واقفا ما ضر لو كان جلس؟!
تصف الربع ومن كان به
مثل سلمى ولبينى وخنس
اترك الربع وسلمى جانبا
واصطبح كرخية مثل القبس
وله في هذا الباب شيء كثير .
وبعد فإن الحياة متحركة غير جامدة، والشعر لا يعدو أن يكون وصفا لأمر واقع، أو خيالا ملفقا من أمر واقع، أو إحساسا يستمد كل أسبابه من الأمر الواقع، فلم يكن في طوق الشعر أن يعشى عن كل هذه الحضارة الواسعة التي تبسطت فيها دولتا بني أمية وبني العباس، وأن يظل حبسا على ما جال فيه شعراء الجاهلية، على ما أسلفته عليك، بل لقد مشى الشعر طلقا مع الحياة، فتناول كل ما أخرجته الحضارة، فافتن في وصف القصور ورياشها وآنيتها، وجواري البحر ووصف هواديها وقوادمها، وأزهار الروض وأنواره، ولكم جال في وصف الخمر والطرد، وقال حتى قال في العلم نفسه، وتناول من ألوان المعاني والترجمة عن فنون الأحساس ما جاشت به كل تلك الأسباب.
الواقع أن حياة الدولة العربية تطورت فتطورت معها لغتها وأدبها وشعرها أيضا، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل، إلا أنها على عظم هذا التطور لم تتنكر لهجاتها ولا نشزت عليها أساليبها، بل ظلت على الدهر عربية لها كل مشخصات لغة العرب ومميزات حياتها، وكان شأنها في هذا شأن جميع الكائنات الحية، تزيد بما يدخل عليها من جديد، وتنقص بما يخرج عنها من قديم، إلا أنها تظل بكلها هي هي، لأن هيكلها وصفتها العامة ومقومات حياتها الخاصة ما زالت هي هي.
ولقد خرجت الدولة العربية من بداوة مطلقة إلى حضارة مطلقة، وتبدلت في كل شيء عيشا بعيش، فدارجتها لغتها البدوية، وواتت حضارتها العريضة بكل مطالبها في غير رجة ولا مطاولة ولا عنف، والفضل في ذلك يرجع إلى قوة اللغة وسعتها، وإلى حرص أصحاب اللسان وشعرائهم، على وجه خاص، على أن يشاكلوا العرب في منطقهم ولهجاتهم ومنازع كلامهم، وإذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام، وسنعرض لهذا المعنى في كلامنا عن الجديد إن شاء الله.
ولقد ظل الشعراء دهرا طويلا، على تقلبهم في فنون الحضارة، وافتنانهم في ذكر أسبابها، ووصفهم لمناعمها، وهتافهم بما جل ودق من مستحدثاتها، يجولون بالشعر أيضا مجال أهل البادية في أسلوب عيشهم وسائر أسبابهم، ولقد يكون هذا ضربا من التكلف كما ذكرت لك، ولكن الذي لم يدخله التكلف ولم تلحقه الصنعة أن هؤلاء الشعراء من المحدثين إنما كانوا يتصورون، بوجه عام، كما كان يتصور العرب، ويذوقون مذاقهم، وينزعون في مذاهب النظر والحس منازعهم، وليس هذا بعجيب لأنهم أبناؤهم ومواليهم، وأبناء جيرتهم، الناشئون في دولتهم، ولهذا ترى أن الذوق الشعري العام واحد في العهدين؛ وإن اختلف فيهما بالصنعة وإرسال الطبع، وبخشونة عيش البداوة وضيق مجاله، واتساع حياة الحضارة ولين أسبابها.
Halaman tidak diketahui