1
حتى ليخيل للقارئ أنه لم يطلبها ولم يتعمدها، وإنما هي التي سقطت إلى الطرس من عفو القدر!
ومن هذه الأخطار الذهاب بملكة الوزن والتقدير، ووضع كل شيء في نصابه، ومكافأته على قدر ما يخرج من حسابه، فإن الثائر المهتاج لا يصلح لتقدير شيء، ولا يصح حكمه على شيء، ومن هنا يتبين كيف تسيء هذه الحال إلى كثير من قضايا العلوم والآداب والفنون، كما تسيء إلى غيرها من الأسباب الدائرة بين الناس!
ومن هذه الأخطار أننا أصبحنا لا نشرع القلم إلا إذا كنا غضابا، فإذا أعوزنا الغضب زررنا على أعصابنا، وتكلفنا إرهافها وإذكاءها لنعتصر آخر ما فيها من جهد، وتصول بكل ما تملك من سطوة، وهذا إلى أنه مما يخبث من نفس الكاتب والقارئ بطول التكرار والمعاودة، فإنه مما يهد منهما، ويسرع بالاختلال إلى أعصابهما جميعا!
وبعد، فإنه إذا كانت الغاية من ذلك الإرهاف والإعناف شدة التأثير في نفس القارئ والسطوة بكل مشاعره، فإن ذلك قد يأخذ فيه أول الأمر هذا المأخذ ويبلغ منه غاية المدى، على أنه بعد ذلك لا يزال - بحكم التكرار وطول المراجعة - يعتاده ويتألفه، حتى إذا تطاول الزمن تبلد على ذلك العنف حسه، فلا يثير فيه كامنا، ولا يحرك منه ساكنا، فيصبح مثله مثل من تصفى بعض المخدرات في مبتدأ الأمر نفسه، وتذكى حسه، وتحضر ذهنه، وتطير فكره وخياله كل مطير، ثم ما يزال يتخاذل هذا الأثر عنه ويتزايل فيه حتى يتفقد حاله المعتادة وطبيعته المفطورة، فلا يجد بعضها إلا في هذا الذي تعود، ولقد يدركه العجز كله مع هذا فلا يعود يجد من أصل طبيعته ومفطور قوته شيئا ألبتة!
أفرأيت كيف تجني الحدة حتى على نفسها وعلى الغاية التي تحمد هي فيها؟
ثم إنك لقد تظفر بإسالة الشئون، وتقريح الجفون، وتكريش الجلود، وتصديع الكبود، حين تشهد الناس طفلا فرق الترام أجزاءه، أو شابا هوى في النيل بعروسه، أو عجوزا فقدت ولدها وحيدها بعد مصرع زوجها، أو بنية حافلة بالسكان تستعر فيها النار ولا يجد من فيها من الشيخة والطفل الصغار مهربا، وغير ذلك مما يقع كل يوم من ويلات الدنيا وأرزائها.
تستطيع أنت وأستطيع أنا ويستطيع كل إنسان أن يبلغ هذا بهذا، ولكن أي فن فيه؟ وأية كفاية لا يبلغ إلا بها؟ اللهم إن كان مثل هذا الضرب مما يحتاج إلى الموهبة والإصابة ، فكل الناس فيهما بمنزلة سواء! وهيهات بعد ذلك التفريق بين الكاتبين في المقدار، ولا يذهب عنك في هذا الباب أن أجود الطعام وأردأه يستويان ما أهلت الملح أو غمرت في الخردل ونحوه من الحريفات! •••
فإلى شباب المتأدبين أوجه هذه الكلمة «العصبية»، وأرجو أن ينعموا النظر فيها، فإذا صحت عندهم راضوا النفوس على الوداعة والتطامن، والرجوع إلى الطبع، ومن البلية أن يرتاض المرء ليعود إلى طبعه ويرجع إلى أصل فطرته، فقد قالوا: إن العادة طبيعة ثانية، وإنما توجهت بهذا الخطاب إلى الشباب لأنهم عتاد الحاضر وهم ذخيرة المستقبل ، وهم الأقدرون على منازعة العادة، والله يهدينا ويهديهم إلى سواء السبيل.
رسالة الأدب!
Halaman tidak diketahui