي، وإنما مبتغاي كفالة المستقبل لابنة أخي. ولكنه لا حيلة لي سوى هذا إذا عاندت. إن أسرتك يا سيدي ده بولييه كريمة، ولكن لو أنك كنت من نسل شرلمان، لما كان لك أن ترفض يد سيدة من آل مالتروا وأنت آمن - حتى ولو كانت مبتذلة كطريق باريس - حتى ولو كانت دميمة كالميزاب الذي على بابي. وليس لابنة أخي، ولا لك، ولا لإحساسي الخاص، شأن أو دخل في هذا الموضوع، وإنما تعرض شرف بيتي لما يخدشه. وإني أعتقد أنك الذي اجترح هذا الإثم، وأنت على الأقل أصبحت عارفا بالسر ومطلعا عليه، فليس لك أن تتعجب إذا طلبت منك أن تمحو هذه الوصمة، وإذا لم تفعل فإن دمك يكون على رأسك، وتكون أنت الجاني على نفسك. ولن يكون من بواعث اغتباطي أن أرى جثمانك يضطرب في الهواء، تحت نوافذي. ولكن نصف الرغيف خير من لا خبز، وإذا لم يسعني أن أمحو الوصمة فسأخنق على الأقل، الفضيحة.»
وكان صمت.
ثم قال دنيس: «أعتقد أن هناك طرقا أخرى لفض النزاع بين الرجال ذوي الشرف والكرامة. وإن معك لسيفا وقد سمعت أنك استعملته بحذق.»
فأومأ سيد ده مالتروا إلى القسيس فقطع أرض الحجرة بخطى واسعة صامتة ونحى السجف عن ثالث الأبواب، وبعد هنيهة أرخاه كما كان، ولكن دنيس وسعه أن يرى أن الدهليز المظلم غاص بالرجال المدججين بالسلاح.
وقال سيد ده مالتروا: «لما كنت أصغر قليلا، كان يسرني أن أشرفك يا سيد ده بولييه ولكني الآن أسن من أن أفعل ذلك. والأتباع الأوفياء هم عضلات الشيخوخة وزنودهم، ولا معدى لي عن استعمال ما لدي من قوة. وهذا من أشق ما يضطر المرء إلى احتماله كلما علت به السن، ولكن بقليل من الصبر يصبح الأمر عادة. وأنت وابنة أخي تفضلان على ما يظهر أن تقضيا في هذه الحجرة ما بقي لكما من الساعتين المضروبتين أجلا، ولست أحب أن أعترض لكما طريق رغبة، لذلك أخلي لكما الحجرة مسرورا!»
ورأى نظرة خطرة في عيني دنيس فرفع يده زاجرا وقال: «لا تتسرع! إذا كانت نفسك تثور على الشنق فإنه لا يزال أمامك ساعتان تلقي بعدهما نفسك من النافذة، أو تلقيها على حراب أتباعي. والساعتان من العمر هما دائما ساعتان ، وقد يحدث كثيرا مما ليس في الحسبان حتى في مسافة وجيزة من الزمن كهذه. وإذا كانت فراستي لم تخني، فإنه يبدو لي أن ابنة أخي تريد أن تحدثك بشيء ولا أحسبك ترضى أن تشوه ما بقي لك من العمر بسوء الأدب مع سيدة!»
فنظر دنيس إلى بلانش، فأومأت إليه متوسلة ضارعة.
ويظهر أن الشيخ الهرم سره جدا هذا الفهم، فقد ابتسم لهما وقال بلهجة لينة: «إذا بذلت لي وعدا بشرفك يا سيدي بولييه أن تنتظر عودتي عند انقضاء الساعتين، قبل أن تخاطر بشيء، فإني مستعد أن أصرف أتباعي وأن أدعك تتكلم مع الآنسة وأنت آمن أن يسمعك أحد.»
فنظر دنيس مرة أخرى إلى الفتاة، فألفاها تتوسل إليه بعينها أن يقبل.
فقال: «أعدك بشرفي.»
فانحنى السيد ده مالتروا ومضى يظلع على أرض الغرفة ويتنحنح ويخرج تلك الأصوات التي استك منها مسمع دنيس. وتناول أولا أوراقا كانت ملقاة على المائدة ثم قصد إلى مدخل الدهليز وأمر الذين وراء الستر بشيء، ثم خرج من الباب الذي دخل منه دنيس، بعد أن وقف على العتبة ليلقي ابتسامة أخيرة إليهما، وتبعه القسيس وفي يده مصباح.
فلما صارا وحدهما دنت بلانش من دنيس ويداها ممدودتان، وكان وجهها مضطرما، وعيناها تلمع فيهما العبرات.
وقالت: «لن تموت. يجب أن تتزوجني.»
فقال دنيس: «يظهر يا سيدتي أنك تحسبين أني أخاف الموت.»
فقالت: «لا لا لا ... فإني أرى أنك لست بالجبان. وإنما أدعوك إلى هذا من أجلي أنا، فما أطيق أن أدعك تذبح لهذا.»
فقال دنيس: «أظن يا سيدتي أنك تبالغين في الاستخفاف بالصعوبة، فإن ما تكونين أنت أكرم من أن ترفضيه، قد أكون أنا أشد كبرا من أن أقبله. وإنك ليغمرك الآن شعور كريم، فأنت تنسين ما أنت به مدينة لآخرين.»
وكان كيسا فكانت عينه على الأرض وهو يقول ذلك، وظل كذلك بعد أن فرغ من الكلام، حتى لا يرى اضطرابها. وبقيت هي صامتة لحظة ثم مضت عنه وهوت على كرسي عمها وانفجرت تبكي وتنتحب، فبلغ الاضطراب والارتباك بدنيس غايتهما، وتلفت كأنما يستلهم ما حوله، ورأى مقعدا فهوى عليه، فقد كان لا بد له أن يصنع شيئا. وهكذا جلس يعبث بمقبض سيفه. ويتمنى لو أنه كان قد مات ألف ميتة ودفن في أقذر مزبلة في فرنسا! وكانت عينه تدور في الحجرة، ولكن لحظه لم يستوقفه شيء، وكانت المسافات بعيدة بين قطع الأثاث والضوء يقع منحرفا على كل شيء وهواء الليل خارج الغرفة يدخل من نافذتها باردا، فخيل إليه أنه لم ير أرحب من هذه الكنيسة، ولا قبرا أسود وأقتم من هذا. وكانت شهقات بلانش ده مالتروا منتظمة كدقات الساعة. وقرأ دنيس الشعار الذي على الترس مرة أخرى. وثانية، وثالثة، حتى زاغ بصره، وحدق في الأركان المعتمة حتى بدت له كأن هواما فظيعة تسرح فيها وتمرح. وكان من حين إلى حين، يتنبه فزعا فيتذكر أن الساعتين تنقضيان، وأن الموت يزحف. وكثر، مع كر الوقت، لحظانه الفتاة نفسها. وكانت مطرقة، ويداها على وجهها، وكان شهاق الحزن يهزها آنا بعد آن. ولكن هذا لم يفقدها جمالها، ولم يجعل العين أقل استراحة إلى النظر إلى بضاضتها وحسنها، وسمرة بشرتها الحارة، وإلى أجمل ما رأت عين دنيس من الشعر في عالم النساء. وكانت يداها كيدي عمها، ولكنهما كانتا أليق بذراعيها الطويلين وأنطق بالرقة والحنو. وتذكر كيف كانت عيناها الزرقاوان تومضان وهي تنظر بهما إليه، وفيهما الغضب والعطف والطهر. وصار كلما أوسع محاسنها نظرا وتأملها ازداد نفورا من الموت وزهدا فيه، وندما وأسفا لأنه يطيل بكاءها. وكان يحس تارة أنه ما من إنسان تؤاتيه الشجاعة فيترك دنيا فيها مثل هذا الجمال، وتارة أخرى يود لو أن أربعين دقيقة انتقصت من ساعته الأخيرة، وأنه لم يقل لها ما قال.
وصافحت مسامعها فجأة صيحة ديك من الوادي المظلم تحت النافذة، فكانت هذه الضوضاء التي مزقت حجاب السكون كالنور ينبثق في الظلمة، فهزهما ذلك وردهما عما كان يستغرقهما من الفكر.
وقالت وهي ترفع إليه وجهها: «وا اسفاه! أما من شيء أستطيع أن أساعدك به؟»
فقال بلا مناسبة من كلامها: «سيدتي، إذا كان فيما قلته، ما جرحك فثقي أنه كان من أجلك، وفي سبيلك، لا من أجلي.»
فشكرته بعين مغرورقة بالدموع.
ومضى في كلامه فقال: «إني أدرك أوجع إدراك ما في مركزك من الحرج. لقد قست عليك الدنيا قسوة مرة. وإن عمك لوصمة لبني الإنسان. وصدقيني يا سيدتي، حين أقول إنه ما من شاب في فرنسا إلا وهو يرحب بفرصتي، ويسره أن يموت ليؤدي لك خدمة وقتية.»
فقالت: «إني أعرف أن في وسعك أن تكون شجاعا كريما. والذي أريد أن أعرفه هو هل أستطيع أن أخدمك، الآن أو فيما بعده.» وارتعش صوتها وهي تنطق بالكلمات الأخيرة.
فأجابها بابتسام: «على التحقيق. ودعيني أقعد إلى جانبك كما يفعل الصديق، وكأني لست ذلك المتطفل الأحمق. ولتنسي ما ينطوي عليه موقفنا - بعضنا حيال بعض - من الحرج. دعي لحظاتي الأخيرة تمر حميدة. وبهذا تؤدين لي خير خدمة ممكنة.»
فقالت بصوت ينم على ازدياد حزنها: «إنك شهم باسل ... شهم جدا ... وهذا يؤلمني لسبب ما ... ولكن ادن مني من فضلك وإذا وجدت كلاما تقوله لي فإن في وسعك على الأقل أن تكون على يقين من ود المصغي إليك. آه يا سيد ده بولييه! كيف أقوى على النظر إلى وجهك؟»
وعادت تنتحب مرة أخرى وتبكي بأربع.
فتناول دنيس يدها وجعلها بين يديه وقال: «سيدتي، فكري في الوقت القصير الباقي لي، وفي الألم المر الذي يحدثه لي حزنك. أعفني في لحظاتي الأخيرة من رؤية ما لا أستطيع أن أداوي حتى ببذل حياتي.»
فقالت بلانش: «إني شديدة الأنانية. ولكني سأتشجع يا سيد ده بولييه من أجلك، ولكن فكر فيما أستطيع أن أصنعه في سبيلك في المستقبل، أليس لك إخوان أحمل إليهم وداعك؟ احمل علي بما تشاء! كلفني كل ما يخطر لك، فإن كل عبء سيخفف قليلا ألم ما أنا مدينة به لك. اجعل في وسعي أن أصنع شيئا من أجلك أكثر من البكاء.»
فقال دنيس: «لقد تزوجت أمي ثانية، ولها أسرة صغيرة تعنى بها، وسيرث أخي جيشار إقطاعاتي، وإذا كنت غير مخطئ فسيعزيه هذا كثيرا عن موتي. إن الحياة أنفاس تذهب على ما يقول لنا رجال الدين. والمرء حين يكون على منهاج السعادة، وتتفتح أبواب الحياة أمامه، يتوهم أنه شيء عظيم الخطر في الدنيا. حصانه يصهل له، والنفير ينفخ، فتطل الغانيات من النوافذ لتراه وهو يتقدم فرقته، ويتلقى مواثيق عديدة، بعضها بالبريد، كتابة، وبعضها باللسان، والعين في العين، ويهوى على عنقه الرجال ذوو المنازل الملحوظة، ثم يموت، فما أسرع ما ينسى ولو كان أشجع من هرقل وأحكم من سليمان. منذ أقل من عشر سنوات قتل أبي في معركة عنيفة وقتل معه كثيرون من الفرسان ولست أظن اسم أحد منهم، أو حتى اسم الواقعة، يذكر الآن! لا لا لا، يا سيدتي كلما اقترب المرء من الموت ألفى أنه ركن مظلم معفر، يدخل منه الرجل إلى قبره ويوصد عليه الباب إلى يوم الحساب. وإن أصدقائي الآن قليلون، وبعد أن أموت لا يكون لي صديق.»
فقالت: «آه يا سيد ده بولييه، إنك ينسى بلانش ده مالتروا.»
فقال: «إن أخلاقك كريمة يا سيدتي، وقد شئت أن تبالغي في قيمة عمل صغير.»
فقالت: «ليس هذا ما أعني. وإنك لتخطئ إذا كنت تظن أني متأثرة بما يعنيني. إنما أقول ذلك لأنك أنبل وأشرف رجل رأيته، لأني أرى لك روحا لو حلت في بدن واحد من حثالة الناس لرفعته وجعلت له شأنا في الأرض.»
قال: «ومع ذلك هذا أنا أقضي نحبي في مصيدة جرذان، بلا ضجة أكثر من صيحاتي.»
فبان في محياها الألم، وسكتت لحظة، ثم أضاءت عينها، وقالت بابتسام: «لا أستطيع أن أسمح لفارسي أن يحقر نفسه ويسخر منها. إن كل من يبذل حياته فداء لحياة أخرى، تستقبله في الجنة ملائكة الله بالترحيب. ومع ذلك لا داعي لأن تشنق إذ ... إذ ... من فضلك أتراني جميلة؟»
واصطبغ وجهها بالدم القاني.
فقال: «إنك يا سيدتي جميلة حقا.»
فقالت من قلبها: «إني فرحة بهذا. فهل تظن أن في فرنسا كثيرين من الرجال خطبتهم لنفسها عذراء جميلة؛ بلسانها، فرفضوها ، وردوها، في وجهها؟ وإني لأعرف أنكم معشر الرجال تحتقرون مثل هذا النصر، ولكن صدقني، إننا نحن النساء أعرف بما له قيمة في الحب. وما من شيء أحق من هذا بأن يرفع مقام المرء في عينه، ونحن النساء لا نرى أنفس من هذا ولا أحق بالضن به.»
فقال: «إنك رقيقة القلب جدا، ولكنك لا تستطيعين أن تنسيني أن هذه الرغبة صادرة عن العطف علي، لا الحب لي.»
فقالت وهي مغضية: «لست على يقين من أن هذا هكذا. اسمع كلامي إلى ختامه يا سيد ده بولييه. إني أعرف أنه لا يسعك إلا أن تحتقرني، وأنا أشعر أنك على حق في هذا، وإني لمخلوقة مسكينة لا تستحق أن تشغل بها خاطرا واحدا وإن كنت لا بد أن تموت مع الأسف من أجلها في الصباح! ولكني إنما رجوت منك أن تتزوجني، لأني احترمتك وأعجبت بك، وأحببتك من أعماق قلبي منذ اللحظة التي انتصرت فيها لي على عمي. ولو أنك كنت ترى نفسك ساعتئذ وأن تبصر نبل مظهرك، لأدركت العطف علي بدلا من أن تحتقرني.» والآن (وأسرعت في الكلام، وصدته بكفها عن مقاطعتها) «وقد نبذت كل تحفظ، وأفضيت إليك بالكثير، فتذكر أني أعرف شعورك نحوي، وثق أني - وقد انحدرت من أصل شريف - لن أضجرك بالإلحاح عليك أن تقبل، فإن لي أنا أيضا لكرامة، وإني لأعلن أمام الله أنك لو رجعت فيما قلت، لما تزوجتك كما لن أتزوج خادم عمي.»
فابتسم دنيس ابتسامة لا تخلو من مرارة وقال: «إنه حب صغير ذلك الذي يعفى عليه شعور عارض بالغضاضة.»
فلم تجب، وإن كانت خواطرها تدور في نفسها.
وقال وهو يتنهد: «تعالي هنا، إلى النافذة ... هذا هو الفجر يطلع.»
وكان الفجر قد بدأ يتنفس، وامتلأ عنان
4
السماء بالضوء الصافي الذي لا لون له. وفاض على الوادي ما انعكس منه، وبقي شيء من السديم
5
على الغابة أو فوق مجرى النهر المتعرج. وكان المنظر عجيبا في سكونه الذي لم يكد يقطعه صياح الديكة، ولعل الديك الذي أطلق في الظلام قبل نصف ساعة صيحته المنكرة، هو بعينه الذي صاح بالتحية المرحة للصباح الجديد. وهب النسيم بالأشجار تحت النوافذ، ومضى الصبح يغمر الدنيا بالنور من المشرق الذي ما لبث أن توهج ثم أطلع قرص الشمس المضطرم.
ونظر دنيس إلى هذا كله، وبه ارتعاش خفيف، وكان قد تناول يد بلانش وأبقاها في يده، وهو لا يكاد يعي.
وسألته: «أوطلع النهار؟»، ثم بلا مبالاة بالمنطق: «لقد كان الليل طويلا وا أسفاه ماذا نقول لعمي حين يعود؟»
فقال: «ما تشاءين.»
وضغط أصابعها بأصابعه.
فلم تقل شيئا.
وقال هو، مندفعا في الكلام، وصادرا فيه عن عاطفة جياشة: «بلانش، لقد رأيت هل أخاف الموت أو لا أخافه، ولا شك أنك تعرفين أنه آثر عندي أن أثب من هذه النافذة وأرمي بنفسي مسرورا في هذا الهواء الفارغ، من أن ألمسك بإصبعي بغير رضاك. ولكن إذا كنت تعبئين بي شيئا، فلا تدعيني أفقد حياتي من أجل خطأ. فإني أحبك، وإنك لأعز علي من كل ما في الدنيا، وإني لمستعد أن أفديك بنفسي، وأموت في سبيلك وأنا قرير العين، ولكنه يكون الجنة ونعيمها، ورضوان الخلد أن أحيا في خدمتك.»
وسكت، فسمعا ناقوسا يقرع في داخل البيت، وقعقعة سلاح في الدهليز تدل على أن الأتباع يعودون إلى مراكزهم، وأن الساعتين انقضتا، فهمست وهي تميل عليه بشفتيها وعينيها: «بعد كل الذي سمعته؟»
فأجابها: «لم أسمع شيئا.»
فقالت في أذنه: «إن اسم الضابط فلوريمون ده شانديفير.»
فقال: «لم أسمع شيئا.»
وطوق جسمها الرخص بذراعيه، وأهوى بالقبل على محياها الذي بللته الدموع.
وسمعا صوتا عذبا وراءهما تلته ضحكة حلوة، وتمنى السيد ده مالتروا لنسيبه الجديد صباحا سعيدا!
هوامش
أوسكار وايلد
1856-1900
عيد ميلاد الأميرة
كان ذلك عيد ميلاد الأميرة، وكانت قد بلغت الثانية عشر، وكانت الشمس تغمر بنورها حدائق القصر.
ولم يكن لها سوى عيد ميلاد واحد، في كل عام، كغيرها من بنات الفقراء وأبنائهم، وإن كانت أميرة حقيقية، ووارثة عرش إسبانيا، فكان مما تعنى به البلاد كلها أعظم العناية أن يكون اليوم أجمل وأبهى ما يدخل في الوسع، وقد كان اليوم جميلا حقا، فاعتدلت أزهار «الطوليب» الطويلة المخططة، على سوقها، كأنها صف من الجند، وشخصت إلى الورود المقابلة لها وقالت: «إننا مثلك الآن نضرة وبهجة.» وخفقت الفراشات القرمزية، وعلى أجنحتها تراب النضار، فوق زهرة بعد زهرة. وخرجت السحالي الصغيرة من شقوق الجدران وراحت تضحي في الشمس، وتشقق الرمان من وقدة الحر، وفتح قلبه الدامي، حتى الليمون الأصفر الذي حفلت به أفنانه، أفاد من ضوء الشمس لونا أزهى، ونورت شجيرات المنوليا، وتفتحت أكمامها عن العاج المطوي، ونشرت في الجو عبيرها القوي.
وراحت الأميرة الصغيرة تتمشى على الشرفة مع أترابها، وتلعب معهن لعبة «الاستخفاء» حول الزهريات المصنوعة من الحجر، أو التماثيل التي نمت عليها الأعشاب. وكانت في الأيام العادية لا يؤذن لها في اللعب إلا مع اللواتي هن من طبقتها، فكان لعبها وحدها دائما، ولكن عيد ميلادها كان يوما استثنائيا، فأمر الملك أن تدعو الأميرة من لداتها من تحب من الجنسين، ليلهوا معها، وكان لهؤلاء الأطفال الإسبانيين الدقاق اللطاف سمت، وفيهم رشاقة، وهم ينسابون هنا وهناك؛ الصبيان بقبعاتهم الكبيرة المريشة، ومعاطفهم القصيرة، والبنات وهن يمسكن فضل أفوافهن المنفوشة الموشاة بخيوط الذهب والفضة، ويحجبن الشمس عن عيونهن بمراوح كبيرة سوداء مفضضة. ولكن الأميرة كانت أرشقهن جميعا وأبرعهن ثيابا على ما كان يقضي به ذوق تلك الأيام. وكان ثوبها من الأبريسم، وقد وشى مجوله
1
وكماه المنتفخان بالفضة، أما الصدار
2
فمرصع بوصائل من اللآلئ العجيبة، وكان على رجليها حذاءان لطيفان مزدانان بوردتين كبيرتين قرمزيتين، يبدوان من تحت ذلاذل ثوبها إذ تمشي، وكانت مروحتها الكبيرة من أسلاك لؤلؤية وقرمزية الألوان، وكان شعرها كأن عليه هالة من العسجد الباهت، وكان ينسدل على جانبي محياها الدقيق الحائل اللون وفيه وردة بيضاء جميلة.
وكان الملك الحزين يشرف عليهم من نافذة في قصره، وخلفه أخوه - دون بدرو أمير أراغون، وكان الملك شديد الكراهة له - وقسيسه - رئيس محكمة التفتيش في غرناطة - وهو جالس بجانبه. وكان الملك يبدو في يومه هذا أشد حزنا وأسى، فقد كان وهو ينظر إلى الأميرة وهي تنحني بوقار صبياني لرجال الحاشية المجتمعين، أو تضحك وتستر وجهها بالمروحة، من دوقة ألبوكيرك الصارمة الوجه، التي لا تفارق الأميرة، ينثني به الخاطر فيتذكر الملكة الشابة - أم الأميرة - التي جاءت منذ عهد قصير - هكذا كان يخيل إليه - من بلاد فرنسا المرحة، فذوى غصنها الرطيب في بلاط إسبانيا الجهم على فرط أبهته، وقضت نحبها بعد ستة شهور من ميلاد الأميرة، وقبل أن ينور شجر اللوز في البستان ويظهر بهجته وزهرته مرة ثانية، أو تجنى ثمار الحول الثاني من شجرة التين القديمة المعجرمة
3
التي كانت قائمة في الساحة التي يكسوها العشب الآن. وقد بلغ من عظم حبه لها أن أبى أن يدع القبر يحجبها عنه، فحنطها طبيب عربي جازاه على ذلك بالإبقاء على حياته التي كان مقضيا عليها لكفره وسحره، فلا يزال جثمانها يرقد على نعشه المسجف في الهيكل المبني بالرخام الأسود في القصر، مذ حمله الكهنة إليه في يوم عاصف من أيام مارس/آذار، منذ اثنتي عشرة سنة، وفي كل شهر مرة، يتلفع الملك بملحفة سوداء، ويحمل في يده مصباحا مخنوق الضوء ويدخل الهيكل ويركع إلى جانب الجثمان ويصيح: «يا ملكتي! يا ملكتي!» وقد يغلبه الحزن أحيانا، فيتجاوز ما تقضي به التقاليد التي تسيطر في إسبانيا على كل عمل من أعمال الحياة، وتضع حدودا حتى لحزن الملك، فيقبض على اليدين الصفراوين المزدانين بالحلي، وقد ذهبت بلبه حرقات الكمد، ويحاول بقبلاته الجنونية أن يرد الحياة إلى المحيا الباهت المصبوغ.
وكان يراها اليوم، مرة أخرى، كما رآها أول مرة في قصر «فينتنبلو»، وكان هو يومئذ في الخامسة عشر من عمره، وكانت هي أصغر، وقد عقد خطبتهما حينئذ السفير البابوي بحضور ملك فرنسا ورجال الحاشية أجمعين، ثم عاد إلى الإسكوريال يحمل حلقة صغيرة من شعر ذهبي، وذكرى شفتين رقيقتين تنحني بهما على يده لتلثمها، وهو يستقل المركبة، ثم كان الزواج بعد ذلك، فاحتفل به على عجل في برغوس، وهي بلدة صغيرة على الحدود بين المملكتين، ثم الموكب الفخم ساعة دخول مدريد والاحتفال المألوف في كنيسة «لا أتوشا»، والاحتفال الذي جاوز المألوف بتسليم حوالي ثلاث مائة من الكفار والملاحدة - بينهم إنجليز كثيرون - للسلطة المدنية لإحراقهم.
وكان حبه لها على التحقيق حب جنون، ومن رأي الكثيرين أنه أضر بذلك بلاده التي كانت يومئذ في حرب مع إنجلترا في سبيل الاستيلاء على العالم الجديد. وكان لا يكاد يتركها تغيب عن عينه، وفي سبيلها نسي - أو خيل إلى الناس أنه نسي - شئون الدولة الخطيرة، وأعمى الحب الجامع بصيرته - كما هو شأنه دائما - فعجز عن أن يرى أن المراسم الدقيقة التي أراد أن يدخل بها السرور على قلبها زادت داءها الغريب تفاقما، فلما ماتت ظل زمنا ما، كالمذهوب بعقله، بل إنه ما من شك في أنه كان حقيقا أن ينزل عن العرش، ويدخل دير غرناطة - وكان هو رئيسه الفخري - لولا أنه خشي أن يترك الأميرة الصغيرة تحت رحمة أخيه، الذي كان مشهورا في إسبانيا بالقسوة وغلظ الكبد، والذي يزعم كثيرون أنه كان السبب في موت الملكة، فقد أهداها، على ما يقال، قفازين مسمومين لما زارت قصره في أراغون. حتى بعد أن انقضت أعوام الحداد العام الثلاثة التي أمر بها في مملكته، لم يسمح قط لوزرائه بأن يخاطبوه في عقد زواج جديد. ولما كتب إليه الإمبراطور نفسه يعرض عليه يد بنت أخيه أرشيدوقة بوهيميا الجميلة، كان جوابه لسفرائه أن قولوا لمولاكم إن ملك إسبانيا قد زوج الأسى، وإنها لعروس عاقر، ولكنها أحب إليه من الجمال، وقد كلفه هذا الجواب ثمنا غاليا، ففقد تاجه إقليم البلاد الواطئة الخصيب الذي ما لبث، بإيعاز من الإمبراطور أن ثار بزعامة بعض المتهوسين من رجال الإصلاح الديني.
وتمثل لعينيه وهو يرقب الأميرة إذ تلعب في الشرفة، عهد زواجه كله بأفراحه العنيفة المتوهجة الألوان، والحرقات الكاوية التي كان بها ختام ذلك العهد، وكان في الأميرة من أمها سرعة البادرة وحدة الطباع، وهزة رأسها إذ تجنح إلى العناد، وتقويسة فمها الجميل الواشية بكبرياء النفس، وابتسامتها الخلابة إذ ترفع رأسها من حين إلى حين، وترمق النافذة، أو تمد راحتها الصغيرة لكبراء إسبانيا ليلثموها، ولكن ضحكات الأطفال العالية كانت تسك مسامع الملك، كما كان نور الشمس القاسي الوهاج يسخر من أساه، وكان يشوب هواء الصباح الصافي فيما يحس أو يتوهم، أرج بخور غريب شبيه بما يتخذه المحنطون، فدفن وجهه في يديه، فلما صعدت الأميرة طرفها كانت الأستار قد أسدلت، والملك قد دخل.
فأبدت علامة امتعاض، وهزت كتفيها. أفما كان في وسعه أن يظل معها في يوم عيدها؟ ما قيمة شئون الدولة السخيفة هذه؟ أم تراه قد ذهب إلى ذلك الهيكل القائم الذي لا تنطفئ فيه الشموع والذي لا يؤذن لها في دخوله؟ وتالله ما أحمقه إذا كان قد ذهب إلى هناك وترك هذه الشمس المشرقة وزهد في السعادة التي ينعم بها كل أحد. وستفوته مصارعة الثيران التي بدأت الأبواق تنفخ إيذانا بها، وألعاب القراقوز وغيرها من المتع والمسرات، ألا إن عمها ورئيس محكمة التفتيش لأرشد وأهدى سبيلا، فقد خرجا إلى الشرفة وسراها وشرحا صدرها بالتحيات والتهنئات. وهزت الأميرة رأسها مرة أخرى وتناولت يد «دون بدرو» ونزلت من السلم إلى سرادق طويل من الحرير القرمزي نصب في آخر الحديقة، وتبعها الأطفال المدعوون على ترتيب درجاتهم ومنازلهم، فأطولهم أسماء أسبقهم وأحقهم بالتقديم. •••
وتقدم موكب من الصبيان الأشراف في أفواف موشاة، ومطارف من السندس والأبريسم لاستقبال الأميرة، وأقبل «كونت تييرا نويفا» وهو غلام بارع الحسن يناهز الرابعة عشر، ونزع قبعته برشاقة من ولد وشب في بيوت السيادة والمجد وصحبها إلى كرسي صغير مذهب ومطعم بالعاج على منصة مرفوعة تشرف على الساحة. وانتظم الأطفال الآخرون صفوفا حولها، وهم يهزون مراوحهم الكبيرة، ويتهامسون فيما بينهم، ووقف دون بدرو ورئيس محكمة التفتيش في المدخل يضحكان. حتى الدوقة - وهي امرأة نحيلة معروقة صارمة معارف الوجه - لم تكن كالمعهود فيها من الشراسة وسوء الخلق، فمر بوجهها المغضن طيف ابتسامة اختلجت لها شفتاها الرقيقتان الظمياوان.
4
وكانت مصارعة الثيران الصورية بديعة جدا، وحدثت الأميرة نفسها أنها أمتع من تلك المصارعة الحقيقية التي حملوها إلى سيفيل لمشاهدتها لما زار دوق بارما والدها، وكان بعض الغلمان يتوقصون ويقربون
5
على خيول صناعية زاهية السرج، وبأيديهم حراب طويلة محلاة بأشرطة مختلفة الألوان، وكان آخرون منهم يروحون ويجيئون وينشرون المطارف الأرجوانية أمام الثور، فإذا هجم عليهم قفزوا خفافا من فوق السور. أما الثور فكان أشبه شيء بثور حقيقي وإن كان مصنوعا من أعواد وجلد مصحب.
6
وكان يأبى أحيانا إلا أن يذهب يعدو حول الساحة من داخلها، على قائمتيه الخلفيتين، وهو ما لا يحلم ثور حقيقي بأن يفعله. وقد أبلى في المصارعة بلاء حسنا حتى لقد كان الأطفال ينهضون عن مقاعدهم ويلوحون بمناديلهم المطرزة ويصيحون، هاتفين بالثور: «مرحى يا ثور! مرحى يا ثور» كما يفعل الكبار - وأخيرا بعد صراع طويل أرديت فيه خيول صناعية عديدة وترجل فرسانها، استطاع كونت تييرا نويفا (الأرض الجديدة) أن يلقي الثور على ركبتيه على هيئة المتكئ، ثم استأذن الأميرة في الإجهاز عليه، وغرز سيفه الخشبي في عنق الثور بعنف ففصله عن سائر الجسد، وبرز محيا صغير مشرق هو محيا «دي لورين» ابن السفير الفرنسي في مدريد.
وأخليت الساحة بين التصفيق والصياح، وأخرجت الجياد الصناعية - جرها اثنان من الخدم في ثياب صفراء وسوداء - وبعد فترة وجيزة لعب فيها فرنسي على حبل مشدود، ظهر «قرقوز» إيطالي على مسرح صغير أعد له، وقد كان التمثيل جيدا، والحركات طبيعية متقنة حتى لقد اغرورقت عين الأميرة بالدموع في ختام الفصل. بل لقد بكى بعض الأطفال، فكان لا بد من التسرية عنهم بالحلواء، حتى رئيس محكمة التفتيش نفسه قال لدون بدرو: إن مما لا يطاق أن تشقى وتتعذب بمثل هذه المصائب الكبر أشياء مصنوعة من الخشب والشمع الملون تحركها أسلاك خفية بطريقة آلية.
وجاء بعد ذلك «حاو» أفريقي يحمل سلة واسعة روحاء
7
مغطاة ووضعها في وسط الساحة، وأخرج من عمامته قصبة جعل يشيع فيها وينفخ، فبدأ الغطاء يتحرك وعلا صوت المزمار فأطل ثعبانان أخضران برأسيهما العجيبين اللذين يشبهان الوتد، وجعلا يرتفعان ببطء ويتمايلان على صوت الزامر تمايل النبات في الماء. غير أن الأطفال أفزعهما منظر الرأسين المنقطين واللسانين الدقيقين البارزين، وكان سرورهم أعظم لما استنبت الحاوي الأرض شجيرة برتقال منورة تتهدل أغصانها بالثمار الحقيقية. ولما أخذ مروحة ابنة المركيز ده لاس توريس فانقلبت عصفورا أخضر يطير حول السرادق، وهو يغرد، جاوز سرورهم كل حد. وكانت الرقصة الدينية التي رقصها الغلمان الآتون من كنيسة «نويسترا سينورا دل بيلار» جميلة. ولم تكن الأميرة قد شاهدت من قبل هذا الرقص البديع الذي يجري كل عام في الربيع أمام مذبح العذراء العالي، بل إنه ما من أحد من الأسرة المالكة في إسبانيا دخل ساراتوجا الكبيرة مذ حاول قسيس مجنون، يقال إن اليصابات ملكة إنجلترا كانت تستخدمه، أن يطعم أمير أستوريا كعكة مسمومة. لهذا لم تكن الأميرة تعرف «رقصة العذراء» - كما كانت تسمى - إلا سماعا، لا عيانا، والحق أنها كانت رقصة جميلة. وكان الغلمان يرتدون ثيابا من المخمل الأبيض عتيقة الطراز، وكانت قبعاتهم المثلثة لها حافة مفضضة، وعليها ريشات كبيرة من ريش النعام، فكان بريق أرديتهم البيضاء الناصعة يزداد لمعانا إذ يخطرون في نور الشمس، ويضاعف النصوع وجوههم السمراء وشعرهم الطويل الدجوجي. وقد سحروا النظارة بأبهتهم وسمتهم إذ يقومون بحركات الرقصة المعقدة، ورشاقة إيماءاتهم البطيئة وانحناءاتهم، فلما انتهوا من ذلك ونزعوا قبعاتهم المريشة وانحنوا بالتحية للأميرة تقبلت منهم التحية بتلطف، ونذرت فيما بينها وبين نفسها أن تهدي شمعة عظيمة لمعبد العذراء تجزية لها على ما سرتها به في يومها هذا.
ثم تقدم صف من المصريين ذوي القسامة - كما كان الغجر
8
يسمون في ذلك الزمان - وقعدوا القرفصاء في حلقة، وأنشئوا يعزفون برقة وعذوبة على قيثاراتهم ويحركون أجسامهم على أنغامها ويغنون، وكأنما يهمسون صوتا شجيا، وكانوا إذا أخذت عيونهم دون بدرو، يزلقونه بأبصارهم متسخطين متجهمين، وربما بدا على بعضهم الذعر، فقد شنق اثنين من قبيلتهم في سوق سيفيل بدعوى أنهما من السحرة، ولكن الأميرة كانت تفتنهم وتسحر ألبابهم وهي مضطجعة ومشخصة ببصرها إليهم لا تصرفه عنهم من فوق مروحتها، وكان يقينهم وهم يلحظونها أن من كان له مثل جمالها لا يمكن أن تكون فيه قسوة أو جبروت. ومن أجل هذا جعلوا يعزفون برقة ولا يكادون يلمسون أوتار القيثارات بأظافرهم الطويلة المحددة، وكان رءوسهم تخفق كأن النعاس يغالبها ويثنيها. وإذا بهم ينتفضون ويثبون إلى أقدامهم فجأة ويطلقون صيحة عالية مجلجلة ذعر منها الأطفال، وانثنت يد دون بدرو إلى مقبض خنجره المحلى، وانطلقوا كالعاصفة يعدون حول الساحة ويقرعون طبولهم، ويضربون بدفوفهم، ويغنون صوتا فيه غزل جامح بلغتهم الغريبة. ثم أومأ إليهم رئيسهم فارتموا على الأرض كرة أخرى والتزموا السكون فلم يكن يسمع إلا هزيج الأوتار الخفيف. وكرروا هذا عدة مرات اختلفوا بعدها، ثم برزوا يجرون دبة كثيفة الشعر، من سلسلة، وعلى أكتافهم قردة صغار. ووقفت الدبة على رأسها، ولعبت القردة المفطومة ألعابا شتى مسلية، مع اثنين من الغجر كانا على ما يظهر هما اللذان يدربانها، فكانت القردة تتضارب بسيوف صغيرة قصيرة وتطلق بنادق، وتقوم بالتداريب العسكرية المنتظمة كما يفعل حرس الملك سواء بسواء. فكان الغجر موفقين وفازوا بإعجاب المشاهدين أجمعين.
ولكن أمتع الملاهي كلها بلا شك رقص القزم الصغير، فما كاد يدخل الساحة متعثرا، ويمشي متكفئا في جانبيه، متخلعا يهز منكبيه، ويميل رأسه العظيم المشوه الخلق في هذه الناحية مرة، وفي تلك مرة أخرى، حتى ضج السامر بصيحات الجذل، وراحت الأميرة نفسها تضحك وتكركر مستغربة في ذلك حتى اضطرت وصيفتها أن تذكرها بأن هناك سوابق في إسبانيا تجيز أن تبكي ابنة الملك على مرأى من أترابها ولداتها، ولكنه ليس هناك ما يبيح لأميرة من نسل الملك أن تظهر مثل هذا الطرب والسرور على مرأى ممن هم دونها مولدا وأصلا. ولكن الحقيقة أن القزم كان وقعه في النفس لا يغالب أو يقاوم، وقد كان البلاط الإسباني مشهورا بحبه للفظيع والشنيع، ولكن مثل هذا المخلوق العجيب لم ير فيه من قبل. وكانت هذه أول مرة ظهر فيها القزم، فما عثروا عليه إلا في اليوم السابق، وكان يعدو في الغابة، واتفق أن كان اثنان من النبلاء قد خرجا للصيد والقنص في ناحية قصية من الغابة العظيمة المحيطة بالمدينة، فحملاه معهما إلى القصر، هدية لم تكن في الحسبان، للأميرة، وكان أبوه رجلا فقيرا، فسره أن يتخلص من طفل دميم مشوه مثله، لا خير فيه ولا جدوى منه. ولعل أبعث ما في الغلام على التسلية والمسرة أنه كان غافلا ذاهلا عن دمامته وقبح منظره، لا يدري من هذا الأمر شيئا، بل لقد كان بين السعادة واضح الابتهاج والمرح، وكان إذا ضحك الأطفال، يضحك مثلهم وبه ما بهم من خفة الفرح والجذل، وكان في آخر كل رقصة ينحني لهم أغرب انحناء وأدعاه إلى الضحك، ويبتسم ويهز رأسه لهم كأنما كان واحدا منهم، لا خلقا مشوها صاغت منه الطبيعة ضحكة للآخرين. وقد سحرته الأميرة واستولت على هواه، فكان لا يستطيع أن يحول عينه عنها، وكأنما كان يختصها برقصه، وفي آخر اللعب تذكرت الأميرة أنها رأت سيدات البلاط يلقين طاقات الزهر على كافاريللي المغني الإيطالي المشهور، الذي اختاره البابا من رجال هيكله الخاص وبعث به إلى مدريد ليذهب من حزن الملك ويجلد قلبه على مصابه، بحلاوة صوته وعذوبة غنائه، فانتزعت من شعرها الوردة البيضاء، على سبيل المزاح من ناحية، ولتكايد الوصيفة وتعابثها من ناحية أخرى، ورمت بها إلى القزم في الساحة وهي تفتر له عن أعذب ابتساماتها، فتناولها جادا، وأهوى عليها بشفتيه الغليظتين الخشنتين، ووضع يده على قلبه، وجثا على ركبتيه أمامها، وفمه مفتوح من أذن إلى أذن، وعينه تلمع سرورا، فغلب الضحك الأميرة حتى لقد ظلت ترجع فيه بعد أن خرج القزم من الساحة بزمان طويل، وأعربت لعمها عن رغبتها في أن تعاد الرقصة، ولكن الوصيفة قالت إن الشمس حامية جدا، ورأت أن الأصوب أن ترجع الأميرة من تؤتها إلى القصر، حيث أعد مقصف فاخر لها، وكعكة بديعة لعيد ميلادها، سطرت عليها الحروف الأولى من اسمها بالسكر الملون، ورفع فوقها علم جميل من الفضة. فنهضت الأميرة، وأمرت أن يرقص لها القزم مرة أخرى بعد أن تأخذ حظها من الراحة، وشكرت للكونت الصغير ده تييرا نويفا (الأرض الجديدة ) حسن استقباله لها وحفاوته بها، وعادت إلى الجانب المفرد لها في القصر، يتبعها الأطفال على الترتيب الذي جاءوا به. •••
ولما سمع القزم أن عليه أن يرقص ثانية أمام الأميرة، وأن هذا هو أمرها الصريح فرح فرحا عظيما، وامتلأت نفسه زهوا، فخرج يعدو إلى الحديقة وجعل يبوس الزهرة البيضاء من فرط سروره وابتهاجه، ويأتي من حركات الجذل والخفة أغربها وأبعدها من الظرف والرشاقة.
وقد أغضب «الأزهار» أنه اجترأ على التطفل عليها في حديقتها الجميلة، ولما رأته يقفز في المماشي والممرات، وهو يروح ويجيء فيها، ويلوح بذراعيه فوق رأسه على نحو سخيف، لم تستطع أن تكبح شعورها.
فقالت أزهار الطوليب: «إنه في الحقيقة دميم جدا، ولا يليق أن يسمح له باللعب في أي مكان نكون فيه.»
وقالت أزهار السوسن القرمزية الكبيرة: «ينبغي أن يسقى عصير الخشخاش وينام ألف سنة»، واضطرمت غلائلها من حدة الغضب.
وصاحت الصبارة: «إنه هولة مفزعة! كل ما فيه أعوج، ناقص، مشوه، وليس بين رأسه ورجليه أي تناسب، وإني لأشعر حين أراه بالوخز في كياني كله، وقد آليت أن أشكه بشوكي إذا دنا مني.»
وقالت شجيرة الأزهار البيضاء: «إن معه زهرة من أجمل أزهاري، وكنت قد أهديتها للأميرة بنفسي هذا الصباح، في عيدها، فسرقها منها.»
وراحت تصيح بأعلى صوت: «لص! لص! لص!»
حتى زهرة الخبيزي المشهورة بالدعة والتواضع، التي يكثر بين ذوي قرباها أهل الفقر والمتربة، سخطت عليه لما بصرت به، ولما قالت أزهار البنفسج إنه حقيقة دميم، ولكن لا حيلة له في هذا، لأنه ليس ذنبه، ردت عليها تلك بأن هذا عيبه، وأنه ليس ثم ما يدعو إلى الإعجاب بمخلوق لا سبيل إلى شفائه من دائه، أو إصلاح عيبه وعلاجه، وقد أحست بعض البنفسجات أن القزم يعرض دمامته مباهيا بها، وأنه كان أمثل به وأدل على حسن الذوق أن يبدي الاكتئاب، أو يظهر على الأقل على هيئة المفكر بدلا من أن يذهب ينط ويقفز مرحا، ويتخذ لنفسه هيئات سخيفة قبيحة.
أما الساعة الزوالية التي كانت فيما خلا تبين الوقت للإمبراطور شارل الخامس نفسه فقد راعها منظر القزم الصغير، حتى لقد ذهلت فنسيت أن تشير إلى انقضاء دقيقتين كاملتين بأصبعها الظلي الطويل، ولم يسعها إلا أن تقول للطاووس الذي يضحي في بهو الأعمدة: إن كل واحد يعلم أن أبناء الملوك ملوك، وأن أبناء الفحامين فحامون، ومن السخف أن يدعي أحد أن هذا ليس كذلك.
وهو قول وافق عليه الطاووس أتم موافقة، بل لقد صاح «صحيح! صحيح!» بصوت عال جاف أزعج الأسماك الذهبية الصغيرة التي تسبح في حوض النافورة فأخرجت رءوسها من الماء وسألت تماثيل أرباب البحر عن الخبر.
ولكن العصافير أحبته لسبب ما، وكانت قد رأته من قبل مرارا في الغابة، يرقص كالعفريت وراء الأوراق التي تعبث بها الرياح وتثور، أو منطويا على نفسه في فجوة في شجرة قديمة، والطير تأكل الجوز من يده. ولم تكن العصافير تبالي قبح خلقته أو تعبأ بذلك شيئا، ومع ذلك ماذا من الجمال في البلبل الذي يغرد في الليل في أحراش البرتقال فيصغي له القمر ويهبط قليلا ليسمعه؟ ثم إن هذا القزم كان يحنو على العصافير ويرق قلبه لها، فكان في الشتاء القارس، الذي يغدو فيه ظهر الأرض صلبا كالحديد، ويتعرى الشجر فلا يبقى عليه من الحب أو الثمر ما يلقط، وتزحف الذئاب إلى قريب من أبواب المدينة التماسا للقوت، لا ينسى العصافير ولا مرة واحدة، فكان يبقي لها فتاتا من خبزه الأسود، ويجعل لها نصيبا من كل طعام يصيبه.
لهذا راحت العصافير تطير حوله في حديقة القصر، وتلمس خده بأجنحتها، وتزقزق فيما بينها، وبلغ من سرور القزم بها أن لم يسعه إلا أن يريها الزهرة البيضاء الجميلة، وأن يخبرها أن الأميرة نفسها جادت بها عليه لأنها تحبه.
ولم تفهم العصافير مما يقول ولا كلمة واحدة؛ ولكن هذا لم تكن له قيمة، فقد أدنت رءوسها، بعضها من بعض، وبدت كأنها فاهمة مدركة، وهو ما يعادل الفهم، ويفضله بأنه أسهل.
كذلك أحبته السحالي، فلما تعب من الجري والنط، وقعد على بساط الروض ليستريح راحت تلعب حوله وعلى بدنه، وتحاول أن تسره وتسليه جهد طاقتها. وكانت تقول فيما بينها: «ليس في الإمكان أن يكون كل أحد جميلا كالسحلية، فإن هذا مرام بعيد ومطلب عسير، ثم إنه ليس بالدميم جدا، وإن كان هذا القول يبدو غريبا، على شرط أن يغمض الواحد عينيه ولا ينظر إليه.» والسحالي مطبوعة على الفلسفة، وكثيرا ما تقضي ساعات وساعات في تفكير عميق إذا لم يكن ثم شيء تصنعه غير ذلك، أو إذا كان الجو مطيرا لا يسمح بالخروج من الشقوق.
وقد ساء الأزهار جدا مسلك السحالي والعصافير، فقال بعضها لبعض: «هذا يرينا أن هذا الجري والطيران المستمرين يفسدان النفس، ويجعلانها سوقية مبتذلة، والمهذبون من الناس يبقون حيث هم، ولا يبرحون مكانهم - مثلنا - وما رآنا قط أحد ننط في ميادين البستان، أو نعدو كالمجانين وراء الذباب. وإذا احتجنا إلى تغيير الجو بعثنا في طلب البستاني فينقلنا إلى أحواض أخرى. وهذا هو الوقار والاحتشام الواجبان، ولكن الطيور والسحالي لا تدرك معنى السكون والرصانة، بل إن العصافير ليس لها عنوان ثابت! وهي أبدا شاردة كالغجر، وينبغي أن تعامل كما يعامل الغجر.» وصعرت الأزهار خدها، كبرا وشموخا، وسرت جدا لما رأت القزم ينهض عن الخضرة ويمضي إلى الشرفة فالقصر، وقالت لنفسها: «إنه حقيق بأن يبقى أبدا وراء الأبواب. انظروا إلى ظهره الأحدب وإلى ساقيه المعوجتين!»
وراحت تتهاتف.
ولكن القزم لم يدر شيئا من هذا كله، وكان يحب العصافير والسحالي حبا جما، ويرى أن الأزهار أجمل وأعجب ما في الدنيا كلها، ما عدا الأميرة، ولكن الأميرة أعطته الوردة البيضاء الجميلة، وهي تحبه، فأمرها مختلف جدا. ولشد ما يتمنى لو أنه رافقها في أوبتها إلى القصر، إذن لجعلته عن يمينها وابتسمت له، فلا يفارقها أبدا، ويكون ملاعبها ويعلمها كل ضروب اللعب. ولا نكران أنه لم يعش من قبل في قصر، غير أنه يعرف أشياء كثيرة تروق وتدهش، ففي مقدوره مثلا أن يصنع أقفاصا صغيرة من الحصير للصراصير تغني فيها، ومن القصب ذي العقل الطويلة يراعة
9
يشتهي «بان » أن يسمع صوتها وهو يشيع فيها. وهو يعرف صوت كل طائر، ويميز الزرزور من مالك الحزين، ولا يخفى عليه أثر دابة، ويستطيع أن يقفو الأرنب بما يخلفه من أثر دقيق، والخنزير بما يطؤه من أوراق الشجر، ويعرف كل الرقصات الآبدة - الرقصة العنيفة في الثياب الحمر في الخريف، والرقصة الخفيفة بالخفاف
10
الزرق، على القمح، ورقصة الشتاء، ورقصة الربيع في البساتين والرياض، ويعرف أين تجعل الحمائم عشها، وقد حدث مرة أن جاء صائد فأوقع في شركه حمامتين، فتولى هو تربية صغارهما، وبنى لهما عشا صغيرا في فجوة في شجرة وألفته فكانت تأكل من يديه كل صباح. وإن الأميرة لخليقة أن تحب الطير، والأرانب التي تجري في العشب الناهض، وأبا زريق بريشه القوي ومنقاره الأسود، والقنفذ الذي يجعل من جسمه كرة شائكة، والسلاحف الكبيرة الرزينة التي تدلج،
11
وتهز رءوسها وتثنيها لتأكل من الورق، نعم، يجب أن تذهب الأميرة إلى الغابة وتلعب معه فيها، وهناك يدع لها فراشه لترقد عليه، ويبقى هو قائما بحراستها خلف النافذة إلى مطلع الفجر، حتى لا يؤذيها قرن حيوان، أو تدنو من كوخها الذئاب الجائعة النحيلة، وفي الفجر ينقر على الشباك ويوقظها، فيخرجان معا، ويرقصان معا، طول النهار، وما في الغابة وحشة، فإنه يتفق أحيانا أن يجتازها أسقف على حمار أبيض ومعه كتاب مزخرف يقرأ فيه، وأحيانا يجيء الصقارون،
12
وعلى رءوسهم قبعات خضراء من المخمل، وقد اكتسوا ثيابا من جلود الظباء المدبوغة، والصقور على أرساغهم، وفي موسم العنب ترى العصارين مكللي الرءوس، حمر الأيدي والأرجل، ومعهم القرب يقطر منها النبيذ. ويجلس الحطابون في الليل حول الوطيس العظيم يلحظون الأجذال الجافة وهي تحترق ببطء ويشوون الجوز في الرماد، ويخرج اللصوص من كهوفهم وغيرانهم ويجيئون إليهم ويسمرون معهم، وقد رأى مرة موكبا جميلا في الطريق الطويل المعفر إلى طليطلة، وكان الرهبان في الطليعة يغنون أعذب غناء، ويحملون أعلاما زاهية وصلبانا من الذهب، وتلاهم الجنود في المغافر
13
والدروع والتروس، ومعهم البنادق والرماح وبينهم ثلاثة رجال حفاة يلبسون ثيابا صفرا عجيبة عليها نقوش وصور غريبة وبأيديهم شموع مضاءة. إلا أن في الغابة لكثيرا مما يسر ويبهج، وإذا تعبت (الأميرة) فإنه يستطيع أن يجد لها مكانا معشوشبا لينا. فيحملها على ذراعيه - فقد كان قويا، وإن كان يعرف أنه ليس بالطويل - وينظم لها عقدا من أطراف العذارى
14
فيكون له جمال هذه الأعناب التي تلبسها على ثيابها، وإذا ملتها رمتها، فإنه يستطيع أن ينظم غيرها، ويجيئها بثمار الأشجار وبالأزهار المخضلة واليراعات الوهاجة البريق لتزين بها شعرها الذهبي فتكون فيه كالنجوم المتلامحة.
ولكن أين هي؟ سأل الوردة البيضاء فلم تجبه، وبدا له القصر كأنه نائم كله - حتى في حيث لم تغلق النوافذ، أسدلت الأستار الكثيفة لتحجب الضوء، فمضى يحوم حول القصر باحثا عن مدخل إلى أن انتهى إلى باب صغير كان مواربا فتسلل منه وألفى نفسه في قاعة فخمة - أفخم وأروع من الغابة، فقد كان كل ما فيها مذهبا، حتى البلاط كان من قطع كبيرة ملونة مرصوفة على نحو هندسي، ولكن الأميرة لم تكن هناك، ولم يكن ثم سوى تماثيل صغيرة بديعة تنظر إليه من فوق القوائم التي رفعت عليها بعيون بيضاء وشفاه مفترة.
وكان في آخر القاعة سجف من المخمل الأسود المطرز وعليه صور الشمس والنجوم التي كان الملك يؤثرها كشعار له، أفتراها مختبئة وراء هذا؟ سيرى!
فمشى على أطراف أصابعه إلى السجف ونحاه قليلا. كلا! كل ما هنالك حجرة أخرى وإن كانت أجمل فيما بدا له من التي أقبل منها، وكان على الجدران رقعة خضراء مطرزة وعليها صور أناس خارجين للصيد، وقد صنعها فنانون من البلاد الواطئة سلخوا من أعمارهم فيها سبع سنوات. وكانت هذه في بعض الأعصر الخوالي حجرة - «جان المجنون» - كما كان يسمى، ذلك الملك الذي كان مجنونا بالطراد، فكان كثيرا ما يحاول أن يمتطي الخيل العظيمة الشديدة الشماس أو الجماح أو الكثيرة التقريب،
15
وأن يصرع الظبي الذي تقفز حوله الكلاب، وهو ينفخ في النفير ويضرب بخنجره، وقد صارت هذه الحجرة تتخذ لمجلس الوزراء، وكان على المنضدة الوسطى فيها محافظ الوزراء الحمراء، وعليها شارة إسبانيا وشعار آل هابسبرج.
وأدار القزم عينيه في الحجرة متعجبا، وخامره الخوف من الاستمرار، وكان يخيل إليه أن هؤلاء المصورين الذين يركضون بسرعة ومن غير أن يحدثوا صوتا، مثل تلك الأشباح المرعبة التي سمع الحطابين يتحدثون عنها ويقولون إنها تخرج للصيد في الليل، فإذا لقيت إنسانا قلبته غزالا وراحت تطارده. ولكنه تذكر الأميرة فتشجع، وكان يريد أن يلقاها وحدها وأن يقول لها إنه هو أيضا يحبها، فلعلها في الغرفة التي وراء هذه!
وذهب يجري على السجاد المراكشي الناعم الوثير وفتح الباب. كلا! ولا هنا أيضا! فقد كانت الغرفة خالية.
وكانت هذه قاعة العرش التي يستقبل فيها الملك سفراء الدول الأجنبية. وما أقل ما يفعل الآن. وهي نفس القاعة التي جاء إليها منذ سنوات عديدة رسل من إنجلترا ليتفقوا على التدابير اللازمة لزواج ملكتهم - وكانت يومئذ كاثوليكية - بابن الإمبراطور. وكانت الأستار من جلد قرطبة المذهب، وقد تدلت من السقف المدهون باللونين الأسود والأبيض، شجرة عظيمة تحمل أغصانها ثلاث مائة شمعة. وكان فوق العرش ظلة مذهبة صورت عليها أسود قسطيلية وصروحها باللآلئ الدقيقة، وكان العرش مجللا بمخمل أسود موشى بأزهار من الفضة، وأطرافه محلاة بالفضة واللؤلؤ، وعلى الدرجة الثانية من منصة العرش مقعد الأميرة وفوقه وسادة كسوتها من نسج الفضة، وتحت هذه الدرجة وفيما يخرج عن نطاق الظلة، كرسي لسفير البابا وكان هذا وحده هو الذي له الحق في الجلوس في حضرة الملك في أي احتفال عام، وكانت قبعته ذات الزر القرمزي، موضوعة على محمل بنفسجي أمام الكرسي. وعلى الجدار المواجه للعرش صورة بالحجم الطبيعي لشارل الخامس في ثياب الصيد وإلى جانبه كلب عظيم، وعلى حائط آخر صورة لفيليب الثاني وهو يستقبل وفد البلاد الواطئة الذي جاء ليعرب عن الولاء والخضوع. وبين النافذتين صندوق من الآبنوس مطعم بصفائح من العاج نقشت عليها صورة «رقصة الموت» لهولبين، ويقول البعض إن هذا المصور هو الذي نقشها بيديه.
ولكن القزم لم يكن يعبأ شيئا بهذه الأبهة كلها. وما كان ليرضى أن يعتاض من وردته البيضاء كل ما في نسج الظلة من لآلئ، بل ما كان ليستبدل بغلالة واحدة من غلائل وردته، العرش نفسه، وما كان يبغي سوى أن يرى الأميرة قبل أن تنزل إلى السرادق، ليرجو منها أن تذهب معه بعد أن يقوم برقصته، فقد كان الجو هنا، في القصر، محبوسا خانقا، وكان له على الصدر جثوم، ولكن الهواء في الغابة حر، ونور الشمس يفرق أوراق الشجر المضطربة بأيد من الذهب. وهناك في الغابة الأزهار أيضا. وقد لا يكون لها جمال نظائرها في الحديقة، ونضرتها وبهجتها، ولكنها أزكى أرجا وأطيب عبيرا، وأشد توهجا - هناك الحوجم الذي يغمر الوادي والهضاب المنبسطة المعشاب، بحمرته المتموجة، والذريب
16
الذي ينمو حول جذور أشجار البلوط، وكل بيضاء وصفراء وحمراء من الأزهار كالعيون أو النجوم أو الأقمار - نعم، لا شك في أنها تصحبه إذا استطاع أن يهتدي إلى مكانها، - ترافقه إلى الغابة الساحرة، فيرقص لها طول النهار ليسرها. ولمعت عينه بنور البشر والجذل وهو يتخيلها معه، ومضى إلى الغرفة التالية.
وكانت هذه أجمل وأبهى ما رأى. وكانت الجدران مكسوة بالديباج من نسج «لوكا»، وعليه صور الطير، وقد حلي بأزاهير من فضة، وكان الأثاث من الفضة المحلاة بأكاليل الزهر الأرجواني وصور كوبيد، إله الحب، وأمام الموقدين الكبيرين ستران موشيان بصور الببغاوات والطواويس. وكانت الأرض مفروشة بأحجار خضراء لونها كلون البحر، ويخيل للناظر أنها ممتدة ذاهبة إلى غير مدى. ولم يكن القزم وحده في هذه الحجرة فقد كانت هناك في مدخل في آخر الحجرة، من ينظر إليه ويلاحظه، وقد خفق قلب القزم وندت عنه صيحة فرح وبرز إلى النور، فتقدم الشخص الواقف أيضا، ورآه القزم كأوضح ما يكون.
أهذه الأميرة؟! كلا بل هذا شخص بشع مشوه لم ير القزم أبشع من منظره ولم يكن مستوي الخلق كغيره من الناس، بل أحدب متموج الأعضاء ملتويها ضخم الدماغ. أسود الشعر. وعبس القزم لما رأى هذا المخلوق، فعبس مثله. فضحك، فضحك مثله، ووضع يديه في خاصرتيه كما فعل، فانحنى له القزم ساخرا، فرد تحيته بمثلها ، فمشى إليه فتقدم ذاك منه، وكان يقتاس به ويحاكيه في كل خطوة، ويقف إذا وقف. فصاح من سروره بذاك وراح يعدو، وبسط يده، فلمست كف الوحش البشع يده، فخاف وحرك يده يمينا وشمالا، فقلده الذي أمامه، فحاول أن يدفع يده إليه ولكن شيئا أملس صلبا صده عن ذلك. وكان وجه هذا الوحش قريبا منه الآن، فطالعه من عينيه الذعر، فنحى الشعر عن عينيه، فقلده الذي هو أمامه، فضربه بجمع يده، فتلقى ضربة بضربة، فهاج عليه سخطه ومقته، فلم يكن الوجه الذي يراه أقل نطقا بالكراهية والحنق، فتراجع، فارتد ذاك أيضا.
ما هذا؟! وفكر القزم لحظة، ثم أجال لحظه في بقية الحجرة، فرأى عجبا! ذلك أن كل شيء هنا له نظير يقابله في هذا الجدار الذي كأنما هو مصنوع من الماء الصافي. لكل صورة، وكل أريكة، أختها حتى تمثال الإله النائم في فجوة بالجدار إلى جانب الباب له توأم نائم. وحتى تمثال فينوس الفضي القائم في نور الشمس، يمد يده إلى فينوس أخرى ليست دون تلك جمالا.
أهذا هو الصدى؛ لقد نادى الصدى مرة في الوادي، فرد عليه نداءه كلمة كلمة. أفترى الصدى يعابث العين كما يعابث الأذن؟ أفي وسعه أن يجعل عالم التقليد كعالم الحقيقة؟ وهل يتسنى أن يكون لخيال الأشياء لون وحياة وحركة؟ هل يمكن ...؟
وانتفض، ونزع الوردة البيضاء من صدره، ودار فلثمها، فإذا الذي هناك معه وردة كوردته، لا تنقص غلالة واحدة، وإذا هو يلثمها كلثماته، ويضمها إلى قلبه بحركة بشعة وإيماءات ثقيلة.
وفطن إلى الحقيقة فأطلق صرخة يأس، وهوى إلى الأرض يبكي ويعول. إذن هو هذا المشوه الأحدب الكريه المنظر الشتيم الخلق! هو الوحش البشع، وهو الذي كان الأطفال جميعا يضحكون منه - حتى الأميرة التي حسبها تحبه - هي أيضا كانت تسخر منه وتهزأ به، وتضحكها أعضاؤه المعوجة! لماذا لم يتركوه في الغابة حيث لا مرآة تقول له إنه بغيض مشنوء الهيئة؟ ولماذا لم يقتله أبوه بدلا من أن يبيعه ليفضحه؟ وانهمرت الدموع الحارة على خديه، ومزق الزهرة البيضاء، ففعلت صورته مثله ونثرت الغلائل الرقيقة في الهواء، وتمرغت
17
على الأرض، فلما رفع عينه لينظر رأى الألم مرتسما على وجهه، فتسلل راجعا لئلا يرى صورته، وغطى عينيه بيديه - جر رجليه كالجريح، إلى ركن ظليل مظلم وراح يئن ويتوجع.
وفي هذه اللحظة دخلت الأميرة من الشباك المفتوح، في حاشية من أترابها، فلما بصروا بالقزم مرتميا يضرب الأرض بجمع يده، جلجلت ضحكاتهم وحفوا به ينظرون إليه.
وقالت الأميرة: «كان رقصه مضحكا، ولكن تمثيله أبعث على الضحك وأغرى به - أشبه بحركات الدمى في القراقوز، إلا أن هذه أقرب إلى الطبيعة وأشبه بها.»
وهزت مروحتها الكبيرة، وصفقت.
ولكن القزم لم يرفع عينه قط، وصارت شهقاته أخفت، وإذا به يفهق ويمسك جانبيه، ثم ارتمى، وظل ساكنا لا يتحرك.
وقالت الأميرة بعد هنيهة: «هذا بديع. والآن يجب أن ترقص لي.» فصاح الأطفال جميعا: «نعم، قم وارقص، فإنك ماهر كالقردة، ولكنك أبعث منها على الضحك.»
لكن القزم لم يجب.
فضربت الأميرة الأرض برجلها، ونادت عمها الذي كان يتمشى على الشرفة مع أحد الأمناء، وهو يقرأ رسائل جاءت الساعة من المكسيك حيث أنشئت الكنيسة منذ عهد قريب. وقالت الأميرة: «إن قزمي الصغير المضحك يعاند، فتعالى أنهضه ومره أن يرقص.» فابتسما ودخلا، وانحنى دون بدرو ولطم القزم على خده بقفازه الموشى وقال: «يجب أن ترقص أيها الوحش الصغير. يجب أن ترقص، فإن أميرة إسبانيا وأترابها يردن أن يتسلين.»
ولكن القزم لم يتحرك.
فقال دون بدرو بضجر: «يجب أن نبعث في طلب جلاد.» وعاد إلى الشرفة، ولكن الأمين بدا عليه الجد والاهتمام وجثا إلى جانب القزم ووضع يده على قلبه، ثم هز كتفيه ونهض، وانحنى للأميرة وقال: «أيتها الأميرة الجميلة، إن قزمك الصغير لن يرقص أبدا. وهذا مما يؤسف له، فقد كان دميما مشنوء الطلعة إلى حد كان يرجى أن يحمل الملك على الابتسام.»
فسألته الأميرة: «ولكن لماذا لا يرقص ثانية؟» وضحكت.
فقال الأمين: «لأن قلبه انفطر.»
فعبست الأميرة، واستدارت شفتاها الرقيقتان زراية واحتقارا وقالت: «في المستقبل، يجب أن يكون الذين يجيئون ليلعبوا معي بغير قلوب.»
وخرجت تعدو إلى الحديقة.
هوامش
جورج جوسنج
1857-1903
رجل فقير
كان ذلك في حجرة الجلوس بعد الغداء، وقد قعدت المسز شارمن - ربة الدار الجسيمة الطيبة القلب - على كرسي إلى جانب صديقتها الصغيرة المسز لورنج وتنهدت سائلة: «كيف ترين المستر تمبرلي؟»
قالت: «ظريف جدا ولكن فيه بعض الشذوذ.»
قالت الأولى: «نعم شاذ، لا يجري على قياس. وقد أردت أن أحدثك عنه قبل أن ننزل ولكن الوقت ضاق بي، وهو صديق قديم لنا، وقد كان هو وزوجي العزيز في مدرسة واحدة، هارو. وإنه لأحلى وأعذب وأرق الناس. وأخشى أن يكون خيرا من أن يصلح لهذه الدنيا. يتناول كل شيء جادا. ولن أنسى حزنه لوفاة زوجي المسكين. إني أحدث المسز لورنج عن المستر تمبرلي، يا أده.»
وكانت العبارة الأخيرة موجهة إلى بنتها المتزوجة، وهي غادة ساكنة، فيها من أمها دماثتها وطيبها، ولكنها أذكى وأفطن.
وقالت أده (المسز وير): «إني آسفة لأنه يبدو أبعد ما يكون من الصحة.»
فقالت الأم: «إنه لم يكن قط مشرق الديباجة، وحياته ... ولكني سأحدثك عنه (والتفتت إلى المسز لورنج) إنه عزب، وفي رغد من العيش، و - هل تصدقين؟ - يعيش وحده في حي زري من أحياء لندن. أي حي هو يا أده؟» - «شارع حقير في اسلنجتون.» - «نعم، هناك يعيش، في مسكن وضيع - ولا بد أن يكون غير صحي - لا لشيء سوى أنه يريد أن يحيط علما بحياة الفقراء والمساكين، وليكون بذلك أقدر على معونتهم. أليست هذه بطولة؟ وقد وقف حياته على هذا على ما يظهر فما يلتقي به أحد في مكان آخر. وأحسب أن بيتنا هو الوحيد الذي يظهر فيه للناس. حياة نبيلة! ولا يخوض فيها بكلام، أو يشير إليها بحرف، وإني لواثقة أنك لم يخطر لك أن هذا هكذا من حديثه على المائدة!»
فقالت المسز لورنج مستغربة: «لم يخطر لي قط. على أنه لم يكن كثير الكلام، وقد استطعت أن أعرف أن أكبر ما يعنيه، زخرفة الخشب، والسياسة الخارجية.»
فضحكت المسز وير وقالت : «هو بعينه! لما كنت طفلة كان يصنع لي لعبا شتى جميلة بمنشاره، ولما كبرت كان يحدثني عن التوازن الدولي! ومن يدري؟ لعله يكتب مقالات افتتاحية في الصحف، يا أمي!»
فقالت الأم: «يا بنيتي العزيزة، ما من شيء يستغرب من المستر تمبرلي! وإنها لحياة جديدة هذه التي يحياها بعد حياته في الريف. لقد كان له بيت صغير جميل قرب بيتنا في بيركشير. وليس يسعني إلا أن أعتقد أن وفاة زوجي هي التي حملته على مغادرته وتركه، فقد كان وثيق الصلة به وصديقا حميما له. فلما مات زوجي وتركنا بيركشير اختفى المستر تمبرلي - حوالي سنتين - ثم التقيت به مصادفة في لندن. ومن رأي أده أنه لا بد أن يكون قد خاب له أمل في حب.»
فقالت بنتها: «يا أمي العزيزة، لقد كان هذا تأويلك أنت لاختفائه لا تأويلي أنا.»
قالت الأم: «صحيح؟ ربما! إن الإنسان لا يسعه إلا أن يلاحظ أنه قاسى بعض الآلام. وقد يكون هذا من أثر عطفه على الفقراء والمساكين الذين وقف عليهم حياته! رجل عجيب!»
وسمعن أصوات رجال عند باب الغرفة، فتطلعت المسز لورنج إلى رؤية هذا الرجل الشاذ. وكان هو آخر من دخل، وهو طويل، وفي كتفيه انحناء، ونحيل وغير رشيق، وفي خطوته اضطراب وفي مشيته تردد، وبه حياء ظاهر، وعينه الرقيقة النظرة كثيرة التلفت هنا وهنا، وفي خط الحاجب ما يشي بالتردد والضعف، وفي الابتسامة التي تخفق على شفتيه ما ينم على وهن الشخصية بل امحائها. وكان شعره قد بدأ يخف ويشيع فيه البياض، وكان شارباه كثيفين وأليق بوجه أصرم وأحزم. وكان وهو يدخل الغرفة، أو يتسلل إليها، لا تزال كفه تنقبض وتنبسط على نحو يغري بالضحك، وقد أفرده بين الرجال أنه كان في هيئة ما يمكن أن يوصف بأنه انطفاء اللمعة، أو ذهاب الصقل، وإن كان لا يبلغ حد الرثاثة، فإذا أحد المرء النظر إليه تبين أن ثيابه السوداء مفصلة على طراز يرجع إلى بضع سنوات مضت، وكان قميصه ناصع البياض، ولم يكن يتخذ من الحلي أكثر من أزرار بسيطة على كميه وصدره.
ومضى إلى ركن، وكان خليقا أن يبقى فيه وحده، في سلام، لولا أن المسز وير جرت كرسيها إلى جانبه.
وقالت له: «أتراك ستبقى في المدينة في شهر أغسطس؟»
فقال: «لا ... لا لا ... كلا ... لا أظن.» - «ولكنك تبدو مترددا، وسامحني حين أقول إني واثقة أن بك حاجة إلى تغيير الهواء. فالحقيقة أنك لا تبدو في صحة جيدة. فهل لي أن أغريك بالانضمام إلينا واللحاق بنا في لوسرن؟ إن زوجي يكون مسرورا جدا ... بأن تتاح له فرصة للحديث معك في أحوال أوروبا. فهب لنا من وقتك أسبوعين ... أرجو ...»
فقال: «يا عزيزتي المسز وير، إنك الرقة مجسدة. وإن شكري لك لجزيل، وإني لعاجز عن العبارة عما أحس به تلقاء هذه العناية، ولكن الحقيقة أني أكاد أكون مرتبطا بوعد لإخوان آخرين. بل في وسعي أن أقول إني في حكم ... نعم هذا هو الواقع.»
وكان صوته كالصفير، ونطقه واضحا، وكان يبتسم ابتساما يحول إلى ما يشبه الإشفاء على البكاء وهو ينتقل من عبارة إلى عبارة في ارتباك واضطراب، وكانت كفاه المعروقتان الطويلتان متضاغتين حتى صارت عقل أصابعه بيضاء.
وقالت المسز وير: «إن المهم أنك ستغادر لندن، فإني أخشى أن تغالي في إرضاء ضميرك. وأحسبك تعلم أنك لن تفيد أحدا بأن تتلف صحتك.»
فقال: «هذا واضح. ها ها! وإني أؤكد لك أن هذه الحقيقة غير خافية علي. الصحة أول ما ينبغي العناية به. وليس أولى بأن يجعل الإنسان أقل نفعا من صحة متداعية. على التحقيق! على التحقيق!»
قالت: «فما القول في الجهد الذي تكلفك إياه معاطفك؟ إن لهذا أثرا في الصحة فضلا عن الجو الفاسد.»
قال: «ولكن اسلنجتون ليست فاسدة الجو يا عزيزتي المسز وير، وصدقيني حين أقول إن جوها كثيرا ما يكون منعشا. ولا تنسي أن موقعها مرتفع. أما لو تسنى أن نقلل ما تنفثه مداخن المنازل والمصانع! على كل حال أؤكد لك أن أسلنجتون تتوفر فيها كل المطالب الصحية.»
وقبيل انقضاء السهرة عزفت بعض الأصوات، وكان المستر تمبرلي يبدو كأنه يستطيبها. فقد ثنى رأسه إلى الخلف، وشخص إلى فوق، وبقي شاردا على هذه الهيئة إلى ما بعد انتهاء العزف ثم تنبه وتنهد.
ولما بارح البيت ارتدى معطفا أكثف من أن يتخذ في ذلك الوقت، ودس في جيبيه حذاءيه. وكانت قبعته من المخمل، وعالية وتناول مظلته - ولم تكن محكمة القفل - وانطلق يمشي بسرعة، كأنما يقعد إلى المحطة القريبة من هناك. ولكن القطار لم يكن مقصده، لا ولا سيارات النقل المشترك. فمضى يمشي، ويمشي، في الليل العطر، بخطوة موزونة، شأن من ألف هذا الضرب من الرياضة، وخرج من «نوتنج هيل» إلى «ماربل آرتش»، ومن ثم إلى «نيو أكسفورد ستريت»، ومن طريق تيوبولد إلى بنتونفيل، وراح يصعد حتى بلغ عدوة حيه الصحي! وبعد نصف الليل دخل في زقاق ضيق، يبدو في ضوء القمر الباهت، نظيفا وإن لم يكن فيه ما يدعو إلى الإقبال عليه. وفتح بابا بمفتاح معه، ودخل بيتا صغيرا تفوح فيه رائحة الصمغ. وأوقد شمعة وجدها في جيبه، وارتقى في السلم دورتين إلى غرفة خلفية طولها ثماني أقدام وعرضها سبع أقدام ونصف قدم، وبعد دقائق كان مستغرقا في النوم.
واستيقظ في الساعة الثامنة - وكان يعرف الوقت من جرس يدق في الحي - فارتدى ثيابه بسرعة، وفتح الباب فألفى على العتبة صينية عليها طعام الإفطار وقد نقص إلى أدنى حد - قصب من لبن، وخبز، وزبدة. وفي الساعة التاسعة نزل، ونقر بأدب على باب الغرفة المقدمة، فأذن له صوت أجش في الدخول، وكان في الغرفة رجل كهل وفتاة، وهما عاكفان على عمل اليوم - تجليد الكتب.
وقال المستر تمبرلي: «عم صباحا يا سيدي.» وحنا رأسه للفتاة وقال: «عمي صباحا يا آنسة سجس. يوم مشرق ... مشمس ... منعش!»
ووقف يفرك يديه كما يفعل المرء في ليلة مصقوعة مبرودة.
1
وهز المجلد رأسه هزة جافة، وبين للمستر تمبرلي عمله فأقبل هذا عليه بهمة وعزم. وكان يتعلم مبادئ هذا الفن، ويقضي ساعات العمل كلها مكبا صابرا، مظهرا في عمله من الاستعداد الطبيعي له حظا غير قليل .
إلى هذا الحضيض انحدر المستر تمبرلي، وكان من سادة بيركشير، وكان يعيش في دعة وخفض في من ربح ماله المستثمر، وقد تعلم في مدرسة هارو، وتخرج في كمبردج، وفكر في اختيار مهنة، حتى بدا له، على العموم، أن وقت الاختيار مضى وانقضى، ولما لم تكن به حاجة إلى تجشيم نفسه عناء العمل، فقد عاش عيشة الفراغ والبطالة البريئة على مقربة من البيت الريفي لصديقه المثري الوجيه المستر تشارمن. وكرت الأعوام لينة سمينة. وخطر له الزواج مرة أو مرتين ولكن طبيعة الحياء الشديد صدته عن اتخاذ الخطوة الأولى، ووقع في روعه آخر الأمر أنه معزابة.
2
وكان قانعا بذلك وراضيا عنه، وليته أظهر مثل هذه الحكمة وبعد النظر في مغريات أخرى! ولكنه في ساعة مشئومة صدر عن رأي المستر تشارمن الذي كان لا ينفك يلهج بالمضاربة والشركات والأرباح العظيمة، ولم يخاطر المستر تمبرلي بباعث من الطمع، فقد كان عنده فوق الكفاية ولكنه كان معنيا بأمر أخته التي تزوجت محاميا ريفيا غير موفق، وفي أبنائها الستة، الذين كان يشتهي أن يساعدهم على نحو ما يفعل الخال المثري في الأقاصيص، ويمدهم بالعون اللازم لخوض الحياة، فوثق بالمستر تشارمن ثقة عمياء، فكان أن ألقى نفسه ذات يوم يرعش على شفا الهاوية. وجاءت الأنباء تترى بما حاق به من الخراب فهوى إلى الحضيض.
ولم يكن أحد يعلم ذلك سوى المستر تشارمن، وقد مرض هذا بعد بضعة أيام ثم قضى نحبه، ولم تتحيف الخسارة التي عصفت بصديقه، إلا جانبا يسيرا من ثروته، ولم ينبس المستر تمبرلي بكلمة لأرملة صديقه، ولا أفضى بحرف إلى أحد من الناس، ما عدا محاميه الذي سوى له أموره في هدوء، وأخته التي لم يبق لبنيها إلا أن يحيوا حياتهم بلا عون، وحدث أن غابت أسرة المستر تشارمن بعد موته عن البلدة فترة من الوقت، فاختفى المستر تمبرلي في سكون.
وكان المسكين قد ناهز الأربعين، وقد بقي له من رأس المال قدر يسير لم يجترئ على مد يده إليه للإنفاق منه، فاستثمره، فأفاده دخلا لا يكاد يكفي عاملا.
وكانت لندن هي المدينة الوحيدة التي يستطيع أن يعيش فيها، لأنها المكان الوحيد الذي يسعه أن يستخفي فيه وهو مطمئن آمن، فقصد إليها، واحتاج إلى زمن غير قصير ليتعلم فن مكافحة الجوع بأيسر مقدار من المال. وقد بلغ من سوء حاله في أول عهده بهذه المحنة، ومن عض الجوع وذل الفاقة، أن اضطر أن يغالب كبرياءه فكتب إلى صاحب له يستشيره ويستعينه، وليس يعرف عبث النصح وإن حسنت فيه النية، وقلة جدوى الجاه الاجتماعي، إلا من كان في مثل موقف المستر تمبرلي وحاله. ولو أنه استجدى مالا لتلقى شيئا مشفوعا بكلمات العطف، غير أن المستر تمبرلي ما كان يستطيع أن يحمل نفسه على هذا.
وحاول أن ينتفع بما كان يتسلى به قديما من زخرفة الخشب، ونجح إلى حد ما، فربح في ستة شهور نصف جنيه! ولكن الأمل في اكتساب جنيه في العام يضيفه إلى دخله الضئيل لم يكن من شأنه أن يشجعه ويحضه على المثابرة!
وكان في ذلك الحين يعيش في عزلة تامة. والفقر أقوى ما زهد في الاختلاط ورغب في الاعتزال والوحدة، إلا إذا كان المرء قد ولد وشب في أحضان الفاقة. وليس يسع الرجل المرهف الحس حين يلفى أنه قد صار أدنى من أقرانه منزلة، إلا أن يلوذ بالوحدة، وما أسرع ما يتبين أن الناس لا يجدون عسرا أو عناء في نسيانه. وقد كانت لندن، وما زالت، غاصة بالزهاد والمعتزلة، برضاهم أو كرههم، وكان المستر تمبرلي، كلما ذهب يجوب الشوارع أو الحدائق، أو يزجي الوقت في المتاحف (التي لا يؤدي داخلها شيئا) لا يزال يلتقي بمن يفطن إلى أنهم نظراؤه وإخوانه في الاعتزال، وكان يفهم النظرة المخالسة حين تلتقي بنظرته، ويقرأ صفحة الوجه المقطب، ويلاحظ الثياب اللبيسة بعطف. وليس بين هذه الخلائق المستخفية المتسللة بث متبادل، وما منهم إلا من يود أن يقول بشجوه، ولكن الكبرياء تصده وتكبحه، فيمضي في طريقه صامتا مستفردا حتى يجد نفسه آخر الأمر - لحسن الحظ - في مستشفى أو ملجأ، فتنحل عقدة اللسان الممتسك ويقول القلب الكليم الموجع بعتبه على الدنيا.
ويحذق من هذا حاله دروسا كثيرة لم تكن له في حساب، فيتعلم أساليب عجيبة للاقتصاد والتدبير، ويزهي بأن يتبين أن المسكة من الرزق حسب المقل ليعيش بها، وقد كان المستر تمبرلي في أيام خفضه ويساره، خليقا أن يجزم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بأقل من كذا وكذا، فلما أعسر عرف أن الرجل يقدر أن يعيش بقروش قليلة في اليوم. وصار يعرف أثمان المآكل، وتعلم المزايا النسبية للأطعمة، والخصائص الغذائية المختلفة لكل منها، واضطره الشظف أن يكون نباتيا فوجد أن الطعام من النبات أصح له، فجعل يلقي على نفسه خطبا ساخرة بآكلي اللحوم، ويحاضرها في مضار القرم، وآلى مكرها ألا يذوق خمرا، واشتاق أن يعتلي منبرا من منابر الدعاة إلى نبذ الخمر، وأن يؤدي من فوقه الشهادة. وفي هذا كله عزاء، وإن فيه لعوضا عن فقد كثير من ضروب الاحترام الذاتي.
واتفق يوما أن كان يهم بأن يقبض من بنك إنجلترا المبلغ الزهيد الذي يأخذه كل ثلاثة شهور، فلمحته سيدة وعرفته. وكانت أرملة المستر تشارمن.
وصاحب به: «أين كنت كل هذا الزمن يا مستر تمبرلي؟ لماذا لم يجئني منك أي نبأ؟ هل صحيح ما حدثني به بعضهم من أنك كنت تعيش في الخارج؟»
وبلغ من ارتباكه من جراء هذه المباغتة، أن ردد، بطريقة آلية، آخر ما سمعه من السيدة - «في الخارج.»
فألحت عليه المسز تشارمن تسأله ولا تدع له فرصة لكلام يقوله: «ولكن لماذا لم تكتب إلينا؟ تالله ما أقساك؟ ولماذا سافرت من غير أن تخبرنا؟ إن ابنتي تقول إننا لا بد أن نكون قد أسأنا إليك بشيء ما، قل بالله! إنه لا يمكن أن يكون هناك شيء ...»
فقال: «يا عزيزتي المسز تشارمن، إني أنا الملوم وحدي. إني ... ولكن الإيضاح صعب لأنه يستدعي تفصيلا طويلا، وبيانا مسهبا، وإني لأرجو أن تحملي سلوكي الذي لا مسوغ له على - على محمل الشذوذ المحض.» - «لا بد أن تجيء إلينا وتزورنا. وهل تعلم أن آده تزوجت؟ نعم، منذ سنة أو حوالي ذلك. ولشد ما يسرها أن تراك! فإنها تلهج بذكرك كثيرا، متى تستطيع أن تتعشى معنا؟ غدا؟» - «بسرور، بسرور عظيم.»
وأعطته عنوانها، وافترقا.
وكان من الدلائل على أن المستر تمبرلي لم ييأس قط من العود إلى عالمه القديم أنه عني بالتحفظ بثياب السهرة والحذاءين الملائمين لها. وما أكثر ما هم مدفوعا بحاجته وضنكه، أن يبيع هذه الأشياء التي لا نفع لها عنده! وقد رهنها أكثر من مرة، من أجل بضعة شلنات، ولكن النزول عن عنوان منزلته ورمز طبقته، لم يكن إليه من سبيل، لأن معناه اليأس المطلق، واليأس شيء أجنبي، لا يوائم طبيعة المستر تمبرلي المبنية على الجلد. وقد ذهبت حليه جميعا - حتى ساعته وسلسلتها - فإن مثل هذه الأشياء ليست لازمة لازبة، لمظهر الرجل الكريم، وقد هنأ نفسه بما كان من حسن تدبيره لأموره، ذلك أن لقاء المسز تشارمن سره بقدر ما ربكه، وخفق قلبه خفقة الجذل وهو يتطلع إلى قضاء المساء في بيئته القديمة. وعاد مسرعا إلى غرفته وفحص ثيابه بعناية وتدقيق فلم يجد فيها عيبا ظاهرا أو ملحوظا. على أنه احتاج أن يشتري قميصا ورباطا. وكان معه لحسن حظه المال الكافي لسد هذه الخلة، ولكن بماذا يئول لهم غيبته الطويلة؟ هل يسعه أن يطلعهم على خصاصته ويدلهم على مسكنه؟ إن هذا يكون معناه استدرار العطف من أصدقائه القدماء، وهذا موقف لا قبل له به ولا قدرة له على احتماله. والرجل الكريم لا يكشف عن حالة تسوء وتؤلم إذا كان يسعه كتمانها. فهل يكذب إذن صراحة أو ضمنا؟ وذكر الحقيقة لا سبيل إليه لأنها تنطوي على لوم لزوج المسز تشارمن.
وجاء مساء اليوم التالي وهو لا يزال حائرا لا يستقر على رأي. وبلغ بيت المسز تشارمن من غير أن يصح له عزم على أمر، وكان في غرفة الجلوس ثلاثة ينتظرونه - المسز تشارمن، وابنتها، وزوجها - المستر والمسز وير - وقد أشفى على البكاء من حسن ما استقبل به، وغلبته عواطفه ففقد رصانته وصار يتكلم جزافا، فصاغ قصة خرافية لم يكد يفرغ منها حتى بهت هو نفسه لها!
وقد جاءت هذه القصة في جواب سؤال طبيعي عن مسكنه أين هو؟
فقال بابتسامة سخيفة: «في الوقت الحاضر أسكن غرفة للنوم والجلوس معا في شارع صغير في حي إسلنجتون.»
فساد الصمت، ورشقوه بنظرات التعجب والدهشة، ولولا هذه النظرات لما درى أحد بماذا كان المستر تمبرلي حقيقا أن يعترف.
وقال: «لقد قلت يا مسز تشارمن إنه لا يسعني إلا أن أعترف بشيء من الشذوذ. وإني لأرجو ألا يزعجك ذلك. وأوجز فأقول إني وقفت جهودي الضعيفة على العمل الاجتماعي. فأنا أعيش بين الفقراء، كواحد منهم، لأحصل بذلك على المعرفة والخبرة اللتين لا سبيل إليهما بغير هذه الوسيلة.»
فصاحت مضيفته: «تالله ما أنبلك!»
وكان ضمير المسكين يخزه وخزا أليما، فلم يسعه أن يزيد على ما اخترع شيئا وأراد القوم أن يترفقوا بعواطفه ويعفوه من الحرج فغيروا موضوع الحديث. ولم يخطر لهم قط وقتئذ، ولا فيما بعد، أن يشكوا في صدقه. ولقد رأته المسز تشارمن يعامل بنك إنجلترا، وهو مكان لا يوحي إلى النفس فكرة الفقر، وكان العهد بالمستر تمبرلي أنه غريب الآراء والأساليب. وهكذا تورط في كذبة عجيبة، وخدعة لا يسهل تبينها، ولا ضرر منها إلا عليه.
ومضى نحو عام على ذلك، التقى المستر تمبرلي في خلاله بأصدقائه هؤلاء ست مرات أو حوالي ذلك، وكان ينعم باجتماعه بهم على نحو يدعو إلى المرثية، ولم يكن يزعجه منهم أي إشارة إلى أسلوب حياته، فقد صار من المفهوم والمقرر أنه يؤثر أن يظل نوره محجوبا، ومروءته مكتومة، فلم يكن يحتاج أن يكذب مرة أخرى. وما من شك في أنه ندم على الكذب والخداع، وجال بخاطره أن المسز تشارمن - وهي سيدة غنية - لعلها كانت تستطيع أن تساعده على ما يبتغيه من وسيلة كريمة لكسب الرزق. على أن الواقع أنه لم يخطر له إلا أن يكون مجلد كتب، وهي حرفة توافق ذوقه بعض الموافقة، واجترأ يوما فاتفق مع رب البيت على أن يعلمه هذه الحرفة بالعمل له زمنا ما، بعد أن يحذقها. وقد صار الآن هذا اليوم قريبا، وأحس المستر تمبرلي أنه على العموم أسعد مما كان أيام البطالة واجترار الهموم، وأصبح يتطلع إلى اليوم الذي يزداد فيه دخله، فلا يعود يفرق من الأسبوعين الأخيرين من كل ثلاثة شهور، ومن النوم فيهما كل ليلة بغير عشاء.
وقد أورثته دعوة المسز وير له أن يلحق بها في لوسرن، ألما مرا. لوسرن! أفترى تلك كانت حياة سابقة أيام كان يسعه أن يسافر ويجوب الأرض، ويركب البحر، ويتنزه كما يحب، ولا يعني نفسه بحساب المال؟ وارتسمت لعينه أماكن كثيرة جميلة رحل إليها، ومناظر حسنة كالأحلام نعم بها، وقد أصارتها شوارع لندن بعيدة نائية، وأشبه بالصور الخيالية منها بالحقيقة، وصارت السنوات الثلاث التي قضاها في لندن في البأساء والضنك أطول فيما يحس من كل حياة الدعة والخفض التي كانت قبلها. لوسرن! ولو كانت طبيعة المستر تمبرلي أحد وأقوى لطار عقله، ولكنه جعل يدير هذا الخاطر في نفسه النهار كله، ولا يعبر عن عواطفه بأكثر من زفرة أو ابتسامة حزينة.
ولما كان قد أصاب من طعام العشاء، البارحة، حظا جزيلا، فقد أحس أن عليه أن ينفق على طعامه في يومه أقل من القدر المألوف، وحوالي الساعة الثامنة مساء، بعد أن تمشى في ذلك الجو الذي أثنى عليه، عرج على الدكان الذي ألف أن يشتري منه حاجاته القليلة، وكانت فيه امرأة سمينة، فهزت رأسها له بالتحية، وابتسمت لزبون آخر، فانحنى لها المستر تمبرلي، كما هي عادته، ردا لتحيتها وقال: «تفضلي بإعطائي بيضة طازجة، وخسة صغيرة.»
فسألته المرأة: «واحدة فقط في هذه الليلة؟»
فقال، وكأنما كان يتحدث في غرفة استقبال: «شكرا لك، نعم واحدة. وسامحيني إذا أعربت عن الأمل في أن تكون طازجة بأدق معنى للفظ. فإنه يخيل إلي أن الأخيرة كانت في هذا الصندوق من قبيل الخطأ والسهو، وهو يغتفر بسبب زحمة العمل.»
فقالت المرأة السمينة: «إنها جميعا سواء، ودائما سواء، ولسنا نغلط مثل هذا الغلط.»
فقال: «عفوا! لعلي توهمت ...»
ووضع البيضة والخسة بعناية في حقيبة صغيرة معه، ورجع إلى البيت، وبعد ساعة من تناول هذه الأكلة، قعد على كرسي مستقيم الظهر يفكر، وإذا بنقر على الباب، ويد تمتد إليه بكتاب. وكان يندر جدا أن يتلقى رسالة أو رقعة، فاضطربت يده وهو يتأمل الظرف. وكان أول ما رآه بعد أن فض الرسالة شيكا، فزاد اضطرابه، وفتح الرقعة ونفسه تجيش، فإذا بالرسالة من المسز وير، وفيها تقول:
عزيزي المستر تمبرلي،
بعد الحديث الذي دار بيننا البارحة لم أستطع إلا أن أفكر فيك وفي حياة التضحية الجميلة التي تحياها، وقد قارنت حياة هؤلاء التعساء المساكين بحياتي التي لا يسعني إلا أن أحس أنها مباركة حافلة بالمناعم، وقد دفعتني هذه الخواطر إلى الاكتتاب بقدر يسير لأساهم في عملك المجيد، وإني أعد هذا ضربا من الشكر لله في اللحظة التي أسافر فيها لأقوم برحلتي، فأقسم المبلغ من فضلك بين اثنين أو ثلاثة ممن تراهم أحق وأولى، أو إذا بدا لك أن تهبه كله لواحد فافعل. هذا وإني أتشبث بالأمل في أن أراك في لوسرن. وتحياتي إليك.
وكان المبلغ خمسة جنيهات. فرفع الشيك قرب النافذة، وتأمله. وخمسة جنيهات تعد مبلغا جسيما إذا اعتبرنا الحياة التي يحياها، وقيم الأشياء فيها. وتصور ما يستطيع المرء أن يفعله بقدر من المال كهذا! حذاءاه - اللذان رقعهما مرتين - لم يبق من عمرهما إلا القليل، وبنطلونه صار غاية في الرثاثة. وقبعته (لشد ما عني بها) هي التي جاء بها إلى لندن منذ ثلاث سنوات. وقد أصبحت حاجته شديدة إلى ثياب جديدة يكتسيها، من رأسه إلى قدمه، وفي إسلنجتون، تعد خمسة جنيهات فوق الكفاية لقضاء هذه الحاجات جميعا، ومتى يتاح له أن يلقى إليه بمبلغ كهذا مرة أخرى، لينفقه على هواه، بلا حساب؟
وتنهد وتلفت في الغسق.
وكان الشيك مصلبا، فأدرك المستر تمبرلي للمرة الأولى في حياته أن رسم صليب على شيك، قد يسبب لمن يحمله متاعب كثيرة، فكيف يصرفه؟ وإنه ليعرف أن صاحب البيت رجل ليس أسرع منه إلى إساءة الظن، وأخلق بأن يكون الرفض - مقرونا بالنظرة التي يحسن المستر سجز أن يحدج بها الإنسان - مهانة شديدة. ثم إن من المشكوك فيه جدا أن يستطيع المستر سجز أن ينتفع بهذا الشيك. فإلى من يتجه غيره؟ لا أحد في لندن كلها!
وحدث نفسه أن أول ما ينبغي أن يصنع هو أن يرد على رسالة المسز وير. فأضاء المصباح، وجلس إلى منضدة صغيرة، ولكنه غمس القلم في الدواة عدة مرات قبل أن يستطيع أن يكتب إليها شيئا.
عزيزتي المسز وير،
وتلت ذلك فترة توقف طويلة حتى بدا كأنه نام، ثم انتفض وانحنى مرة أخرى على الورقة.
أشكرك شكرا جزيلا على هذه الهبة الكريمة. وسيوزع المبلغ ... (وتوقف مرة أخرى دقائق عديدة).
على الوجه الذي أردته، وسأقدم لك بيانا مفصلا بوجوه إنفاقه.
ولم يسبق قط أن كابد مثل هذا العسر في الكتابة. وأحس أنه يسيء العبارة جدا، عما يريد، وكأنما عوق ذهنه عن الدوران شيء، ولم يستطع أن يتم الكتابة إلا بمجهود بدني كبير، فلما فعل خرج واشترى طابعا وألقى بالرد في صندوق البريد.
ولم ينم في ليلته تلك إلا غرارا، فما كاد يرقد حتى شرع يفكر في الأمر، وأين وكيف يجد هؤلاء الفقراء الحقيقين بأن يقتسموا هذه الهبة؟ ولم تكن له معرفة بالطبقة التي تعنيها المسز وير، وتتبرع لها. وصحيح أن الأسر التي حوله فقيرة كلها، ولكن هل للفقر عند هؤلاء نفس المعنى الذي يفهمه هو من اللفظ؟ وهل في هذا الشارع القذر من يحق له - بالقياس إليه هو - أن يدعى فقيرا؟ والمتعلم الذي يضطره انتقال الأحوال أن يعيش بين الطبقات الدنيا، تتكون له آراء غريبة. مثال ذلك أن المستر تمبرلي صار يعتقد أن ما يقال عما تقاسيه هذه الطبقات مبالغ فيه لأنه مقيس بمقياس غير صالح، وكان المستر تمبرلي يرى حوله عالما من المرح الصاخب، والعمل مع الرضى، وبلادة الحس. وكان يخيل إليه أنه في هذا الحي، هو الوحيد الذي يشعر بالفاقة وبألمها.
وتنبه من إغفاء كالكابوس، على خاطر جلي، وذكرى تشق رأسه شقا. إلى من يرجع «الفضل» فيما صار إليه من البؤس والفاقة بعد الرفاهة وخصب العيش؟ إلى والد المسز وير! وإذا نظر إلى الأمر من هذه الناحية ألا يكون له أن يعد الشيك ضربا من التعويض!
وأخذه النعاس لحظة، ثم أفاق وفي رأسه خاطر آخر غريب. أيمكن أن تكون المسز وير (وهي امرأة ذكية) قد شكت في أمره أو وقفت على حقيقته؟ ألا يجوز أن تكون قد أرادت فيما بينها وبين نفسها أن يأخذ هو المال الذي بعثت به.
ولكن هذا الخاطر بدا في الصباح غير مقبول، أو محتمل، وكل ما أثمره هو أنه قوى في نفسه شعوره بدين المستر تشارمن له. ووثب من الفراش، وتناول الشيك، فظل في يده ساعة، ثم نهض وارتدى ثيابه.
وبعد أن أدى عمله في يومه خرج يتمشى في شارع كبير الدكاكين، فاستوقفه دكان حذاء، فبقي برهة غير قصيرة أمام الواجهة، ويده في جيبه تعبث بجنيه فيه - وما جنيه بقليل، من المبلغ الذي يعيش به إلى أن يجيء يوم القبض - ثم تخطى العتبة. ولم يكن أقل منه حزما أو حكمة، فقد فرغ من الأمر في مثل لمح البرق، وكان يتكلم ولا يسمع ما يجري به لسانه، وينظر إلى الأشياء ولا يراها، وكانت النتيجة أنه لم يدرك إلا بعد أن بلغ بيته، وحذاءاه العتيقان تحت إبطه، أن الحذاءين الجديدين ضيقان جدا، وأن ضغطهما شديد الإيلام، وكان لهما أيضا أطيط وصريف، ألا ما أعلى صوتهما! ولكن الأحذية الجديدة لا تخلو من أمثال هذه المعايب. ولعله نسي ذلك لطول عهده بالقديم البالي. وكان يشعر بالإعياء الشديد، فتناول لقمة واستلقى على سريره لينام.
وظل طول الليل يحلم بالحذاءين الجديدين، وكان يرى في منامه أنه يظلع في شوارع مدينة خيالية يكمن له بعضهم فيها عند كل ركن وزاوية، وفي كل مرة يتبين أن العدو المتربص له هو المسز وير، وكانت تنظر إليه باحتقار، وتدعه يمضي في سبيله. وكان أطيط جلد الحذاءين صوتا ناطقا لا ينفك يصيح به ويعلن إليه اسما مرعبا، فكان يتضاءل، ويتقبض، ويرعش، ويتوجع، ولكنه مع ذلك كان يمضي على سننه وفي يده شيك عليه صليب، يحاول عبثا أن يجد من يعطيه به مالا.
ولما استيقظ كان رأسه أثقل من الرصاص، ولكن ذهنه كان صافيا، وتفكيره مستقيم، فسأل نفسه: ماذا يعني بإنفاق المال على هذا النحو الجنوني مع افتقاره إليه؟ وليت الحذاء الجديد يطاق لبسه؟ أكان ينوي ... يا حفيظ!
ولم يكن المستر تمبرلي من أهل العلم بالنفس الإنسانية، ولكنه فطن بغتة وعلى أجلى صورة، إلى الأزمة النفسية التي كان يعانيها، واطلع بذلك على حقيقة أخرى من حقائق الفقر.
وبعد أن تناول طعام الإفطار نزل ونقر على باب المستر سجز، وكان الرجل يأكل، فسأله، وفمه ملآن: «ماذا تريد؟»
قال: «سيدي، إني أرجو أن تأذن لي في الغياب ساعة أو ساعتين في هذا الصباح، فإن هناك أمرا له بعض الخطر، يتطلب عنايتي.»
فقال المستر سجز بما عرف عن أهل طبقته من الذوق: «أحسب أن لك أن تصنع ما تشاء، فما أنقدك أجرا.»
فانحنى المستر تمبرلي وانصرف.
وبعد يومين آخرين كتب رقعة ثانية إلى المسز وير، هذا نصها:
إن المبلغ الذي تفضلت بإرساله إلي وأجبتك بأني تلقيته، قد وزع الآن. وقد رأيت أن الأولى والأمثل أن أسلم الشيك إلى قسيس في هذا الحي، مشفوعا بأوامر صريحة، وقد دون على الرقعة التي ترينها مع هذه الرسالة، بيانا بأسماء الذين انتفعوا بهبتك، فعسى أن ترضي عما فعل.
ولكنك قد تسألين، لماذا رأيت أن ألجأ إلى قسيس؟ ولماذا لم أستعن في هذا الأمر بخبرتي وتجاربي، فأفيد الرضى والسرور الحاصلين من مساعدة الفقراء الذين أعني بهم؛ أنا الذي وقفت حياتي على هذا العمل الإنساني النبيل وجعلت من نفسي رسولا للرحمة؟
والجواب وجيز وسهل. ذلك أني كذبت عليك.
فأنا لا أعيش في هذا الحي بإرادتي الحرة، ولست أقف حياتي على أعمال البر والإنسان. وأنا لست - كلا، بل لم أكن إلا - رجلا تبين في يوم من الأيام أنه ضيع ماله في مضاربة حمقاء، فاستحى أن يطلع أصدقاءه على ما صار إليه أمره، فلاذ بحياة العزلة والشقاء، فأنت ترين أني أضفت الجبن إلى سوء الحظ ولن أخبرك كيف كدت أفعل ما هو شر من ذلك.
وأنا أقضي فترة في تعلم حرفة ستمكنني بلا شك من زيادة دخلي فأصبح أحسن حالا. وإني لأرجو أن تغفري لي ما كان مني، إذا استطعت، وأن تنسيني.
وإني لك يا سيدتي لخادم غير جدير بشيء.
س. ف. تمبرلي
هوامش
هنري هارلاند
1861-1905
بيت يولالي
هو بيت صغير جميل في رقعة ساحرة من الريف - ركن قلما يغشاه أحد، من بلاد نورمندي، على مقربة من البحر - تكثر فيه البساتين، وتمتد الحقول والمراعي للماشية، وتستقيم الطرق الظليلة.
والمرء لا يسعه إلا أن يستغرب أن يجد هذا البيت قائما هنا، فقد كانت البيوت الأخرى مساكن فلاحين أو أكواخ عمال، ولكن هذا كان منزلا أنيقا مبيضا، وله نوافذ كالأبواب، وشرفات ذات أسوار من حديد فيه صنعة، وستائر من نسج البندقية، منزلا للهو والمسرة تحيط به حديقة صغيرة نضيرة، وتعطر جوه الورود والأزهار المنسقة، وترتاح العين إلى الخضرة اليانعة حوله. وكان هناك، مما يلي الحديقة، بستان تقوم فيه صفوف من أشجار التفاح القديمة، وقد مال بعضها على بعض فكأنها كانت ترقص ثم وقفت ولزمت آخر ما كانت عليه من هيئة. وتدير عينك فترى حقولا منبسطة، من القمح والبقول المنسطحة على الأرض، إلى البحر، وصخورا بيضاء غير مستوية تستحم في الماء الأخضر، وترى لها ظلالا لامعة خفاقة.
ورأيت لوحا معلقا على الحائط عليه كتابة ساذجة، أيدت ما علمته من السمسار في «دييب» فصحيح إذن أن البيت للإيجار. وقد ركبت ساعتين طويلتين لأراه، والآن صرت على عتبته، فدققت الجرس. وهو جرس كبير معلق وله مقبض من البرنز مصنوع على هيئة حبل وزر. وخليق بصوته أن يذهب إلى بعيد في هذا الريف الساكن.
وقد ذهب الصوت، على كل حال، إلى مسكن كالكوخ على مسافة مائة ذراع، فخرج منه رجل وامرأة، ووقفا هنيهة ينظران إلى ناحيتي ثم أقبلا نحوي. وكان الرجل شيخا والمرأة مثله ، وكلاهما أسمر. وكان الرجل يلبس ثوبا غليظا مفتول الغزل طاقين، وعلى المرأة قبعة من القطن، بيضاء نظيفة، وفوطة زرقاء تلفها على وسطها. وكان خطوهما رويدا على عادة أهل الريف.
فسألتهما: «السيد والسيدة ليرو؟»
وذلك بعد أن تبادلنا التحيات التمهيدية، وأخبرتهما أني جئت من دييب حيث أنبأني السمسار أن هذا البيت للإيجار، وكانا على ما بدا لي ينتظران مقدمي. فقد أبلغني السمسار أنه سيبلغهما رغبتي.
ولكن لشد ما استغربت إذ رأيت أن هذا الكلام العملي ربكهما! بل يخيل إلي أنه أورثهما اضطرابا وأحدث لهما ألما. فقد رفعا وجهيهما المغضنين ونظرا إلي نظرة القلق، وتبادلا النظرات الواشية بالحيرة، وقبضت المرأة بيد على الأخرى وجعلت أصابعها تتحرك، وتردد الرجل وتلجلج قبل أن يستطيع أن يقول: «جئت لترى البيت يا سيدي؟»
قلت: «نعم، أو لم يكتب إليك السمسار؟ لقد علمت منه أنك تنتظرني في هذه الساعة، اليوم؟»
قال الرجل معترفا: «نعم، كنا في انتظارك.»
غير أنه لم يفعل شيئا يتقدم به الأمر خطوة واحدة، وبادل امرأته نظرة حيرة أخرى فهزت رأسها كأنما تريد أن تقول إنه لا حيلة لها وأن الأمر لله، وأطرقت.
وقال الرجل بلهجة من يحاول جلاء الغامض: «شف
1
يا سيدي ... شف ...» ثم تلجلج وزوى ما بين عينيه كأنما يعاني أزم التعبير.
فسألته مقترحا: «هل استؤجر البيت؟»
فقال: «كلا، لم يؤجر.»
فقالت امرأته أخيرا بلهجة المكروب ومن غير أن ترفع عينها عن الأرض: «يحسن أن تذهب وتجيء بالمفتاح.»
فانكفأ راجعا يجر رجليه إلى كوخه، وبقينا نحن واقفين صامتين بجانب الباب، وكانت أصابع يديها المتشابكتين لا تزال تضطرب، وحاولت أن أجرها إلى الحديث، وأفتح لها أبواب الكلام، فأثنيت على موقع البيت وجمال المنظر، فتمتمت موافقتها في رقة ولطف، ولكن بضجر غير خاف. فلم يشجعني هذا على المضي في الكلام.
وعاد إلينا الرجل بالمفتاح، وشرع وامرأته معه يريني البيت، وكان فيه حجرتان جميلتان للجلوس والاستقبال في الطبقة الأرضية، وثالثة للطعام، ومطبخ واسع من الآجر الأحمر المصقول، ومدخنة، وأوعية شتى من النحاس اللامع، وكان المتاع في غرف الجلوس والاستقبال والطعام خفيفا على الطراز الفرنسي، وكانت النوافذ تفتح على الشمس وعلى أرج الحديقة وخضرتها البهيجة، فأعربت لهما عن سروري وإعجابي بما شاهدت، وإذا بحالتهما تتغير شيئا فشيئا، من الكآبة، والتردد، والحيرة، إلى الاستجابة والانشراح، وصارا يتلقيان كلامي بابتسام، ويجيبان عن أسئلتي بلهفة وبإفاضة. ولكن الاضطراب لم يزايلهما، اضطراب العاطفة الجياشة، وكانت أيديهما المعروقة تختلج وترتعش إذ يفتحان لي الأبواب والنوافذ، وينحيان الأستار، وصوتهما يتهدج، حتى ابتسامهما كان عن ألم مكنون؛ فهو لا يجاوز السطح ولا يؤثر في المطوي من الهم.
وحدثت نفسي أن حاجتهما ملحة إلى المال، وأنهما عسى أن يكونا قد أنفقا على هذا البيت كل ما كان عندهما، فهما إذ يجدان مستأجرا معذوران إذا اضطربا.
وقال الرجل: «والآن، إذا شئت يا سيدي، تفضل بنا إلى فوق لنريك غرف النوم.»
وكانت هذه الغرف حسنة التهوية، تدخل السرور على النفس، وكانت جدرانها مورقة، وعلى نوافذها ستائر قطنية مطبوعة، وأثاثها كالمعهود في حجرات النوم الفرنسية. وكانت إحداها تبدو كأن هناك من يستعملها، فقد كان فيها متاع وأشياء - أشياء شخصية - لامرأة. وكانت آخر ما دخلنا من الغرف، وهي مقدمة وتطل على البحر، ورأيت على المنضدة فيها أمشاطا وفرشا، وعلى المكتب الصغير أقلاما ومحبرة ومحفظة، وعلى الرفوف كتبا مرصوصة، وعلى الصفة صورا شمسية في إطاراتها، وفي الصوان ثيابا معلقة، وعلى الأرض أحذية وخفافا نظيفة مرتبة، وعلى السرير حبسا مبسوطا، من الحرير الأزرق، وعلى الحائط مما يلي السرير، صليبا معلقا وإلى جانبه وعاء من الخزف فيه ماء مقدس.
فالتفت إلى الرجل وامرأته وقلت: «يظهر أن هذه الغرفة مسكونة.»
فلم يبد على السيدة ليرو أنها سمعت ما قلت، فقد كانت شاخصة لا تطرف وكانت شفتاها متباعدتين، وعلى وجهها سيماء الضجر كأنما يكون من دواعي سرورها أن نفرغ من تجوابنا في البيت وطوافنا بغرفه، أما السيد ليرو فرفع يده إلى السقف بإيماءة غريبة وقال: «كلا، إن الغرفة ليست مأهولة في الوقت الحاضر.»
ونزلنا، وعقدنا الاتفاق على أن أتسلم البيت للسكنى مدة الصيف ، وأن تقوم السيدة ليرو بطبخ الطعام لي، ووعد السيد ليرو أن يركب إلى دييب يوم الأربعاء ليعود بي وبحقائبي. •••
وفي يوم الأربعاء، كنا عائدين، ومضى نصف ساعة ونحن صامتان، وإذا بالسيد ليرو يقول لي فجأة: «هذه الغرفة يا سيدي ... الغرفة التي ظننت أنها مأهولة؟»
فقلت، وقد رأيته يسكت: «نعم ... ما لها؟»
قال: «إن لي اقتراحا أعرضه عليك.»
وكان يتكلم وبه على ما خيل إلي، خجل، وفي لهجته ما يدل على الإصرار وكانت عينه على أذني حصانه.
فقلت: «هات اقتراحك.»
قال: «إذا وافقت على أن تترك هذه الغرفة على حالها، بما فيها من المتاع، فإني مستعد لنقص الإيجار إذا رضيت أن تدعنا نحتفظ بها كما هي.»
قال ذلك بلهجة المتوسل المتلهف، وزاد عليه: «إنك وحيد، ولا حاجة بك إلى هذه الغرفة، فإن ما يبقى من البيت فوق الكفاية ... أليس كذلك يا سيدي؟»
فوافقت، وقلت له إن في وسعه هو وامرأته أن يحتفظا بالغرفة إذا شاءا.
فقال: «شكرا لك، وستحفظ لك زوجتي هذا الجميل.»
وعدنا إلى الصمت فترة، قال بعدها: «أنت أول مستأجر لبيتنا، فما أجرناه لأحد من قبل.»
فسألته: «صحيح؟ منذ كم بنيتماه؟»
قال: «أنا بنيته، بنيته منذ خمس أو ست سنوات.» وأمسك ثم قال: «بنيته لبنتي.»
وخفت صوته وهو يقول ذلك، ووقع في نفسي أن هذه ليست سوى فاتحة لشيء يريد أن يفضي به إلي، فقلت أستحثه وأشجعه: «آه! صحيح؟»
فقال: «إنك ترى أي ناس نحن - زوجتي وأنا - فلاحان ... خشنان. ولكن ابنتي يا سيدي»، ووضع يده على ركبتي وحدق في وجهي، «ابنتي كالشفوف رقة.»
ورد عينه إلى حصانه، ولزم الصمت دقيقة أو اثنتين، ثم عاد يقول، وعينه على أذني حصانه لا يرفعها عنهما: «لم يكن في كل هذه الناحية سيدة أرق منها وألطف» - وكان يتكلم بسرعة وبصوت غليظ كأنما يحدث نفسه - «كانت جميلة، ومن أحلى خلق الله طباعا، ومن أحسن الناس تعليما. تربت في الدير، بروان، دير «القلب المقدس» ... ست سنوات قضتها في الدير تتعلم - من الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة. وكانت تعرف الإنجليزية - لغتك يا سيدي ... ونالت جوائز في التاريخ وفي الموسيقى. ما من أحد يحسن العزف على البيانو كما تحسنه.» وسألني فجأة وبعنف: «فهل كان يليق بها كوخ ريفي ككوخنا؟» وأجاب عن سؤاله فقال: «كلا، يا سيدي! فما يجوز أن تلوث الثياب الرقيقة بوضعها في صندوق قذر. وقد كانت ابنتي سكب ماء من الرقة، وكانت يداها أنعم من مخمل «ليون» وآه! من حسن مشمهما! أعني يديها! لقد كان الطيب الذي أجده في يديها ينعشني. وكنت ألثمهما، وأشمهما كما تشم الزهرة.»
وأخفتت الذكرى صوته، ومضت لحظة أخرى من الصمت، ثم عاد يقول: «وكنت كثير المال - مدنرا ومدرهما - وكنت أغنى فلاح في هذه الناحية فبنيت هذه الدار - بناها المسيو كلير مون أكبر مهندس في روان، وخريج مدرسة الفنون الجميلة بباريس - هو الذي شيد الدار لابنتي - بناها وأثثها، وجعلها لائقة بكونتيسة. حتى إذا عادت من الدير لتقيم معنا وجدت الدار جديرة بها، انظر إلى هذا يا سيدي! أترى أن أفخم قصور العالم يكون كثيرا عليها؟»
وأخرج كيسا قديما من الجلد الأحمر، وناولني منه صورة غادة ناعمة لينة في السابعة عشرة من العمر، وفي وجهها قسامة، وفي معارفها عذوبة ورقة. وكان الرجل معلق الأنفاس محتبسها وأنا أتأمل الصورة، ثم ألح علي يسألني: «أليست ظريفة؟ أليست جميلة؟» وكأنه يناشدني أن أعطف عليه وأرق له فأشاركه في ثنائه. وقد أجبت بما وسعني، بخير ما قدرت عليه، فأعاد الصورة بيد مرتعشة إلى كيسها، وأخرج من ناحية أخرى من الكيس بطاقة صغيرة بيضاء، عليها ما اعتاد الفرنسيون أن يحفروه على قبورهم - صورة الصليب، وحمامة - تحتها ما يأتي:
يولالي - جوزفين - ماري ليرو. ولدت في 16 مايو/أيار سنة 1874، وتوفيت في 12 أغسطس/آب سنة 1892. صل لها.
وقال: «الله يعرف ما هو صانع. لقد بنيت هذه الدار لبنتي، فلما تم تشييدها اختارها الله إلى جواره. وقد ذهب بعقلنا الحزن - زوجتي وأنا - ولكن هذا ما كان ليردها إلينا. وما يدريني؟ لعل عقلنا ما زال مذهوبا به من الحزن. فما نستطيع أن نفكر في شيء آخر. وما نحب أن نتكلم عن شيء آخر. ولم نستطع أن نعيش في البيت - بيتها - وهي ليست فيه ولم يخطر لنا قط أن نؤجره. لقد بنيته لابنتي، وفرشناه وأثثناه لها، فلما جهزناه ... ماتت. أليست هذه قسوة يا سيدي؟ وكيف أؤجر البيت للأغراب؟ ولكني منيت في المدة الأخيرة بخسائر، فأنا مضطر أن أؤجر البيت لأقضي ديني. ولكني لا أستطيع أن أؤجره لأي إنسان. وأنت إنجليزي. ولو كنت لم أرتح إليك لما أجرته لك ولا بمليون من الجنيهات الإنجليزية. ولكني مغتبط بأن كنت أنت المستأجر. وستحترم ذكراها، وستأذن لنا في الاحتفاظ بتلك الغرفة - غرفتها - وسندعها كما هي، بما فيها من الأشياء. نعم، هذه الغرفة التي حسبتها مسكونة، كانت غرفة بنتي.»
وكانت السيدة ليرو تنتظرنا في الحديقة، فرفعت عينها إلى زوجها مستفسرة فهز رأسه وقال: «كل شيء على ما يرام. السيد موافق.»
فتناولت المرأة يدي وهزتها هزا عنيفا وقالت: «آه يا سيد! إنك رجل طيب.» ورفعت عينيها إلي ولكني لم أستطع أن أنظر فيهما، فقد كان الحزن الذي يطالعني من نظرتهما أهول وأقدس من أن أمتهنه بالنظر إليه. •••
وصرنا أصدقاء أصفياء، في الشهور الثلاثة التي قضيتها في البيت. وكانت السيدة ليرو تتعهدني، وترعاني، وتبرني وتسرني، كأنها أمي. وكان كلاهما - كما قال السيد ليرو - يؤثر أن يجعل ابنته موضوع حديثه، وكنت أصغي إليهما بغير نفور أو ملل، فقد كان في حزنهما عليها، ودوام تفكيرهما فيها جمال عميق الوقع في النفس، وكان يخيل إلي أن طيف الفتاة يرود البيت، البيت الذي بناه لها الحب وهو لا يدري أن الموت سيعدو عليها ويغولها منه، وكانت المرأة لا تمل أن تقول لي: «آه يا سيدي، إن من بواعث السرور لنا أن تركت لنا غرفتها.» وقد صعدت بي مرة إلى الغرفة، وأرتني ثياب يولالي، وحليها، وكتبها المجلدة الجميلة التي فازت بها تجزية لها، على اجتهادها في الدير. وفي يوم آخر أطلعتني على رسائل يولالي وسألتني عن خطها أليس جميلا؟ وعن عبارتها أليست حسنة؟ وعرضت علي صورا لها في كل سن، وخصلة من شعرها وملابسها في حداثتها، وشهادة الأسقف، ورسائل من راهبات «القلب المقدس» بروان، تصف تقدم يولالي في الدرس والتحصيل، وتطري سلوكها وأخلاقها، وكانت المرأة ربما غلبها الحزن فتقول، وكأنها لا تصدق ما حاق بها من الفقدان، وما منيت به من الخسارة: «وتصور أنها ذهبت! تصور هذا!» ثم تعود فتقول همسا بلهجة الاستسلام لقضاء الله: «إنه هو أدرى بما يصنع!» وترسم الصليب على صدرها!
وفي الثاني عشر من أغسطس - يوم ذكرى وفاتها - صحبتهما إلى كنيسة القرية حيث أقيمت الصلاة على روح يولالي، وبعد انتهائها جاء القسيس الطيب إليهما وضغط يديهما، ورفه عنهما بكلمات عذاب. •••
وفي سبتمبر/أيلول بارحت البيت عائدا إلى دييب. واتفق عصر يوم أن التقيت في الطريق الأعظم لهذه المدينة بقسيس القرية، فوقفت معه قليلا نتحدث عن ليرو وامرأته، وطيب نفسيهما، وحزنهما على ابنتهما فقال القسيس: «لقد كان حبهما لها شيئا فوق الحب. كان عبادة، وتأليها. وما رأيت في حياتي الطويلة مثل هذا أو ما يقرب منه. وقد خفت عليهما، لما قضت نحبها، أن يذهب عقلهما. فقد كانا مذهولين ... غائبين عن الوعي. ولبثا مدة طويلة كالمجنونين. ولكن الله رحيم، فقد تعلما أن يعيشا ومعهما مصابهما.»
فقلت: «إن في احتفاظهما بذكراها، وعبادتهما لها، لجمالا. وما أظن بك إلا أنك تعرف أنهما أبقيا غرفتها وفيها أشياءها، كما تركتها ... هذا فيما أرى جميل ... رائع.»
فسألني القسيس، وهو غير فاهم: «غرفتها؟ أية غرفة؟»
فقلت متعجبا: «أوه، أولم تكن تعرف؟ غرفة نومها في البيت. احتفظا بها كما هي، أشياءها، وكتبها، وملابسها.»
فقال القسيس: «لا أظن أني فاهم. فما كان لها قط غرفة نوم في هذا البيت.»
فقلت: «عفوا. إحدى الغرف المقدمة في الطبقة الثانية كانت غرفتها.»
فهز رأسه وقال: «هنا بعض الخطأ، فما نزلت قط في هذا البيت، لأنها ماتت في البيت القديم. وكان البيت الجديد لم يكد يتم تشييده. العمال لم يكونوا قد خرجوا منه.»
فقلت: «كلا، لا بد أن تكون أنت المخطئ، ويظهر أنك ناس. فإني على يقين من الأمر، وقد حدثني ليرو وامرأته بهذا مرات لا يأخذها حصر.»
فأصر القسيس على زعمه وقال: «ولكن يا سيدي العزيز، إني لست واثقا فقط بل أنا أعلم. فقد حضرت وفاتها، وكنت إلى جانبها وهي تجود بنفسها، وقد ماتت في البيت القديم. وكانا لم ينتقلا إلى الدار الجديدة، وكانت الدار لا تزال تؤثث وتجهز، وقد وضعت فيها آخر قطع الأثاث قبل وفاتها بيوم. ولم يسكن أحد هذه الدار قبلك. أنت أول ساكن لها. وإني أؤكد لك هذا.»
فقلت: «إن هذا أمر غريب جدا.»
وساورتني الحيرة دقيقة، فلم أهتد على حل لهذا اللغز، ولكن حيرتي لم تطل أكثر من دقيقة، قلت بعدها: «فهمت. فهمت.»
فهمت، ورأيت، وأدركت كيف غالط هذان المنكوبان نفسيهما، وخلقا لهما وهما يتعزيان به، فقد بنيا الدار لابنتيهما، فلما اكتملت الدار وتجهزت ماتت الفتاة. ولكنهما لم يطيقا أن يتصورا أن لا تعيش في هذه الدار وتنعم بها ولو أسبوعا واحدا، بل ولو يوما واحدا، أو حتى ساعة مفردة! عجزا عن احتمال هذا الحرمان. ولم يستطع قلباهما الثاكلان أن يعترفا به، فأغمضا عيونهما حتى لا يريا ما يصنعان، وحملا متاع الفتاة الميتة في خشوع، إلى الغرفة التي أرادا أن يفرداها لها، ورتباها فيها، وقالا لنفسيهما بإلحاح: «هذه كانت غرفتها. هذه كانت غرفتها.» ليتقرر في روعهما بالإيحاء، وأبيا أن يصدقا النفس، أبيا أن يسمحا بأن يجري في خاطرهما أنها لم تنم فيها ولم تنعم بها ولا ليلة واحدة. أوحيا إلى نفسيهما هذه الأكذوبة الجميلة، هذه الخدعة الكريمة الرحيمة كأنهما طفلان يصدقان ما يتخيلان وهما يلعبان. وقد قالها القسيس: «الله رحيم! فقد استطاعا أن يخلطا كذبتهما الجميلة بالحقيقة، وأن يجدا في هذا عزاءهما، ووسعهما أن ينسيا أن ما غالطا به نفسيهما ليس أكثر من خدعة، ووهم وباطل ليس يجدي، وأن يعدا الأمر كله حقيقة يستمدان منها السلوان والصبر الجميل، وبهذا وقاهما الله أن يتقاضاهما الحزن آخر مجهودهما. فبقيت لهما هذه السلوة، فهي كنز لهما - كنز أنفس وأجدى من الذهب الإبريز .»
الباطل؟ - الحق؟ أحسب أن هناك أوهاما ليست من الأباطيل - وإنما هي ابتسامات من الحق رحمة بنا، وعطفا علينا.
هوامش
وليم سدني بورتر (و. هنري)
1867-1910
تقرير
المدائن كلها زهو، يتحدى بعضها بعضا، هذه من سفوح جبالها وتلك من سيف شطئانها.
رديارد كبلنج
تصور رواية عن شيكاجو، أو بفالو، أو قل عن ناشفيل بولاية تسي! إنه ليس ثم سوى ثلاث مدن كبيرة بالولايات المتحدة، تصلح للرواية - نيويورك بالطبع، ونيوأورلينس، وخير منهما سان فرنسيسكو.
فرانك نوريس
الشرق شرق، والغرب هو سان فرنسيسكو، فيما يرى أهل كاليفورنيا. وهم جيل من الناس، لا مجرد سكان ولاية، وهم الجنوبيون من أهل الغرب. وليس أهل شيكاجو، مثلا، بأقل ولاء لمدينتهم، ولكنك تسألهم عن السبب فيتمتمون ويتحدثون عن سمك البحيرة، والبنى الشامخة، أما أبناء سان فرنسيسكو فيسهبون ويفيضون في التفصيل.
ولا شك أنهم يجدون في الجو والمناخ ما يصلح أن يكون حجة يقضون في الإدلاء بها نصف ساعة تكون أنت في خلالها مشغولا بالتفكير في تكاليف الفحم والثياب التحتية الغليظة، ويركبهم الغلط فيتوهمون أن صمتك اقتناع، فيروحون يسبحون على متن التيار ويصورون لك مدينة البوابة الذهبية كأنها بغداد الدنيا الجديدة. وإلى هنا، وما دامت المسألة مسألة رأي، لا داعي للمناقضة والجدال، ولكن يا أبناء الأعمام جميعا (من نسل آدم وحواء) إنه لمتهور ذاك الذي يضع إصبعه على الخريطة ويقول: «في هذه البلدة لا يمكن أن يحدث شيء يجري مجرى القصة - وماذا يمكن أن يحدث هنا؟» نعم من الجرأة بل التهور أن يتحدى الإنسان - بجملة واحدة - التاريخ، والخرافة، وراند، وماك ناللي!
ناشفيل - مدينة وثغر وعاصمة ولاية تنيسي، واقعة على نهر كمبرلاند، وملتقى خطوط حديدية. وتعد هذه المدينة أهم مركز للتعليم في الجنوب.
نزلت من القطار في الساعة الثامنة مساء. وقد أعياني الاهتداء إلى لفظ أصف به المدينة، فأنا ألجأ إلى تأليف «تذكرة» من المقارنات.
خذ من ضباب لندن ثلاثين جزءا، ومن الملاريا عشرة أجزاء، ومن الثقوب في أنابيب الغاز عشرين جزءا، ومن قطر الندى عند شروق الشمس في ساحة مبلطة خمسة وعشرين جزءا، ومن أرج الأزهار خمسة عشر جزءا، وامزجها.
وخليق بهذا الخليط أن يعينك على تصور ناشفيل إذ تجودها السماء.
وذهبت إلى الفندق في مركبة، واحتجت إلى كل ما أملك من قدرة على كبح النفس لمقاومة ما يغريني منها بالصعود إلى ظهرها وتقليد سدني كارتون. وكانت الدواب التي تجرها ترجع إلى عصر مضى وانقرض ما كان فيه، وكان السائق أسود ظامئا ضاويا.
وكنت مثقل الرأس من الإعياء والحاجة إلى النوم، فلما بلغت الفندق أسرعت فدفعت إلى السائق الخمسين سنتا التي طلبها، وكنت أعرف عادات هؤلاء الزنوج، ولا أريد أن أتيح له فرصة يلغط فيها بذكر «سيده» ولا بما كان يحدث «قبل الحرب.»
وكان الفندق من الضرب الذي يوصف بأنه «مجدد» ومعنى التجديد إنفاق عشرين ألف ريال على عمد الرخام، والبلاط، والنور الكهربائي، والمقابض النحاسية والمباصق، ودليل جديد للسكة الحديدية، ورسم بارز للجبال في كل واحدة من الحجرات الكبيرة. وكانت الإدارة لا عيب فيها، ولا اعتراض عليها، والمعاملة كالمعهود من حفاوة أهل الجنوب ورقتهم، والخدمة أبطأ من السلحفاة، والقائمون بها في مثل سجاحة رب فان ونكل وسلاسة طباعه، أما الطعام فيستحق أن يقطع المرء إليه ألف فرسخ، وليس في الدنيا فندق آخر تستطيع أن تظفر فيه بأكباد الدجاج مطبوخة على هذا النحو.
وسألت على العشاء خادما زنجيا عن ملاهي المدينة، فوقف يقدح زناد فكره لحظة ثم قال: «الحقيقة يا سيدي أني لا أظن أن هناك شيئا بعد الغروب.»
وكان الغروب قد تم، وغرق في المطر من زمان طويل، وحرمت فرصة مشاهدته! ولكني مع ذلك خرجت إلى الشوارع في المطر لأرى ما عسى أن يكون هناك.
وهي مبنية على عارض من الأرض ينقاد ويرتفع، والشوارع مضاءة بالكهرباء وتبلغ تكاليفها في العام 32,470 ريالا.
وما كدت أغادر الفندق حتى رأيت سباقا مضطربا، فقد أقبل علي جماعة من الزنوج المحررين، أو الزولو، أو لا أدري من غير هؤلاء وأولئك، مسلحين بال ... كلا، فقد تبينت أن في أيديهم سياطا لا بنادق، فتنفست الصعداء، ورأيت كذلك، ولكن في غير وضوح، قافلة من المركبات السوداء، ولما سمعت صيحاتهم المطمئنة «إلى أي ناحية في المدينة بخمسين سنتا» أدركت أني زبون ليس إلا، ولست بفريسة أو ضحية.
وسرت في شوارع طويلة، كلها إلى صعود، وكنت وأنا أمشي أتعجب لهذه الطرق كيف تنحدر مرة أخرى، ولعلها لا تنحدر إلا على درجات. وفي بعض الطرق الكبرى رأيت أضواء في حوانيت هنا وهناك، ومركبات تقل بعض أهل المدينة الكرام إلى هنا، وهنا، وناسا يمرون بي وهم يتحدثون، وسمعت انفجار ضحكة شبه مرحة صادرة عن دكان أشربات مثلوجة، أما الطرق التي ليست «بالكبرى» فيظهر أنها مجعولة للسكينة والسلام والأعمال المنزلية، وكان في كثير من مساكنها أنوار تضيء من وراء الشبابيك المسدلة، وسمعت من بعضها عزفا محتشما لا يعاب. فالحق أنه لا شيء في المدينة، فليتني دخلتها قبل الغروب! ومن أجل ذلك رجعت إلى فندقي.
في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1864 زحف القائد الاتحادي الجنرال هود على ناشفيل وحاصر فيها قوة وطنية يقودها الجنرال طوماس. وقد خرج الأخير بعد ذلك وهاجم الاتحاديين وهزمهم في معركة فظيعة.
وأنا طول حياتي أسمع ببراعة أهل الجنوب في إصابة المرمى في معاركهم السامية في مناطق مصنع «الطباق» وأعجب بحذقهم هذا وأحب أن أشهد آياته، ولكني فوجئت بما لم يكن لي في حسبان، في الفندق. فقد كانت هناك في البهو اثنتا عشرة مبصقة جديدة لامعة في البهو الكبير، وهي عالية حتى ليمكن أن يقول المرء إنها قماقم، وواسعة حتى لتستطيع الواحدة من لاعبات كرة السلة أن ترمي الكرة في واحدة منها على مسافة خمس خطوات، ومع أن الحرب كانت ولا تزال دائرة بأقصى شدة وأعنف حال، إلا أن العدو لم يصبها بسوء، وظلت المباصق لامعة براقة، وواسعة نظيفة لا يمسها سوء. ولكن البلاط! البلاط الجميل! ولم يسعني إلا أن أفكر في معركة ناشفيل، وإلا أن أستخلص - كما هي عادتي - بعض النتائج، وأنتهي إلى بعض الآراء في وراثة البراعة في إصابة المرمى.
وهنا رأيت لأول مرة الماجور ونتورث كازويل، وما كادت عيني تقع عليه وتتأذى بالنظر إليه حتى أدركت أنه طراز قائم بذاته، وليس للجرذ موطن، وقد قال صديقي القديم الفريد تنيسون (الشاعر) وأجاد - كما هي عادته - «أيها النبي، العن لي الشفة الثرثارة، والعن لي الآفة البريطانية، الجرذ!»
وكان الرجل يروح ويجيء في البهو كالكلب المتضور الذي نسي أين خبأ عظمة! وكان وجهه عظيم الرقعة كبير المساحة، وأحمر ضخم الصفحتين ثقيلهما، مكتلهما مع فتور كفتور النعاس. ولم تكن له سوى فضيلة واحدة، هي أنه حليق ناعم الخد أملسه. وأخلق بسمة الحيوان أن تلازم الإنسان إذا استبقى على وجهه سحالة.
1
ولو أنه لم يجر الموسى على خديه في ذلك اليوم لما أطقته. ولكنت خليقا أن أصده عني، ولكان إحصاء الجرائم في هذا العالم قد نقص جريمة قتل!
وكنت واقفا على مسافة خمس أقدام من مبصقة، وإذا بالماجور كازويل يصوب إليها قذائفه! ولاحظت أنه يستعمل في هجومه مدفعا رشاشا لا بندقية، فتنحيت عن ميدان الضرب بخفة، فاغتنمها الماجور فرصة للاعتذار إلى مسالم غير محارب. وكانت «الشفة الثرثارة»، ففي أربع دقائق ليس إلا صار صديقي، وجرني إلى الحانة.
وهنا موضع التنبيه إلى أني من أهل الجنوب، ولكني لست كذلك بحكم المهنة أو الحرفة أو العادة. فأنا لا أتخذ رباط الحبل. ولا ألبس القبعة العريضة الحافة، ولا أبالي أكياس القطن التي أتلفها «شيرمان»، ولا أمضغ الطباق، وإذا عزفت الموسيقى «ديكسي» لم أهتف، وأتطامن على المقعد الجلدي وأطلب قدحا وآخر، وأتمنى لو أن - ولكن ما الفائدة؟
وضرب الماجور كازويل منضدة الحانة بجمع يده، فجاوبه المدفع الأول بقلعة «سانتر» ولما أطلق آخر قذائفه على «أبوماتوكس» انتعشت آمالي. ولكنه شرع يتحدث عن شجرة الأسرة، ويبين أن آدم ليس سوى فرع ثالث من فروع أبناء الأعمام في أسرة كازويل، وبعد أن فرغ من أمر هذا النسب تناول على كره مني وسخط، شئون أسرته الخاصة، فتكلم عن زوجته، ونماها إلى حواء، ونفى كل قول بأنها قد تكون ذات قرابة بأحد من الأرض.
وقد دعاني هذا إلى الاسترابة به، فكبر في ظني أنه يحاول بهذه الضوضاء أن يذهلني عن كونه هو الذي طلب الشراب، عسى أن أؤدي ثمنه عنه، ولكنه بعد أن شربنا رمى ريالا فضيا على المنضدة، فصار علي أن أسقيه كما سقاني، ففعلت وأديت الثمن واستأذنت في الانصراف، ومضيت بلا تمهل، فقد أضجرني فلم أعد أطيقه، على أنه قبل أن أنجو منه حدثني بصوت عال عن زوجته ودخلها وأراني حفنة من النقود الفضية.
وقال لي كاتب الفندق، وأنا آخذ مفتاحي منه: «إذا كان هذا الرجل - كازويل - قد أزعجك وكنت تحب أن تشكوه، فنحن مستعدون أن نقصيه عن المكان، فإنه عاطل مزعج وليست له وسيلة معروفة لكسب الرزق وإن كان يبدو معظم الوقت ومعه شيء من المال. ولكنا لا نهتدي إلى ما نتكئ عليه لطرده.»
فقلت بعد تفكير: «كلا لست أرى سبيلا إلى الشكوى، ولكني أحب أن يروى عني أني أقرر أني لا أحب صحبته.» ثم أضفت إلى هذا «إن مدينتكم هادئة على ما يظهر، فأين يجد الغريب لهوا أو مغامرة أو ما هو من ذلك بسبيل خارج بابكم.»
فقال الكاتب: «سيكون هنا معرض يوم الخميس الآتي، وهو ... سأبحث وأبعث إلى غرفتك بالإعلان، مع الماء المثلج. عم مساء يا سيدي.»
وصعدت إلى غرفتي، ونظرت من النافذة، وكانت الساعة حوالي العاشرة ولكن الشارع كان ساكنا، وكانت السماء لا تزال تمطر، والأنوار تلمع هنا وهنا على مسافات بعيدة كالزبيب في الكعكة.
فقلت لنفسي: «مكان هادئ ليس فيه شيء من الحياة التي تكسب المدائن في الشرق والغرب، تلك البهجة وذلك التنوع - مدينة أعمال - حسنة، عادية، ساذجة.»
وتعد ناشفيل في طليعة المراكز الصناعية، ولها المرتبة الخامسة بين أسواق الأحذية في الولايات المتحدة، وفيها أكبر مصانع الحلواء في الجنوب، ولها تجارة عظيمة بالجملة في المنسوجات والأغذية والعقاقير.
ويجب أن أحدثك عن قدومي إلى ناشفيل كيف اتفق، وأن أؤكد لك أن هذا الاستطراد فيه من الإملال لي بقدر ما فيه لك: كنت ذاهبا إلى بلد آخر في شأن لي، فتلقيت من مجلة أدبية تصدر في الشمال رسالة تكلفني فيها أن أقف في ناشفيل، وأن أوجد صلة شخصية بين المجلة وبين سيدة تكتب إليها اسمها أزاليا أدير.
وكانت أدير (التي لم يكن ثم مفتاح لشخصيتها غير خطها)، قد بعثت إلى المجلة بطائفة من الفصول في الأدب، ومن القصائد، أطراها المحررون إطراء عظيما، فوكلوا إلي أن أتصل بأدير هذه، وأن أعقد معها اتفاقا على أن توافي المجلة بما تكتب، وأن يكون الأجر سنتين (الريال مائة سنت) لكل كلمة، وأن أعجل بذلك قبل أن يقع عليها ناشر آخر، ويعرض عليها عشرة سنتات أو عشرين للكلمة.
ففي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي بعد أن قضيت وطرا من أكباد الفراريج (جربها إذا استطعت أن تهتدي إلى الفندق!) خرجت، وكانت السماء لا تزال تمطر، فوقعت في أول منعطف، على «العم قيصر»، وهو زنجي عظيم هرم كالأهرام، وله وجه ذكرني ببروتوس، ثم بعد هنيهة بوجه المرحوم الملك ستيوايا. وكان يرتدي أعجب معطف رأيته، أو أتوقع أن أراه في حياتي، فقد كان طويلا يتدلى إلى ساقيه، وكان في زمانه من أكسية قواد الاتحاديين في الحرب الأهلية، ولكن المطر والشمس والأيام نالت منه فرث، وبهت وصار لونه ألوانا. ولا يسعني إلا أن أتريث عند هذا المعطف، فإن له لشأنا في القصة، تلك القصة التي طال تلكؤها، لأن المرء لا يكاد يتوقع أن يحدث شيء في ناشفيل.
ولا شك أنه معطف قائد. وقد ذهب رأسه الذي كان ملتزقا به، وكان صدره محلى بالأشرطة الزاهية الألوان. ولكن هذه الأشرطة اختفت، وحلت محلها أشرطة من الكتان خيطت بعناية، وقد بليت هذه الخطوط التي أريد بها أن تكون عوضا عما زال من البهاء، وهيهات هذا من ذاك، ولكن اليد التي خاطت هذه الأشرطة توخت أن تجري على الأصل وتتبع خطوطه، وتمت مأساة الكساء أو مهزلته بأن سقطت أزراره جميعا ما خلا واحدا هو الثاني من فوق. وكان لابسه يشده على بدنه بحبال من الكتان تمر بعرى المعطف وبثقوب فيما يقابلها من الشق الثاني. وما رأيت قط ثوبا كهذا في ألوانه وحلاه! وكان الزرار الباقي في حجم نصف الريال، وهو مصنوع من العظم الأصفر ومخيط إلى الثوب بالكتان.
وكان الزنجي واقفا بجانب مركبة عتيقة كان يمكن أن يفتتح بها حام بن نوح خطا بعد أن نزل من السفينة، فلما اقتربت منها فتح الزنجي الباب، وتناول منفضة من الجلد جعل يلوح بها ولا يستعملها، وقال بصوت عميق: «تفضل يا سيدي! لن تجد ذرة واحدة من التراب فيها ... عدت الآن فقط من جنازة يا سيدي!»
فاستخلصت من قوله هذا أنهم يعنون بنظافة المركبات في مثل هذه المناسبات، فأجلت عيني في صف المركبات الواقفة إلى جانب الرصيف، فلم أر محلا للمفاضلة، فنظرت في مذكرتي باحثا عن عنوان أزاليا أدير وقلت: «إني أريد أن أذهب إلى المنزل رقم 861 بشارع جيسامين.»
وهممت بالركوب، ولكن ذراعا طويلة غليظة كذراع الغوريللا اعترضتني وبدت على الوجه الضخم الكئيب آيات الريبة والعداء ثم كأنما اطمأن فسأل: «ماذا تبغي من الذهاب إلى هناك يا سيدي؟»
فسألته بحدة: «وكيف يعنيك هذا؟»
فقال: «لا شيء يا سيدي، لا شيء يا سيدي. ولكنه جانب موحش من المدينة، وقل من له في تلك الناحية عمل. ولكن تفضل يا سيدي. المقعد نظيف ... عدت الآن فقط من جنازة يا سيدي.»
ولا بد أن تكون المسافة ميلا ونصف ميل إلى غايتنا، وكنت لا أسمع إلا صوت العجلات القديمة على الطريق الذي لا استواء فيه، ولا أشم إلا رائحة المطر مشوبة بدخان الفحم والقار ونوارات النبات المصوح. وكل ما وسعني أن أراه من خلال النافذة التي يسيل على وجهها الماء، صفان غير واضحين من المنازل على الجانبين.
ومساحة المدينة عشرة أميال مربعة. ويبلغ طول شوارعها 181 ميلا، منها 137 ميلا مرصوفة، وقد كلفت المجاري مليون ريال، وطولها 77 ميلا.
وكان البيت الذي وقفنا عنده عتيقا متداعيا. وهو قائم على مسافة ثلاثين ذراعا من الطريق، وأمامه عدة أشجار جميلة، ونباتات هائجة لم تشذب أو تقلم. وكان النبات يكاد يحجب السور الباهت، وكان مصراعا الباب مربوطين بحبل، فإذا دخلت أيقنت أن البيت لم يبق منه إلا طيف أيامه الخوالي. ولكني لم أدخله بعد، فيحسن أن أقصر حتى أفعل.
لما كفت العجلات عن ضوضائها، ووقف الجوادان المكدودان، ناولت السائق خمسين سنتا، وشيئا على سبيل التجزية، وشعرت وأنا أفعل ذلك بوهج الكرم، ولكنه رفض وقال: «الأجر ريالان يا سيدي.»
فقلت: «كيف؟ لقد سمعتك بوضوح تام تقول عند الفندق خمسون سنتا إلى أي مكان في المدينة.»
فقال بعناد: «ريالان يا سيدي. هذه مسافة طويلة من الفندق.»
فقلت: «إنها داخل نطاق المدينة، فلا تتوهم أنك وقعت على أبله يا صاحبي. أترى هذه الجبال؟ وأشرت إلى الشرق (وكنت أنا نفسي لا أراها من المطر!)، لقد ولدت ونشأت في الناحية الأخرى منها، أفلا تستطيع أيها الزنجي الأحمق أن تميز الناس وتعرف بعضهم من بعض حين تراهم؟»
فلان ما كان جامدا من وجه الملك ستيوايا، وقال: «أوأنت من أهل الجنوب يا سيدي؟ أحسب أن حذاءيك هما اللذان خدعاني وغلطاني.»
فقلت: «أحسب أن الأجرة الآن خمسون سنتا.»
فطاف بصفحة وجهه مزيج من الحرص والعداء، ولكنه ما لبث أن زال فقال: «يا سيدي، الأجر خمسون سنتا، ولا جدال، ولكن بي حاجة إلى هذين الريالين يا سيدي. إني مضطر أن أحصل عليهما. ولست أطلبهما منك، بعد أن عرفت من أين جئت، ولكني أقول فقط إن بي فقرا شديدا إلى هذا القدر الليلة، والعمل نزر، وشحيح الخير.»
وانطبعت على أسارير وجهه آيات الثقة والاطمئنان، فقد كان أسعد حظا مما كان يرجو. فبدلا من أن يقع على غرير جاهل بالأجور، ألفى نفسه حيال كنز موروث!
وقلت وأنا أدفع يدي في جيبي: «يا لك من لعين! لأولى بك أن تسلم إلى الشرطة!»
وللمرة الأولى رأيته يبتسم. لقد عرف ... وفهم ... وأدرك!
وناولته ورقتين بريالين. ولاحظت وأنا أمد يدي بهما إليه، أن إحداهما رثة، أبلاها التداول، فقد كانت الزاوية العليا من اليمين مقطوعة، وكانت الورقة مشطورة من منتصفها وموصولة بقطعة من الورق ملتزقة عند موضع التمزيق.
وحسبي الآن هذا عن الزنجي الشاطر، فقد تركته سعيدا، وحللت وثاق الباب وفتحته.
والبيت، كما أسلفت، صدفة، وأحسب أن الفرشاة لم تمسه بدهان منذ عشرين سنة، وقد تعجبت كيف لم تهدمه ريح قوية، ثم رجعت البصر في الأشجار القائمة التي تحتضنه؛ الأشجار التي شهدت معركة ناشفيل والتي لا تزال تمد أغصانها الواقية حول البيت وتدفع عنه شر العواصف والأعداء والبرد.
واستقبلتني أزاليا أدير، وهي سيدة في الخمسين من عمرها، من سلالة الفرسان، نحيلة معروفة منسرقة المنة كالبيت الذي تعيش فيه، وعليها أرخص وأنظف ثياب وقعت عليها عيني، ولها سمت ملكة.
وخيل إلي أن حجرة الاستقبال ميل مربع، لأنه لم يكن فيها إلا بضعة صنوف من الكتب على رفوف من خشب أبيض غير مدهون، ومنضدة قديمة متخاذلة عليها رخام، وبساط كالخرقة البالية، وأريكة رثة، وكرسيان أو ثلاثة، نعم كان على الحائط صورة - رسم بالطباشير الملون لزهرات من البنفسج - وقد تلفت باحثا عن صورة أندرو جاكسون والسلة المعلقة، ولكني لم أجدهما.
وقد دار بيننا حديث سأروي لك بعضه. وهي امرأة أنجبها الجنوب، ونشأت في عزلة، ولم يكن علمها واسعا، ولكنه كان عميقا، وروح الابتكار فيها رائعة، وقد تربت وتعلمت في البيت، فمعرفتها بالدنيا مستفادة من التفكير والإلهام، وهذا هو طراز كتاب الفصول والرسائل. وكنت - وهي تحدثني - أمسح أصابعي، وأحاول، وأنا غير مدرك لما أصنع، أن أنفض عن يدي التراب الذي لم يعلق بهما من لام، وتشوسر، وهازليت، ومارك أوريلياس، ومونتاني، وهود. والحق أنها كانت كنزا رائعا! فإن كل امرئ تقريبا يعرف في هذه الأيام أكثر مما يجب - بل أكثر جدا مما يجب - عن الحياة الحقيقية.
وتبينت أن أزاليا أدير فقيرة جدا، وخيل إلي أنها لا تملك أكثر من هذا البيت، والثوب الذي ترتديه. وكنت، وأنا أصغي إلى صوتها الذي يشبه صوت المعازف، موزع النفس بين واجبي للمجلة وولائي للشعراء والكتاب، ثم أيقنت أني لا أستطيع أن أجري لساني في هذا المقام بذكر اتفاق أو عقد. وعسير في حضرة بنات الشعر أن يهبط المرء بالحديث إلى المساومة، فلا بد من إرجاء الأمر إلى جلسة أخرى بعد أن أستعيد روحي التجارية. ولكني أفضيت إليها بالغاية من زيارتي، واتفقنا على الاجتماع مرة أخرى في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي لبحث الموضوع.
وقلت وأنا أتهيأ للانصراف، وهذا هو أوان الكلام العام الناعم: «إن مدينتك تبدو هادئة رزينة، قلما يحدث فيها شيء غير عادي.»
فبدا عليها التفكير، وقالت بلهجة الإخلاص القوية التي هي من خصائصها: «لم يخطر لي هذا من قبل. أليست الأماكن الهادئة الساكنة هي التي يحدث فيها ما ليس في الحسبان؟ يخيل إلي أنه لما شرع الله يخلق الأرض في صباح يوم الاثنين الأول كان المرء يستطيع أن يطل من النافذة، وأن يسمع صوت الطين الذي يسقط من الأصيص
2
وهو يبني الجبال الخالدة ويرفعها. وماذا أثمر في النهاية أشد الأعمال ضجة وضوضاء، أعني بناء برج بابل؟ صفحة ونصف صفحة من الإسبرنتو في مجلة أمريكا الشمالية.»
فقلت: «إن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان. ولكن بعض البلدان أقوى ألوانا، وأحفل بالحركة وأزخر بالحياة من بعض.»
فقالت: «على السطح فقط. لقد جبت العالم وطوفت في آفاقه عدة مرات في طيارة ذهبية ذات جناحين - الكتب والأحلام - ورأيت (في إحدى رحلاتي الخيالية) سلطان تركيا يردي بيديه إحدى زوجاته لأنها سفرت أمام الناس. ورأيت رجلا في ناشفيل يمزق بطاقات الدخول إلى المسرح لأن زوجته خرجت وعلى وجهها حجاب من المساحيق والأصباغ. وفي حي الصينيين بسان فرنسيسكو رأيت الجارية «سنج يي» تغمس قيراطا فقيراطا في زيت الجوز المغلي لتقسم ألا ترى عاشقها الأمريكي مرة أخرى. وقد أذعنت، وأقسمت لما جاوز الزيت المغلي ركبتها بمقدار ثلاثة قراريط. ورأيت «كيتي مورجان» ينكرها ويقاطعها سبع من رفيقات صباها في المدرسة وصواحبها طول حياتها لأنها تزوجت مبيض حيطان. لقد كان الزيت المغلي يرتفع ويفور إلى ما فوق قلبها، وليتك رأيت ابتسامتها الجميلة وهي تتنقل من مائدة إلى مائدة! نعم، مدينتنا هادئة! لا شيء سوى بضعة أميال من البيوت المبنية بالآجر الأحمر، وإلا الطين والدكاكين، والمخازن.»
ونقر بعضهم على الباب الخلفي للبيت، فهمست أزاليا باعتذار خافت، ونهضت لترى من الطارق، وعادت بعد ثلاث دقائق، وفي عينيها وميض، وعلى وجنتيها اضطرام خفيف، وبدت كأنما انحطت عنها عشر سنوات من عمرها.
وقالت: «ينبغي أن تتناول فنجانا من الشاي قبل أن تنصرف، وكعكة مسكرة.»
ومدت يدها فهزت ناقوسا صغيرا من الحديد، فجاءت زنجية صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، وكانت حافية القدمين، رثة غيرة نظيفة، وحملقت في وجهي بعينين جاحظتين وإصبعها في فمها.
وفتحت أزاليا أدير كيسا دقيقا عتيقا باليا وأخرجت منه ورقة نقدية بريال، وكانت الزاوية اليمنى من الورقة مقطوعة، وهي ممزقة من الوسط وملزقة بورقة زرقاء. أعني أنها إحدى الورقتين اللتين أخذهما مني السائق الزنجي، ما في هذا شك.
وقالت أزاليا وهي تمد يدها بالورقة إلى الفتاة: «اذهبي إلى مخزن المستر بيكر يا إمبي وهاتي منه ربع رطل من الشاي - من النوع الذي يبيعني منه دائما - وكعكا محلى بعشرة سنتات. أسرعي.» والتفتت إلي وقالت على سبيل الإيضاح: «لقد اتفق أن نفد ما عندنا من الشاي.»
وخرجت إمبي من الباب الخلفي، وقبل أن ينقطع صوت قدميها الحافيتين هتكت حجاب السكون صرخة - لم يخالجني شك في أنها صرخة الفتاة - ثم اختلط صوت خشن عميق بصيحات البنت وألفاظها.
فنهضت أزاليا أدير وهي غير مستغربة، ولا متأثرة وذهبت، وظللت نحو دقيقتين أسمع صوت الرجل، وتلت ذلك لعنة ثم وقع أقدام، وعادت أزاليا هادئة إلى كرسيها.
وقالت: «إن البيت واسع، وعندي ساكن في جانب منه. وإني آسفة لاضطراري إلى العدول عن دعوتك إلى الشاي، فقد تعذر الحصول على ذلك النوع من الشاي الذي أبتاعه دائما. ولعل المستر بيكر يستطيع غدا أن يمدني بحاجتي منه.»
وكنت على يقين من أن الفتاة إمبي لم تغادر البيت، فاستأذنت في الانصراف، وتذكرت بعد أن قطعت مسافة من الطريق أني لم أعرف اسم أزاليا أدير، ولكن هذا يمكن إرجاؤه إلى الغد.
وفي ذلك اليوم نفسه تنكبت النهج القويم وأمالتني عنه هذه المدينة التي لا يحدث فيها شيء، وما مضى علي فيها يومان، ولكني في هذه المسافة القصيرة من الزمن رحت أكذب بلا حياء، وأبرق بالكذب، وأصبحت شريكا - بعد الحادثة - في جريمة قتل.
وانعطفت عند آخر زاوية قرب الفندق، فطالعني ذلك العفريت السائق ذو المعطف الأثري المتعدد الألوان، وفتح باب ناووسه المتحرك، ولوح بمنفضة الريش وبدأ يكرر عبارته المحفوظة: «تفضل يا سيدي. المركبة نظيفة، وقد عادت الآن من جنازة، خمسون سنتا إلى أي ...»
ثم عرفني فتبسم وقال: «لا تؤاخذني يا سيدي، إنك السيد الذي ركب معي هذا الصباح، شكرا لك يا سيدي.»
فقلت له: «إني ذاهب في الساعة الثالثة بعد ظهر الغد إلى هناك مرة أخرى، فإذا وجدتك هنا ركبت معك. إنك تعرف الآنسة أدير؟»
وكنت أفكر في ورقتي النقدية وأنا أسأله فقال: «لقد كنت عبدا لأبيها القاضي أدير يا سيدي.»
فقلت: «أحسبها فقيرة جدا، وليس عندها ما يستحق الذكر، هه؟»
فأربدت صفحة وجهه مرة أخرى، وطالعني منها محيا الملك سيتوايا، ولكن سحنته ما لبثت أن عادت إلى مألوفها وقال ببطء: «لن تراها تموت جوعا يا سيدي، فإن لها لموارد للعيش يا سيدي. نعم لها موارد.»
فقلت: «سأنقدك خمسين سنتا ليس إلا.»
فقال بلهجة المتطامن: «لا ريب يا سيدي، ولكنه كان لا بد لي في هذا الصباح من الحصول على الريالين.»
وعدت إلى الفندق، وأبرقت بالأكاذيب وزعمت في برقيتي أن الآنسة أزاليا أدير تطلب ثمانية سنتات أجرا للكلمة الواحدة. فجاءني الرد: «أجبها إلى سؤالها وعجل يا غبي.»
وقبيل العشاء أقبل علي «الماجور» ونتورث كازويل يحييني تحية من طال افتقاده لصديقه، وقل بين من عرفت في حياتي من أثاروا في نفسي شعور الكراهية لهم من أول لحظة، كما فعل هذا الرجل، يضاف إلى هذا أن التخلص منه لم يكن بالأمر السهل، وكنت واقفا عند المشرب «البار» لما «غزاني» فلم يتيسر لي أن أنشر في وجهه الراية البيضاء، وكان يسرني أن أدفع ثمن الشراب، على رجاء الخلاص، ولكنه كان من أولئك السكيرين الحقراء، الصخابين الذين ينشدون الإعلان عن أنفسهم، ويودون لو عزفت الموسيقى وأطلقت الألعاب النارية كلما أنفقوا سنتا واحدا على حماقاتهم.
واتخذ هيئة المليونير وهو يخرج ورقتين كل منهما بريال ويلقي بواحدة على المشرب فوقعت عيني مرة أخرى على الورقة المقطوعة زاويتها العليا من اليمين، والممزقة من الوسط، وقد وصل النصفان بورقة زرقاء، فهي تطالعني ثانية، ولا يمكن أن تكون غيرها.
وصعدت إلى غرفتي، وقد اعتراني الملل والتعب والسهوم من هذه المدينة الجنوبية الكئيبة التي لا ينقطع مطرها ولا يحدث فيها شيء يختلف به الحال وتتنوع وجوه الحياة، وأذكر أني قبل أن يأخذني النوم فكرت في أمر هذه الورقة النقدية فقلت لنفسي والنعاس يغالبني: «يخيل إلي أن كثيرين هنا يملكون أسهما في شركة حوذية! وتالله ما أسرع ما يقبض الشركاء أرباحهم! ومن يدري ...»، وهنا غلبني النوم.
وكان «الملك سيتوايا» في مكانه في اليوم التالي، فأركبني ورض لي بدني في الطريق الوعر إلى البيت رقم 861. وقد أوصيته أن ينتظر ليرض لي عظامي مرة ثانية في الإياب.
وكانت أزاليا أدير أنظف، وأشد اصفرارا، وأضعف منها في اليوم السابق ووقعت العقد الذي يجري أجرها على الكلمة الواحدة ثمانية سنتات، فزاد لونها امتقاعا، وانحدرت عن كرسيها إلى الأرض مغشيا عليها، فحملتها بلا عناء إلى الأريكة العتيقة، ثم ذهبت أعدو وأصيح بالزنجي أن يدعو طبيبا، فأبدى من العقل ما لم أكن أتوقع منه، وترك جواديه المعروقين وراح يجري وقد أدرك قيمة السرعة، وعاد بعد عشر دقائق ومعه طبيب حاذق وقور أبيض اللحية، فشرحت له في بضع كلمات (قيمة الواحدة منها دون ثمانية سنتات بكثير) سبب وجودي في هذا البيت الفارغ الحافل مع ذلك بالأسرار والمعميات، فانحنى لي وقد فهم عني، والتفت إلى الزنجي العتيق وقال بلهجة متزنة: «يا عم قيصر، اجر إلى بيتي واطلب من الآنسة لوسي أن تعطيك ملء وعاء من اللبن الطازج، وقدحا من النبيذ وعد بسرعة. لا تركب، اجر؛ فإني أريد أن تعود في هذا الأسبوع!»
فخطر لي أن الدكتور مريمان أيضا يشك في قدرة جوادي الزنجي على العدو، وبعد أن خرج العم قيصر مسرعا إلى الشارع رماني الطبيب بنظرة فاحصة ولكنها رقيقة، وقال: «إنها مسألة غذاء غير كاف، وبعبارة أخرى، هذه نتيجة الفاقة والكبرياء والجوع. وإن للسيدة كازويل لأصدقاء مخلصين عديدين يسرهم أن يمدوا إليها يد المعونة، ولكنها لا تقبل شيئا إلا من ذلك الزنجي العتيق - العم قيصر - الذي كان فيما مضى عبدا لأسرتها.»
فسألت متعجبا: «السيدة كازويل؟»
ثم ألقيت نظرة على العقد فرأيتها قد وقعته باسم «أزاليا أدير كازويل.»
وقلت: «كنت أحسبها الآنسة أدير.»
فقال الطبيب: «لقد تزوجت سكيرا متشردا يا سيدي. ويقال إنه يسلبها حتى المبالغ الضئيلة التي يمدها بها خادمها القديم على سبيل المعونة» ...
واستطاع الطبيب، بفضل اللبن والنبيذ، أن ينعش أزاليا أدير، فانطلقت تتحدث عن جمال أوراق الخريف وألوانها الزاهية، وأشارت إلى نوبة الإغماء التي عرتها وعزتها إلى لغط قديم في القلب، وكانت الخادمة إمبي تروح على وجهها وهي راقدة على الأريكة، وكان الطبيب مطلوبا لعيادة أخرى فتبعته إلى الباب وأخبرته أن في وسعي وفي عزمي أيضا أن أنقدها مبلغا من المال على الحساب سلفا، فسره هذا.
وقال: «على فكرة. قد يسرك أن تعرف أن هذا الحوذي من أرومة الملك، فقد كان جده ملكا في الكونجو، ولعلك لاحظت أن لقيصر بعض سجايا الملوك.»
وبينما كان الطبيب يمضي عني، سمعت العم قيصر يقول: «هل أخذ منك كلا الريالين جميعا يا سيدتي؟»
وسمعت أزاليا أدير تقول بصوت ضعيف: «نعم يا قيصر.»
ودخلت بعد ذلك، وقدمت لها خمسين ريالا على الحساب زاعما أن هذا إجراء شكلي لازم لنفاذ العقد. ثم عاد بي العم قيصر إلى الفندق.
وإلى هنا ينتهي ما أستطيع أن أقسم على الشهادة به. أما ما يلي فليس أكثر من سرد لوقائع.
حوالي الساعة السادسة خرجت من الفندق لأتمشى، وكان العم قيصر واقفا بمركبته في مكانه المألوف، ففتح بابها، ولوح بمنفضته، وشرع يلقي عبارته المحفوظة التي تبعث على الكآبة: «تفضل يا سيدي، خمسون سنتا إلى أي مكان في المدينة. المركبة نظيفة جدا يا سيدي. عادت الآن فقط من جنازة ...»
ثم عرفني، وأحسب أن نظره بدأ يضعف . وكان معطفه قد اكتسب ظلالا أخرى باهتة من الألوان، وغاب الزرار الباقي الأخير، المصنوع من القرن الأصفر. فيا له من حفيد ملك!
وبعد ساعتين رأيت ناسا كثيرين يتزاحمون على باب صيدلية، فكان هذا الحادث في مدينة مملة أشبه بنزول المن والسلوى في الصحراء، فزاحمت حتى دخلت، فأبصرت صناديق فارغة وكراسي قد اتخذ منها مرقد امتد عليه جثمان الماجور ونتورث كازويل، وكان الطبيب يفحصه باحثا عن دماء من الحياة، فلم يجده.
وقد وجدوه ميتا في طريق مظلم فحملوه إلى الصيدلية، وكان كل شيء يدل على أنه سقط بعد عراك شديد. وقد كان في حياته متشردا ونذلا، ولكنه كان شجاعا، غير أنه غلب، وكانت أصابعه مطبقة لا تفتح. وقد وقف حوله الذين عطفوا عليه ونقلوه إلى الصيدلية، يحاولون أن يجدوا ما يثنون به عليه، فقال رجل طيب منهم بعد تفكير طويل: «لما كان كازويل في الخامسة عشر كان من أبرع تلاميذ المدرسة في التهجي.»
وبينما كنت واقفا، تراخت أصابع يده اليمنى وكانت متدلية على جانب الصندوق، فسقط منها شيء عند قدمي. فوضعت رجلي عليه بلا ضجة، ثم احتلت حتى وسعني أن ألقطه وأدسه في جيبي. وقلت لنفسي أن يده، وهي تعترك، قبضت على هذا الشيء، على غير قصد، ثم تخشبت عليه فبقي فيها.
وكان أكثر ما يجري فيه الحديث تلك الليلة بالفندق مقتل الماجور كازويل. وقد سمعت بعضهم يقول لمن حوله: «رأيي أيها السادة أن الذي قتل كازويل بعض هؤلاء الزنوج، طمعا في ماله، فقد كان معه بعد ظهر اليوم خمسون ريالا أراها لكثيرين في الفندق. ولما وجدوا جثته لم يجدوا معه المال.»
وبارحت المدينة في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، ولما أخذ القطار يعبر الجسر القائم على نهر كامبرلاند، أخرجت من جيبي زرارا من القرن الأصفر في حجم نصف الريال وعليه خيوط عالقة به. وقذفت به من النافذة في الماء الجاري تحت الجسر.
هوامش
ه. ج. ولز
1866-1946
آلة الزمان
(1) مقدمة
كان الرحالة في الزمن (ويحسن أن نعرفه بهذه الصفة) يشرح لنا أمرا عويصا وكانت عيناه تومضان، ووجهه الممتقع في العادة مضطرما يجري فيه ماء الحياة، وكانت النار الموقدة مرتفعة اللهب، ومقاعدنا كأنما تضمنا وتغازلنا، والجو كما يكون بعد العشاء؛ إذ تجري الخواطر في سلاسة لا تعوقها الدقة والإحكام. وكان هو يتكلم شارحا - ومشيرا بإصبعه المعروق - ونحن جلوس حوله، نعجب في كسل واسترخاء بأخذه هذه النقيضة (كما كنا نتوهمها) مأخذ الجد، إعجابنا بخصوبة ذهنه.
فقال: «يجب أن تتبعوني بدقة وعناية، وسأنقض رأيا أو بضعة آراء شائعة، فإن الهندسة التي تعلمتموها في المدرسة، مثلا، قائمة على خطأ في التصور.»
فقال فيلبي، وهو رجل أحمر الشعر يحب الجدل: «أليس من الشطط أن تتوقع منا الابتداء بهذا القول؟»
فقال: «لست أنوي أن أطالبكم بالتسليم بشيء بغير دليل كاف. وستسلمون بما فيه الكفاية لي. وأنتم تعرفون أن الخط الرياضي - الخط الذي لا سمك له - ليس له وجود حقيقي. ألم يعلموكم هذا؟ ومثله السطح الرياضي. هذه مجرد فروض نظرية ليس إلا.»
فقال النفساني: «صحيح.»
فعاد يقول: «والمكعب الذي ليس له سوى طول وعرض وسمك، ليس له وجود حقيقي.»
فقال فيلبي: «أنا أعترض على هذا التقرير، فإن الجسم ذا الطول والعرض والسمك يوجد. وكل حقيقي من الأشياء ...»
قال: «هذا ما يظنه الأكثرون. ولكن مهلا. هل يمكن أن يوجد مكعب لا يبقى أي بقاء زمني؟»
فقال فيلبي: «لست فاهما.»
قال: «هل يكون للمكعب الذي لا يبقى أية فترة من الزمن وجود حقيقي؟»
فبدت على فيلبي هيئة المفكر، ومضى الرحالة في الزمن يقول: «من الواضح أن كل جسم حقيقي لا بد أن يكون له امتداد في أربعة اتجاهات؛ فلا بد أن يكون له طول، وعرض، وسمك وبقاء زمني. ولكنا لضعف طبيعي فينا - سأشرحه بعد لحظة - نميل إلى إغفال هذه الحقيقة، وهنا إذا اعتبرنا الواقع، أبعاد أربعة، الثلاثة المعروفة، والرابع الزمن، ولكن هناك ميلا إلى التفريق بين هذه الأبعاد الثلاثة، وبين الرابع، لأن وعينا يتحرك على نحو متقطع في اتجاه واحد مع الزمن من بداية العمر إلى ختامه.»
فقال شاب يحاول أن يشعل سيجارته مرة أخرى من المصباح: «هذا ... هذا واضح جدا.»
وعاد الرحالة في الزمن يقول: «ومن العجائب أن الإغضاء عن هذا عام. وهذا هو معنى البعد الرابع، وإن كان بعضهم حين يذكرونه لا يدرون أنهم يعنون هذا. على أن هذه ليست إلا وجهة نظر أخرى، فما ثم فرق بين الزمن وبين أي واحد من الأبعاد الثلاثة سوى أن وعينا يسير في اتجاهه، غير أن بعض الحمقى تناول الفكرة من طرفها المغلوط، وأحسبكم سمعتم بما يقولون في هذا البعد الرابع؟»
فقال عمدة من الريف: «أنا لم أسمع.»
فقال: «هذا هو: إن الفضاء، كما يقول علماؤنا الرياضيون، له ثلاثة أبعاد يمكن أن نقول إنها الطول، والعرض، والسمك، ويمكن تحديده دائما بالنسبة إلى سطوح ثلاثة كل منها على زاوية قائمة من الآخرين. ولكن بعض المتفلسفين يتساءلون لماذا تكون الأبعاد ثلاثة على الخصوص؟ لماذا لا يكون هناك اتجاه آخر على زاوية قائمة من الأخرى؟ وقد حاولوا فعلا أن يوجدوا هندسة رباعية الأبعاد. وقد كان الأستاذ سيمون نيوكوم يشرح هذا للجمعية الرياضية في نيويورك منذ حوالي شهر فقط، وأنتم تعرفون أننا نستطيع - على سطح ليس له سوى بعدين اثنين - أن نرسم شكلا ذا أبعاد ثلاثة. ولهذا يرون أنه بواسطة نماذج ذات أبعاد ثلاثة يمكن تمثيل شكل ذي أبعاد أربعة إذا وسعهم أن يتمثلوا صورته.»
فقال العمدة الريفي: «أظن ذلك.» وزوى ما بين عينيه، وشردت نظرته، وصارت شفتاه تختلجان كأنما يردد ألفاظا خفية «نعم، أظن أني فهمت الآن.» قال هذا بعد هنيهة، وأشرق وجهه لحظة. «ولست أكتمكم أني شغلت نفسي بهذه الهندسة الرباعية الأبعاد زمنا، وبعض ما وصلت إليه، عجيب. فمثلا، هذه صورة رجل في الثامنة من عمره، وهذه أخرى في الخامسة عشرة، وثالثة في السابعة عشرة، ورابعة له في الثالثة والعشرين وهكذا، وبديه أن هذه جميعا جوانب له - صور ثلاثية الأبعاد. لكيانه الرباعي الأبعاد - وهو شيء ثابت لا يتغير.»
ومضى في كلامه بعد فترة كافية لاستيعاب هذا المعنى «إن العلماء يعرفون أن الوقت ليس إلا ضربا من الفضاء. هذا رسم بياني لتقييد الحالة الجوية. وهذا الخط الذي أتتبعه بإصبعي يبين حركة البارومتر، وقد كان المقياس أمس عاليا إلى هنا، فهبط في الليل، وعاد هذا الصباح إلى الارتفاع إلى هنا. ومن المحقق أن الزئبق لم يرسم هذا الخط في أي واحد من أبعاد الفضاء المعترف بها. ولكنه رسم الخط، فهذا الخط لا يسعنا إلا أن نقرر أنه على اتجاه بعد الزمن.»
فقال رجل الطب، وهو يحدق في النار: «ولكن إذا كان الزمان ليس أكثر من بعد رابع في الفضاء، فلماذا يعد - ولماذا كان دائما يعد - شيئا مختلفا؟ ولماذا لا نستطيع أن نتحرك في الزمن كما نتحرك في الأبعاد الأخرى في الفضاء؟»
فابتسم الرحالة في الزمن وقال: «أواثق أنت أننا نستطيع أن نتحرك بحرية في الفضاء؟ إننا نذهب يمينا ونذهب شمالا، ونمشي قدما، ونرجع القهقرى بحرية، وما زال الناس يقدرون على ذلك، وإني لأعترف أننا نتحرك بحرية في بعدين، ولكن ما القول في «فوق» و«تحت»؟ إن الجاذبية تحد من حركتنا هنا.»
فقال رجل الطب: «كلا، فإن هناك البالون.»
قال: «ولكن قبل عهد البالون، وفيما عدا القفز والوثب وعدم استواء السطح، لم تكن للإنسان حرية في الحركة الفوقية.»
فقال رجل الطب: «على كل حال يستطيع أن يتحرك قليلا إلى فوق، وإلى تحت.» «الحركة إلى تحت، أسهل، أسهل جدا.» «ولا سبيل إلى الحركة في الزمن، لا تستطيع أن تجاوز اللحظة الحاضرة.» «يا سيدي العزيز، هذا هو موضع الخطأ. هذا هو الذي أخطأ فيه العالم كله، فإننا لا ننفك نجاوز اللحظة الحاضرة، ووجودنا العقلي - وهو غير مادي وليس له أبعاد - يمضي على بعد الزمن بسرعة منتظمة من المهد إلى اللحد كما نسير إلى تحت، إذا بدأنا وجودنا على ارتفاع خمسين ميلا فوق سطح الأرض.»
وقال النفساني مقاطعا: «ولكن الصعوبة هي أننا نستطيع أن نتحرك في كل اتجاه في الفضاء، أما في الزمن فلا.» - «هذه جرثومة اكتشافي العظيم، وأنت مخطئ حين تقول إننا لا نستطيع أن نروح ونجيء في الزمن. مثال ذلك، أن أتذكر حادثة بوضوح، فأنا أكر راجعا إلى اللحظة التي وقعت فيها، أو يشرد فكري، فأنا أثب راجعا مسافة لحظة. ولا أحتاج أن أقول إنه ليس لنا وسيلة نستطيع بها التلبث في رجعاتنا وكراتنا هذه، أي مسافة من الزمن، كما لا يستطيع الإنسان المستوحش، أو الحيوان أن يبقى في الهواء على ارتفاع ستة أقدام من الأرض، ولكن الإنسان المتحضر أحسن حالا من المستوحش في هذا، فإن في وسعه أن يصعد في الجو ببالون على الرغم من الجاذبية، فلماذا لا يحق له أن يرجو أن يستطيع آخر الأمر أن يقف، أو يسرع على سنن البعد الزمني، أو حتى أن يدور، ويطوف في الناحية الأخرى؟»
فقال فيلبي: «آه، هذا كله ...»
فسأله الرحالة في الزمن: «لم لا.»
قال فيلبي: «إنه مما لا يقبله العقل.»
فسأله: «أي عقل؟»
فقال فيلبي: «قد تستطيع أن تثبت أن الأسود أبيض، ولكنك لا تقنعني.»
قال: «ربما ... ولكنك بدأت تدرك الغرض من بحوثي، في الهندسة الرباعية الأبعاد. ومنذ زمن بعيد خطر لي على نحو غامض، أن في الوسع صنع آلة.»
فصاح الشاب: «للطواف بها في الزمن؟» - «يمكن الطواف بها في أي اتجاه في الفضاء والزمن على هوى مسيرها.»
فاكتفى فيلبي بالضحك.
فقال: «ولكني جربت إثبات ذلك عمليا.»
فقال النفساني: «إن هذا يكون مفيدا جدا للمؤرخ، فيستطيع أن يكر راجعا، ويحقق ما حدث في معركة هيستنجز مثلا.»
وقال رجل الطب: «ألا تخشى أن تلفت إليك الأنظار؟ إن أجدادنا لم يكن حظهم جزيلا من سعة الصدر.»
وقال الشاب: «ويسع الإنسان أن يتلقى اللغة الإغريقية من فم هومر أو أفلاطون! وثم المستقبل، تصور هذا! في وسع المرء أن يستثمر كل ماله ويتركه ينمو ويزداد، ويسرع فيسبقه.»
فقلت: «فيجد الجماعة الإنسانية قائمة على مقتضى نظام شيوعي دقيق!»
وقال النفساني: «يا له من شطط في التصور والخيال!» - «نعم، هذا ما كنت أظن في بداية الأمر، ولهذا لم أفه بكلمة عنه حتى ...»
فصحت: «حتى حققته بالتجربة! أتريد أن تثبت هذا؟»
وصاح فيلبي وقد كل ذهنه: «التجربة!»
وقال النفساني: «أرنا تجربتك على كل حال، وإن كان الأمر كله كلاما فارغا.»
فابتسم لنا الرحالة في الزمن، وهو يدير فينا عينيه، ثم تركنا وخرج على مهل، ويداه في جيبي بنطلونه، وكنا نسمع وقع قدميه، وهو ماض إلى معمله.
فقال النفساني: «ترى ماذا عنده.»
فقال رجل الطب: «لعبة بارعة، أو ما هو منها بسبيل.»
وهم فيلبي أن يحدثنا عن حاو في «بير سلم»، ولكن قبل أن يفرغ من مقدمة كلامه دخل الطواف في الزمن، فانهارت القصة. (2) الآلة
كان الذي يحمله الرحالة في الزمن آلة من المعدن اللامع لا تزيد في الحجم عن ساعة صغيرة ولكنها دقيقة الصنع. وكان فيها عاج ومادة أخرى بلورية شفافة. ويحسن بي هنا أن أتحرى الدقة لأن ما سأورده ليس له تعليل إلا إذا سلمنا بتعليله. فقد تناول إحدى المناضد المثمنة الأضلاع ووضعها أمام الموقد، فكانت اثنتان من قوائمها على السجادة. ووضع الآلة على هذه المنضدة، ثم جر كرسيا وقعد عليه. ولم يكن على المنضدة شيء آخر سوى مصباح صغير مظلل كان ضوءه مسلطا على هذه الآلة النموذجية. وكان في الغرفة أيضا حوالي اثنتي عشرة شمعة؛ اثنتان منها في شمعدانين من النحاس على الصفة، والبقية في شمعداناتها الموزعة في الغرفة، فالغرفة حسنة الضوء. وقعدت أنا على كرسي بجانب الموقد وزحفت به حتى صرت بين الرحالة في الزمن وبين النار. وجلس فيلبي وراءه يطل من فوق كتفه، وكان رجل الطب والعمدة على يمينه والنفساني على يساره، ووقف الشاب خلف النفساني وكنا جميعا متحفزين متربصين؛ فمما لا يقبله العقل أن يخدعنا خادع مهما بلغ من حذقه وبراعته.
ونظر إلينا الرحالة في الزمن ثم رد بصره على الآلة فقال النفساني: «نعم؟»
فأسند المطوف مرفقيه، وضم راحتيه فوق الآلة وقال: «هذه الآلة الصغيرة ليست سوى نموذج لآلة يطوف المرء بها في الزمان. وتلاحظون أنها تبدو مائلة، وأن لهذا القضيب وميضا غريبا، كأنه شيء لا حقيقة له.» وأشار إلى القضيب بإصبعه «وهنا أيضا رافع أبيض صغير . وهنا واحد آخر.»
فنهض رجل الطب عن كرسيه وحدق في الآلة وقال: «إنها بديعة الصنع.»
فقال الرحالة في الزمن: «قد سلخت في صنعها عامين.» وبعد أن تأملناها جميعا مضى يقول: «وأحب أن تعرفوا أن هذا الرافع إذا ضغط يدفع الآلة فتنساب في المستقبل، وهذا الرافع الآخر يعكس الحركة والاتجاه. وهذا السرج يمثل مقعد المطوف. وسأضغط الرافع فتنطلق الآلة ماضية، وتختفي، وتنتقل إلى المستقبل، وتغيب فيه. فتأملوها جيدا، وأديروا عيونكم في المنضدة لتكونوا على يقين من أنه لا خدعة هناك. فلست أحب أن أفقد هذا النموذج ثم يقال لي بعد ذلك إني مشعوذ.»
وساد السكون لحظة، وكأنما هم النفساني بأن يخاطبني ثم عدل ثم مد المطوف إصبعه إلى الرافع ولكنه قال فجأة: «كلا. بل هات أنت يدك.» والتفت إلى النفساني فتناول يده وأمره أن يمد سبابته، فكان النفساني هو الذي أرسل نموذج آلة الزمان في رحلتها التي لا نهاية لها. ورأينا كلنا الرافع يتحرك. وكنت على يقين جازم من أنه لا خداع في الأمر. وهبت نسمة فوثب لهب المصباح، وانطفأت إحدى الشمعتين على الصفة، ودارت الآلة بغتة، وغمضت، وبدت كالشبح مقدار ثانية، أو كموجة من لمع العاج والنحاس، ثم غابت، اختفت. ولم يبق على المنضدة سوى المصباح.
وساد السكون مرة أخرى ثم قال فيلبي: «إنه لعين.»
وأفاق النفساني من ذهوله وانحنى لينظر تحت المنضدة، فضحك الرحالة في الزمن مسرورا وقال: «ثم ماذا؟» ثم نهض إلى وعاء الطباق على الصفة وشرع يحشو بيبته، وظهره إلينا.
ونظر بعضنا إلى بعض ثم قال رجل الطب: «اسمع. أأنت جاد؟ أتعتقد حقيقة أن هذه الآلة ذهبت تطوف في الزمن؟»
فقال الرحالة وهو ينحني ليشعل عودا من النار: «لا شك.» ثم دار وهو يوقد الطباق، ونظر إلى وجه النفساني الذي أراد أن ينفي عن نفسه مظنة الاضطراب فتناول سيجارا وهم بأن يشعله من قبل أن يقطعه.
ومضى الرحالة يقول: «وأزيد على ذلك أن عندي آلة كبيرة كاد صنعها يتم. (وأشار إلى المعمل) ومتى تمت فإن في عزمي أن أقوم برحلة.»
فسأله فيلبي: «هل تعني أن هذه الآلة تطوف في المستقبل؟» - «في المستقبل - أو في الماضي - فلست أعرف على وجه التحقيق.»
فقال النفساني بعد هنيهة، وكأنما ألهم شيئا: «لا بد أن تكون قد ذهبت في الماضي، إذا كانت قد ذهبت إلى شيء.»
فسأله الرحالة في الزمن: «ولماذا؟»
فقال: «لأني أفترض أنها لم تذهب في الفضاء، فلو أنها ذهبت تطوف في المستقبل لبقيت هنا طول الوقت.»
فقلت: «ولكن إذا كانت قد ذهبت تجوب الماضي، فقد كانت خليقة أن تكون مرئية عندما دخلنا هذه الغرفة - ويوم الخميس الماضي لما كنا هنا - والخميس الذي قبله، وهكذا.»
فقال العمدة بلهجة المنصف الذي لا يتحيز: «اعتراضات وجيهة.» ونظر إلى الرحالة في الزمن.
فقال هذا: «كلا. (ونظر إلى النفساني) فكر، فإن في وسعك أن تشرح هذا، إنه عرض مركز.»
فقال النفساني، وهو يطمئننا: «صحيح، صحيح. هذه مسألة سهلة في علم النفس. وكان ينبغي أن أتذكرها ولا أغفل عنها، وهي واضحة كفيلة بتعليل التناقض على وجه مرضي. فنحن لا نستطيع أن نرى هذه الآلة، ولا أن ندرك وجودها، كما لا نستطيع أن نرى محور عجلة دائرة، أو رصاصة منطلقة في الهواء. وإذا كانت تجوب الزمن بسرعة أكبر من سرعتنا خمسين مرة أو مائة مرة، وإذا كانت تقطع الدقيقة على حين لا نقطع نحن سوى ثانية، فإن الوقع الذي تحدثه يكون بالبداهة معادلا لواحد على خمسين، أو واحد على مائة من وقعها لو أنها لم تكن تجوب الزمن. وهذا واضح جدا.»
وأمر يده في حيث كانت الآلة، وقال وهو يضحك: «أترون؟»
فلبثنا هنيهة نحدق في المنضدة التي خلت مما كان عليها ثم سألنا الرحالة في الزمن رأينا.
فقال رجل الطب: «إن الأمر يبدو في ليلتنا هذه معقولا جدا، ولكن انتظر إلى الغد، انتظر حتى يعود الرشد مع الصباح.»
فسألنا الرحالة في الزمن: «أتريدون أن تروا آلة الزمن نفسها؟»
وتناول المصباح وتقدمنا في الدهليز الطويل الكثير التيارات إلى معمله، وما زلت أذكر الضوء المضطرب، ورأسه العريض العجيب ، والظلال الراقصة وكيف كنا نتبعه ونحن حائرون لا نكاد نصدق، وكيف رأينا في المعمل نسخة مكبرة من الآلة التي شهدنا بأعيننا اختفاءها. وكانت أجزاء منها من النيكل وأخرى من العاج، وغيرها مبرودا أو مقطوعا بالمنشار من البلورات الصخرية، وكانت الآلة على وشك التمام، ولكن القضبان البلورية الملتوية كانت ملقاة على مقعد، وإلى جانبها بعض الرسوم، فتناولت أحدها لأتأمله، فخيل إلي أنه من حجر الصوان.
وقال رجل الطب: «اسمع، هل أنت جاد؟ أم ترى هذه خدعة، كذلك الشبح الذي أريتنا إياه في عيد الميلاد؟»
وقال الرحالة في الزمن، وهو يرفع المصباح: «بهذه الآلة سأقوم برحلة في الزمن، فهل كلامي واضح؟ إني أتكلم جادا.»
فلم ندر كيف نتلقى قوله.
ولمحت فيلبي ينظر من فوق كتف الطبيب، فغمزني بعينه. (3) الرحالة في الزمن يعود
أظن أننا لم نكن في ذلك الوقت نؤمن بآلة الزمن، والواقع أن الرحالة في الزمن من هؤلاء الذين نجدهم أذكى وأبرع من أن تستطيع تصديقهم والاطمئنان إليهم، فإنك لا تشعر وأنت معه أنك تراه من كل الجهات، ولا تزال تحس أن هناك شيئا مغيبا عنك، أو متربصا لك من وراء صراحته المشرقة، ولو أن فيلبي كان هو الذي أرانا الآلة وشرحها بألفاظ الرحالة في الزمن لكان شكنا أقل وترددنا أضأل، لأنه كان يسعنا أن ندرك بواعثه، فما يعجز أحد عن فهم فيلبي، ولكن الرحالة في الزمن رجل آخر، تمتزج بعناصر نفسه نزعات خفية، فنحن نتوجس من ناحيته، وما هو خليق أن يكسب من هو دونه ذكاء، الشهرة وبعد الصيت، كان يبدو كالألاعيب في يديه. وأحسب أن من الخطأ أن يفعل المرء الشيء بمثل هذه السهولة المفرطة. وكان الجادون معه لا يستطيعون أن يعرفوا كيف يكون سلوكه، وكانوا يشعرون أنهم معه كالأوعية والأدوات المصنوعة من الصيني في غرف الأطفال، ومن أجل هذا لا أظن أن أحدا منا أطال القول في هذا الطواف في الزمن في الفترة بين ذلك الخميس والخميس الذي تلاه. وإن كانت غرائب احتمالاته ظلت تدور ولا شك في النفوس، أعني إمكانه أو استحالته في الواقع وما إلى ذلك. وكنت مشغولا بالنموذج وقد تناولته بالبحث مع رجل الطب لما قابلته يوم الجمعة في النادي فقال لي: إنه رأى ماي يشبهه في «توبنجن» وألفيته معنيا جدا بانطفاء الشمعة، ولكنه قال إنه لا يستطيع إيضاح الأمر.
وفي يوم الخميس التالي قصدت إلى رتشموند - وأحسب أني من الزوار المواظبين للرحالة في الزمن - فوجدت أربعة أو خمسة سبقوني إلى الاجتماع في غرفة الاستقبال، وكان رجل الطب واقفا أمام الموقد وفي إحدى يديه رقعة وفي الأخرى ساعة. فتلفت باحثا عن الرحالة في الزمن فقال رجل الطب: «إنها الساعة السابعة والنصف الآن، أفلا يحسن أن نتعشى؟»
فسألت: «وأين ...؟» وسميت مضيفنا. - «أو لم تحضر إلا الساعة؟ هذا غريب! لقد عاقه عن الحضور ما لا حيلة له فيه، وبعث إلي برقعة يرجو مني فيها أن أنوب عنه في العشاء معكم في الساعة السابعة إذا كان لم يحضر، وسيفضي إلينا بالباعث على تخلفه حين يجيء.»
فقال محرر جريدة يومية مشهورة: «إنه يكون من دواعي الأسف أن ندع العشاء يفسد.»
فدق الطبيب الجرس.
وكان النفساني هو الوحيد الذي شاركنا مع الطبيب في العشاء السابق، أما الجديدون فهم بلانك الصحفي الذي أسلفت الإشارة إليه، وصحفي آخر معه، وثالث، رجل حيي ذو لحية ،لا أعرفه ولا أذكر أنه فتح فمه على العشاء بكلمة واحدة. ودار الحديث على المائدة فيما عسى أن يكون الداعي إلى تخلف الرحالة في الزمن، فقلت لعله التجواب في الزمن، وكنت أقرب إلى المزح مني إلى الجد، فطلب مني المحرر أن أشرح له معنى هذا القول، فتولى عني النفساني البيان وقص ما شهدناه في الأسبوع الماضي، وإنه لفي هذا وإذا بالباب يفتح على مهل وبلا صوت، وكان وجهي إليه فرأيته قبل غيري وقلت: «هاللو! أخيرا!» ودخل الرحالة في الزمن ووقف أمامنا، فندت عني صيحة استغراب، وقال رجل الطب: «يا للسماء! ماذا دهاك أيها الرجل؟» ودارت العيون كلها إلى ناحية الباب.
وكانت حالته مدهشة، فقد كانت ثيابه معفرة وقذرة وكماه ملوثين بمادة خضراء، وكان شعره منفوشا وقد زاد فيه الشيب اشتعالا على ما بدا لي - مما عليه من التراب أو لأن لونه حال - وكان وجهه أصفر، وفي ذقنه جرح - جرح يكاد يلتئم - وكانت معارفه واشية بالتعب والفتور كأنما كان يعاني برحا ثقيلا، وقد تردد لحظة وهو واقف بالباب كأنما أزاغ النور بصره، ثم دخل، وكان يظلع في مشيته كما يفعل الذين أحفاهم طول السعي، فأتأرناه النظر في صمت، منتظرين أن يتكلم.
ولكنه لم ينبس بحرف، بل مشى متحاملا على نفسه إلى المائدة، وأشار إلى الشراب فملأ له المحرر قدحا من الشمبانيا، فكرعه وبدا عليه الانتعاش، فقد أدار عينه في المائدة، وقد خفقت على محياه ابتسامته المعهودة، وسأله الطبيب: «ماذا كنت تصنع؟» ولكنه كان كأنه لا يسمع، وقال بصوت مضطرب: «لا تنزعجوا فإني بخير.» وأمسك، ومد يده بالقدح يطلب ملئه، وأفرغه في فمه وقال: «هذا حسن.» وازدادت عيناه التماعا، وعاد إلى وجهه الدم، وكان لحظة يتنقل من وجه إلى وجه، وفيه معنى الرضى والموافقة، ثم جالت عينه في الغرفة الدافئة الوثيرة وقال وكأنه يتحسس طريقه: «سأغتسل وأغير ثيابي، ثم أنزل إليكم وأفضي إليكم بما عندي ... أبقوا لي شيئا من هذا اللحم، فإني أتضور من فرط اشتهائه.»
ونظر إلى المحرر - وكان زائرا مغبا - وأعرب عن رجائه أن يكون مسرورا، فهم المحرر بسؤال فكان الرد: «سأجيبك بعد لحظة، فإني - دائر الرأس - وسأكون بخير بعد برهة.»
ووضع القدح، ومضى إلى باب السلم؛ فلاحظت مرة أخرى أنه يظلع، وأن وقع قدميه خافت فوقفت أنظر وأنا في مكاني، فأخذت عيني قدميه وهو يخرج، فإذا هما حافيتان ليس عليهما إلا جوربان ممزقان ملوثان بالدم، وأغلق الباب وراءه، وحدثتني نفسي أن أتبعه، ولكني تذكرت أنه يمقت اللغط والضجات، وشرد ذهني لحظة، ثم سمعت المحرر يقول: «سلوك غريب من عالم شهير.» - كأنما يكتب عنوانا لخبر. فردني هذا إلى المائدة البهيجة.
وقال الصحفي: «ما هي الحكاية؟ إني لست فاهما.»
والتقت عيني بعين النفساني، فقرأت في وجهه التفسير الذي خطر لي، ورحت أفكر في الرحالة في الزمن وهو يصعد الدرجات متكئا على نفسه. وما أظن أن أحدا غيري لاحظ عرجه.
وقد كان الطبيب أول من ثابت إليه نفسه؛ فدق الجرس - فقد كان الرحالة في الزمن يكره أن يقف الخدم وراء المائدة - وطلب طبقا، فعاد المحرر إلى الشوكة والسكين وهو يزوم، وفعل مثله الرجل الصموت. وعدنا إلى الطعام، وكان الحديث عبارة عن جمل متقطعة تتخللها فترات استغراب، ثم لم يطق المحرر أن يظل يكتم ما يخامره فقلت له: «إني واثق أن ما به راجع إلى هذه الآلة.» وتناولت رواية النفساني ووصفه لما شهدناه من حيث قطعه وكان الجديدون من الضيوف صرحاء في رفض التصديق. وجعل المحرر يثير الاعتراضات ويتساءل: «ما هو هذا التطويف في الزمان؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يعفر نفسه بالتراب بأن يتمرغ في بعض النقائض؟»
ولما أحاط بالموضوع تناوله بالتهكم وسأل: «أليس عند الناس في المستقبل فرشاة لنفض التراب عن الثياب؟»
وكان الصحفي كذلك يأبى أن يصدق، فانضم إلى المحرر وعاونه على ركوب الأمر بالسخرية. وكان كلاهما من الطراز الحديث في الصحافة، أي شابا مرحا لا يوقر شيئا، وأنشأ الصحفي يقول: «يروي مكاتبنا الخاص فيما بعد غد ...» وإذا بالرحالة في الزمن يدخل علينا في ثياب السهرة العادية، ولا شيء يشي بما طرأ عليه من التغير الذي أزعجني سوى نظرته الفاترة.
وصاح به المحرر: «لقد كان هؤلاء الفتيان يقولون إنك كنت تجوب منتصف الأسبوع المقبل! فهات لنا القصة. وعين الثمن الذي تتقاضاه لقاء ذلك.»
فتقدم الرحالة في الزمن إلى المقعد المحفوظ له بلا كلام، وابتسم ابتسامته الهادئة وقال: «أين اللحم؟ يا لها من نعمة، أن يغرز المرء شوكته في اللحم مرة أخرى.»
فصاح المحرر: «القصة!»
فقال الرحالة في الزمن: «لعنة الله على القصة! إني أريد شيئا آكله. ولن أنطق بكلمة واحدة حتى أنعش الدم في شراييني. شكرا، والملح من فضلك.»
فقلت: «سؤال واحد. هل كنت تجوب الزمان؟»
فقال: «نعم.» وهز رأسه وفمه محشو.
وقال المحرر: «إني مستعد أن أنقده شلنا على كل كلمة.»
ودفع الرحالة قدحه إلى الرجل الصامت ونقر عليه بأظافره، وكان الرجل الصامت يحدق في وجهه فانتبه، وصب له الشراب الذي يبغيه. ولبثنا قلقين إلى آخر العشاء، وكانت شفتاي تضطربان، بما أهم بالسؤال عنه، وأحسب أن غيري كان شأنه كشأني. وحاول الصحفي أن يخفف وطأة الحال بحكايات يقصها عن «هيتي بوتر» وكان الرحالة في الزمن عاكفا على الطعام يلتهمه التهام من طال حرمانه. وأشعل الطبيب سيجارة، وذهب يدخن ويراقب الرحالة في الزمن، وبدا الرجل الصامت أشد اضطرابا مما يكون عادة، فأقبل على الشمبانيا يكرع منها بانتظام وإلحاح من فرط ما به من الاضطراب العصبي، وأخيرا دفع الرحالة في الزمن طبقه وأقصاه عنه، وهو يتلفت ويقول: «أحسب أن علي أن أعتذر. ولكن الحقيقة أني كنت أتضور جوعا. وقد قضيت فترة مدهشة العجائب.» وتناول سيجارا وقطع طرفه، وقال: «تعالوا إلى غرفة التدخين، فإنها حكاية طويلة، والأطباق كلها شحم.» ودق الجرس وهو يتقدمنا إلى الغرفة المجاورة.
وسألني وهو يضطجع في كرسيه: «هل خبرت بانك، وداش، وتشوز، خبر الآلة؟» وأشار إلى الضيوف الحديثين.
فقال المحرر: «ولكن المسألة كلها نقائض.»
فقال: «لا أستطيع أن أجادل الليلة، ولا بأس بالحكاية، أما الجدل فلا. وسأقص عليكم ما حدث لي - إذا شئتم - ولكن عليكم ألا تقاطعوني وإن بي لحاجة إلى الإفضاء بها ... حاجة ملحة، وستبدو لكم كأنها أكذوبة من تلفيق الخيال، فليكن! ولكنه صحيحة. كل حرف منها، وقد كنت في معملي في الساعة الرابعة، وقد عشت منذ تلك الساعة، ثمانية أيام ... أيام لم يعشها إنسان آخر قبلي ... وإني لمهدود القوة، ولكن النوم لن يسعفني حتى أقص عليكم قصتي، وبعد ذلك أنام. ولكن لا تقاطعوا، فهل هذا عهد؟»
فقال المحرر: «موافق.»
ورددنا جميعا كلمة الموافقة.
وشرع الرحالة في الزمن يقص ما كان من أمره، كما أثبته هنا فيما يلي.
وكان في أول الأمر مضطجعا في كرسيه، يتكلم بفتور، ولكنه انتعش شيئا فشيئا، وإني إذ أنقل ما سمعته لأدرك قلة غناء القلم والمداد، وضعف حيلتي في نقل صفة الكلام إلى القارئ. وما أظن بك إلا أنك تقرأ بعناية، ولكنك لا تستطيع أن ترى المتكلم ووجهه المخلص الباهت اللون، على ضوء المصباح المتألق، ولا أن تسمع نبرات صوته، ولا أن ترى أن تغيير وجهه يختلف تبعا لإحساسه بما يرويه. وكان أكثرنا يجلسون في ظلام، فما أضيئت الشموع في غرفة التدخين. ولم يكن النور يبدي منا غير محيا الصحفي، وساقي الرجل الصامت. وكان بعضنا في أول الأمر يتلفت إلى بعض، ثم كففنا عن ذلك، وصارت عيوننا لا تتحول عن وجه الرحالة في الزمن. (4) التطواف في الزمن
بينت لبعضكم يوم الخميس الماضي المبادئ التي تقوم عليها آلة الزمان، وأريتكم الآلة أيضا، وكانت ناقصة لم تتم، وهي هناك الآن، وقد نال منها الطواف ... حقيقة ... وقد انكسر قضيب من العاج فيها، وانثنى آخر من النحاس، ولكن بقيتها سالمة. وكنت أتوقع أن أتم صنعها يوم الجمعة، ولكني يوم الجمعة بعد أن كدت أفرغ من تركيبها وجدت أن قضيبا من النيكل أقصر مما ينبغي بمقدار بوصة، فاحتجت أن أصنعه من جديد. فلم أفرغ من العمل إلا هذا الصباح. وفي الساعة العاشرة من يومنا هذا بدأت أول آلة للزمان حياتها وسيرتها، وقد أدرت فيها عيني، واختبرتها آخر اختبار، وامتحنت كل ما فيها من الروابط، وصببت قطرات من الزيت على القضيب المصنوع من «الكوارتز» واتخذت مقعدي على السرج. وأحسب أن المنتحر الذي يتناول المسدس، ويسدده إلى رأسه، يشعر بمثل ما شعرت به، وأمسكت بالرافعة بإحدى يدي، وبالأخرى المجعولة لوقفها بيدي الأخرى، وضغطت الأولى، ثم الثانية بعد ذلك مباشرة، وخيل إلي أني أترنح، وشعرت كأني سأسقط، وتلفت فألفيت المعمل على حاله - كما كان بلا فرق - فهل ترى حدث شيء؟ وخفت - لحظة - أن يكون عقلي خدعني، ثم نظرت إلى الساعة، وكانت قبل برهة لم تجاوز العاشرة إلا بمقدار دقيقة أو نحوها. فإذا بها الآن منتصف الرابعة!
فملأت صدري بالهواء، وقرضت أسناني، وتناولت الرافعة بكلتا يدي ومضيت، فأخذ المعمل يبدو لي أقل وضوحا ثم أظلم. ودخلت السيدة «واتشيت» وقطعت الغرفة كأنها لا تراني، ومضت إلى باب الحديقة. وأحسب أنها اجتازت الغرفة في نحو دقيقة، ولكنها كانت تبدو لي مارقة كالسهم أو الشهاب، وضغطت الرافعة إلى أقصى حد، فدخل الليل، كما تطفئ مصباحا، وبعد لحظة أخرى، جاء الغد، وغاب عني المعمل شيئا فشيئا، وجاء المساء أسود حالكا، ثم الصباح فالليل مرة أخرى، فالنهار كرة ثانية، وكان في مسمعي كصوت تلاطم الأمواج، وغشي عقلي الارتباك والبلادة.
وليس في وسعي أن أصور لكم الإحساس الخاص الذي يحدثه الطواف في الزمان، فإنه أثقل ما عانيت، والمرء يشعر بأنه مقذوف به ولا حيلة له. وخامرني الإحساس أيضا بوشك التحطم، وكنت وأنا أجتاز الزمان وأزيد السرعة، أرى الليل يعقب النهار كما يخفق الجناح الأسود. وغاب عن عيني شبح المعمل الغامض، ورأيت الشمس تبدو وتختفي في السماء بسرعة، وكلما بدت مقدار دقيقة كان يوم. وكبر في ظني أن المعمل تقوض وأني خرجت إلى الهواء الطلق. وخيل إلي أني أرى شيئا كأنه الشعف على الجدران، ولكني كنت أمرق بسرعة فلم أكن أحس بالأشياء المتحركة، وكانت أبطأ القواقع خطوا تخطف بسرعة فلا أكاد أراها. وكانت عيني يؤذيها اختلاف الليل والنهار بمثل سرعة البرق. وفي الظلام المتقطع رأيت القمر ينتقل في أوجز وقت من هلال إلى بدر كامل، ولمحت قبة السماء المزدانة بالنجوم، وظللت أمضي، وسرعتي تزداد، فاختلط بياض النهار بسواد الليل، وصارت زرقة السماء عميقة، وضاءة اللون، كالشفق، وغدت الشمس كأنها لسان من اللهب، أو قوس متقد في الفضاء والقمر كالحزام المضطرب، ولم أعد أرى النجوم، ولكنها من حين إلى حين كانت تبدو لي كدائرة خفاقة اللمعان في زرقة السماء.
وأصبح المنظر غامضا غائما، وكنت لا أزال على ذلك الجانب من التل الذي يقوم عليه هذا البيت، فصار يرتفع ويغمض، ورأيت الأشجار تنمو وتتغير كأنها نفخة دخان، وتكون سمراء فتغدو خضراء، وكانت تنمو، وتكبر، وتهتز، وتزول، ورأيت مباني ضخمة تعلو وتمر كالحلم، وتغير وجه الأرض كلها فيما بدا لي، وصار ذائبا يسيل ويتحدر تحت عيني. وكانت العقارب التي تسجل سرعتي تزداد سرعة دوران، فما لبثت أن رأيت نطاق الشمس يعلو ويهبط من وجه إلى وجه في دقيقة أو أقل، فعلمت أني صرت أقطع العام في دقيقة، فكان الثلج الأبيض يومض، دقيقة بعد دقيقة، على الدنيا، ويختفي، وتعقبه خضرة الربيع النضيرة القصيرة.
وصارت الإحساسات التي كابدتها في البداية أخف وطأة، وتحولت إلى نشوة عصبية، وقد لاحظت أن الآلة تضطرب وأن حركتها ليست بالسلسة لسبب لا أعرفه، وكان اضطراب عقلي أشد من أن يسمح لي بالعناية بذلك، واستغرقني نوع من الجنون فقذفت بنفسي في المستقبل، ولم يخطر لي في أول الأمر أن أقف أو أتريث، أو أن أجعل بالي إلى غير ما أحس، ولكني ما لبثت أن شعرت بضرب جديد من الخوالج - بمقدار من التعجب والتطلع، وبشيء من الخوف - ما عتمت أن استولت على نفسي أتم استيلاء، فقد تتكشف لي مظاهر تطور غريبة في حياة الإنسان، وتقدم مدهش في مدينتنا البدائية، إذا أنا أتيح لي أن أتدبر هذا العالم الغامض المتفلت الذي يعدو ويضطرب أمام عيني. ورأيت بنى عظيمة رائعة ترتفع حولي، وهي أضخم من كل ما رفعناه وأعليناه في زماننا، ولكنها كانت تبدو مبنية من الضباب والضوء الخفاق. ورأيت الخضرة السائلة على جانب التل، أزهى وأنضر، وأبقى أيضا فلا أثر للشتاء فيها. وحتى على الرغم من الحجاب الذي أسدله الاضطراب على عقلي بدت الأرض أجمل وأنقى، فشرعت أفكر في الوقوف.
وكان أكبر ما أخاف أن أجد مادة ما في الفضاء الذي أنا - أو الآلة - فيه، ولم يكن لهذا قيمة، وأنا أجتاز الزمن بسرعة كبيرة، فقد كنت كأني تضاءلت حتى لم أعد شيئا، أو كنت كالبخار الذي ينفذ مما بين المواد المعترضة، ولكن الوقوف يجر إلي ضغطي ودفعي ذرة فذرة فيما عسى أن يكون في طريقي، وإلى جعل ذراتي من شدة الاتصال بذرات العقبة المعترضة، بحيث يفضي ذلك إلى إحداث تفاعل كيميائي عميق - أو عسى أن يؤدي إلى انفجار - فأتطاير أنا والآلة خارجا من كل الأبعاد الممكنة إلى المجهول. وكان هذا الاحتمال قد خطر لي مرات وأنا أصنع الآلة، فأخلدت إليه على أنه أحد الأخطار التي لا بد من المجازفة بالاستهداف لها، أما الآن فقد صار الخطر لا مفر منه، فلم أواجهه بذلك الابتسام وتلك البشاشة كما كنت أفعل. والواقع أن غرابة ما أنا فيه، وتطرح الآلة، وطول الإحساس بأني أهوي؛ كل أولئك قد أتلف أعصابي، فحدثت نفسي أني لن أستطيع الوقوف، ونفد صبري على هذا، ووهى جلدي، فعزمت على الوقوف من توي. وتسرعت لسخافتي فجذبت الرافعة، فانقلبت الآلة، وقذف بي في الهواء.
وصار في مسمعي مثل تهزم الرعد وعسى أن أكون قد فقدت وعيي لحظة، وكان الثلج يسقط حولي، وألفيتني جالسا على العشب الناعم أمام الآلة المقلوبة، وكان كل شيء فيما يبدو مغبرا، ولكني تنبهت فأدركت أن صوت الرعد الذي كان في أذني قد زال؛ فأجلت عيني فيما حولي فوجدت أني فيما يشبه ممرا في حديقة تحيط بها شجيرات، ولاحظت أن نوارها يسقط به الثلج وكان ما يسقط منه يشبه السحابة الرقيقة على الآلة، وتطلقه الريح على الأرض كالدخان، وأحسست بالبلل ينفذ إلى بدني؛ فقلت: «يا له من إكرام لوفادة رجل اجتاز ما لا عداد له من السنين ليراك!»
وخطر لي أن من البلاهة أن أبتل، فنهضت وتلفت، فرأيت شخصا عظيما كأنه منحوت من حجر أبيض يبدو من وراء الشجيرات والثلج المتساقط، وفيما عدا ذلك لم تأخذ عيني شيئا من الدنيا.
ومن العسير وصف ما خالج نفسي. وقد صار هذا الشخص أوضح لما رق الثلج المتساقط، وكان عظيما جدا فقد كانت هناك شجرة عالية لا تبلغ إلا كتفه. وكان مصنوعا من الرخام الأبيض، وعلى صورة أبي الهول بجناحين، ولكن الجناحين كانا منشورين فله هيئة الطير إذ يخفق. وكانت القاعدة على ما بدا لي من البرونز والصدأ عليه كثير، واتفق أن كان وجه التمثال إلي، فخيل إلي أن عينيه تراقباني، وكان على فمه طيف ابتسامة، وكانت الرياح قد عصفت به، فلمنظره في النفس وقع المرض؛ فوقفت أنظر إليه هنيهة - نصف دقيقة أو نصف ساعة - فكان يخيل إلي أنه يتقدم نحوي ويرتد عني كلما رق الثلج أو كثف. وأخيرا حولت عنه لحظي فرأيت ستار الثلج يرق ويشف، ورأيت السماء تضيء مؤذنة بظهور الشمس.
فرجعت بصري إلى التمثال الأبيض الرابض؛ فأدركت مبلغ ما في رحلتي هذه من الجرأة والمجازفة. وماذا عسى أن يظهر متى ارتفع هذا الستر؟ وماذا ترى أصاب الناس؟ كيف يكون الحال إذا كانت القسوة قد صارت نزعة عامة أو إذا كان الجنس الآدمي قد فقد في هذه الفترة التي اجتزتها، رجوليته، ونزع صفته الإنسانية وخسر روح العطف وأفاد القوة الماحقة؟ ألا أبدو له حيوانا مستوحشا من العالم القديم يضاعف التقزز منه هذا الشبه الباقي؛ مخلوقا قذرا يستحق أن يذبح بلا رحمة؟
ورأيت مناظر أخرى عظيمة؛ بنى ضخمة ذات أسوار ملتوية، وعمد سامقة وأخذت عيني شيئا فشيئا، مع سكون العاصفة سفح الجبل المكسو بالشجر، فاستولى علي الرعب، وأهويت على آلة الزمان أحاول أن أصلحها، فخلصت إلي في هذه اللحظة أشعة الشمس من خلال العاصفة المجلجلة، وانقطع ما كان يسح من السحاب وزال كما تزول ذلاذل (أسافل) أثواب الأشباح، وكانت تغشى زرقة السماء قطع من السحاب الرقيق لم تلبث أن اختفت، ووضحت المباني العظيمة لعيني وبرزت معالمها، ولمع ما بللها من المطر، وكساها ما لم يذب من البرد حلة بيضاء، فأحسست كأني عريان في عالم أجنبي، وشعرت بما أحسب الطائر يشعر به وهو يطير في الهواء ويعلم أن الصقر يخفق فوقه ويوشك أن ينقض عليه. وصار خوفي ذعرا، فملأت رئتي هواء، وقرضت أسناني، وأكببت على الآلة أعالجها بعنف فلانت لعزمي واعتدلت، وأصابت ذقني بقوة، ووقفت وأنا ألهث، وإحدى يدي على السرج والأخرى على الرافعة استعدادا للركوب مرة أخرى.
وتشجعت لما وثقت من إمكان العود بلا تلكؤ، وزادت رغبتي في الاستطلاع وقل خوفي من هذا العالم الذي يعيش في المستقبل السحيق، ووقعت عيني في نافذة مستديرة في إحدى البيوت القريبة على لفيف من الناس في ثياب رقيقة ثمينة، ورأوني كما رأيتهم، فصارت عيونهم علي.
وسمعت أصواتا تدنو مني، ورأيت رءوس رجال وأكتافهم، وهم يعدون مقبلين من بين الأشجار، مارين بأبي الهول الأبيض، وبرز أحدهم في الطريق المؤدي إلى حيث كنت واقفا إلى جانب الآلة. وكان مستدق الجسم - حوالي أربع أقدام - وفي ثياب قرمزية، وعلى وسطه حزام من جلد، وفي قدميه صندلة وساقاه عاريتان إلى الركبتين. وتنبهت وأنا أنظر إليه إلى أن الجو دافئ.
ووقع في نفسي أنه على حظ كبير من الجمال والرشاقة، ولكنه ضعيف جدا وأذكرني وجهه المضطرم بحمرة الخد في المسلول. وثابت إلي ثقتي بنفسي لما رأيته فرفعت يدي عن الآلة. (5) في العصر الذهبي
وما لبثت أن صرت وجها لوجه - أنا وذلك الإنسان الضعيف الخارج إلي من المستقبل، وقد تقدم مني، وتبسم لي في عيني - ولم يسعني إلا أن ألاحظ أنه لا أثر للخوف في حركاته. ثم التفت إلى اثنين آخرين كانا يتبعانه وكلمهما بلغة غريبة فيها عذوبة ولين.
وكان هناك آخرون مقبلين، فصار حولي من هذه المخلوقات الجميلة ثمانية أو عشرة. وخاطبني أحدهم، فكان من الغريب أنه دار في نفسي أن صوتي أخشن وأعمق من أن يخف عليهم، فهززت رأسي، ثم هززته مرة أخرى وأنا أشير إلى أذني. فتقدم مني خطوة، وتردد قليلا، ثم لمس يدي، وتابعه الآخرون فجعلوا يلمسون ظهري وكتفي كأنما أرادوا أن يستوثقوا من أني شخص حقيقي، ولم يكن في هذا ما يزعج أو يفزع، بل لقد كان هؤلاء الآدميون الصغار يعمرون الصدر بالثقة فقد كانت فيهم رقة، ورشاقة، وبساطة كبساطة الأطفال، وكان ما يبدو من ضعفهم يخيل إلي أن في وسعي أن أعصف بجميعهم بلا عناء، ولكني اضطررت أن أحذرهم بإيماءة حين رأيت أيديهم الدقيقة تلمس الآلة وتتحسسها. وألهمت، قبل فوات الأوان، أن أتقي خطرا لم أعن به من قبل، ففككت الرافعتين اللتين هما مبعث الحركة، ووضعتهما في جيبي ثم واجهتهم وأنا أفكر في وسيلة للتفاهم.
وتوضحت وجوههم وتأملت معارفها، فظهرت لي خصائص أخرى؛ ذلك أن شعرهم الجعد ينتهي عند خدودهم وأعناقهم لا أثر له على وجوههم. أما آذانهم فدقيقة جدا، وأما أفواههم فصغيرة وشفاهها رقيقة حمراء، وأذقانهم مخروطة الشكل، وعيونهم واسعة لينة النظرة، وقد يكون هذا أنانية مني، ولكنه خيل إلي أنهم لم يبدوا من الاكتراث ما كنت أتوقع.
ولما رأيتهم لا يبذلون جهدا لمخاطبتي، ولا يزيدون على الابتسام والتناجي فيما بينهم بأصواتهم الرقيقة، وهم وقوف حولي، بدأت الحديث؛ فأشرت إلى آلة الزمان وإلى نفسي، ولم أدر كيف أعبر لهم عن الزمن فأومأت إلى الشمس فرأيت أحدهم - وهو دقيق الخلق جميله، وعليه ثياب قرمزية مخططة وفيها بياض - يتبع إيماءتي وأدهشني منه أنه حكى صوت الرعد.
فدار رأسي لحظة، وإن كان معنى حركته واضحا، وخطر لي فجأة أن لعلهم بله. وعسير عليكم أن تدركوا ما خامرني من الخوالج. ذلك أني كنت دائما أتوقع أن يكون الناس في المقبل من الأجيال أعلم منا وأفهم، وأرقى في كل باب، وإذا بواحد منهم يفاجئني بسؤال طفل من أبنائنا في الخامسة من عمره؛ فقد كان سؤاله أتراني جئت من الشمس على جناح عاصفة؟ ... وكنت أصد نفسي عن الحكم عليهم، فأطلقت لها أن تحكم بما تشاء على ثيابهم وعلى أجسامهم الدقيقة الضعيفة، ووجوههم الرقيقة. وأحسست بخيبة الأمل، وخطر لي أني ركبت هذه الآلة عبثا.
وهززت رأسي أن نعم، وأشرت إلى الشمس، وحكيت لهم صوت الرعد بقوة أفزعتهم، فتراجعوا جميعا مقدار خطوة وانحنوا ... ثم أقبل علي واحد يضحك، ومعه قلادة من زهر لا أعرفه وزين بها جيدي، فصفقوا له وذهبوا يعدون في طلب الزهور وارتدوا بها وجعلوا يلقونها علي حتى كدت أختنق. وأنتم لم تروا مشبها لهذا؛ فليس في وسعكم أن تتصوروا هذه الزهور العجيبة الرقيقة الغلائل التي أخرجتها العناية بتربيتها سنوات لا يأخذها عد. ثم اقترح أحدهم أن يعرضوا هذه اللعبة - أعني أن يعرضوني - في أقرب منزل، فمضوا بي، ومررنا بأبي الهول الأبيض الذي كان كأنه يراقبني طول الوقت وهو يبتسم لتعجبي، إلى بناء أشهب كبير من الحجر المنقوش. وعادت إلي، وأنا أسير معهم، ذكرى ما كنت أحلم به، وأنا مطمئن واثق، من أن أبناء الأجيال الآتية سيكونون أعمق منا وأقوى عقولا وأعظم رزانة.
وكان للبناء مدخل كبير، وهو عظيم في كل شيء، وكان همي الأكبر بطبيعة الحال هذا الجمع المتزايد الذي يحتشد حولي، وهذه البوابات الضخمة المفتوحة التي تتثاءت أمامي وهي غامضة محفوفة بالأسرار. وكان الواقع العام في نفسي من هذا العالم الذي أنظر إليه من فوق رءوس القوم أنه رقعة فسيحة من الرياض والأزهار الجميلة، طال إهمالها ولكنها مع هذا خلت من الحسك.
ورأيت أعوادا طويلة من زهر أبيض غريب يبلغ طولها نحو قدم، وهي منتثرة كالنبات البري بين الشجيرات، ولكني كما أسلفت، لم أفحصها في ذلك الوقت، وكنت قد تركت آلة الزمان على الحشيش بين الشجيرات.
وكان عقد الباب جميل النقش دقيقه، ولكني لم أدقق في تأمل النقوش وإن كان قد خيل إلي وأنا أجتازه أن فيه من الفن الفينيقي مشابها، وقد بدا لي أن النقوش قد لوحها الجو وأصابها تلف عظيم. ولقيني في الباب كثيرون آخرون من هؤلاء الذين يلبسون الثياب الزاهية. وهكذا دخلنا؛ أنا في ثياب قاتمة من مألوف القرن التاسع عشر، وعلي طوائف شتى من عقود الزهر، وحولي بحر مائج من الأردية اللامعة، والوجوه البيض المشرقة والضحكات الموسيقية والأصوات العذبة.
وأفضى بنا الباب الكبير إلى ردهة فسيحة وكان السقف مظلما، والنوافذ - وجانب منها زجاجه ملون، وجانب لا زجاج فيه - يدخل منها ضوء خافت، والأرض مرصوفة بكتل من معدن أبيض متين - لا بألواح أو بلاط منه، بل بكتل، وكانت قد بلغ من تلفها بكثرة المشي عليها في الأجيال الماضية، أن صارت فيها أخاديد عميقة في المواضع التي طال عليها دب الأرجل. وفي الردهة عدد لا يحصى من المناضد المصنوعة من الحجر المصقول، وهي ترتفع عن الأرض مقدار قدم، وعليها أكوام من الثمار والفواكه، وقد عرفت أن بعضها برتقال وعناب ولكن أكثرها لا عهد لي به.
وكانت الوسائد والمنابذ مطروحة بين المناضد، وعلى هذه جلس القوم وأومئوا إلي أن أجلس، وشرعوا يأكلون الثمار بأيديهم بلا كلفة ، ويلقون بالقشر والأعواد وما إليها في فتحات مستديرة على جوانب المناضد، فقلدتهم، فقد كنت جوعان وظمآن. واستطعت وأنا آكل أن أدير عيني في الحجرة على مهل.
ولعل أقوى ما وقع في نفسي منها منظر البلى والتداعي، فقد كان زجاج النوافذ الملوث محطما في مواضع كثيرة، والأستار مثقلة بالتراب، ولاحظت أن زاوية المنضدة التي أمامي مكسورة. ولكنه كان هناك على الرغم من ذلك جمال وبهاء. وكان في البهو حوالي مائتين يأكلون، وكان أكثرهم يراقبونني وهم جالسون بقربي، وعيونهم الصغيرة تومض من فوق الفاكهة التي يقضمون، وكانت ثيابهم جميعا من ذلك الحرير الرقيق المتين.
وعلى ذكر ذلك أقول إن الفاكهة كل طعامهم، فقد كان أبناء هذا المستقبل البعيد نباتيين، وقد اضطررت أن أكون فاكهيا مثلهم وأنا بينهم على الرغم من اشتهائي اللحم. وقد عرفت بعد ذلك أن الخيل والأبقار والأغنام والكلاب قد اندثرت. وكانت الفاكهة شهية. وأخص منها بالذكر ثمرة لم أخطئها طول مدة إقامتي هناك، كنت أوثرها على سواها. وقد حيرتني في أول الأمر هذه الفواكه الغريبة، والأزهار العجيبة التي رأيتها، ولكني تبينت بعد ذلك خصائصها ومزاياها.
على أني أحدثكم الآن عن طعامي في المستقبل!
ولما اكتفيت، عزمت أن أتعلم لغة القوم، وكان من الواضح أن هذا أول ما يجب علي فعله، فبدا لي أن الفواكه تصلح أن تكون بها البداية، فرفعت بيدي واحدة منها وشرعت أستفسر بالأصوات والإشارات، ولقيت عناء شديدا في إفهامهم مرادي، وكانوا في بادئ الأمر ينظرون إلي مستغربين أو مغرقين في الضحك، ولكن واحدا منهم جميل الشعر فهم ونطق باسم، وصاروا يلغطون فيما بينهم، وكانت محاولاتي الأولى لحكاية أصواتهم تدخل على نفوسهم سرورا صريحا وإن خلا من الرعاية لي. على أني كنت أشعر بما يشعر به المدرس بين الأطفال، فواظبت، ودأبت، فما لبثت أن حفظت عنهم نحو عشرين اسما، فانتقلت من الأسماء إلى الضمائر وأسماء الإشارة، وعرفت الفعل «أكل» ولكن التقدم كان بطيئا، ومل هؤلاء الصغار وبدت عليهم الرغبة في الخلاص من أسئلتي، فلم يسعني إلا أن أدعهم يعلمونني قليلا، قليلا، كلما آنسوا من أنفسهم ميلا إلى ذلك. وتالله ما أقل ما رغبوا في تعليمي، فما رأيت قط أشد منهم كسلا، أو أسرع إلى التعب. (6) مغرب الإنسانية
تبينت أمرا غريبا في مضيفي، وذاك قلة اهتمامهم وضآلة حظهم من الفضول، فقد كانوا يقبلون علي صائحين من الدهشة كالأطفال ولكنهم، كالأطفال، لا يلبثون أن يكفوا عن تأملي وفحصي، وينصرفوا عني التماسا للعبة أخرى غيري، ولما فرغنا من الطعام، وأقصرت عما حاولته من خطابهم لاحظت أن أكثر الذين أحاطوا بي في بداية الأمر قد انصرفوا، ومن الغريب أيضا أني أنا انتهيت إلى إغفال هؤلاء الصغار، فخرجت إلى العالم المشمس بعد أن أصبت شبعي، وكنت لا أفتأ ألتقي بآخرين من هؤلاء أبناء المستقبل فيتبعونني مسافة، ويلغطون، ويتضاحكون حولي، فأبتسم لهم، وألوح بيدي وأدعهم وأمضي في طريقي إلى ما أنشد.
وكان الجو ساجيا سجو المساء لما خرجت من القاعة الكبيرة، والشمس الغاربة تنشر الضوء والدفء. وكانت الأشياء في أول الأمر تحيرني، فقد كان كل شيء مختلفا عما عهدت - في عالمي - حتى الزهر. وكان البناء الكبير الذي بارحته قائما على منحدر واد عريض يجري فيه نهر، ولكني أظن «التيمز» قد غير مجراه الحالي ونقله مسافة ميل، فاعتزمت أن أصعد إلى قمة مرتفع على بعد ميل ونصف ميل ليتسع أفق النظر إلى هذا الكوكب في سنة 802701 بعد الميلاد، وقد فاتني أن أذكر أن هذا هو التاريخ الذي سجلته آلتي.
وكنت وأنا أمشي، أتلمس كل ما عسى أن يعلل لي حالة البهاء الذاوي الذي أراه، فقد كانت حالة خراب وذوي، ومن آيات ذلك أني وجدت في بعض الطريق الذي أتوقله كوما عظيما من الصفوان مشدودا بعضه إلى بعض بكتل من الألومنيوم، وتيها عظيما من الجدران المائلة والأنقاض، وكان واضحا أن هذه بقايا بناء ضخم لا أعرف لماذا أقيم. وهنا قسمت لي - فيما بعد - تجربة غريبة أدت بي إلى اكتشاف أغرب، ولكني أرجئ الكلام في هذا حتى يجيء موضعه.
وتلفت حولي، وأنا أستريح هنيهة في شرفة ، وقد خطر لي خاطر، فتبينت أنه ليس هناك مساكن صغيرة، فالظاهر أن البيت الصغير المفرد قد اندثر، وعسى أن يكون حلاله أيضا قد لحقوا به، وكنت أرى هنا وها هنا مباني كالقصور ولكن البيت والكوخ - وهما من مألوف المناظر في إنجلترا - اختفيا.
وحدثت نفسي أنها «الشيوعية.»
ودار في نفسي في أعقاب هذا خاطر آخر، فنظرت إلى الستة الصغار الذين تبعوني. فألفيتهم جميعا يلبسون ثيابا واحدة، ورأيت أن وجوههم رقيقة لا شعر فيها، وأن أعضاءهم أشبه بأجسام البنات وتكوينهن، وقد يكون مستغربا أني لم أتنبه لهذا من قبل، ولكن كل شيء كان عجيبا. أما الآن فقد وضحت لي هذه الحقيقة، ففي الثياب، وفي كل ما يتميز به الآن الجنسان، كان هؤلاء أبناء المستقبل سواء. حتى الأطفال خيل إلي أنهم صورة مصغرة من آبائهم، وخطر لي أن أطفال ذلك الزمان أنضج من أسنانهم - إذا اعتبرنا أبدانهم على الأقل - وقد وجدت فيما بعد تعزيزا كثيرا لرأيي.
وشعرت وأنا أتأمل سهولة العيش والاطمئنان، أن هذا التشابه الشديد بين الجنسين هو المنتظر. ذلك أن قوة الرجل ورقة المرأة ولينها، ونظام الأسرة واختلاف الأعمال والوظائف؛ كل أولئك من الضرورات في عصر القوة المادية أو البدنية، وفي حيثما يكون الناس، كثرا ومتوازنين، يكون الإسراف في التناسل شرا لا خيرا للدولة، وفي حيثما يندر العنف ويحيا النسل آمنا، تقل الحاجة - بل تزول - إلى الأسرة القادرة على الاضطلاع بأعبائها، ويمحى الباعث على اختصاص كل من الجنسين بعمل في سبيل الأطفال. ونحن نرى في زماننا بوادر التحول الذي تم في هذا المستقبل، وأحب أن أذكركم أن هذا هو ما جال بخاطري في ذلك الوقت، وقد وجدت بعد ذلك أنه بعيد من الواقع.
وبينما كنت أفكر في هذه الأمور لفت نظري مبنى جميل صغير يشبه بئرا تحت قبة، فاستغربت أن الآبار لا يزال لها وجود، ثم عدت إلى ما كنت أفكر فيه، وتناولت الخيوط من حيث ألقيتها، ولم تكن ثم مبان كبيرة قرب القمة، ولما كان من الواضح أن قدرتي على الصعود والتوقل خارقة للعادة، فقد تخلف عني الذين كانوا يتبعونني فصرت وحدي للمرة الأولى، فثابرت على الارتقاء في هذا الجبل، وقد شعرت بالرضى عن مغامرتي وأفادتني الحرية سرورا، وهناك وجدت مقعدا من معدن أصفر لم أعرفه، وكان قد تآكل في مواضع وعلاه نوع من الصدأ القرمزي وكاد يغطيه العشب، وكانت ذراعاه مصنوعتين على صورة شبيهة برأس الجريفين
1
فقعدت وأجلت عيني فيما ترامى أمامي من مناظر هذه الدنيا القديمة كما تبدو في مغرب ذلك اليوم الطويل، وكان المنظر كأجمل وأحلى ما صافح عيني، وكانت الشمس قد مالت وغابت وراء الأفق الغربي فكسته ورسا مذعذعا تشيع فيه خطوط أرجوانية وقرمزية، وهناك في الوادي نهر التيمز كأنه شريط من المعدن المصقول. وقد أسلفت الإشارة إلى القصور الكبيرة المنتثرة بين الزروع، وبعضها خرائب والبعض عامر بسكانه، وكنت أرى - هنا وهنا - تماثيل فضية في الحدائق المهملة، ورءوس مسلات وقمم قباب، ولم يكن ثم لا سور ولا سياج، ولا ما يشير إلى حق امتلاك، ولا أثر لزراعة، كأنما صارت الأرض كلها حدائق وبساتين.
وشرعت وأنا أتأمل هذه المناظر أستجلي دلالتها، فخطر لي ما يأتي (وقد تبينت فيما بعد أنه نصف الحقيقة، أو لمحة واحدة منها).
خيل إلي أني أدركت الإنسانية في منحدرها، وأغراني مغرب الشمس بالظن بأن هذا أيضا مغرب الإنسانية، وأدركت لأول مرة النتائج الغريبة للجهد الاجتماعي الذي نعالجه الآن، وهي نتائج منطقية إذا فكرت فيها فإن القوة نتيجة الحاجة، والأمن يولد الضعف، وقد بلغ العمل على تحسين أحوال الحياة وجعلها أتم أمنا وأوفى اطمئنانا، غايته على الأيام. وتوالت انتصارات الإنسانية المتحدة على الطبيعة، وصار ما هو الآن من الأحلام مشروعات تدبر وتعالج وتنفذ. وهذا الذي أراه هو الحصاد.
وما زالت أحوالنا الصحية والزراعية اليوم في مراحلها الأولى، وما غزا العلم في زماننا هذا سوى جانب صغير من ميدان الأمراض الإنسانية وإنه، على هذا، ليوسع نطاق عمله باطراد، ونحن في باب الزراعة والفلاحة نعدم بعض الأعشاب ونستنبت طائفة من الزروع الصالحة، ولكنا ندع أكثرها يكافح في سبيل الحياة على قدر طاقته، ونؤثر بعض النبات والحيوان - وما أقل ذاك - بعنايتنا، ونحسنها شيئا فشيئا بالانتخاب، فتارة نخرج خوخة أحلى، وتارة أخرى نخرج عنبا لا بذر له، وطورا تثمر جهودنا زهرة أكبر وأجمل، وطورا آخر أنعاما أنفع وأصلح. ونحن نرقي هذه وتلك تدريجيا لأن غاياتنا غامضة، ووسائلنا تجريبية، ومعارفنا نزرة محدودة، ولأن في الطبيعة خفرا وسذاجة. وسيجيء يوم يكون فيه التنظيم أوفى وأتم، فإن هذا هو اتجاه التيار على الرغم من خضربته واضطرابه وموج بعضه في بعض وتراكبه في جريه. وستكون الدنيا كلها ذكية، متعلمة متعاونة، وتكون خطواتنا أسرع فأسرع، في سبيل إخضاع الطبيعة، ويتسنى لنا في النهاية أن ندبر أمور الحيوان والنبات على وجه يكون أوفق لنا وأكفل بقضاء حاجاتنا الإنسانية.
ولا بد أن يكون هذا الإصلاح قد تم على وجه حسن، وأصبح أمره مفروغا منه في مسافة الزمن التي اجتازتها آلتي، فقد خلا الجو من الدويبات، والأرض من الأعشاب والفطريات، وحفلت بالفواكه اليانعة والأزاهير الزهراء، وخفقت الفراشات الزاهية الألوان هنا وهناك، وبلغ الإنسان غايته من العلاج الوقائي، فلا أدواء ولا أمراض، ولم أر أي أثر لوجود أمراض معدية، في أثناء إقامتي، وسأحدثكم فيما بعد عن الانحلال والفساد وكيف تأثرا بما حدث من التغير.
ووفق الإنسان كذلك، إلى كثير من وجوه الإصلاح الاجتماعي، فرأيت الناس يأوون إلى مساكن فخمة، ويرتدون ثيابا رائعة، ولم أر أنهم يتعبون ويكدون، فلا أثر لكفاح ولا لنضال اجتماعي أو اقتصادي. واختفى الدكان والإعلان، وانقطعت حركة التجارة التي يقوم عليها عالمنا. وكان من الطبيعي في ذلك المساء الذهبي أن تتمثل لي صورة الفردوس الاجتماعي، فقد عولجت زيادة السكان، على ما بدا لي فكفوا عن الزيادة.
وجاء مع انتقال الأحوال وتغيرها ما لا بد منه من التكيف الذي تتطلبه الأحوال المتغيرة، وما هي علة الذكاء والنشاط، إذا لم يكن علم الحياة كوما من الأغاليط؟ المعاناة والحرية - أحوال تجعل النشيط، القوي، الحاذق، يبقى، والذي هو أضعف يذهب - أحوال تستوجب التآزر المخلص، بين الأكفاء القادرين، وتقتضي ضبط النفس والجلد والحزم. وقد وجد نظام الأسرة وما ينشئه من العواطف، ويبعثه من الغيرة العنيفة، والحب للنسل، والبر الأبوي، ما يسوغه من الأخطار التي يتعرض لها الصغار. والآن أين هذه الأخطار؟ لقد بدأ الشعور، وسيقوى على الزمن، باستهجان الغيرة والأمومة العنيفة، وكل ضرب من العواطف القوية، وصارت هذه حالات لا ضرورة إليها، حالات تورثنا المتاعب وتجعل منا متخلفات وحشية، وشذوذا ونشازا في حياة طيبة مصقولة.
وفكرت في صغر أجسام الناس، وقلة حظهم من الذكاء، وفي هذه البنى الضخمة المهجورة المتداعية، فزدت إيقانا بأن الطبيعة قهرت. وبعد المعركة يجيء السكون. وقد كانت الإنسانية قوية نشيطة، واستخدمت حيويتها الزاخرة في تغيير الأحوال، التي تعيش فيها، فالآن حدث رد الفعل الذي يتلو التغير.
وفي هذه الأحوال الجديدة - أحوال الرغد والأمن - ينقلب النشاط المتواصل - وهو مبعث قوة لنا - ضعفا. وحتى في أيامنا هذه نرى بعض النزعات والأهواء التي كانت لازمة للبقاء، مصدرا ثابتا للإخفاق؛ فالشجاعة وحب النضال مثلا لا يعدان عونا يستحق الذكر للإنسان المتحضر، وقد يكونان عقبة في سبيله. وحتى صارت الأحوال إلى الاتزان والأمن، فإن القوة - عقلية كانت أو بدنية - لا يبقى لها محل. وقد بدا لي أن سنين لا يأخذها الإحصاء قد انقضت بلا حرب أو خوف من حرب أو عنف، أو خطر من وحش ضار، أو مرض وبيل تحتاج مقاومته إلى قوة بدنية، أو حاجة إلى كد، وفي مثل هذه الحياة يكون من نسميهم الضعفاء مهيئين لها كالأقوياء - بل هم لم يعودوا ضعفاء - ولعلهم أصلح للحياة وأحسن تهيؤا لها، لأن الأقوياء يعذبهم النشاط الذي لا حاجة إليه ولا متنفس له، وما أشك في أن جمال المباني التي رأيتها كان ثمرة آخر لجب في موج النشاط الإنساني الذي لم يعد لازبا، قبل أن يوطن الإنسان نفسه على السكون إلى الأحوال الجديدة التي يحيا في ظلها، وقد كان هذا أبدا مآل النشاط عند الاستقرار، يتحول إلى الفن والجمال، ثم يجيء الفتور، والهمود، والاضمحلال.
وحتى هذا الدافع الفني يزول آخر الأمر، وقد شارف الزوال في الوقت الذي رأيته. فلم يبق من الروح الفني أكثر من الميل إلى التزين بالأزهار، وإلى الرقص والغناء، في ضوء الشمس. وسيظل هذا الميل يفتر، حتى ينقلب جمودا مرضيا، وإنا في عصرنا هذا لقائمون على مسن الألم والضرورة، وقد خيل إلي - في رحلتي - أن هذا المسن البغيض قد تحطم أخيرا.
وخطر لي، وأنا واقف في الظلام الزاحف، أني اهتديت بهذا التفسير إلى الحل الصحيح لمسألة العالم، ووقفت على سر هؤلاء الناس الظرفاء. ولعل ما ابتدعوه لضبط النسل ومنع الكثرة قد جاوز الحد المنشود، فهم يتناقصون، وعسى أن يكون هذا هو السبب في كثرة المباني المتداعية المهجورة. وإنه لتعليل بسيط، قريب المتناول، ومقبول أيضا كأكثر النظريات الخاطئة. (7) صدمة مباغتة
وبينما كنت واقفا أفكر في هذا النصر المبين الذي ناله الإنسان طلع القمر باهتا مقوسا من فيض ضوء فضي في الشمال الشرقي، فانقطعت الأشخاص الصغيرة المشرقة عن الحركة في الوادي، ومرت بي بومة صامتة، وانتفضت من البرد في قبل الليل، فقلت أنحدر وأنظر أين أنا.
وتلفت باحثا عن البناء الذي كنت فيه، ودارت عيني إلى تمثال أبي الهول الأبيض على قاعدته البرونزية، وقد غمره نور القمر الطالع، ورأيت شجرة التامول الفضية قبالته، وشجيرات الدفلي المتوشجة الأغصان، وقد اكتست السواد في الضوء الخافت، والممشى الضيق، فرجعت بصري إلى الممشى، فخالجني شك غريب وقلت لنفسي: «كلا! ليس هذا بالممشى.»
ولكنه كان الممشى الذي أعرفه، فقد كان وجه التمثال المجذوم إليه، فهل تستطيعون أن تتصوروا ما شعرت به لما عمر صدري هذا اليقين؟ ولكنكم لا تستطيعون. لقد اختفت آلة الزمان!
وخطر لي، بمثل وقع السوط على أديم الوجه، أن من الممكن أن أفقد زمني، وأن أترك بلا حول أو عون في هذا العالم الجديد الغريب. وكان هذا الخاطر يورثني ألما بدنيا مبرحا. وإني لأحسه يأخذ بمخنقتي ويحبس أنفاسي، وشاع في نفسي الخوف فانطلقت أعدو بخطوات سريعة واسعة، وعثرت مرة فوقعت على وجهي وجرحته، فلم أضيع الوقت في حبس الدم بل نهضت وذهبت أعدو ، والدم الحار يسيل على وجهي ويقطر من ذقني، وكنت، وأنا أجري، أقول لنفسي: «لعلهم زحزحوها قليلا عن الطريق وألقوا بها بين الشجر.» ولكني مع ذلك كنت أجري بكل ما في من قوة، وقد كبر في وهمي أن هذا الاطمئنان حماقة، وأن الآلة قد أصبحت بعيدة عن متناولي. وكان التنفس يؤلمني، وأحسبني قطعت المسافة من ذروة التل إلى الممشى - وهي ميلان - في عشر دقائق. وإني لكهل، ولكنت ألعن الحظ وأسخط، وأنا أجري، على حماقتي إذ تركت الآلة، ورحت أصيح، ولا مجيب، وأنظر فلا أرى مخلوقا يبدو في هذا العالم المقمر.
وبلغت الممشى فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد أثرا للآلة، فأحسست بالضعف والبرد وأنا أجيل عيني في هذا الفضاء بين الأشجار السوداء المتشابكة. وقد طفت بها كالمجنون، لعل الآلة تكون مخبأة في ركن، ثم وقفت فجأة ويداي تشدان شعري. وكان أبو الهول يشرف علي من فوق قاعدته البرونزية، بوجهه الأبيض المضيء المجذوم، تحت نور القمر الطالع، وكان كأنما يبتسم ساخرا مما أصابني.
وكنت خليقا أن أعزي نفسي بالقول بأن هؤلاء الصغار قد حملوا الآلة إلى مكان حريز، ليصونوها لي فيه، لولا أني كنت على يقين من ضعف عقولهم وأبدانهم. وهذا هو الذي أرعبني؛ الشعور بقوة غير مرتقبة اختفت بسببها الآلة التي اخترعتها. على أني كنت واثقا من أمر واحد؛ ذلك أن الآلة ما كان يمكن أن تتحرك وتنتقل إلا إذا كان عصر آخر قد أخرج مثيلها بلا فرق. وكان نزع القضبان الرافعة يحول دون انطلاقها في الزمان - وسأريكم الطريقة فيما بعد - فهي قد تحركت وانتقلت واختفت، ولكن في الفضاء فقط. فأين يمكن أن تكون؟
وأحسب أنه أصابني مس. وأذكر أني كنت أعدو بلا وعي، فأدخل هنا وأخرج من هنا، بين الأشجار التي يضيئها القمر، حول أبي الهول وأفزع حيوانا أبيض ظننته في الضوء الخافت غزالا صغيرا. وأذكر أيضا أني كنت في الهزيع الثاني من الليل أضرب الشجيرات بقبضة يدي، حتى جرحت عقلهما الأغصان المكسورة. ثم رحت أبكي وأهذي من مرارة الألم، وأنا أمشي إلى البناء. وكانت القاعة الكبيرة مظلمة ساكنة مهجورة، فانطرحت على الأرض، فوقعت على إحدى المناضد، وكدت أكسر ساقي، فأشعلت عود ثقاب ومررت بالأستار المعفرة التي حدثتكم عنها.
ووجدت قاعة كبيرة أخرى حافلة بالوسائد التي نام عليها حوالي عشرين من هؤلاء الصغار، وما أشك في أنهم استغربوا ظهوري لهم مرة أخرى، وقد دخلت عليهم فجأة من الظلام الساكن وأنا أتكلم بما لا يفهمون، وفي يدي عود مشتعل، فقد نسوا الكبريت، وشرعت أسألهم: «أين آلتي؟» وأصيح كالطفل المحنق، وأهزهم بيدي ولا بد أنهم تعجبوا لهذا، وقد ضحك بعضهم، وبدا الخوف على البعض الآخر، ولما رأيتهم وقوفا حولي خطر لي أن أسخف ما أصنع في هذه الحالة هو أن أوقظ في نفوسهم الشعور بالخوف، فقد كان سلوكهم في النهار يدل على أنهم نسوا الخوف.
فرميت عود الكبريت، ودرت لأخرج، فأوقعت أحدهم وأنا أفعل ذلك، وارتددت متعثرا إلى القاعة الكبيرة ومنها إلى الفضاء. وسمعت صيحات الذعر، ووقع أقدام صغيرة تجري وتتعثر هنا وهناك، ولست أتذكر كل ما فعلت في تلك الليلة المقمرة، وأحسب أن ما منيت به من الخسارة التي لم تكن مرتقبة أطار عقلي، وشعرت بانقطاع صلاتي ببني جنسي، وبأني حيوان غريب في عالم مجهول. ومن المحقق أني كنت أهذي وأنا أروح وأجيء، وأصيح وأسخط على الحظ والمقادير، وأتذكر التعب المبرح الذي انتابني، في تلك الليلة التي كان ينجاب عني ظلامها ولا ينجاب يأسي فيها، وبحثي في كل مخبأ محتمل أو غير محتمل، وتسللي بين الخرائب ولمسي مخلوقات غريبة في السواد الحالك، وارتمائي على الأرض بقرب التمثال وبكائي من الحزن والغم، حتى الغيظ من جنوني إذ تركت الآلة، ذهب عني كما ذهبت قوتي. ولم يبق لي إلا الكمد. ثم نمت، ولما استيقظت كان النهار قد ارتفع، وكان هناك عصفوران ينطان حولي على الحشيش، على مسافة ذراع.
فجلست، وحاولت أن أتذكر كيف جئت إلى هنا، وما سر هذا الشعور العميق بالقنوط والوحشة، فارتسم أمام عيني ما وقع لي، وجاءت مع النهار الواضح القدرة على التدبر والنظر، فتبينت حماقتي وطيشي البارحة، وشرعت أجادل نفسي فقلت لها لنقدر الأسوأ، ولنفرض أني فقدت الآلة، وأنها تلفت، فإن علي أن ألتزم الهدوء، وأصطنع الصبر، وأن أتعلم أساليب هؤلاء الناس، وأن أعرف كيف أصبت بهذه الخسارة، وكيف أحصل على الأدوات والمواد والآلات اللازمة، لأصنع آلة أخرى، فما بقي لي من أمل غير هذا، ولعله أمل ضعيف، غير أنه خير من اليأس، وهذه، بعد كل ما يقال، دنيا جميلة حافلة بالغرائب.
ولكن عسى أن تكون الآلة قد نقلت من مكانها، على كل حال، ينبغي أن أسكن وأصبر، وأن أبحث عنها وأستردها بالقوة أو الحيلة. واستقر عزمي على ذلك فوثبت إلى قدمي، وتلفت، وأنا أتساءل أين أستطيع أن أستحم. وكنت أشعر بالتعب، والتكسر، وأستقذر نفسي، وأغرتني صباحة النهار بنشدان الصباحة، وكنت قد استنفدت شعوري، وبلغت من ذلك مجهودي، حتى لقد صرت، وأنا ماض إلى غايتي، أتعجب لما كان من اضطرابي البارحة فنفضت الأرض، وفحصتها بعناية حول الممشى، وأضعت بعض الوقت عبثا في الاستفسار العقيم، بما وسعني من وسائل التعبير، ممن كنت ألتقي بهم من هؤلاء الصغار، وكانوا جميعا لا يفهمون إشاراتي، وكان بعضهم يبدو لي بليدا جدا، والبعض يحسبني أمزح فيضحك، فكنت أعاني جهدا عظيما في كبح نفسي عن لطم وجوههم الجميلة الضاحكة، وكان ما أهم به من ذلك خرقا، ولكن ما أورثنيه الخوف والغيظ كان لا يزال يحتاج إلى الكبح. وأوحت إلي الأرض خاطرا، فقد وجدت أخدودا في منتصف المسافة بين قاعدة التمثال وبين آثار قدمي حين وصلت وعالجت النزول عن الآلة المقلوبة. وكان هناك من الآثار ما يدل على النقل؛ آثار أقدام كالتي يمكن أن يتركها من يمشي مسترخيا متخاذلا فلفتني هذا إلى القاعدة، وكانت - كما قلت - من البرونز، ولم تكن كتلة مفرغة، بل محلاة بألواح عميقة ذات إطارات، على الجانبين، فدنوت منها ونقرت عليها، فألفيتها فارغة الجوف، وفحصت الألواح فلم أجدها متصلة بالإطارات، ولم تكن هناك مقابض أو ثقوب، ولكن الألواح - إذا كانت ألواحا كما خطر لي - ربما كانت تفتح من الداخل. وأصبح من الجلي فيما رأيت، والذي لا يحتاج إلى جهد عقلي كبير، أن آلة الزمان مخزونة في جوف القاعدة. أما كيف دخلت هنا، فمسألة أخرى.
ورأيت اثنين في ثياب برتقالية، مقبلين بين الشجيرات وتحت أشجار التفاح المنورة، فنظرت إليهما وابتسمت، وأومأت إليهما أن أقبلا فجاءا، فأشرت إلى القاعدة وحاولت أن أفهمهما أني أريد فتحها، ولكنهما تنكرا عند أول إشارة مني إلى القاعدة، ولا أدري كيف أصور لكم تعبير وجهيهما - تصوروا أن أحدكم أشار إشارة قبيحة في حضرة سيدة محتشمة - وتصوروا كيف تكون هيئتها وحالتها! وقد مضى الاثنان عني كأنما كنت قد ذهبت في إهانتهما إلى آخر المدى. وجربت دعوة صغير آخر حلو الوجه، فلم تختلف النتيجة. ولا أدري كيف كان هذا، ولكن هيئته أخجلتني من نفسي، ولكني كنت - كما تعلمون - أريد أن أستعيد آلة الزمان، فكررت عليه بالدعوة إلى فتح القاعدة، فلما ولى عني، كما فعل الآخران، غلبني الغضب، فعدوت وراءه، وتناولت ثوبه عند العنق، وجررته معي إلى التمثال، فقرأت في وجهه الاستفظاع والاشمئزاز، فلم يسعني إلا أن أتركه.
غير أني لم أنهزم، وجعلت أدق الألواح بيدي، وخيل إلي أني سمعت حركة من الداخل، وأفصح فأقول إني ظننت أني سمعت صوتا كالضحك. ولكني كنت ولا شك مخطئا، ثم تناولت حجرا من النهر، دققت به اللوح حتى أتلفت رسما ومحوته وتساقط الصدأ ناعما كالدقيق، ولا شك أن هؤلاء الناس الرقاق الحساسين سمعوا ضجاتي من مسافة، ولكن شيئا لم يحدث، وقد رأيت لفيفا منهم على سفح التل يخالسونني النظر، ثم تعبت واستحررت، فقعدت أراقب المكان، غير أن هذا لم يطل لفرط اضطرابي، وإني لغربي لا أطيق طول التربص، وإن في وسعي أن أقضي سنين في علاج مسألة، ولكن الانتظار أربعا وعشرين ساعة بلا عمل مسألة أخرى.
ونهضت بعد قليل، ورحت أتمشى على غير قصد بين الشجيرات إلى التل مرة أخرى، وناشدت نفسي الصبر، وقلت لها: «إذا أردت أن تسترجعي هذه الآلة، فإن عليك أن تدعي هذا التمثال ولا تقربيه. ولا خير في تحطيم الألواح وإتلافها، وإذا لم يردوه إليك، فستحصلين عليه متى استطعت أن تطلبيه منهم، ومن العبث أن يعالج المرء لغزا بين كل هذه المجهولات - هذا طريق يفضي إلى الجنون - ومن الواجب أن أواجه هذا العالم وأن أتعلم طرقه وأساليبه وأراقبه، وأن أتجنب التسرع في استكناه كنهه، وسأجد في النهاية المفاتيح لهذه المغاليق.»
وتمثل لي ما ينطوي عليه موقفي من السخر؛ فقد قضيت سنوات في مكتبي أجاهد أن أجد وسيلة أمرق بها إلى هذا المستقبل، وها أنا ذا الآن أجاهد أن أنكفئ مرتدا عنه! وما أرى إلا أني نصبت لنفسي فخا ليس أشد منه تعقيدا ولا أدعى إلى اليأس. وإني لواقع فيه ولكنه لم يسعني إلا أن أضحك، فقهقهت.
وبينما كنت أجوس خلال القصر الكبير خيل إلي أن هؤلاء الناس يتحامونني، وقد يكون هذا وهما، ولعل سببه راجع إلى دقي ألواح القاعدة. ولكني كنت على يقين من اتقائهم لي، بيد أني حرصت على أن لا أبدي اكتراثا، وأن أكف عن تتبعهم. وبعد يوم أو يومين عادت الأمور إلى مجاريها، وتعلمت من اللغة ما وسعني، ولم أقصر في ارتياد الأرض، ولا أدري هل فاتتني دقائق في هذه اللغة، أم هي غاية في البساطة، فليس فيها إلا الأفعال وأسماء المحسوسات؟ فقد خيل إلي أنه ليس فيها ألفاظ للمعاني ولا مجاز. وكنت أرى جملهم في العادة بسيطة ومكونة من لفظين، ولم أستطع أن أفهمهم أو أفهم عنهم إلا أبسط الأمور، فعزمت أن ألقي بآلة الزمان وسر الأبواب البرونزية تحت التمثال، في زاوية من الذاكرة، على أن تصبح معرفتي أتم وأوفى وأقدر على ردي إلى ذلك من طريق طبيعي.
ولكن إحساسا خاصا تستطيعون أن تدركوه ألزمني نطاقا من بضعة أميال حول نقطة الوصول. (8) شرح
على قدر ما وسعني أن أرى كانت الدنيا كلها تبدي زينتها كوادي التيمز، فكنت أرى من قمة كل تل تلك الكثرة في البنى الرائعة المتنوعة المواد والأساليب، والنبات اليانع المتوشج، والشجر المثقل بالزهر والنوار ، وهنا وهناك يجري الماء كالفضة، ويذهب صعيد الأرض مرتفعا في غير استهواء حتى يغيب في الأفق. ولفت نظري على الخصوص وجود آبار مستديرة، كثير منها عميق جدا، وكانت إحداها على طريق الجبل الذي ارتقيت فيه أول مرة، وحافته من البرونز كغيره، وفيها صنعة، وفوقه قبة تقيه المطر. وكنت إذا جلست إلى جانب هذه الآبار ونظرت في أجوافها المظلمة لا أرى بريق ماء، وإذا أشعلت عود كبريت لا أرى لضوئه انعكاسا. ولكني كنت أسمع من هذه الآبار كلها صوتا غريبا كالذي تحدثه حركة آلة كبيرة، وتبينت من اضطراب لهب الكبريت أن هناك تيارا من الهواء مطردا يجري في عنقها، وقد ألقيت في إحداها قصاصة من ورق فلم تخفق وتضطرب في سقوطها، بل امتصت بسرعة وغابت عن العين.
وبعد قليل بدا لي أن هناك اتصالا بين الآبار وبين الحصون العالية القائمة على السفوح، فقد كان الهواء فوقها يرف كما يحدث عادة في يوم قائظ على الشاطئ، فخطر لي أن هناك نظاما واسعا للتهوية تحت الأرض تعذر علي تصور الغرض منه، وقد ظننت في أول الأمر أن له علاقة بالنظام الصحي، ولكني كنت مخطئا.
وهنا الموضع الذي ينبغي أن أذكر فيه أني لم أكد أر شيئا من المصارف ووسائل النقل، وما إلى ذلك في أثناء مقامي في ذلك المستقبل الحقيقي، وقد قرأت تفاصيل مسهبة عن المباني والنظم الاجتماعية، وما هو من ذلك بسبيل في الكتب التي حلم فيها أصحابها بالمثل العليا للجماعات الإنسانية وتخيلوا فيها صور المستقبل، وهي تفاصيل يقرب منالها حينما يكون العالم كله منطويا في خيال الإنسان، ولكنها لا سبيل إليها حين ينشدها الرحالة بين الحقائق كما وجدت بالتجربة. وتصوروا ماذا عسى أن يقص زنجي من أواسط أفريقيا بعد أن يعود إلى قبيلته من زيارة للندن! فماذا عسى أن يعرف عن شركات السكك الحديدية والحركات الاجتماعية، وأسلاك التليفون والتلغراف، وشركة تسليم الطرود، وأذون البريد وما يجري هذا المجرى؟ ولكنا نحن على الأقل نكون على استعداد لشرح هذه الأمور له. وإذا عرف الزنجي شيئا فما مبلغ ما يصدق من وصفه صاحبه الذي لم يسافر ولم يرحل؟ والشقة ضيقة مع ذلك بين الزنجي والرجل الأبيض في زماننا هذا، ولكنها واسعة مترامية متقاذفة، بيني وبين أبناء ذلك العصر الذهبي. وقد كنت أحس بكثير مما لا أرى، وإن كان من عوامل الراحة وأسباب الرغد، ولست أستطيع أن أنقل لكم أكثر من الوقع العام في نفسي لنظام يعمل من تلقاء نفسه.
وأضرب مثلا بالمقابر فما رأيت شيئا يدل على وجودها أو يشير إلى وجود محارق للجثث. وقد خطر لي أنه لعل هناك محارق أو مدافن وراء ما ارتدت من الأرض.
وقد ألقيت هذا السؤال على نفسي فلم أفز في أول الأمر بطائل، وحيرني الأمر، وأفضى بي ذلك إلى ملاحظة أخرى زادتني حيرة، فما رأيت بين هؤلاء الناس كهولا أو عجزة أو مدنفين.
ولا يسعني إلا أن أعترف بأن رضاي لم يطل عن نظرياتي الأولى عن المدنية اللدنية والإنسانية المنحلة. ولكنه أعياني التماس نظرية أخرى، ويحسن بي أن أعرض عليكم المصاعب التي واجهتني، ذلك أن القصور الكبيرة العديدة التي ارتدتها لم تكن سوى مساكن ليس إلا، أي قاعات كبيرة للطعام وحجرات للنوم، ولم أجد آلات ولا أجهزة من أي نوع، ومع ذلك رأيت الناس يرتدون ثيابا حسنة النسج، ولا بد من تجديدها على الأيام، وكانت أحذيتهم أو صندلاتهم
2
على الأصح نماذج معقدة وإن كانت غير محلاة. وهذه أشياء لا بد من صنعها، ولم أر بين هؤلاء الناس مظهرا يشير إلى النزعة الإنشائية، فلا دكاكين،
3
ولا مصانع ولا أثر لواردات، وكانوا يقضون وقتهم في اللعب برفق، وفي الاستحمام في النهر، وفي المغازلة التي تشبه اللعب، وفي أكل الفاكهة، وفي النوم. وأعياني أن أعرف كيف تسير الأمور.
وثم أيضا الحادثة التي وقعت لآلة الزمان، فقد حملت، لا أدري كيف، إلى جوف القاعة التي يقوم عليها أبو الهول فلماذا؟ لا أعلم ولا أستطيع أن أتصور باعثا أو طريقة. وهذه الآبار أيضا، وهذه التيارات الهوائية، وقد أحسست وأنا أتدبر ذلك كله أنه ينقصني الاهتداء إلى مفتاح السر. وشعرت - كيف أقول؟ - لنفرض أنكم عثرتم على نقش، فيه جمل هنا وهنا بالإنجليزية الفصحى وبينها كلمات أو حتى حروف لا علم لكم بها ولا عهد؟ هذه هي الصورة التي بدت لي عليها الدنيا في اليوم الثالث من زيارتي لها في عام 802701.
وفي ذلك اليوم صار لي صديق. وشرح ذلك أني كنت أرقب بعضهم وهم يسبحون في الماء، فرأيت أحدهم قد تصلبت عضلاته وشرع يغطس، وكان التيار قويا، ولكنه ليس أقوى من سابح متوسط القوة، وهذا يريكم مبلغ النقص والضعف اللذين لحقا بهؤلاء الناس، ويزيد الأمر بيانا أن أحدا منهم لم يحاول أن ينقذ الصائح المستنجد الذي يغرق، فلما رأيت ذلك خلعت ثيابي وخضت الماء إلى حيث كانت الفتاة، وجررتها سالمة إلى الشاطئ، ودلكت لها أعضاءها قليلا فأفاقت وسرني أنها كانت بخير حين تركتها، وقد بلغ من سوء رأيي في قومها، أني لم أتوقع منها شكرا، ولكني كنت مخطئا.
حدث هذا في الصباح. وبعد الظهر التقيت بهذه المرأة الصغيرة، بينما كنت عائدا من ارتيادي، إلى مركزي، فاستقبلتني بصيحات الفرح وقدمت لي باقة كبيرة من الزهر - كان من الواضح أنها جمعتها لي - لي وحدي - فوقع ذلك من نفسي، وحرك خيالي، وأحسبني كنت أشعر بوحشة. ومهما يكن من ذاك فقد حاولت جهدي أن أظهر لها اغتباطي بهديتها، وجلسنا معا ورحنا نتحدث، بالابتسام على الأكثر. وكان تأثير مودتها في نفسي هو التأثير الذي يحدثه الطفل. وتبادلنا الأزهار، ولثمت يدي، فلثمت يديها، ثم عالجت الكلام فعرفت أن اسمها «وينا» وبدا لي أنه اسم موافق وإن كنت لا أدري ما معناه، وكانت هذه فاتحة صداقة عجيبة ظلت أسبوعا، ثم انتهت على ما سأحدثكم به.
وكانت كالطفل في كل شيء، وكانت تحب أن تكون معي أبدا ولا تفارقني، فهي تتبعني إلى حيث أذهب، فلما رحت أرتاد الأرض بعد ذلك آلمني أن أرهقها وأتركها أخيرا منهوكة القوى تناديني وفي صوتها نبرات الأسف والتوجع، ولكنه كان لا بد لي من الوقوف على ما أنشد الوقوف عليه من أمور الدنيا، وحدثت نفسي أني لم أجئ إلى هذا المستقبل لأغازل فتاة مثلها، على أن حزنها لما خلفتها كان شديدا، وكان بثها عند الفراق شديدا، وأحسب أن تعلقها بي أتعبني بقدر ما سرني. غير أنها كانت لي روحا وريحانا، وقد حسبت أن الحب الصبياني هو الذي أغراها بي، ولم أفطن إلا بعد الأوان إلى ما كلفتها لما تركتها، بل لم أدرك - إلا بعد الأوان - منزلتها عندي، فقد كانت تبدو محبة وامقة لي، وكانت تظهر لي بطريقتها العقيمة أنها معنية بي، فلم تلبث هذه اللعبة الصغيرة أن أكسبت عودتي إلى التمثال وما حوله، ما يشعر به المرء حين يرجع إلى بيته، فصرت أتطلع وأتشوف باحثا عن جسمها الدقيق كلما رجعت من الجبل.
ومنها أيضا عرفت أن الخوف لم يزايل العالم، وكانت لا تهاب شيئا في النهار، وكانت ثقتها بي أتم ما يكون، وقد غضبت مرة فتوعدتها بإشارة، فضحكت، ولكنها كانت تخاف الظلمة، وتخشى الظلال، وتفزعها الأشياء السوداء، وكان الظلام أشد ما يرعبها، وكان خوفها هذا من القوة بحيث أغراني بالتفكير والملاحظة، فوجدت أن هؤلاء القوم يتجمعون في البيوت الكبيرة بعد دخول الليل وينامون زرافات وأسرابا. وكان مجرد الدخول عليهم بغير ضوء يزعجهم ويخيفهم، وما رأيت قط أحدا منهم خارج الأبواب في الليل، أو نائما وحده في البيت، ولكني كنت أغبى من أن أفقه درس هذا الخوف، وأصررت على الرغم من حزن وينا على النوم وحدي بمعزل عن هذه الجماعات الراقدة.
وكان هذا مني يزعجها ويقلقها، ولكن حبها لي تغلب آخر الأمر على خوفها، فكانت في الليالي الخمس التي ترافقنا فيها - وفي جملتها الليلة الأخيرة - تنام إلى جانبي متخذة من ذراعي وسادة. ولكني أراني أستطرد عن الموضوع في الليلة التي سبقت إنقاذها، استيقظت في الفجر وكنت مضطربا، أحلم بأني غرقت وأن شقائق الماء تمسح وجهي بغلائلها ونواراتها الرقيقة، فقمت من النوم فزعا وقد خيل إلي أن حيوانا انطلق خارجا من الغرفة، وعالجت النوم مرة أخرى، ولكني كنت قلقا لا استقرار لي ولا راحة، وكانت تلك هي الساعة التي تزحف فيها الأشياء خارجة من الظلام، ولا لون لها ولا حقيقة وإن كانت واضحة المعالم، فنهضت ومضيت إلى القاعة الكبيرة ومنها إلى المقاعد الحجرية أمام البيت، وخطر لي أن أتخذ من الضرورة مزية فأشهد طلوع الشمس.
وكان القمر يغيب، وسواد الليل يختلط ببياض النهار، وكانت الأشجار سوداء كالحبر، والأرض عليها الظلال، والسماء لا لون لها ولا بهجة، وخيل إلي، وأنا فوق التل، أني أرى أشباحا، ووقعت عيني ثلاث مرات، وأنا أديرها فيما حولي، على أشخاص بيض، وبدا لي - مرتين - أني رأيت مخلوقا أبيض على هيئة القرد يصعد في الجبل بسرعة، وبصرت مرة بعدد منهم يحملون جسما مظلما، وكانوا يغذون الخطى، ولا أدري أين ذهبوا به فقد اختفوا بين الأشجار، ولم تكن الظلمة قد انجابت، ولا النهار طلع، وأحسست بالبرد والقلق وغير ذلك مما يشعر به المرء في البكرة الندية. وشككت في قدرة عيني على الرؤية.
وانبلج الفجر، وطلع النهار، وأفاض نوره على الدنيا مرة أخرى فرميت ما حولي بنظرة فاحصة، غير أني لم أر أثرا للأشخاص البيض، فما كانوا إلا من مخلوقات الخيال في الطفل، وحدثت نفسي أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أشباحا، وتمنيت لو دريت من أين جاءت ومن أي عصر خرجت؟ وخطرت لي فكرة لجرانت اللان فقد قال: إذا كان كل جيل يموت يترك في الدنيا أشباحه، فإن الدنيا خليقة أن تكتظ بهم، وعلى هذا الحساب يكون عددهم قد صار لا يحصى بعد ثمان مائة ألف سنة، فغير مستغرب أن أرى أربعة منهم في وقت معا، ولكن هذا المزاح لم يرقني، فظللت أفكر في هذه الأشخاص طول الصباح حتى أنسانيهم إنقاذي للفتاة وينا. وخطر لي أن لعل لهم صلة بذلك الحيوان الأبيض الذي أزعجته في أول بحثي عن آلة الزمان. وكانت وينا نعم العوض عن هؤلاء، ولكنهم، على هذا، كان مقسوما لي أن يستولوا على نفسي ويستحوذوا على خاطري.
وأظن أني قلت لكم إن الجو في هذا العصر الذهبي أدفأ من جونا، وأشد حرارة، ولا أستطيع أن أعلل ذلك، فلعل الشمس كانت أحمى، أو الأرض قد صارت أدنى إلى الشمس، ونحن قد ألفنا السكون إلى الرأي القائل بأن الشمس ستقل حرارتها باطراد في المستقبل، ولكن الذين لا اطلاع لهم على نظريات رجال من أمثال داروين الصغير ينسون أن الكواكب لا بد أن ترجع في آخر الأمر إلى أمها ومصدرها، ومتى حدثت هذه الكوارث زادت الشمس إشراقا وتوهجا بما يضاف إليها ويتجدد منها، ولا يبعد أن يكون أحد الكواكب قد صار إلى هذا المصير، ومهما يكن من ذاك فإن الحقيقة باقية، وهي أن الشمس في هذا المستقبل البعيد أحمى منها في زماننا.
ففي صباح يوم قائظ - اليوم الرابع فيما أظن - كنت أنشد ظلا أتفيؤه من وقدة الحر في خرابة ضخمة قريبة من البيت الذي آكل فيه وأنام، فوقع لي حادث غريب؛ ذلك أني كنت أخطو فوق أكوام الأنقاض فوجدت دهليزا ضيقا سدت نهايته ونوافذه الجانبية كتل الأحجار الواقعة، وكان الظلام في هذا الدهليز لا تنفذ فيه العين في أول الأمر بالقياس إلى النور الساطع في الخارج، فكنت أتحسس طريقي لأن الانتقال من النور إلى الظلمة جعل ومضات خافقة من النور تسبح أمام عيني، ثم وقفت فجأة وقد أذهلني ما رأيت فقد كانت هناك عينان براقتان تراقباني.
وخامرني الخوف الغريزي القديم من الوحوش، فتقبضت كفاي ورحت أحدق في هاتين العينين اللامعتين. وكنت أخاف أن أدور على عقبي، ثم خطر لي أن الإنسان في هذا العصر يعيش في ظل الأمن المطلق، ثم عدت فتذكرت فزع القوم من الظلام، واستطعت أن أغالب خوفي وأن أقهره إلى حد ما، فتقدمت خطوة وتكلمت، وأعترف أن صوتي كان أجش، وغير متزن، ودفعت يدي فلمست شيئا طريا، فتحولت نظرة العينين وصارت عن عرض، وانطلق جسم أبيض يعدو إلى جانبي، فدرت وقلبي في فمي، فرأيت مخلوقا غريبا كالقردة، ورأسه مثني على صدره، يجري ويقطع المسافة التي كان عليها الضوء، وتعثر واصطدم بحجر، وتطرح ثم اختفى في ظل كوم من الأنقاض.
ولم يتسع الوقت لتأمله، ولكني أذكر أن بياضه لم يكن ناصعا، بل أقرب إلى السمرة، وأن عينيه كانتا حمراوين داكنتين، وعلى رأسه وظهره شعر كالكتان. ولكنه، كما قلت، كان أسرع من أن يتسنى لي تدبره فلست أستطيع حتى أن اقول إنه كان يجري على أربع، أو على اثنتين فقط، وبعد أن وقفت لحظة التمسته بين الأنقاض التي اختفى في ظلها، فأخطأته في أول الأمر ولكني بعد قليل وقعت على ما يشبه فوهة بئر من هذه الآبار التي حدثتكم عنها وقد سد نصفها عمود وقع عليها، فدار بنفسي أن لعل الحيوان انحدر من فوهة البئر، فأشعلت عود الكبريت وصوبت عيني إلى عنق البئر فرأيت حيوانا أبيض يتحرك، وعيناه البراقتان تنظران إلي وهو يتقهقر. فسرت في بدني رعدة، فقد كان منظره أشبه بعنكبوت بشري. وكان ينزل على جدار البئر، فرأيت لأول مرة مواضع للقدم واليد على جدار البئر كأنها درجات سلم. ولسعت نار الكبريت إصبعي فسقط ما بقي من العود وانطفأ، فلما أشعلت عودا آخر كان الحيوان قد اختفى.
ولا أدري كم من الوقت قضيت وأنا أحدق في هذه البئر. وظللت وقتا لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن هذا المخلوق الذي أبصرته، آدمي. غير أن الحقيقة ما لبثت أن طالعتني؛ لم يعد الإنسان نوعا واحدا، بل صار نوعين، وحيوانين متميزين، فهؤلاء الأطفال الرشيقون الذين رأيتهم ليسوا النسل الوحيد لجيلنا، فإن هذا المخلوق القذر الذي يأوي إلى الظلام والذي لمع كخطف البرق أمامي، وارث كل العصور أيضا.
وعاد بي التفكير إلى نظرية التهوية تحت الأرض، وبدا لي أني اهتديت إلى الصواب، ويا ترى ما محل هذا الحيوان في النظام التام الاتزان والتكافؤ الذي ذهبت إلى وجوده؟ وما صلته بجمال أبناء الدنيا الآخرين الذين يعيشون عيشة الكسل؟ وماذا تخبئ هذه الآبار؟ وقعدت على فوهة البئر وقلت لنفسي إنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وأن النزول في البئر هو وحده الذي يحل لي المعضلات. ولكني مع ذلك كنت أتهيب الإقدام على ذلك! وبينما كنت أتردد، وأقدم رجلا وأؤخر أخرى، أقبل اثنان من أبناء الأرض الفوقية يعدوان من النور إلى الظل وهما يلعبان ويتغازلان، وكان الذكر يجري وراء الأنثى ويرميها بالزهر.
وبدا عليهما الامتعاض لما رأياني، وأبصرا ذراعي على العمود المقلوب وعيني تحدق في جوف البئر، والظاهر أنه ليس من اللائق عندهم أن يجعل المرء باله إلى هذه الآبار. فقد أشرت إلى البئر وحاولت أن ألقي عليهما سؤالا يلفتهما فازداد امتعاضهما وأولياني ظهرهما. ولكنه سرهما أن يريا عود الكبريت يشتعل، فأشعلت لهما بضعة عيدان لأسرهما، وحاولت مرة أخرى أن أسألهما عن البئر، فأخفقت ثانية، فتركتهما وفي نيتي أن أجد وينا وأن أرى ماذا أستطيع أن أستخلصه منها، وكان عقلي يدور ويدور، وظنوني وآرائي تنزلق وتتحول إلى اتجاه جديد، فقد صار عندي الآن مفتاح لسر هذه الآبار ولأبراج التهوية، وللأشباح التي تراءت لي، فضلا عن دلالة الألواح البرونزية ومصير آلة الزمان. وبدأ يدور في نفسي شرح للمسألة الاقتصادية التي حيرتني.
وهذا هو الرأي الجديد، هذا النوع الثاني من الإنسان يسكن باطن الأرض، وقد مالت بي ثلاثة أمور على الخصوص إلى الاعتقاد بأن ندرة ظهوره فوق ظهر الأرض نتيجة لطول اعتياده الحياة في جوفها. وأول هذه الأمور تلك النظرة المعهودة في أكثر الحيوانات التي تعيش في الظلام مثل السمكة البيضاء في كهوف كنتكي. وثانيها كبر العين واتساع حدقتها وقدرتها على عكس الضوء، وهي من خصائص الحياة في الظلام؛ تأملوا القط والبومة مثلا. وآخرها ذلك الاضطراب الذي يعرو الحيوان في ضوء الشمس، والارتباك والمبادرة إلى الهرب إلى سواد الظل، وثني الرأس حين يكون في النور؛ كل أولئك أقنعني بأن الحدقة حساسة جدا.
فلا بد أن تكون الأرض تحتي حافلة بالسراديب التي صارت مألوف النوع الإنساني الجديد، وكفى بوجود الآبار وأساطين التهوية على سفوح التلال - وفي كل مكان إلى جانبي النهر - دليلا على تشعب هذه السراديب وشيوعها، ومن الطبيعي إذن أن يفترض المرء أنه في هذه الدنيا التحتية الصناعية يؤدي كل عمل يحتاج إليه النوع الذي يعيش في النور. وقد أخذت بهذا الرأي الذي بدا لي أنه معقول وذهبت بعد ذلك أتصور كيف تم انقسام النوع الإنساني، وأحسبكم قد فطنتم إلى نظريتي وإن كنت أنا نفسي ما لبثت أن رأيتها أبعد ما تكون من الصواب.
وقد بدا لي في أول الأمر أن من الواضح أن اتساع مسافة الخلف الاجتماعي والوقتي بين الرأسماليين والعمال في عصرنا هذا هو مفتاح السر في هذا الذي انتهى إليه الأمر. وأنتم حريون أن تسخروا من ذلك وتنكروه وتأبوا تصديقه، ولكنه حتى في عصرنا هذا يوجد من الأحوال ما يشير إلى هذا الاتجاه، فإن هناك ميلا إلى استخدام جوف الأرض فيما لا يدخل في باب الزينة من مظاهر المدنية، فهناك الخط الحديدي الذي يجري تحت الأرض في لندن، وثم أيضا خطوط حديدية كهربائية، وطرق، وحجرات للعمل، ومطاعم، وهي تزداد وتتعدد. وقد خطر لي أن هذا الميل إلى الانتفاع بباطن الأرض قد قوي على الأيام حتى فقدت الصناعة مكانها تحت قبة السماء وانطوت في جوف الأرض. وأعني أنها انتقلت إلى باطن الأرض وتغلغلت فيه إلى أن انتهى الأمر بأن ... حتى الآن في عصرنا هذا ألسنا نرى العامل في الحي الشرقي من لندن يشتغل في أحوال تكاد تحول بينه وبين سطح الأرض؟
وتأملوا بعد ذلك نزعة الأغنياء - وهي راجعة ولا ريب إلى زيادة الصقل في تربيتهم، واتساع المسافة بينهم وبين خشونة الفقراء وعنجهيتهم - فإنهم يسورون مساحات عظيمة من الأرض ليصدوا عنها غيرهم. فحول لندن، مثلا، نرى حوالي النصف من رقعة الأرض الجميلة مقصورة على أصحابها لا يدخلها سواهم، وهذا الجون الذي يزداد اتساعا - وهو يرجع إلى طول ما يستغرقه التعليم العالي من الزمن وكثرة ما يتطلبه من نفقات، وسهولة ما تغري به عادات الترف - أقول إن هذا الجون يقلل التبادل بين طبقة وطبقة، ويعطل ارتقاء الواحد منها إلى الأخرى بالتزاوج، ويجعله أندر. وأخلق أن ينتهي الأمر بأن يعيش فوق ظهر الأرض المالكون، وأن يطلبوا اللذة والراحة والجمال، وأن يقنع بباطن الأرض المعدمون، وأن يتكيف العمال شيئا فشيئا على مقتضى الأحوال التي يعملون فيها، ومتى صاروا في جوف الأرض، فسيكون عليهم بلا شك أن يؤدوا أجرا - غير قليل - في مقابلة التهوية لكهوفهم وغيرانهم، فإذا أبوا أميتوا جوعا أو اختناقا بما تأخر عليهم من الأجر، وأخلق بالتعساء والمتمردين منهم أن يموتوا، ثم يعتدل الميزان، ويألف الباقون أحوال المعيشة تحت الأرض وينعمون بها كما يألف الآخرون المعيشة فوقها. ومن أجل هذا كان الجمال المصقول، والشحوب والكمدة
4
من النتائج الطبيعية فيما أرى.
وصار لانتصار الإنسانية العظيم الذي كنت أحلم به صورة أخرى عندي، فما كان فوزا للتربية الأخلاقية والتعاون العام كما كنت أتخيل، بل رأيت بدلا من ذلك أرستقراطية حقيقية مسلحة بالعلم، وصلت بالنظام الصناعي الحاضر إلى غايته المنطقية، ولم يكن هذا انتصارا على الطبيعة وحدها، بل عليها وعلى الإنسان معها. ويجب أن أذكر أن هذه كانت نظريتي في ذلك الوقت، فما كان لي مرشد يدلني ويهديني، وعسى أن أكون مخطئا، ولكني ما زلت أعتقد أني مصيب. وحتى إذا سلمنا بهذا الرأي وأخذنا به، فإن من الجلي أن هذه المدنية المتوازنة قد جاوزت الذروة من زمان طويل، وذهبت في الانحدار مسافة طويلة. فقد أفضى الأمن التام بالأعلين إلى الانحطاط البطيء فتضاءلت أجسامهم وقواهم، وذكاؤهم، وكان هذا من أوضح ما شهدت، أما ما كان من أمر الأسفلين فقد كان ينقصني أن أعرفه، على أن ما رأيته من هؤلاء المورلوخ - وهذا هو الاسم الذي يطلق عليهم - حملني على القول بأن تطورهم كان أعمق من تطور النوع العلوي، ذلك النوع الجميل الذي عرفته.
ثم ساورتني الشكوك المتعبة: لماذا أخذ المورلوخ آلة الزمان؟ فقد كنت واثقا من أنهم هم الذين أخذوها. ولماذا لا يستطيع «العلويون» - إذا كانوا هم السادة - أن يردوا علي آلتي؟ وما سر خوفهم الشديد من الظلام؟ وذهبت أستفسر من «وينا» عن هذا العالم السفلي، فخاب أملي، ذلك أنها لم تفهم أسئلتي في بداية الأمر، فلما فهمتها أبت أن تجيبني. وراحت تنتفض وترعد، كأن الموضوع مما لا يحتمل، فلما ألححت عليها بكت - وكانت دموعها بعد دموعي هي الوحيدة التي رأيت عينا تذرفها في ذلك العصر الذهبي - فكففت عن السؤال عن السفليين، وصار همي أن أزجر عينها عن البكاء، وأن أعفيها من مظاهر ميراثها الإنساني، فما لبثت أن ضحكت وصفقت، بينما كنت أنا أشعل عود كبريت. (9) المورلوخ - أو - السفليون
قد تستغربون أني تركت يومين يمضيان قبل أن أقتفي الأثر الجديد، بالطريقة الصحيحة، ولكن الحقيقة أني كنت أنفر من هذه الأجسام الشاحبة؛ فقد كان لها ذلك اللون المربد الكميد الذي نراه في الديدان والأجسام المحفوظة في الكحول في متاحف الحيوان. يضاف إلى ذلك أنها كانت باردة الملمس قذرة، وعسى أن يكون نفوري منها راجعا في الأكثر إلى لطف تأثير العلويين، الذين بدأت أدرك دواعي اشمئزازهم من السفليين.
ولم يكن نومي هنيئا في الليلة التالية، ولعل ذلك لاضطراب صحتي، وقد ألحت علي الحيرة والشكوك، وخامرني - مرة أو مرتين - خوف شديد لا أعرف له باعثا، وأذكر أني تسللت بلا صوت، إلى القاعة الكبرى التي كان العلويون الصغار نائمين فيها في ضوء القمر - وكانت وينا في تلك الليلة بينهم - وقد اطمأن قلبي بوجودهم. وخطر لي حتى في ذلك الحين أن القمر سيدخل في المحاق بعد بضعة أيام، فتسود الليالي، وتعم الظلمة، وتبرز هذه المخلوقات السفلية الكريهة. وكنت في هذين اليومين أكابد من القلق ما يكابده من يعالج أن يدفع واجبا لا مهرب منه، وكنت على يقين من أنه لا سبيل إلى استرداد آلة الزمان إلا بالإقدام على كشف الأسرار المحجوبة في جوف الأرض. ويا ليتني كان معي رفيق! إذن لاختلف الحال جدا، ولكني كنت مستفردا مستوحشا، وكان يهولني أن أنحدر إلى ظلام هذه السراديب. وقد تستطيعون أن تفهموا شعوري، أو لا تستطيعون، ولكني أعترف لكم بأني ما كنت أشعر بالأمن والطمأنينة.
وكان هذا القلق وقلة الاطمئنان هما الباعث، على الأرجح، على الإبعاد في طوافي لارتياد ما حولي، وقد مضيت جنوبا بغرب إلى الهضبة التي تسمى الآن «كوم وود» فأبصرت على مسافة بعيدة، وفي اتجاه «بانستيد» مبنى ضخما أخضر لا يشبه شيئا مما رأيته إلى الآن، فقد كان أكبر من أكبر القصور أو الخرائب التي عرفتها، وكانت واجهته شرقية الطراز، تشبه في لمعتها ولونها الأخضر الباهت بعض المواعين «الصينية»، فأوحى إلي اختلاف المنظر أنه مجعول لغاية أخرى مختلفة، ونازعتني نفسي أن أمضي على سنني حتى أتبين ولكن المغيب كان قد دنا، وكنت قد بلغت هذا الموضع الذي أرى منه البناء بعد لفة طويلة مضنية، فعزمت أن أرجئ الارتياد إلى اليوم التالي وعدت إلى وينا الصغيرة وحفاوتها بي، وملاطفاتها لي، غير أني في الصباح أدركت على أوضح صورة أن شوقي إلى استطلاع كنه هذا القصر «قصر الصيني الأخضر» ليس إلا مظهرا لمغالطة النفس وصرفها، يوما آخر، عما أتهيب الإقدام عليه، فآليت لأنزلن إلى السراديب بلا تلكؤ، وذهبت إلى بئر قديمة من خرائب الصوان والألومنيوم.
وكانت وينا تعدو معي، وترقص إلى جانبي حتى بلغت البئر، فلما رأتني أنحني على فوهتها وأنظر فيها اضطربت، فقلت لها: «وداعا يا وينا الصغيرة.» ثم وضعتها على الأرض، وشرعت أتحسس جوانب الفوهة باحثا عن خطاطيف السلم. وأعترف أني كنت أفعل ذلك بسرعة، فقد كنت أخشى أن ينضب معين شجاعتي، وكانت وينا في أول الأمر ترقبني وهي ذاهلة، ثم أطلقت صيحة جزع وأقبلت علي تجذبني بيديها الصغيرتين، وما أظن إلا أن اعتراضها سبيلي قواني، وجعل عزمي أصح على المضي، فنفضتها عني بشيء من العنف، وبعد لحظة كنت في عنق البئر، وقد رأيت وجهها وما ارتسم عليه من الجزع والألم، ولكنها تبسمت لي تطمئنني. ثم اضطررت أن أصوب عيني إلى ما تحتي لأرى مواقع رجلي على السلم القلق الذي تعلقت به.
وقد انحدرت مسافة مائتي ذراع تقريبا. وكان ذلك بواسطة قضبان معدنية ناتئة من جوانب البئر، ولما كانت هذه مجعولة لمن هم أدق أجساما، وأخف وزنا، فقد أتعبني النزول، ولم يقتصر الأمر على التعب، فقد انثنى أحد القضبان فجأة تحت ثقلي، فكاد ذلك يلقيني في الهوة السوداء، وقد تعلقت لحظة بإحدى يدي، ولم أعد أجترئ بعد هذه التجربة على التماس الراحة وأنا أنزل، وآلمني ظهري وذراعي جدا، ولكني تجلدت وثابرت على الهبوط بأسرع ما أستطيع، وصعدت طرفي فرأيت الفوهة، ورقعة صغيرة من السماء الزرقاء ونجما فيها، وكان رأس وينا الدقيق يبدو كأنه نتوء أسود مستدير، وصار صوت آلة تدور في ناحية ما أعلى وأقوى، وأثقل على النفس، وكان كل شيء ما خلا تلك الرقعة الصغيرة في السماء حالك السواد، فلما صعدت عيني مرة أخرى كانت وينا قد اختفت.
وكنت في عذاب غليظ من قلة الراحة، وطاف برأسي أن أصعد وأترك هذا العالم السفلي، ولكني كنت وأنا أفكر في هذا أواصل النزول. وأخيرا رأيت - وتشهدت حين فعلت - إلى اليمين، وعلى بعد قدم واحدة، فجوة صغيرة في الحائط، فدخلت فيها فألفيتها تفضي إلى سرداب ضيق أستطيع أن أنطرح فيه وأستريح، ففعلت ولما أكد، فقد ألح الألم الذي في ظهري، وصار ظهري يوجعني، وكنت أرعش من طول الخوف من السقوط، زيدوا على ذلك أن الظلمة الطاغية التي لا ينسخها شيء أورثت عيني وجعا شديدا، وكان الجو يدوي فيه ضربان الآلة التي تمص الهواء من عنق البئر.
ولا أدري كم بقيت هكذا، ولكن الذي أدريه أني أفقت على يد طرية تلمس وجهي، فنهضت جالسا في الظلام، ودفعت يدي إلى حيث الكبريت، وأشعلت عودا فرأيت ثلاثة من السفليين - على صورة الذي رأيته في الخرابة من قبل - حانين علي، فلما أضاء النور ذهبوا يتراجعون أمامه بسرعة، وكانت عيونهم لطول ما ألفوا العيش في هذه السواد الحالك كبيرة حساسة، تعكس الضوء. ولم يخالجني شك في أنهم كانوا يرونني في هذا الظلام الذي لا ينفذ إليه شعاع واحد من النور، ولم يكن يبدو عليهم أنهم يخشون مني شيئا سوى هذا النور، وما كدت أشعل عودا حتى لاذوا بالفرار وولوا الأدبار إلى السراديب المظلمة التي كانت عيونهم تطالعني منها بالوميض الغريب.
وحاولت أن أدعوهم إلي، لكن لغتهم كانت، على ما يظهر، غير لغة العلويين، فتركني هذا بغير عون يرجى منهم، فجرى ببالي أن أهرب وأرتد إلى حيث كنت ولا أعني نفسي بالارتياد، ولكني قلت لنفسي «لا بد مما ليس منه بد» وتحسست طريقي في السرداب، فصار صوت الآلة أعلى، ثم تباعدت الجدران فدخلت في رقعة فسيحة، وأشعلت عودا، فإذا بي في كهف واسع ذي عقود، يغيب آخره في ظلام لا يخففه النور الضئيل الذي معي، فلم أر منه إلا بقدر ما يضيء العود.
ولا أحتاج أن أقول إن ما أذكره قليل الوضوح، فقد كانت تتمثل لي صور ضخمة غامضة لآلات كبيرة، وتلقي ظلالا سودا عظيمة كانت تلوذ بها أشباح السفليين من وهج الضوء. وكان المكان محبوس الهواء ثقيل الوطأة على الصدر، وكنت أشم رائحة خفيفة لدم مراق حديثا، وكان في الوسط منضدة صغيرة من معدن أبيض وعليها طعام. ومهما يكن من أمر السفليين فإنهم على كل حال من أكلة اللحوم! وحتى في ذلك الوقت أتذكر أني سألت نفسي يا ترى أي حيوان كبير هذا الذي اقتطع منه هذا الفخذ الأحمر الذي أراه؟ وكان كل شيء غامضا؛ الرائحة الثقيلة، والصور الكبيرة التي لا يتضح لها معنى، والأشباح القذرة التي تلوذ بالظلام وتتربص بي! ثم فني العود، فلسع أصابعي، وسقطت بقيته المضطرمة في الظلام.
وقد تمثلت لي، بعد ذلك، ضآلة عدتي لمثل هذه التجربة، فقد ركبت آلة الزمان، وأنا أعتقد أن أبناء المستقبل لا بد أن يكونوا قد تقدمونا جدا في كل باب، فرحلت بغير سلاح، وبدون دواء، وبلا سجاير - ولشد ما افتقدت الطباق! - بل حتى بغير الكفاية من الكبريت. أما لو كانت معي آلة تصوير (كوداك)؟ إذن لوسعني أن ألقط صورا للعالم السفلي في ثانية، ثم أتدبرها وأفحصها فيما بعد على مهل. ولكنه لم يكن معي هناك من السلاح والقوة إلا ما حبتني الطبيعة - اليدان، والقدمان، والأسنان - وأربعة عيدان من الكبريت كانت باقية معي.
وكنت أخاف أن أمضي في طريقي بين كل هذه الآلات في الظلام، وأشفت ذخيرتي من الكبريت على النفاد، ولم يخطر لي قط من قبل أن بي حاجة إلى الاقتصاد فيها ، فبددت نصف علبة لأدهش العلويين الذين لا يعرفون النار. والآن صار كل ما بقي معي أربع علب. وبينما كنت واقفا في الظلام لمستني يد، وتحسست وجهي أصابع نحيفة، وشممت رائحة كريهة، وخيل إلي أني أسمع تنفس جمهرة من هذه المخلوقات الفظيعة حولي، وأحسست أن علبة الكبريت التي في يدي تنزع مني برفق، وأن أيديا أخرى ورائي تجذب ثيابي. ولم يكن أثقل على نفسي من الشعور بأن هذه المخلوقات المحجوبة تفحصني وتجسني، وراعني أني أجهل أساليب تفكيرهم وعملهم، فصحت بهم بأقوى صوت، ففزعوا وتفرقوا عني، ثم شرعوا يقتربون مرة أخرى، وزادوا جرأة في اللمس والتحسس وراحوا يتهامسون فيما بينهم بأصوات منكرة فسرت في بدني رعدة، وصرخت فيهم مرة ثانية، فلم يذعروا هذه المرة كذعرهم من قبل، ولم يجفلوا، بل ندت عنهم أصوات غريبة وأقبلوا علي، وأعترف أني خفت، وعزمت أن أشعل عودا وأن ألوذ بالفرار على ضوئه. وأشعلت العود، وووقيت لهبه برقعة أخرجتها من جيبي، وانكفأت إلى السرداب الضيق، وما كدت أبلغه حتى انطفأ العود، فسمعت السفليين في الظلام يعدون ورائي، ولهم مثل صوت الريح بين الشجر ووقع المطر على الأرض.
وقبضت علي أيد كثيرة، ولم يخالجني شك في أنهم يريدون أن يردوني إلى حيث كنت، فأشعلت عودا آخر وحركته أمام وجوههم المروعة، ولا أكاد أتصور مبلغ خلوها من السمات الإنسانية - هذه الوجوه الشاحبة التي ليس على عوارضها شعر، ولا لعيونها الواسعة جفون - وهي تحدق في مذهولة وقد أعماها النور. ولكني لم أتلكأ أو أتمهل، بل تقهقرت مرة أخرى، ولما انطفأ العود الثاني أشعلت ثالثا وكاد ينتهي حين بلغت المنفذ إلى عنق البئر، فانطرحت على الحافة لأن صوت الآلة الماصة أدار رأسي، ثم دفعت يدي باحثا عن خطاطيف السلم، وإذا بالقوم يتناولون رجلي ويجذبونني بشدة، فأشعلت آخر عود معي، فانطفأ ... ولكن يدي كانت على القضبان الآن، فرقت بعنف، وتخلصت من قبضة هؤلاء السفليين، وذهبت أصعد بسرعة وهم ينظرون إلي، ما خلا واحدا منهم تبعني مسافة وكاد يسلبني حذائي ويعود به غنيمة له!
وكان الصعود، فيما أحس، لا ينتهي، وجشأت نفسي ونهضت في المرحلة الأخيرة، وكابدت عناء شديدا، وكاد يعييني أن أظل قابضا بيدي على القضبان ولم آل جهدا في مقاومة اضطراب النفس وضعفها، وكانت رأسي تدور ويعتريني الإحساس بالسقوط. وأخيرا خرجت من البئر وتطرحت بين الأنقاض إلى نور الشمس. وارتميت على وجهي. وكانت رائحة الأرض جميلة نظيفة، وأتذكر أن وينا أقبلت علي، تلثم راحتي وأذني، وكنت أسمع أصوات أناس غيرها من العلويين، ولكني غبت عن وعيي لحظة. (10) في الليل
صار خطبي فيما أرى أدهى، فقد كنت من قبل - فيما خلا ما أورثنيه فقد آلة الزمان من الألم - أتشبث بالرجاء في النجاة آخر الأمر، ولكن ما وقفت عليه رجني وزعزع أملي. وكان ظني أنه لا يعوقني غير السذاجة الصبيانية التي رأيتها في هؤلاء القضاف
5
وأن تخطي الموانع لا يكلفني إلا أن أعرف ما أجهل من العوامل، ولكن هؤلاء السفليين عنصر جديد لم يكن لي في حساب، عنصر سوء وشر ليس فيه شيء من صفات الإنسانية، فأحسست لهم بالمقت. وكنت أشعر بما يشعر به المرء إذا وقع في جب، وكان همي هذا الجب وكيف أخرج منه. أما الآن فقد صرت كالحيوان الذي وقع في شرك، وسرعان ما يخف إليه صائده.
وقد يدهشكم العدو الذي خفته، فما كان إلا ظلام الليلة الأولى من الشهر الجديد
6
وكانت وينا هي التي أوحت إلي هذا الخوف بما قالته - وإن كنت لم أفهمه - عن الليالي المظلمة. ولم يكن من العسير علي الآن أن أخمن ما عسى أن تجيء به الليالي السوداء. وكان القمر يدخل في المحاق، فالعتمة في كل ليلة تجيء، أطول. وقد فهمت إلى حد ما سبب الخوف الذي يعتري هؤلاء العلويين الصغار من الظلام. وتمنيت لو عرفت ماذا عسى أن يرتكب هؤلاء السفليون من الخسة والأسواء في مطلع الشهر الجديد. وصرت موقنا أن نظريتي الثانية خطأ في خطأ. ولعل العلويين كانوا فيما مضى هم السادة والطبقة الأرستقراطية المفضلة، على حين كان السفليون خدمهم وخولهم. ولكن هذا عهد مضى وانقضى وصار النوعان اللذان أثمرهما تطور الإنسان على الأدهار يمضيان - أو عسى أن يكونا قد انتهيا - إلى حال جديدة وعلاقة أخرى، فالعلويون قد انحطوا فصاروا عبثا جميلا ليس إلا، وما زال لهم ملك الأرض، ولكن على التسامح، لأن السفليين الذين ألفوا باطن الأرض من أحقاب مديدة أصبحوا لا يطيقون ظهرها المضيء، وقد استخلصت أن السفليين يصنعون لهم ثيابهم، ويمدونهم بحاجاتهم المألوفة، ولعلهم يجرون على ذلك بحكم العادة القديمة كما يضرب الجواد الأرض بحافره، أو كما يلتذ الإنسان قتل الطريدة حين يخرج للصيد، لأن ضرورات عتيقة تركت أثرها في كيان المخلوق. ولكن النظام قد انقلب، وأخذ يوم الحساب والعقاب يدلف من هؤلاء الصغار الرقاق. ولقد استطاع الإنسان قبل آلاف من الأجيال أن يدفع أخاه الإنسان عن نور الشمس ونعيم العيش. فالآن يرتد هذا الأخ المدفوع، وقد تغير، ولقد شرع العلويون يتعلمون من جديد درسا قديما، فقد بدأوا يعرفون الخوف مرة أخرى. وطافت برأسي فجأة وأنا أفكر في هذا ذكرى اللحم الذي رأيته في العالم السفلي، وكان من المستغرب أن أتذكر ذلك، فما أثاره تداعي الخواطر، ولا أدى إليه تيار التفكير، بل خطر الأمر كأنه سؤال يلقى علي من الخارج، فحاولت أن أتذكر صورة اللحم، وخيل إلي أن فيه شيئا مألوفا، ولكني لم أستطع أن أعرف في ذلك الوقت ماذا هو.
ومهما يكن من أمر هؤلاء الصغار وعجزهم حيال ما يخافون فإن شأني غير شأنهم، وأنا ابن عصري، وثمرة شباب الإنسانية، فالخوف لا يشل المرء، والأسرار الخفية لا تفزع. وأنا، على الأقل، سأدافع عن نفسي. ولم أضيع وقتا، فعزمت أن أصنع لنفسي أسلحة، وأن أتخذ حصنا أنام فيه. ومتى صار الحصن قاعدة لي فإنه يسعني أن أواجه هذا العالم العجيب بشيء من الاطمئنان الذي أفقدنيه إدراكي لأي ضرب من الخلائق أتعرض ليلة بعد ليلة. وشعرت أن من العسير أن أنام بعد ذلك ما لم أكن في أمان منهم. وارتعدت وأنا أذكر كيف فحصوني.
وذهبت بعد الظهر أتمشى في وادي التيمز ، فلم أجد شيئا يصلح في رأيي أن يكون معقلا، فقد كانت المباني والأشجار كلها لا تعيي متسلقين حذاقا كهؤلاء السفليين، وكفى بآبارهم شاهدا. ثم تذكرت البروج العالية في قصر الصيني الأخضر وجدرانه المصقولة اللامعة، فلما كان المساء حملت وينا على كتفي كما يحمل الطفل، وذهبت أصعد في التل في اتجاه غربي جنوبي. وكانت المسافة - فيما أقدر - سبعة أميال أو ثمانية، ولكني وجدتها أقرب إلى ثمانية عشرة. وكنت قد رأيت القصر أول مرة في المساء والضباب، فالأبعاد تخدع. وكان عقب حذائي قد تخلخل. وكان في النعل مسمار، فصرت أظلع. فلما صرت على مرأى من القصر كان النهار قد ولى، فصار القصر أسود أمام الشفق.
وكانت وينا قد سرها جدا أني حملتها، ولكنها بعد قليل طلبت أن أحطها عن كاهلي، وراحت تجري بجانبي، وتعرج يمينا وشمالا، لتقطف لي أزهارا تدسها في جيوبي. وكانت جيوبي هذه مبعث حيرة لوينا، وأخيرا هداها التفكير إلي أنها نوع شاذ من الزهريات، أو هي، على الأقل، صارت تتخذها لوضع الزهر فيها. وهذا يذكرني ... فقد وجدت وأنا أغير سترتي ... (وأمسك الرحالة في الزمن، ودس يده في جيبه، وأخرج زهرتين ذابلتين وضعهما، بلا كلام، على المائدة. ثم وصل ما انقطع من حديثه.)
وسكن الليل، وواصلنا الإصعاد في التل في اتجاه وملبدن فتعبت وينا، وأرادت العودة. ولكني أشرت إلى بروج القصر وأفهمتها بطريقة ما أننا سنجد فيه معاذا مما يخيفها. وأحسبكم تعرفون ذلك السكون الذي يشمل الدنيا قبل الغسق؟ حتى النسيم يقف، في الشجر، وما زلت أرى في هذا السكون معنى الانتظار، وكانت قبة السماء صافية، بعيدة، فارغة، فيما خلا بضعة خطوط أفقية في حيث غربت الشمس، وقد اكتسى ما أتوقع في تلك الليلة، ثوب الخوف والحذار، فصارت حواسي في ذلك السكون المظلم مرهفة، وكان يخيل إلي أني أحس أن الأرض التي أطؤها بقدمي، مجوفة، محفورة، بل أكاد أرى من خلال قشرتها هؤلاء السفليين يذهبون ها هنا وها هنا متربصين، حتى يجيء الظلام، وخيل إلي أنهم سيعدون تطفلي عليهم في سراديبهم بمثابة إعلان للحرب عليهم. ولماذا أخذوا آلة الزمان؟!
وهكذا مضينا في هذا السكون، وانتقلنا من الشفق إلى العشوة، وغابت الزرقة الصافية، وبرزت النجوم واحدا بعد واحد، وخفيت معالم الأرض، واحلولكت الأشجار، وزادت مخاوف وينا، وتحلل بها التعب، فحملتها بين ذراعي، وذهبت أحدثها وألاطفها، فلما طخطخ الظلام طوقت عنقي بذراعيها، وأغمضت عينيها، وأراحت خدها على كتفي، وانحدرنا، ونحن هكذا إلى واد، وجئنا إلى جدول صغير خضته إلى الناحية الأخرى من الوادي، مارين بعدد من المساكن وتمثال بلا رأس، وكانت هناك أشجار سنط، ولم أر أحدا من السفليين ولكنا ما زلنا في أول الليل، وأمامنا ساعات حالكة قبل أن يطلع القمر القديم.
ورأيت من ذروة التل التالي غابة كثيفة، فترددت فما بدا لي آخر لها، إلى اليمين أو إلى اليسار. وأحسست بالتعب - وبالحفى في قدمي خاصة - فأنزلت وينا عن كتفي، وقعدت على الخضرة. وكنت لا أرى القصر من مكاني فشككت في النهج الذي أنا ناهجه، أهو مستقيم أم أعوج؟ ونظرت إلى الغابة الملتبسة، وفكرت فيما عسى أن يكون مخبوءا فيها، ومتى دخل المرء تحت هذه الغصون المتوشجة، فإن النجوم تغيب عنه، وحتى لو أنه لا خطر كامن فيها - خطر أبيت أن أطلق لخيالي العنان فيه - فإنه يبقى التعثر بالأعواد والاصطدام بالشجر، وكنت قد تعبت جدا بعد الذي تجشمته في النهار فقلت أتقي الغابة، وأقضي الليل على التل.
وسرني أن وينا كانت مستغرقة في النوم، فلففت عليها سترتي وجلست إلى جانبها أنتظر طلوع القمر، وكان جانب التل ساكنا مهجورا. ولكني كنت من حين إلى حين أحس بحركة من ناحية الغابة. وكانت النجوم تومض وتتلامح فوقي، فقد كان الليل ساجيا، والسماء صافية، فكنت أجد في ذلك أنسا وروحا، على أن العقود القديمة قد ولت، وأعادت نظمها في صور جديدة تلك الحركة البطيئة التي لا تحس في مائة عمر إنساني، ولكن نهر المجرة بقي على العهد به فيما بد لي. ورأيت في ناحية الجنوب - فيما رجحت - نجما أحمر مشرقا لا أعرفه، وهو أبهر من الشعرى. وكان هناك بين هذه الأضواء البراقة كوكب ثابت النور رقيقه، كأنه وجه صديق قديم.
وقد تضاءلت همومي، وأنا أنظر إلى هذه النجوم، وخفت أثقال الحياة الأرضية، وفكرت في الأبعاد المهولة لهذه النجوم، وفي دلوفها البطيء من الماضي المجهول إلى المستقبل المجهول، وفي دورة الاستقبال التي يصنعها القطب الأرضي، وكيف أن هذه الدورة الصامتة لم تحدث سوى أربعين مرة في كل هذه السنين التي قطعتها، وفي خلال هذه الدورات القليلة زال وامحي من الوجود كل النشاط، وكل التقاليد، والنظم المعقدة، والأمم واللغات والآداب والآمال، بل زالت ذكرى الإنسان كما عرفته. وجاء هؤلاء الضعاف الذين نسوا أسلافهم الأماجد، وهذه المخلوقات البيضاء التي أمشي منها على حذر. ثم فكرت في الفزع الذي يفصل ما بين النوعين، فتبينت لأول مرة معنى اللحم الذي رأيته، فسرت في بدني رعدة، ونظرت إلى وينا الراقدة بجانبي، ومحياها الأبيض، وكأنه النجم تحت النجوم، فجاهدت حتى نفيت هذا الخاطر من رأسي.
وظللت ذلك الليل الطويل أصرف ذهني عن التفكير في السفليين على قدر ما يسعني ذلك، وأتسلى بأن أحاول أن أتصور أني أرى ما يدل على وجود العقود والمنظومات القديمة في الاضطراب السماوي الجديد، وقد ظلت السماء صافية، ولم يغشها إلا سحابة رقيقة. ولا شك أني كنت أغفي من حين إلى حين، ولما تقضى الليل إلا أقله، ظهر غشاش في الأفق الشرقي، كأنه انعكاس نار لا لون لها، وطلع القمر هزيلا مقوسا، وفي بياضه كدرة، ومن ورائه بلجة الفجر. وكان شاحبا في أول الأمر ثم احمر وسطع. ولم يقترب منا أحد من السفليين، ولم أر منهم واحدا فوق التل في تلك الليلة، وأعاد اليوم الجديد ما كان ضاع من الاطمئنان والثقة، فخيل إلي أن مخاوفي لم يكن لها موجب، فنهضت فإذا قدمي الذي انفصل كعب حذائها قد ورم رسغها، وصار عقبها يؤلمني، فقعدت ثانية، وخلعت حذائي ورميته.
وأيقظت وينا، وانحدرنا إلى الغابة التي صارت خضراء زهراء، بعد أن كانت في الليل سوداء مخوفة. ووجدنا ثمارا أفطرنا عليها، وما لبثنا أن التقينا بكثير من العلويين يضحكون ويرقصون في نور الشمس، كأنما لم يعد لليل في هذه الحياة وجود، ففكرت مرة أخرى في اللحم الذي رأيته ولم يبق عندي شك في أمره، وأدركني العطف القوي على هذا الجدول الآخر الضعيف من فيض الإنسانية العظيم. ولا شك أنه حدث في الماضي السحيق من عهد انحطاط الإنسان أن عانى السفليون القحط، وعسى أن يكونوا قد اقتاتوا الجرذان وما إليها، وحتى في عصرنا هذا نرى الإنسان أقل عناية بطعامه واقتصارا على لون واحد من أي قرد، وليس كرهه للحم البشري براجع إلى غريزة عميقة القرار وهكذا صار أبناء الإنسان الذين فقدوا الصبغة والصفات الإنسانية ... وحاولت أن أنظر إلى الأمر نظرة علمية، وهم على كل حال أقل إنسانية وأنأى من أجدادنا المستوحشين الذين عاشوا قبل ثلاثة آلاف من السنين أو أربعة آلاف وقد ذهب الذكاء الذي كان خليقا أن يحيل هذه الحالة عذابا غليظا، ولماذا أعني نفسي؟ إنما هؤلاء العلويون أنعام مسمنة، يتحفظ بها، ويفترسها السفليون، ولعلهم يعنون بتربيتها وتوليدها، وهذه وينا ترقص إلى جانبي!
وحاولت أن أقي نفسي ما يهجم عليها من الاستفظاع، بأن أعد هذا جزاء وفاقا للأثرة الإنسانية، فقد كان الإنسان راضيا قانعا بأن يعيش في رغد وهناءة بفضل العمل الذي يتجشمه أخوه الإنسان، وقد اتخذ من «الضرورة» كلمة سر وعذرا، فالآن تدور الدائرة عليه، ويلزمه «أخوه» حكم الضرورة! وقد حاولت أن أتكلف مثل احتقار «كارليل» للأرستقراطية المتداعية التعيسة، ولكن هذه النظرة كانت مستحيلة.
فمهما يكن مبلغ الانحطاط العقلي الذي صار إليه العلويون، فإن مسحتهم الإنسانية التي احتفظوا بها تستدر عطفي وتجعلني شريكا في انحطاطهم وفي خوفهم.
ولم أكن في ذلك الوقت على بينة من النهج الذي أنهجه، وكان همي الأول أن أجد ملجأ أحتمي به، وأن أصنع ما يسعني صنعه من السلاح؛ من المعدن أو الحجر. وكان هذا أمرا لا يحتمل الإرجاء، وكنت أرجو أن أهتدي إلى وسيلة أوقد بها نارا ليكون في يدي هذا السلاح، فليس أمضى منه في مكافحة السفليين. وكنت أرى أيضا أن أدبر وسيلة لكسر ألواح البرونز تحت قاعدة التمثال. وخطر لي المنجنيق، وكنت مقتنعا بأني حري إذا اقتحمت هذه الألواح ومعي نور أن أجد آلة الزمان وأنجو. ولم أستطع أن أتصور أن يكون السفليون من القوة ومتانة الأسر بحيث يسعهم أن يبعدوا بآلة الزمان، أما وينا فآليت أن أكر بها راجعا إلى زماننا. وقد أدرت هذه الخواطر في نفسي، وأنا أمضي على سنني إلى القصر الذي آثرت أن ألجأ إليه وأعوذ به. (11) قصر الصيني الأخضر
وجدت قصر الصيني الأخضر - لما شارفته حوالي الظهر - مهجورا متهدما. ليس في نوافذه إلا بقايا زجاج، وقد سقطت ألواح كبيرة من الواجهة الخضراء فظهر إطارها المعدني المتآكل. وهو يذهب في الهواء فوق مرج، وأدهشني - وأنا أتأمله قبل الدخول - أن أرى خليجا أو خورا حيث أظن أن «وندسورث» و«بترسي» كانتا فيما مضى. ففكرت - وإن كنت لم أتتبع هذا الأمر - فيما عسى أن يكون قد حدث أو ما لعله يحدث للأحياء المائية.
وتبينت بعد الفحص أن المادة التي صنع منها القصر هي «الصيني» ورأيت على ظاهرها كتابة بلغة مجهولة، وخطر لي - لجهلي - أن وينا ربما استطاعت أن تترجم لي هذا، فإذا «الكتابة» لم تجر لها قط في بال! وكانت تبدو لي دائما أجزل حظا من الإنسانية مما كانت، وأحسب أن هذا راجع إلى أن عاطفتها إنسانية.
ووجدنا وراء مصراعي الباب - الذي كان مفتوحا ومحطما - بدلا من القاعة المألوفة، دهليزا طويلا يدخل إليه النور من نوافذ عديدة على الجانبين، فأذكرتني النظرة الأولى بالمتاحف، وكان البلاط مغطى بطبقة من التراب، وكذلك ما كان هناك من الأشياء. ثم رأيت النصف الأسفل من هيكل عظمي كبير قائما في وسط القاعة، وأدركت من هيئة القدمين المنحرفتين أنهما لمخلوق منقرض، وكانت الجمجمة والعظام العليا ملقاة في التراب الكثيف، وقد أتى ماء المطر الذي رشح من السقف على بعضها. ورأيت في موضع آخر من الدهليز هيكلا ضخما للبرونتوسوروس فصح عندي أن هذا متحف، فملت إلى جانب، فألفيت ما خيل إلي أنه رفوف مائلة، فأزلت عنها التراب فوجدت الصناديق الزجاجية المألوفة في زماننا، ومن الواضح أنها محكمة لا ينفذ إليها الهواء فقد كان بعض محتوياتها سليما.
نحن إذن بين آثار عهد متأخر من عهود كنسنجتون الجنوبية، وهذا هو قسم المتحجرات، ولا شك أنه كان فيه معرض بديع من البقايا العضوية المتحجرة، وإن كان الفساد الذي أرجئ زمنا ما، والذي فقد - بفضل انقراض الجراثيم وما إليها - تسعة وتسعين في المائة من قوته، قد أخذ يدب في هذه الكنوز مرة أخرى، ببطء شديد، ووجدت هنا وهنا، آثارا من هؤلاء الأناسي الصغار في صورة بقايا عظام مكسرة أو منظومة في خيوط على أعواد. وقد نقلت الصناديق جملة في بعض الحالات - نقلها السفليون في رأيي - وكان المكان ساكنا، والتراب الكثيف يمنع أن يكون لخطواتنا صوت، وكانت وينا تدحرج على رف الزجاج المائل، حيوانا بحريا، ثم ارتدت إلي وأنا أجيل عيني فيما حولي، وتناولت يدي في سكون، ووقفت إلى جانبي.
وأدهشني في أول الأمر هذا الأثر القديم المتخلف من عصر مثقف، فلم أفكر في الاحتمالات التي يعرضها علي عقلي، بل لقد فتر اشتغال بالي بآلة الزمان.
وكانت ضخامة القصر توقع في الروع أنه أكثر من متحف للبقايا العضوية ولعل فيه متاحف تاريخية، بل ربما كانت فيه مكتبة، وكان هذا - في الأحوال الحاضرة - أمتع لي وأولى بعنايتي فذهبت أرود المكان فوجدت دهليزا آخر قصيرا، وكان هذا مقصورا، على ما يظهر، على المعادن، وكانت فيه كتلة من معدن الكبريت أخطرت البارود ببالي، ولكني لم أجد ملح البارود، ولا نترات من أي ضرب. ولا شك أنها ذابت من زمان طويل، ولكن معدن الكبريت تشبث بعقلي، وأغراني بفكرة، أما سائر ما كان في هذا القسم من المتحف، فلم أعبأ به، وإن كان - بالقياس إلى غيره - في حالة جيدة. ولست إخصائيا في المعادن، فانحدرت إلى جناح خرب محاذ للدهليز الأول وكان هذا مفردا، على ما يظهر، للتاريخ الطبيعي، ولكن كل ما فيه كان قد زالت معارفه، وكانت هناك آثار قليلة مما كان؛ حيوانات محنطة محشوة، وأعضاء جافة في أوعية كان فيها كحول، وتراب نباتات عفى عليها الزمن، وهذا كل ما بقي! وقد أسفني هذا فقد كان يسرني أن أتتبع المراحل البطيئة المتعاقبة التي انتهت إلى التغلب على الطبيعة الحية. ثم انتقلنا إلى قاعة مهولة الأبعاد ولكن الضوء فيها كأسوأ ما يكون، وكانت أرضها مائلة قليلة، وكنت أرى كرات مدلاة من السقف - كثير منها محطم - فالمكان إذن كان يضاء بالكهرباء أو ما إليها، وكانت هذه القاعة أقرب إلى نفسي، وأشبه بمألوفي، فقد وجدت فيها على الجانبين آلات كبيرة، وكانت كلها متآكلة، وكثير منها مكسر، ولكن البعض على جانب من السلامة. وأنتم تعرفون كلفي بالآلات، وقد نازعتني نفسي أن أتلكأ هنا، وشوقني إلى البقاء أن هذه الآلات لها متعة الألغاز والأحاجي، وإن كنت لا أستطيع أكثر من تخمين الغرض منها وما كانت مجعولة له. وخيل إلي أني لو استطعت أن أحل هذه الألغاز فإني حري أن أفيد قوة تنفعني في مغالبة السفليين.
ولصقت بي وينا فجأة حتى لأفزعتني، ولولاها لما فطنت إلى أن أرض القاعة منحدرة، وكان الطرف الذي دخلت منه فوق سطح الأرض، وكان الضوء يؤدي إليه من روازن، وكلما تقدمت في الردهة علت الأرض وظهرت من النوافذ، حتى لا ينفذ من الضوء إلا خيط ضئيل. فسرت على مهل وأنا أعالج ألغاز الآلات، واستغرقني التفكير فلم ألاحظ أن الضوء يقل شيئا فشيئا، حتى لفتني خوف وينا، فرأيت عندئذ أن الردهة تلف من طرفها هذا في ظلام دامس فترددت، ثم أدرت عيني، فرأيت أن التراب أخف، وأن سطح الأرض أقل استواء. ورأيت أمامي آثار أقدام صغيرة فتجدد شعوري بقرب السفليين مني، ودار بنفسي أني أضيع وقتي بهذا الفحص العلمي للآلات، وذكرت نفسي بأن العصر قريب، وأنا ما زلنا بغير سلاح أو مأوى، وأنه ليس عندنا ما نوقد به نارا. وإذا بي أسمع من ناحية الظلام البعيد نفس الأصوات التي سمعتها في البئر والسرداب.
فتناولت يد وينا، ثم خطر لي خاطر، فتركتها وقصدت إلى آلة يبرز منها قضيب شبيه بما يكون في صناديق الإشارة، ووثبت إلى الدرجة، وتناولت القضيب بكلتا يدي، وملت عليه بكل ما في من قوة. ورأت وينا أنها صارت وحدها في وسط الردهة فأنشأت تنشج، وكان تقديري لقوة القضيب دقيقا، فما لبث أن نزع من مكانه، فعدت إلى وينا ومعي حديدة هي فوق الكفاية لفلق يافوخ من عسى أن ألاقي من السفليين، وأقول الحق إني كنت أشتهي قتل بعضهم، وقد تذهبون إلى أن مما ينافي الإنسانية أن يشتهي المرء قتل نسله! ولكنه كان من المستحيل أن يخالج المرء شعور إنساني فيما يتعلق بهؤلاء. وما صدني عن مواصلة السير في الردهة وقتل هؤلاء الوحوش الذين سمعت أصواتهم إلا كراهتي لترك وينا، وأن آلة الزمان قد يصيبها تلف إذا ذهبت أشفي غليلي وأروي ظمئي من دماء هؤلاء.
خرجت من هذه الردهة، والحديدة في يد، ووينا في اليد الأخرى، إلى ردهة أخرى أكبر منها، أذكرتني النظرة الأولى إليها معرضا عسكريا علقت على جدرانه أعلام مهلهلة، وعرفت من الخرق والرقع الحائلة أنها بقايا كتب. وكانت قد فسدت من زمان طويل وتمزقت وتخرقت وامحى منها كل أثر للكتابة، ولكنه كان هنا وهنا ألواح معوجة، ومشابك معدنية مكسورة، تقص على الناظر إليها قصتها، ولو كنت أديبا لفكرت في عبث الطموح، ولكن الذي كان له أعمق وقع في نفسي هو ما يشهد به هذا الورق الذي عاث فيه الفساد وشاع، من العبث الشديد. وأعترف أني كنت أفكر في ذلك الوقت على الأكثر في «العمليات الفلسفية» وفي رسائلي السبع عشرة عن البصريات الطبيعية.
وارتقينا في سلم عريض فبلغنا ما لعله كان متحفا للكيمياء ولم أكن أرجو أن أعثر على شيء نافع. وكان المتحف سليما فيما خلا جانبا منه انقض عليه سقفه فدرت بكل صندوق سليم، وأخيرا وجدت في صندوق محكم علبة كبريت! فجربتها، فألفيتها لا تزال صالحة، وليس بها أثر للرطوبة، فالتفت إلى وينا وصحت بها بلغتها «ارقصي!» فقد صار معي سلاح ماض أقاوم به هؤلاء السفليين الذين نخافهم. وهكذا - في ذلك المتحف المهجور، وعلى بساط التراب الكثيف - رحت أرقص وأغني وأدخل على نفس وينا سرورا عظيما، وكانت الرقصة خليطا من رقصات شتى، ولكن بعضها مبتكر، فإني كما تعلمون، نزاع إلى الاختراع.
وما زلت أرى أن نجاة هذه العلبة من الكبريت من الفساد على الرغم من بقائها ما لا يحصى من السنين، كان من أغرب ما رأيت، ومن أسعد ما وقع لي. على أني عثرت على مادة كان بقاؤها أضأل في الاحتمال وأبعد في الإمكان - وأعني بها الكافور - وجدته في وعاء مختوم وقد ظننت في أول الأمر أنه شمع البارافين فكسرت الوعاء، ولكن رائحة الكافور لا سبيل إلى الغلط فيها أو خلطها بسواها. وقد استطاعت هذه المادة الطيارة أن تبقى وسط هذا الفساد العام عدة آلاف من القرون، وقد هممت أن أرميها، ولكني تذكرت أنها سريعة الاحتراق وأن لهبها قوي صاف - فهي تصلح أن تكون شمعة بديعة - فدسستها في جيبي، ولكني لم أجد مفرقعات، ولا شيء غيرها أستطيع به تحطيم الألواح البرونزية في قاعدة التمثال. وكانت الحديدة التي معي أنفع ما وقعت عليه إلى الآن، غير أني مع ذلك غادرت هذه القاعة مسرورا.
ولا أستطيع أن أسرد عليكم كل ما كان في ذلك المساء، فإن ذلك يتقاضاني جهدا كبيرا لتذكر طوافي في هذا القصر كما حدث، وأتذكر أني دخلت دهليزا طويلا فيه أسلحة شتى صدئة، فترددت بين الحديدة التي معي، وبين فأس أو سيف، وكنت لا أستطيع أن أحمل آلتين، فآثرت الحديدة لأنها فيما رجوت أخلق بأن تكون أجدى علي حين أعالج بها ألواح البرونز. وكان هناك عدد من المدافع والمسدسات والبنادق، وأكثرها عبارة عن كتل من الصدأ، ولكن كثيرا منها مصنوع من ضرب من المعدن جديد، وفي حالة جيدة، غير أن الرصاص أو البارود الذي لعله كان هناك قد صار ترابا. ورأيت ركنا مسودا مهدما، من جراء انفجار، على ما بدا لي، من بعض هذه النماذج. ورأيت في مكان آخر معرضا كبيرا للأصنام، من بولينزيا والمكسيك وفينيقيا واليونان، ومن كل قطر على الأرض فيما أرى. ولم أستطع أن أكبح نفسي فكتبت اسمي على أنف صنم من أمريكا الجنوبية راقني على الخصوص.
وقل اهتمامي بهذه المتاحف مع انحدار الشمس إلى المغيب، وكنت أنتقل من متحف إلى آخر، وما فيها إلا ما هو معفر صامت، وخرب في الأغلب، والآثار فيه كوم من الصدأ والفحم، وفي بعضها رأيت على كثب مني نموذج منجم قصدير، وإذا بي أعثر في صندوق محكم القفل على قطعتين من الديناميت، فصحت: «وجدتها!» وكسرت الصندوق وبي من السرور ما لا يوصف. ثم خالجني شك فترددت، ثم اخترت قاعة صغيرة وقمت بتجربة. وما أعرفني منيت قط بمثل هذه الخيبة في أمل لي، وأنا أنتظر خمس دقائق، ثم عشرا، ثم خمس عشرة، أن يحدث الانفجار الذي يأبى أن يحدث! وقد كان ينبغي أن أدرك أنها زائفة، ولو كانت صحيحة لكان الأرجح فيما أعتقد أن أندفع إلى التمثال وأنسفه هو وقاعدته وألواح البرونز التي عليها، وأملي أيضا - كما ظهر - في الوصول إلى آلة الزمان، فأمحو كل ذلك محوا.
وبعد ذلك - على ما أذكر - وصلنا إلى صحن داخل القصر فاسترحنا وأنعشنا أنفسنا، ولما قاربنا المغرب شرعت أفكر في أمرنا، وكان الليل يزحف علينا، وما زلت أنشد ملجأ أتحصن فيه، ولكن هذا لم يعد يقلقني فقد كان معي أمضى سلاح أدافع به عن نفسي؛ الكبريت! وكان معي الكافور أيضا إذا احتاج الأمر إلى نار تشعل، ورأيت أن خير ما نصنع هو أن نقضي الليل في الهواء الطلق على ضوء نار، وفي الصباح أحاول استرداد آلة الزمان. وما كان معي ما أستعين به على ذلك غير قضيب الحديد، ولكني زدت معرفة فاختلف شعوري بهذه الأبواب البرونزية، وكنت إلى الآن أتقي أن أقتحمها عنوة، من أجل ما عسى أن يكون مخبوءا وراءها. ولم تكن الأبواب فيما أحس متينة جدا، فرجوت أن يكون القضيب الذي معي وافيا بالحاجة. (12) في الظلام
خرجنا من القصر، وما زال جانب من قرص الشمس فوق الأفق الغربي وكنت قد آليت أن أكون عند التمثال في فجر اليوم التالي، وأن أجتاز الغابة التي صدتني البارحة، قبل الغسق، وكانت خطتي، أن أغذ السير فأقطع أكثر ما يسعني قطعه في تلك الليلة ثم أوقد نارا وأنام في حمى وهجها، ومن أجل ذلك جمعت وأنا أسير ما وجدت من الأعواد والحطب والعشب الجاف فصار على ذراعي حمل كبير من ذلك، فصار سيري أبطأ مما كنت أتوقع لثقل ما أحمل، وكانت وينا قد أدركها التعب، وكنت أنا أيضا أشعر بالحاجة إلى النوم، وأعاني تفتيرها للجسد، فجنح الليل قبل أن نبلغ الغابة، وكانت وينا تؤثر أن تبقى على السفح المعشوشب لخوفها من مواجهة العتمة، ولكن شعورا غريبا بكارثة يوشك أن تحل بنا - وكان ذلك ينبغي أن يكون نذيرا لي - دفعني إلى المضي في السير، وكنت لم أذق النوم ليلة ونهارين، فكنت لهذا محموما مضطربا، وأحسست بالنوم يهجم علي، ومعه السفليون.
وبينما كنت مترددا رأيت بين الشجيرات السوداء وراءنا ثلاثة أشخاص رابضين، ولكنهم غير واضحين في هذا السواد، وكان العشب مرتفعا حولنا، فلم آمن زحفهم علينا وقتلهم لنا، وقدرت أن يكون بيننا وبين الغابة دون الميل، فإذا استطعنا أن نجتازها إلى التل العلوي وراءها فإن الأرجح أن نكون هناك في أمان من المخاوف، وحدثت نفسي أن في وسعي أن أنير طريقي في الغابة بما معي من الكبريت والكافور، ولكني أضطر إلى التخلي عما جمعت من الحطب إذا أنا ذهبت ألوح بعيدان الكبريت المشعلة، فوضعت حملي عن ساعدي، وخطر لي أن أذهل متعقبي بإيقاد النار، وقد تبينت فيما بعد مبلغ جنوني في هذا العمل ولكنه بدا لي في وقته حركة ذكية لستر رجوعنا.
وأحسبكم لم تفكروا قط في ندرة النار في مكان معتدل الجو وليس فيه إنسان، فإن حرارة الشمس يندر أن تكون من القوة بحيث تحرق، حتى ولو جمعتها قطرات الندى كما يحدث أحيانا في الأقاليم الاستوائية. وقد يصعق البرق ويسود ولكنه قلما يحدث حريقا، وقد يدخن النبات الفاسد من حرارة ما به من التخمر ، ولكن هذا قلما يحدث لهبا، وقد أدى الانحطاط إلى نسيان فن إيقاد النار على الأرض، فلما أضرمتها كانت الألسنة الحمراء التي ارتفعت إلى كوم الحطب شيئا جديدا غريبا في نظر وينا.
وقد أرادت أن تذهب إليها وتلعب بها، وأعتقد أنها كانت خليقة أن ترمي نفسها عليها وتلقي بها فيها لولا أن رددتها وكبحتها. وقد تناولتها فحملتها، ومضيت على سنني إلى الغابة، على الرغم من مقاومتها، وكان وهج النار يضيء لي الطريق مسافة، ورجعت البصر فرأيت من خلال الشجر أن اللهيب امتد من كوم الحطب إلى بعض الشجيرات القريبة، وأن خطا متقوسا من النار يزحف إلى الحشيش على التل، فضحكت ورددت لحظي إلى الأشجار السوداء أمامي، وكان السواد حالكا فلصقت وينا بي، ولكنني بعد أن ألفت الظلام استطعت أن أرى طريقي بين الشجر، وكانت الظلمة طاغية فوق رأسي إلا في حيث كانت تبدو رقع من السماء الزرقاء هنا وهنا، ولم أشعل كبريتا لأن يدي كانتا مشغولتين، فقد كنت أحمل وينا على ساعدي الأيسر، وكان في يمناي قضيب الحديد.
وظللت شيئا لا أسمع إلا صوت تقصف الأعواد تحت قدمي، وخشخشة الشجر إذ يصافحه النسيم، وإلا أنفاسي ونبض عروقي في أذني، ثم خيل إلي أني أسمع وقع أقدام حولي، فواصلت السير غير عابئ، وزاد الصوت وضوحا وسمعت نفس الأصوات الغريبة التي كنت سمعتها في السراديب، فلم يبق شك في أن حولي كثيرين من السفليين وأنهم يطبقون علي، وشعرت بعد دقيقة بشيء يجذب سترتي، ثم ذراعي، فسرت الرعدة في بدن وينا، ثم قرت وسكنت.
وكان هذا هو وقت الكبريت، ولكن إشعاله يضطرني أن أضع وينا ففعلت، ودفعت يدي في جيبي، فشعرت بعراك عند ركبتي، وكانت وينا صامتة، لا تنبس، وكان السفليون يلغطون، وذهبت أيديهم الصغيرة الطرية تتحسس ظهري وتلمس عنقي، ثم اشتعل العود، فمددت به يدي، ورأيت ظهورهم البيضاء وهم يعدون بين الشجر، وأسرعت فأخرجت شيئا من الكافور وتهيأت لإضرام النار فيه حين يشفي العود على الخمود. ثم صوبت عيني إلى وينا وكانت ممسكة بساقي، لا تتحرك، ووجهها إلى الأرض، ففزعت، وانحنيت عليها، وكانت لا تكاد تتنفس، فأشعلت النار في الكافور ورميت به على الأرض، فما تناثر وارتفع لهبه، ورد السفليين، ونسخ الظلال، ركعت ورفعت وينا، وكانت الغابة حولي كأن فيها همسا وحركة من جمهور كبير.
وكانت وينا كالمغمى عليها، فحملتها على كتفي برفق ونهضت لأمضي، وإذا بي أفطن إلى حقيقة مزعجة. ذلك أني وأنا أعالج الكبريت ووينا، درت عدة مرات فلم أعد أدري في أي اتجاه أنا ماض، وعسى أن أكون منكفئا إلى القصر، فتصببت عرقا، وكان يجب أن أفكر بسرعة وأن أستقر على رأي فيما ينبغي أن أصنع، فعزمت أن أوقد نارا وأن أبقى حيث أنا، فوضعت وينا - وكانت لا تزال مغشيا عليها - وشرعت أجمع العيدان وأوراق الشجر قبل أن يخمد الكافور، وكانت عيون السفليين تومض، من هنا وهنا، في الظلام المحيط بي، كالعقيق أو الجمر.
وهب لسان النار من الكافور ثم همدت، فأشعلت عودا وبينما كنت أفعل ذلك فر اثنان كانا يدنوان من وينا، وأعمى أحدهما النور حتى لقد ارتمى علي، فأحسست بعظامه تطحن من قوة اللكمة التي سددتها إليه، فشهق شهقة جزع، وتطرح قليلا ثم خر على الأرض. فأشعلت بعض الكافور وذهبت أجمع الحطب. ولاحظت أن الشجر جاف، فما نزل شيء من المطر مذ قدمت على آلة الزمان، فعدلت عن البحث عن الأعواد ورحت أثب وأنط وأشد الأغصان وأكسرها، فما لبثت أن أوقدت نارا ذات يحموم خانق، وصار في وسعي أن أدخر ما بقي معي من الكافور، ثم التفت إلى وينا وكانت راقدة إلى جانب حديدتي وحاولت أن أرد إليها نفسها ولكنها ظلت كالميتة، حتى لقد أعياني أن أتبين أنفاسها ألا تزال تتردد أم انقطعت.
وكان الدخان يميل علي، فثقل رأسي فجأة، وكانت رائحة الكافور في الجو أيضا، ولم تكن بالنار حاجة إلى تذكية أو تقوية قبل ساعة أو نحوها، وشعرت بالتعب، بعد الجهد الذي تجشمته، فقعدت على الأرض. وكان في الغابة همس منوم لم أفهمه. وخيل إلي أن رأسي خفق، ففتحت عيني، وكان الظلام شاملا، وأيدي السفليين علي، فدفعت أيديهم عني، ودسست كفي في جيبي طلبا لعلبة الكبريت، وإذا بها قد ذهبت! وارتد إلي السفليون وتناولوني وأطبقوا علي، فأدركت ما حدث. فقد نمت، وهمدت النار، فغمرت نفسي مرارة الموت. وكانت الغابة تسطع فيها رائحة الحطب المحروق، وأخذ السفليون بعنقي وشعري وذراعي، وجذبوني إلى الأرض، وكان من أبشع البشاعة في هذا الظلام أن أشعر بهؤلاء في بدني، وأحسست كأني في نسيج عنكبوت جبار، وغلبوني، فهويت إلى الأرض، وشعرت بأسنان دقيقة على عنقي فتمرغت، فلمست يدي قضيب الحديد، فقواني هذا، وجاهدت أن أنهض، وطرحت عني هذه الجرذان البشرية، وضربت بالقضيب في حيث قدرت أن تكون وجوههم. وكنت أشعر بانعصار اللحم وانطحان العظم تحت ضرباتي، فنجوت إلى حين.
وغمرتني النشوة التي يحدثها الكفاح الشديد. وكنت أعلم أني أنا ووينا مقضي علينا، ولكني آليت ليؤدين السفليون ثمن هذا اللحم، فأسندت ظهري إلى شجرة وذهبت ألوح بالقضيب أمامي، وكانت صيحاتهم وحركاتهم تملأ الغابة. ومضت دقيقة، ولكن أحدا منهم لم يقترب. فوقفت أحدق في الظلام، ثم تجدد الأمل فجأة. فلعل السفليين خائفون، وحدث شيء غريب في عقب هذا، فقد خيل إلي أن الظلام يشف وينجلي، وبدأت أرى، في غير وضوح، السفليين حولي - وكان ثلاثة منهم يدقون قدمي - ورأيت، وأنا في دهشة أن الباقين يجرون - في خط متصل غير منقطع - خارجين من ورائي وذاهبين في جوف الغابة أمامي، وصارت ظهورهم حمراء لا بيضاء. وبينما كنت واقفا وفمي فاغر رأيت شعلة صغيرة تخترق بين الأغصان وتختفي، فعرفت من أين جاءت رائحة الحطب المحترق، والصوت المنوم الذي صار الآن زئيرا ورعدا، والوهج الأحمر، وفرار السفليين.
وخرجت من تحت الشجرة ورددت البصر فرأيت من بين الأشجار القريبة لهيب الغابة المحترقة. هي ناري التي أوقدتها تتبعني إذن! وتلفت باحثا عن وينا، فلم أجدها. وكان زفير النار وكصيص العيدان ورائي، وفرقعة الشجر كلما اندلعت فيه النار، لا يدع لي وقتا للتفكير، فتبعت السفليين وفي يدي قضيب الحديد، وكان سباقا شديدا، وقد اندلعت النار مرة في الحشيش بسرعة على يميني وأنا أجري حتى لأخذت علي طريقي، فملت يسرة، ولكني خرجت أخيرا إلى فضاء، فرأيت واحدا من السفليين يتطرح ويمضي عني إلى النار!
وكتب علي أن أرى أفظع ما شهدت في ذلك العصر المستقبل. وكانت هذه البقعة كلها مضيئة كأننا في النهار بما ينعكس عليها من وقدة النار. وكان في الوسط كثيب تحيط به عضاة أذواها حر اللهب، ووراء ذلك جانب آخر من الغابة المحترقة يتصاعد منها أوار يحيط المكان بسور من الضرم. وكان على جانب التل ثلاثون أو أربعون من السفليين وقد أعماهم النور والحر، وهم يتخبطون من حيرتهم، ولم أفطن أول الأمر إلى عماهم فأهويت عليهم بالقضيب أضرب فيهم بلا رحمة، وبي فزع من اقترابهم مني، فقتلت واحدا وأقعدت كثيرين، ولكني لما لاحظت حركات واحد منهم وهو يتحسس تحت النبات، والسماء من فوقه متلظية، وسمعت أنينهم، أيقنت أنهم لا حول لهم ولا طول، فكففت عن ضربهم.
ولكن بعضهم كانوا من حين إلى حين يقبلون علي، فتسري في بدني رعدة من الاستبشاع فأتنحى عن طريقهم، وخفت حدة النار لحظة، فخفت أن يستطيع هؤلاء القذرون أن يروني، وحدثت نفسي أن أبدأ المعركة بقتل بعضهم قبل أن يتسنى لهم أن يهجموا علي، ولكن ألسنة النيران ارتفعت مرة أخرى، فرددت يدي عنهم، ورحت أمشي على التل وأجنبهم، وأبحث عن وينا، ولكن وينا ذهبت!
وأخيرا قعدت على ذروة الكثيب، ورحت أراقب هؤلاء العميان وهم يتخبطون، ويتلاغطون، في النورالذي أعشاهم، وكان الدخان المتلوي يرتفع إلى السماء، وكانت النجوم الصغيرة تومض من خلال هذا الستر الأحمر كأنها في عالم آخر. واندفع نحوي اثنان أو ثلاثة من السفليين فدفعتهم عني باللكمات، وأنا أنتفض.
وظللت طول تلك الليلة أعتقد أن هذا كابوس، فعضضت نفسي وصحت لأستيقظ. وضربت الأرض بيدي، ونهضت واقفا وقعدت، وذهبت هنا وهنا، ثم قعدت مرة أخرى، ثم فركت عيني ودعوت الله أن يوقظني. ورأيت السفليين ثلاث مرات، يحنون رءوسهم من الألم ويندفعون إلى النار، وأخيرا طلع النهار فوق اللظى الذي مال إلى الخمود، وكتل الدخان الأسود المتموجة، وبقايا الأشجار.
وبحثت مرة أخرى عن وينا، ولكني لم أعثر لها على أثر، وكان من الجلي أنهم تركوا المسكينة في الغابة، ولا أستطيع أن أصف لكم شعور الارتياح إلى أنها نجت من المصير الذي كان مقدورا لها، وكدت وأنا أفكر في هذا أنهض لتقتيل هؤلاء الأمساخ، ولكني كبحت نفسي، وكان الكثيب كالجزيرة في الغابة، وكنت أستطيع من قمته أن أرى قصر الصيني الأخضر من خلال سحب الدخان، وبهذا وسعني أن أعرف وجهتي إلى التمثال. وهكذا تركت بقية هؤلاء الملاعين يذهبون ويجيئون ويتأوهون ويأنون، في النهار المرتفع، وربطت شيئا من الحشيش على قدمي، وذهبت أظلع فوق الرماد وبين الأعواد السوداء التي كانت النار ما زالت تخفق في جوفها، إلى مخبأ آلة الزمان، وكنت أمشي على مهل فقد كنت منهوك القوة، وكنت أعرج أيضا، وكنت أشد ما أكون أسى على مصرع وينا، وبدا لي هذا كأنه كارثة. وأن الأمر ليبدو لي الآن في غرفتي المألوفة أشبه بأسى الحلم منه بالخسارة الحقيقية، ولكن موتها أورثني في ذلك الصباح وحشة شديدة، فرحت أفكر في بيتي هذا، وفي هذه النار التي ندفأ بها وفيكم، فصبوت إلى حياتي هذه صبوة كلها ألم.
ولكني اكتشفت شيئا، وأنا أمشي فوق الرماد تحت السماء الصافية، فقد وجدت في جيب البنطلون عيدان كبريت! فيظهر أن العلبة انكسرت قبل أن أفقدها. (13) معلاق
7
التمثال
حوالي الساعة الثامنة أو التاسعة صباحا، كنت على نفس المقعد المصنوع من المعدن الأصفر الذي أشرفت منه على العالم ليلة وصولي، فلم يسعني إلا أن أفكر فيما تسرعت بالذهاب إليه من الآراء في ذلك المساء، وإلا أن أضحك ضحكا كله مرارة وسخط، من ثقتي واغتراري. هنا نفس المنظر الجميل الذي صافح عيني ليلتئذ، والأرض المحوارة
8
المنورة، والقصور البديعة، والخرائب الرائعة، والنهر الفضي بين شاطئيه الخصيبين، والثياب الزاهية، على هؤلاء الأناسي اللطاف الحسان وهم يمشون بين الشجر. وكان بعضهم يستحم، في حيث أنقذت وينا من الغرق، وقد أورثتني هذه الذكرى شكة أليمة. وكانت القباب على أفواه الآبار إلى السراديب، كاللوثة على جمال الأرض. وتبدى لي، وأنا أراها، ما يحجبه جمال هذه الدنيا العلوية، وكان يوم هؤلاء العلويين سجسجا، كيوم الأنعام في مراعيها، وكانوا هم كالأنعام، لا يدرون أن لهم عداة، ولا يدبرون شيئا يقضون به حاجاتهم ويدفعون به المضرة عنهم، وما أظن مصيرهم إلا أنه كمصير الأنعام!
وأحزنني أن أفكر في قصر الحلم الذي حلم به العقل الإنساني، فقد انتحر؛ ذلك أنه ألح في طلب الرغد والراحة، واعتدل حال الجماعة في ظل الأمن والثبات. وقد بلغ ما اشتهى فكان مصيره هذا! ولا بد أن الحياة والمال كانا في وقت ما في أمان تام، فاطمأن أن الغنى إلى ما هو فيه من اليسر والنعيم، وسكن العامل المكدود إلى حياة العمل، ولا شك أنه لم يكن في ذلك العالم الفاضل مشاكل للبطالة وما إليها من المعضلات الاجتماعية، فساد السكون.
ومن سنن الطبيعة التي نغضي عنها أن خصب العقل هو جزاء التغير والخطر والمشقة، والحيوان الذي يكون على حال من المطابقة التامة لبيئته يعود آلة ليس إلا، والطبيعة لا تبعث العقل وتوقظه إلا إذا صارت العادة والغريزة عديمتي الجدوى. ولن تجد ذكاء حيث لا تغير ولا حاجة إلى التغير، وما يفيد الذكاء إلا علاج الحاجات والمخاطر المتنوعة.
وهكذا - كما بدا لي - دلف الإنسان العلوي إلى الجمال الضعيف، والإنسان السفلي إلى العمل الآلي. ولكن هذه الدنيا الكاملة أعوزها شيء واحد لتبلغ حالتها الآلية الكمال - أعني الثبات والدوام - والظاهر أنه على مر الأيام، اضطرب إحساس العالم السفلي، وعادت الضرورة تفعل فعلها بعد احتجابها بضعة آلاف من السنين، ولما كان العالم السفلي محتكا بالآلات التي تحوج مهما بلغ من كمالها إلى شيء من التفكير خارج نطاق العادة، فقد احتفظ بحظ من الاقتدار والجرأة، دون العالم العلوي، ولما أعوزه لحم الحيوان طلب ما كانت العادة القديمة تحرمه، هذا ما بدا لي، وأنا أودع العالم الذي سيقوم في سنة 701-802، وعسى أن أكون قد ركبت من الخطأ والشطط شر ما يركب، ولكن هذه هي الصورة التي طالعتني، وها أنا ذا أنقلها إليكم كما رأيتها.
وكان هذا المقعد، والسكينة والدفء من أمتع ما نعمت به، بعد المشقات والمثيرات والمفزعات التي كابدتها في الأيام الأخيرة. وكنت مكدودا، وكان النعاس يغالبني، فأغفيت، ثم انطرحت على العشب ونمت نوما طويلا منعشا.
واستيقظت قبل المغرب بقليل، وكنت أشعر أني في أمان من السفليين وأنا راقد، فتمطيت، وانحدرت عن التل إلى التمثال الأبيض، وكان قضيب الحديد في يدي، ويدي الأخرى في جيبي تعبث بعيدان الكبريت.
ولما دنوت من قاعدة التمثال لم يرعني إلا أن أرى الألواح البرونزية مفتوحة! فقد نزلت في مجار لها.
رأيت ذلك فوقفت مترددا محجما عن الدخول.
وكان في جوف القاعدة غرفة صغيرة، وفي ركن منها على ارتفاع قليل آلة الزمان. وكان معي، في جيبي، الرافعتان، فبعد كل ما اتخذته من الأهبة والعدة لمحاصرة التمثال الأبيض واقتحامه يجيء هذا الاستسلام! فرميت القضيب وأنا آسف لأني لم أستعمله. وطاف برأسي خاطر مباغت وأنا أنحني لأدخل، فقد أدركت على الأقل أسلوب التفكير الذي يجري عليه هؤلاء السفليون. وغالبني الضحك ولكني كتمته ودخلت من الفتحة إلى حيث آلة الزمان، فأدهشني أني وجدتها مزينة منظفة! وقد كبر في ظني بعد ذلك أن السفليين فكوا بعض أجزائها وهم يحاولون أن يعرفوا ما هي وما الغرض منها.
وبينما كنت واقفا أفحص الآلة، وأنعم بلمسها بمجردها، حدث ما توقعت أن يحدث، وصعدت الألواح فجأة واستوت في إطارها ووقعت، فيما توهم السفليون، في الفخ، فضحكت مسرورا.
وسمعت همهمات ضحكهم وهم يقبلون علي، فحاولت أن أشعل عود كبريت، ولم يكن علي إلا أن أضع الرافعتين في مكانهما ثم أختفي كالشبح؟ ولكني غفلت عن أمر، ذلك أن الكبريت كان من النوع البغيض الذي لا يشعله إلا الاحتكاك بطبته!
وفي وسعكم أن تتصوروا كيف عصف ذلك بسكينتي. وكان هؤلاء الوحوش الصغار قد دنوا مني، ولمسني أحدهم فأهويت عليهم في الظلام بالرافعتين، وشعرت أمتطي سرج الآلة. وامتدت إلي يد أخرى ثم ثالثة ورابعة . واضطررت أن أدافعهم لأقصي أصابعهم الملحة، عن الرافعتين، وأتحسس في الوقت ذاته مكانهما لأثبتهما، وكادوا ينزعون مني إحداهما. وأحسست بها تخرج من يدي فدفعت رأسي في الظلام لاستردادها، فسمعت صوت جمجمة ترن من صدمة رأسي بها. وكانت هذه المعركة شرا من التي دارت في الغابة، ولكني ثبت الرافعة، وجذبتها، فذهبت عني الأيدي المتعلقة بي، وانتسخ الظلام، وألفيت نفسي في الضوء الخافت الذي أسلفت وصفه. (14) امتداد البصر
وقد حدثتكم من قبل عما يعاني المطوف في الزمن من الدوار والاضطراب، وكنت في هذه المرة غير مستقر في سرجي، فلبثت زمنا متشبثا بالآلة وهي تترنح وتهتز، وكنت لا أبالي كيف أذهب، فلما ألقيت نظرة على العدادات أذهلني ما وصلت إليه. وكان أحدها يعد الأيام والثاني يعد آلافها، والثالث يعد ملايينها، والرابع يعد آلاف الملايين. وكنت بدلا من دفع الرافعتين وضغطهما قد جذبتهما لأمضي في المستقبل، فلما نظرت إلى هذه العقارب المشيرة وجدت عقرب الآلاف يدور بمثل السرعة التي يدور بها عقرب الثواني على وجه الساعة - في المستقبل - وبينما كنت أمضي تغير وجه الأشياء، تحول الطفل إلى غشاش فعتمة، وكنت ماضيا بسرعة عظيمة، فرأيت الليل والنهار يتعاقبان، وهذا دليل البطء، وقد صار هذا أوضح، فتعجبت أول الأمر، فقد صار توالي الليل والنهار أبطأ فأبطأ، وكذلك اجتياز الشمس قبة السماء حتى لخيل إلي أن مسافة الزمن تمتد حتى لتصبح قرونا، وأخيرا لفت الأرض في سواد شامل لا يضيء فيه إلا ما يتهاوى من الشهب، فقد غاب واختفى ذلك الطوق المنير الذي كان يدل على الشمس، لأن الشمس كفت عن المغيب، وأصبحت تطلع وتغرب في الغرب، وتزداد إلى هذا جرما وتوهجا، وامحى كل أثر للقمر، وحلت نقط من الضوء محل الكواكب الدوارة التي ازدادت بطأ في سيرها، وقبل أن أقف، وقفت الشمس في الأفق، وكانت قبة عظيمة من نار كابية، يعتريها الهمود لحظة من حين إلى حين، وقد عادت مرة فتلظت جمرتها، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى سكونها، وأدركت من هذا البطء في الطلوع والغروب أن الزمان قد فعل فعله، وكانت الأرض قد صارت بأحد وجهيها إلى الشمس، كما يواجه القمر في زماننا، الأرض، فشرعت، بحذر شديد - فما نسيت وقعتي السابقة - أعكس اتجاهي، وأتحول عنه، فصارت العقارب الدائرة أبطأ فأبطأ، حتى بدا عقرب الآلاف كالثابت، ولم يعد عقرب اليوم كالضباب على وجه العداد، وزاد البطء حتى وضح لعيني ساحل مهجور.
فوقفت برفق، واعتدلت في سرجي، وأدرت عيني حولي، فرأيت السماء قد زايلتها زرقتها، وغدا الأفق الشرقي أسود كالحبر، وكانت النجوم الباهتة تومض فيه، أما ما فوقي من قبة السماء فكان أحمر ولا نجوم فيه، وأما جنوبا بشرق فكان الوهر يزداد حيث دارة الشمس حمراء لا حراك بها، وكانت الصخور التي حولي حمراء وفيها وعورة، وكل ما رأيته من مظاهر الحياة هو نضارة الخضرة التي تكسو كل بارز على وجه الأرض في هذه الناحية.
وكانت الآلة واقفة على ساحل مائل، والبحر يمتد جنوبا بغرب ويرتفع عند الأفق في رأي العين، فيختلط بالسماء الشاحبة، ولم تكن فيه أمواج تعتلج، فقد كان الهواء راكدا، لولا رائحة زيتية تجيء وتروح كالنفس المتردد، لما أدرك الإنسان أن البحر لا يزال حيا يتحرك، وعلى الساحل حيث تتكسر المياه أحيانا، طبقة سميكة من الملح تبدو قرمزية تحت السماء المصفرة. وكنت أحس برأسي مثقلا، وأنفاسي سريعة، فأذكرني ذلك المرة الوحيدة التي جربت فيها التوقل في الجبال، وعرفت من هذا أن الهواء أصفى مما هو الآن.
وسمعت صرخة من فوق المرتفع، ورأيت شيئا كأنه فراشة عظيمة تخفق وتذهب صاعدة في الهواء، وتدور وتغيب وراء بعض الكثبان، وقد سرت لصوتها رعدة في بدني، فاعتدلت في سرجي على الآلة، وأدرت عيني فإذا الذي حسبته كتلة من الصخر الأحمر يتحرك ببطء ويدلف نحوي، وتبينت أنه مخلوق هائل يشبه سرطان الماء. وتصوروا سرطانا في مثل حجم هذه المائدة، وأيديه العديدة تتحرك ببطء واضطراب، وأظافره العظيمة تضطرب، ومجساته الطويلة كالسياط تهتز وتتحسس، وعيناه تلمعان وهما تحدجانك على جانبي وجهه المعدني! وكان ظهره مغضنا ومحلى بعقد كثيرة، وعليه في مواضع شتى طبقات خضراء، وكنت أرى ألسنته العديدة وفمه المعقد، وهو يتحسس ويجس إذ يتحرك.
وبينما كنت أنظر إلى هذا الوحش الزاحف نحوي شعرت بشيء على خدي كأنما حطت عليه ذبابة، فذبيتها عني بيدي، ولكنها عادت، وعاد غيرها أيضا، قريبا من أذني، فأهويت عليها بيدي، فعلق بها شيء كالخيط، ولكنها انتزعت من يدي، فالتفت مذعورا، فعلمت أني إنما أمسكت جساسة سرطان آخر ورائي، وكانت عيناه البشعتان تهتزان على جذعيهما، وفمه يتحلب علي، وأظافره العظيمة الملوثة تهبط علي، فأسرعت إلى الرافعة أضغطها، وجعلت بيني وبين هذه الوحوش مسافة شهر، ولكني كنت ما زلت على هذا الشاطئ، فلما وقفت كنت أراهما كأوضح ما يكونان، وكانت عشرات منها تزحف هنا وهنا في الضوء الخافت بين النبات المتوشج.
ولست أستطيع أن أنقل إليكم الإحساس بما كان يغمر الدنيا من وحشة ودروس، فهذا الأفق الشرقي المتوهج، والعتمة الشمالية، والبحر الملح الميت، والشاطئ الصخري الحافل بهذه الزواحف القذرة البطيئة، وهذه الخضرة السامة - في رأي العين - لنبات البحر، والهواء الرقيق الذي يتعب الرئتين ويؤذيهما، كل أولئك كان وقعه مروعا. وقد قطعت مائة عام فلم يتغير المنظر، وبقيت الشمس الحمراء - وكانت أكبر بقليل، وأدنى إلى الهمود - والبحر الميت، والهواء الرقيق والزواحف بين الأعشاب والصخور الحمراء، ورأيت في الغرب خطا متقوسا باهتا كأنه قمر جديد كبير.
وهكذا ظللت أرحل وأقف، بعد فترات تبلغ ألف عام وزيادة، ومصير العالم يجتذبني، وأرقب الشمس تكبر وتخمد، وحياة هذه الأرض العتيقة تنضب، وأخيرا - بعد أكثر من ثلاثين مليونا من السنين - صار قرص الشمس الكبير الأحمر يحجب نحو عشر السماء المظلمة، فوقفت مرة أخرى، فقد غابت الزواحف وصار الشاطئ الأحمر، فيما خلا نباته، لا حياة فيه، وبدت فيه نقط بيضاء، وأصابني برد قارس، وكانت رقائق بيض تتساقط من حين إلى حين، وكان الثلج في الشمال الشرقي يلمع تحت ضوء النجوم الخفاقة في السماء السوداء، وقد رأيت هضبة متموجة بيضاء قرمزية، وكان على شاطئ البحر هوامش من الثلج، أما عباب هذا البحر الملح المخضب بالغروب الأبدي فلم يتجمد بعد.
وتلفت باحثا عن أثر لحياة الحيوان، وكانت بقية من الحذار تلزمني البقاء في سرجي، ولكني لم أر شيئا يتحرك على الأرض ولا في السماء أو البحر، وكان الطحلب على الصخور هو كل ما يدل على أن للحياة بقية لم تندثر، ورأيت كثيبا ناتئا من البحر الذي انحسر عنه، وخيل إلي أني أرى شيئا أسود يتحرك عليه، ولكنه جمد لما نظرت إليه، فاعتقدت أن عيني خدعتني وأن هذا الجرم الأسود صخرة، وكانت نجوم السماء ناصعة الضوء، ولكن ضوءها فيما بدا لي لم يكن خفاق اللمعان.
ورأيت فجأة أن نطاق الشمس الغربي تغير، وأن فجوة ظهرت في قوسه، وأخذت تزداد وتتسع، فحملقت مذهولا من هذا السواد الذي يزحف على النهار، ثم أدركت أن الشمس تدخل في الكسوف، وأن القمر أو المشتري يمر أمام قرص الشمس، وكان طبيعيا أن أحسبه القمر، في أول الأمر، ولكن هناك ما يحملني على الاعتقاد بأن كوكبا آخر كان يمر على مقربة من الأرض.
وأخذ الظلام يشتد، وهبت ريح صرصر من الشرق، وكثرت الثلوج في الجو، وارتفعت من ناحية البحر همسة وحركة، وكانت الدنيا فيما خلا ذلك ساكنة. أأقول ساكنة؟ إن من العسير أن أصور لكم سكونها ووقعه، فما بقي شيء من أصوات الإنسان والحيوان والطير والحشرات والهوام، أو من الحركة المألوفة في حياتنا، وجعل الثلج المتساقط يزداد مع الظلام، ويأتي من كل أوب، واشتد البرد وهرأني واختفت أخيرا القمم البيضاء للتلال النائية، ولفها الليل في سواده، وصارت الرياح تنوح وتهجهج، ورأيت غبرة الكسوف تدنو مني، ولم يبق ما يرى غير النجوم الشواحب، واحلولكت السماء فما يلمع فيها شعاع واحد.
وثقلت على نفسي وطأة الظلام الكثيف، واشتد علي البرد وقف منه جلدي، وتعذر التنفس فانتفضت، وعانيت من ذلك كربا شديدا، ثم ظهر قوس الشمس، فنزلت عن السرج حتى تثوب نفسي إلي، فقد كان رأسي يدور وكنت أحس أني غير قادر على رحلة الإياب، ورأيت وأنا واقف ذلك الشيء الذي لاحظت حركته على الشاطئ، ولم يبق عندي شك في أنه جرم يتحرك، فقد كان احمرار الماء يبدي حركته. وكان كالكرة وفي حجمها، أو أكبر، وله خيوط تمتد منه وتذهب في الأرض، وكان أسود اللون بالقياس إلى لون الماء المضطرم، وكان ينط، فشعرت بالإغماء، ولكن الفزع من الارتماء هنا بلا حيلة ولا حول في هذا الغسق البعيد الفظيع قواني، فامتطيت الآلة وقعدت على السرج. (15) أوبة الرحالة
وهكذا عدت. وأحسب أني فقدت وعيي زمنا طويلا. وقد عاد الليل والنهار يخطفان وهما يتعاقبان، وارتد إلى الشمس وهجها الذهبي، وإلى السماء زرقتها، وخلصت أنفاسي، وصارت معارف الأرض في مد وجزر، وراحت عقارب العدادات ترجع، وبدت لي في غموض صور المساكن ودلائل انحطاط الإنسانية. ثم تغيرت هذه المناظر أيضا وولت. ولما بلغ عداد الملايين الصفر قللت السرعة وبدأت أرى مبانينا الصغيرة المألوفة، ورجع عقرب الآلاف إلى المبتدأ فصار تعاقب الليل والنهار أبطأ فأبطأ، ثم أحاطت بي جدران المعمل، فخفضت حركة الآلة برفق.
ورأيت شيئا استغربته. وأذكر أني قلت لكم إني لما بدأت رحلتي، وقبل أن تعظم سرعتي، رأيت السيدة «واتشيت» تقطع الغرفة كالشهاب، فلما عدت اجتزت الدقيقة التي كانت تقطع فيها المعمل مرة أخرى. ولكنه خيل إلي الآن أن كل حركة لها نقيض حركاتها السابقة، فقد انفتح الباب، وانسابت منه في المعمل، مرتدة بظهرها واختفت من الباب الذي رأيتها تدخل منه. وقبل ذلك خيل إلي أني أرى «هيليار» ولكنه كان كومض البرق.
ثم وقفت الآلة، ورأيت حولي مرة أخرى معملي القديم المألوف، وآلاتي ومعداتي كما تركتها، فترجلت عن السرج خائر القوى، وقعدت على دكتي، وظللت عدة دقائق أرعد وأنتفض، ثم هدأت، ونظرت فرأيت حولي معملي كعهدي به، وكأني كنت قائما وكأنما كل ما بدا لي لم يكن سوى حلم.
ولكن لا! لقد بدأت رحلتي وكانت الآلة في الجنوب الغربي من المعمل، وهي الآن قائمة في الشمال الغربي، إلى جانب الحائط حيث رأيتموها. وهذه هي المسافة من الممشى إلى قاعدة التمثال حيث خبأ السفليون آلتي.
وركد ذهني لحظة، ثم نهضت وقطعت الدهليز إلى هنا، وكنت أظلع لأن قدمي تؤلمني، وقد رأيت جريدة «البول مول غازيت» على المنضدة بجانب الباب، وألفيت تاريخها هو تاريخ اليوم، فصعدت عيني إلى الساعة فوجدتها الثامنة تقريبا. وسمعت أصواتكم وأنتم تأكلون، فترددت، فقد كنت مضنى. ثم شممت رائحة اللحم الشهي ففتحت عليكم الباب. والباقي تعرفونه. اغتسلت، وأكلت، وقصصت عليكم القصة.» (16) بعد القصة
وقال بعد لحظة صمت: «إني أعلم أن هذا كله لا يحتمل التصديق. ولكن الشيء الوحيد الذي لا أكاد أصدقه أنا هو أني هنا في هذه الليلة، في هذه الغرفة القديمة المعهودة، أنظر إلى وجوه أصدقائي وأقص عليهم غرائب ما وقع لي.» ونظر إلى رجل الطب وقال: «كلا! لست أتوقع منك أن تصدق. فاعتبر الحكاية من الخيال، أو عدها نبوءة. أو قل إني حلمت بها في المعمل، أو ازعم أني كنت أفكر في مصائر جنسنا حتى تجسدت لي هذه الأسطورة، وقل إن تأكيدي صحتها أسلوب فني لزيادة قيمتها ووقعها، فعلى اعتبار أنها قصة، ما رأيك فيها؟»
وتناول بيبته، وشرع على عادته ينقر بها نقرا مضطربا على قضبان الموقد، وكانت فترة صمت، ثم بدأت الكراسي تتحرك، والأقدام تمسح السجادة، فحولت عيني عن الرحالة في الزمن إلى السامعين، وكانوا في الظلام وكان رجل الطب يتأمل مضيفنا وقد استغرقه ذلك. والمحرر يحدق في عقب سيجارته - السادسة - والصحفي ينشد ساعته، أما الباقون فكانوا - على ما أذكر - بلا حراك.
ونهض المحرر واقفا وهو يتنهد وقال: «ليتك كنت كاتب قصص!» وأراح يده على كتف الرحالة في الزمن. - «ألا تصدق؟» - «إن ...» - «ظاهر.»
والتفت إلينا الرحالة وقال: «أين الكبريت؟» وأشعل عودا وقال وهو يدني البيبة من شفتيه: «الحق أقول إني أنا لا أكاد أصدق ... ومع ذلك ...»
وصوب عينيه في صمت، إلى الأزاهير الذابلة على المنضدة، ثم بسط يده التي فيها البيبة، فرأيته ينظر إلى جروح على عقل أصابعه لم يتم التئامها.
ونهض رجل الطب، ودنا من المصباح، وفحص الأزاهير وقال: إن بعضها غريب، فانحنى النفساني لينظر، وهو يمد يده طالبا واحدة منها.
وقال الصحفي: «لقد صارت الساعة الأولى إلا ربعا. فكيف نذهب إلى بيوتنا؟»
فقال النفساني: «المركبات كثيرة عند المحطة.»
وقال رجل الطب: «غريب! ولكني لا أعرف الترتيب الطبيعي لهذه الأزهار، فهل تسمح لي بها؟»
فتردد الرحالة في الزمن ثم قال فجأة. - «كلا!»
فسأله رجل الطب: «من أين جئت بها؟»
فرفع الرحالة يده إلى رأسه، وقال وكأنه يحاول أن يمسك فكرة تحاوره وتتفلت منه: «لقد وضعتها وينا في جيبي لما رحلت إلى المستقبل» وأدار عينه في الغرفة، وقال: «أرى كل شيء يتسرب من ذهني ... هذه الغرفة ... وأنتم ... والجو العادي ... أكثر مما تحتمل ذاكرتي ... أحق أني صنعت آلة للزمان؟ أو نموذجا لآلة زمان؟ أم ترى كل هذا حلم ليس إلا؟ يقولون إن الحياة حلم - حلم سقيم في بعض الأحيان - ولكني لا أقوى على حلم آخر لا يستقيم مع سواه. جنون! ومن أين جاء هذا الحلم؟ يجب أن أرى هذه الآلة ... إذا كان هناك آلة ...!»
ورفع المصباح بسرعة وحمله وخرج به من الباب إلى الدهليز، ونحن في أثره، فإذا الآلة تطالعنا في ضوء المصباح المضطرب، وهي رابضة ماثلة دميمة المنظر، وكلها صلب وعاج وأبنوس وحجر لماع شفاف، ولكنها متينة فقد لمحتها، وعليها أقذار، وعلى عاجها لوثات، وقد علق بأسافلها بعض الحشائش، وأحد قضبانها ملتو.
ووضع الرحالة المصباح على الدكة وأمر يده على القضيب المعوج وقال: - «الآن أيقنت أن القصة التي رويتها لكم صحيحة، وإني لآسف لتعريضكم هنا للبرد.»
وتناول المصباح، وعدنا في صمت تام إلى غرفة التدخين. وخرج معنا إلى الردهة وساعد المحرر على ارتداء معطفه ونظر إليه رجل الطب نظرة المتردد، وقال له: إن الإفراط في العمل أرهق أعصابه، فضحك. وما زلت أراه بعين الذاكرة واقفا بالباب يودعنا ويتمنى لنا ليلة طيبة.
وركبت مع المحرر الذي قال لي إن القصة «أكذوبة منمقة» أما أنا فلم أستطع أن أستقر على رأي في الأمر، فقد كانت القصة غير قابلة للتصديق لفرط غرابتها، ولكن أسلوبه في روايتها معقول ورزين متزن، وقد أرقت أكثر الليل من جهد التفكير فيها، فعزمت أن أزور الرحالة في اليوم التالي، فقيل لي، لما زرته، إنه في المعمل، ولما كنت من الأصدقاء فقد صعدت إليه فوجدت المعمل خاليا، فحدقت هنيهة في آلة الزمان، ومددت يدي فلمست الرافعة، فترنحت هذه الكتلة المتينة ترنح العود عصفت به الرياح، فأفزعني اضطرابها وتذكرت ما كانوا ينهونني عنه في طفولتي من الدخول فيما لا يعنيني. وخرجت من الدهليز فالتقيت بالرحالة في غرفة التدخين، وكانت معه آلة تصوير صغيرة وحقيبة، فضحك لما رآني، وأدنى مني كتفه على سبيل التحية، وقال: «إني مشغول جدا بهذه الآلة.»
فسألته: «أليست إذن خدعة؟ أتراك حقيقة تطوف في الزمن؟»
فقال: «نعم، حقا وصدقا.» ورماني بنظرة صريحة، ثم تردد، ودارت عينه في الغرفة، وقال: «إن بي حاجة إلى نصف ساعة. وأنا أعرف ما جاء بك وأشكرك وهناك بعض المجلات، فإذا بقيت للغداء، فإني أستطيع أن أثبت لك أن الطواف في الزمن حقيقة - بالنماذج وما إليها - فهل تأذن لي في الانصراف عنك الآن؟»
فقبلت، وأنا لا أكاد أدرك ما تنطوي عليه كلماته من المعاني، وهز رأسه ومشى في الدهليز. وسمعت باب المعمل يغلق، فقعدت على كرسي وتناولت صحيفة يومية، ترى ماذا عساه يريد أن يصنع قبل الغداء؟ ثم تذكرت فجأة أني وعدت أن أقابل ريتشاردسون الناشر في الساعة الثانية، فنظرت في ساعتي فوجدت أن الوقت أزف، فنهضت ومشيت في الدهليز لأعتذر للرحالة.
ولما تناولت يد الباب سمعت صوتا، وحركة ودبة، ومرت بي نسمة من الهواء وأنا أفتح الباب وسمعت من داخل الحجرة صوت تكسر الزجاج على الأرض، ولم أجد الرحالة. وخيل إلي أني أرى شبحا غامضا في كتلة دائرة من السواد والبياض، وكان هذا الشبح شفافا حتى لكنت أرى الدكة وما عليها من خلاله بوضوح ولكن هذا الشبح غاب لما فركت عيني، واختفت الآلة، ولم يبق في هذه الناحية من المعمل سوى التراب الذي يستقر.
وأذهلني ذلك، وكنت أدرك أن شيئا عجيبا قد حدث، ولكن ما هو؟ لا أدري! وإني لواقف أحدق إذ فتح الباب ودخل الخادم.
فتبادلنا النظرات، ثم بدأت الخواطر تجري ببالي فسألته: «هل خرج المستر من هنا؟»
قال: «لا يا سيدي. لم يخرج أحد من هذه الناحية، وقد كنت أتوقع أن أجده هنا.»
ففهمت، وخاطرت بإغضاب ريتشاردسون، وبقيت انتظارا لعودة الرحالة ولقصته الثانية التي لعلها تكون أغرب، ولما عسى أن يعود به من النماذج والصور. ولكني بدأت أعتقد أني سأضطر إلا الانتظار عمرا كاملا، فقد ذهب الرحالة في الزمن منذ ثلاث سنوات، وكل إنسان يعرف الآن، أنه لم يعد.
الخاتمة
لا يسع الإنسان إلا أن يتساءل: أتراه يعود يوما ما؟ وعسى أن يكون قد كر راجعا إلى الماضي، فوقع على أهل العصر الحجري، المستوحشين شاربي الدماء، أو في أعماق بحر الكلس، أو بين الزواحف المهولة أو ... أو ... أم تراه قد مضى إلى المستقبل، واختار عصورا أقرب إلينا وأدنى منا، عصورا سيظل الرجال فيها رجالا ولكنهم يكونون قد حلوا ألغاز زماننا ومعضلاتنا المضنية؟ أي إلى عصر الرجولة المكتملة في الجنس الإنساني؟ فما أعتقد أن هذه الأيام الأخيرة - أيام التجارب الضعيفة، والنظريات الجزئية، والخلاف المتبادل هي غاية ما يصل إليه الإنسان - أقول فيما أعتقد أنا. أما هو فإني أعرف - فقد تجادلنا في هذا قبل أن يصنع آلة الزمان - أنه لم يكن عظيم التفاؤل بتقدم الإنسان، وكان يرى في تضخم كوم المدنية تكدسا سخيفا ينتهي بأن يقع على الرءوس ويحطمها ويسحقها. فإذا كان هذا هكذا، فإن علينا أن نحيا كأن الأمر ليس كذلك، ولكن المستقبل فيما أرى لا يزال أسود وفارغا، جهل عظيم تلطفه في بعض المواضع ذكرى قصته. وإلى جانبي، للتعزي والتأسي، زهرتان غريبتان - وقد ذبلتا - تشهدان بأنه حتى بعد أن يزول العقل وتذهب القوة، يبقى العرفان والرقة في قلب الإنسان.
هوامش
Halaman tidak diketahui