في الأدب بين القديم والجديد1
لقد كان يتداخلني العجب كلما رأيت أن المتقدمين من أهل العلم والأدب إجماع على تقديم شعراء الجاهلية عامة على الشعراء المولدين عامة، ولم يقع لي فيما طالعته من كتب الأدب ونقد الشعر والموازنة بين الشعراء، مفاضلة بين شاعرين أحدهما جاهلي والآخر مولد، إنما تعقد الموازنة بين شاعرين وقعا في الجاهلية أو بين شاعرين نجما في الإسلام، ولقد يعود هذا إلى الإيمان بأن من حق شعر العرب أن يرتفع عن أن يقايس بشعر غيرهم من المولدين.
ولقد قرأت شعر امرئ القيس والنابغة والأعشى ومن إليهم من المتقدمين، وقرأت شعر بشار وأبي نواس والبحتري ومن إليهم من المتأخرين، فأجد لهؤلاء من نضارة الشعر، ونصاحة القول، وحلاوة التعبير، وسعة الخيال، ودقة الأداء، والتصرف في فنون الكلام ما لا يشيع في كلام أولئك، وإنما تتلقطه في دواوينهم تلقطا، فكيف لا يقوم في شريعة الأدباء أحد من أولئك بأحد من هؤلاء؟
لقد تداخلني العجب من هذا حتى ظننت أني اهتديت إلى سببه وعلته: ذلك أن القوم قدروا هذا الشعر صناعة عربية، منجمها طبائع العرب وما تجري به سجاياهم، فإذا تقدم غيرهم لقرض الشعر فهو مقلد لهم ومتشبه بهم ومحتذ لمثالهم، وهو لا يتوسل إليه بطبع، ولا يجري فيه على عرق، إنما هو متكلف متصنع، وليس يكون للمقلد مهما يوف على الإتقان شأن المبتدع، ولا للمتكلف مهما يعظم خطره شأو من ينضح بالفطرة، ويجود بالطبع.
ولقد جرى الشعراء المحدثون أنفسهم على هذا وسلموا به، فكان الشاعر يخرج في صدر شبابه إلى البادية فيقيم الحول أو الأحوال ليحذق اللغة ويحفظ الغريب، ويتروى أراجيز العرب وأشعارهم، ويتعرف أحوالهم وأخبارهم، ويلم بكل أسبابهم وفنون تصورهم وتخييلهم، ويعنى العناية كلها بأسماء إبلهم وأوصافها وكيف ينيخونها، وكيف يبعثونها، وكيف يضربون أكبادها، وكيف يسوسون أولادها، وكيف يرعونها الأكلاء، وكيف يوردونها موارد الماء، وكيف يكون العلل والنهل، وكيف يكون الخمس والسدس، وغير هذا مما تحتفل به أحاديثهم، وتسير به أشعارهم، حتى إذا رجعوا إلى الحاضرة فقرضوا الشعر لمدح أو ذم أو هوى أو وصف أو غير هذا من مطالب الكلام، ذكروا الإبل وكيف حدوها، وكيف قادوها بأشطانها، وكيف أبركوها في أعطانها، وأطالوا في وصف مشيها بين وخد وخبب، ونزيد ورسيم، وغير هذا من هيآتها وحركاتها وأوصافها مما تجده في صدور أشعارهم، وإنما كان منهم هذا التكلف كله ليتشبهوا بالعرب وليحاكوا بأشعارهم ما استطاعوا شعر العرب، إذ كان مقدرا أن البلاغة فنهم، وأن الشعر الأصيل ما قرضوا هم وما نظموا، وهذا رؤبة وهذا العجاج الراجزان: لقد عاشا في دولة بني أمية وأدركا حضارة دمشق، وأصابا كثيرا أو قليلا من مناعم تلك الحضارة، ومع هذا فإني أعوذ لي ولك بالله تعالى من أراجيزهما، وحسبك أن تنشر بين يديك واحدة منها فتعرض كل كلمة منها على معجمات اللغة، حتى إذا واتتك وتوافت لك بحل طلاسمها، وجلت عليك مستغلق معانيها، رأيت ذلك البلاء كله «كما قال بعض شيوخنا» لم يعد وصف أتانة أو بعر قعود، أو هملجة برذون، ولا يمكن ألا يكون رؤبة والعجاج قد رأيا شيئا في دمشق حقيقا بالوصف، ولا يمكن ألا يكون حسهما قد وقع على معنى يحرك القريض، ولكنهما قد شغفا بالتبريز، وظنا أن لن يتهيأ لهما ذلك إلا إذا قالا وأسرفا، على طريقة العرب، وحبسا قولهما على أسباب عيش البادية وتصرف أهلها وخيالهم.
وهذا أبو نواس، أفرأيت أحلى منه قولا، أو أبدع شعرا، أو أدق وصفا، أو أقدر تصرفا في فنون الأغراض، أو أشد استمتاعا بكل وسائل الرفاهية في صميم دولة بني العباس؟ أو إرفادا للأدب بوصف كل ما وقع للشاعر من جليل الأمر وحقيره؟ ومستملحه ومقبوحه؟ حتى لقد كان الصدق في الفن والحرص على دقة الوصف يتدليان به أحيانا إلى العامي المبتذل من القول والمسترخي الساقط من الكلام، حتى يجلي عليك الصورة كلها وينفض على نفسك الحديث أجمعه، لم يلته بترك هنة أو إشارة قد يفسدها أن تؤدى باللفظ الشريف، أفرأيت أن هذا كله إنما كان يتكلف التبدي تكلفا ويصطنع الغريب اصطناعا حين يقول:
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا
مقابلة بين الجديل وشدقم
مهارى إذا أشرعن بحر مفازة
كرعن جميعا في إناء مقسم
Halaman tidak diketahui