بهذا وبهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف، بقدر ما، إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم تصبح مما يستغرق هم القائم، بل لقد انبسط منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول من انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل.
ولقد انبعث طوعا لهذه الحال، جماعة من مشيخة العلماء في طلب أدب خير مما عانوا من أدب، فكان أول ما طلبوا مجفوات كتب الأدب القديم، واستخرجوا دواوين الفحول من متقدمي الشعراء، وجعلوا يتروون هذا الأدب الجزل ويروونه تلاميذهم بالدرس والمحاضرة، وبمجلة «روضة المدارس» التي كانت مجالا لأبرع الأقلام في ذلك العهد، فاستقامت الملكات، وصفت الطبائع، ورهفت الأذواق، وجرت فصح العربية ناصحة على بعض الأقلام من أمثال المرحومين إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني من الكتاب، وعبد الله فكري ومحمود سامي البارودي من الشعراء.
إذن لقد جاد الشعر وجاد النثر، أو لقد جادا على ألسن نفر من الشعراء ومن الكتاب، وأشرقت ديباجة البيان، وجرى ماء العربية صفوا، على أن النظم والنثر وإن اشتركا في هذا المعنى، فإن النثر كان أوسع في فنون البيان تصرفا، كما كان أسبق إلى الإصابة من المعاني التي يقتضيها عيش الحضارة الحديث.
مذاهب الأدب واتجاهاته
ولقد اطردت هذه النهضة البيانية في مصر؛ ولكنها لم تجر كلها في مذهب واحد، ولم تجتمع على الاتجاه في سمت معين، بل لقد كان شأنها شأن القنبلة تنفجر فتتطاير شظاياها إلى اليمين وإلى الشمال وإلى وراء وإلى قدام! فخلق من أدبائنا لم يسلموا قط بأن الأدب شيء يعدو شعر امرئ القيس ، وعيش امرئ القيس فإن هم تطاولوا إلى الفرزدق وجرير فمن بعض التطول والإحسان: المركب: الناقة، والمأكل: سنام البعير «كهداب الدمقس المفتل»، والمورد: النبع أو القليب، والأرض: الموماة، والمنزل: الخيش أو الشعر، وملتقى الأحبة: سقط اللوى، أما اللفظ فالمنتقى المنتخل من كل ما ند عن الطباع، ونشز على الأسماع!
موقف أبناء الثقافة الغربية منه
وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شباننا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه، فخرج لنا من ألوان التعابير ما لا يرضي الذوق الشرقي، ولا يستريح إليه الطبع العربي!
وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب، بنوع خاص، يعالجون في العربية إصابة المعاني الطريفة التي لامسها حسهم، وهدتهم إليها أسباب تفكيرهم، فعجزت اللغة، أو عجز على الصحيح علمهم باللغة عن حق أدائها، فخرج لهم الكلام إما غامضا مبهما، وإما عاميا أو ما يدنو من العامي.
وبقي كتاب وبقي شعراء على ما تحدر إليهم عن آبائهم من صور الأدب: ضيق في الأغراض، وإسفاف في المعاني، وفسولة في الألفاظ!
وارتصد لهؤلاء أولئك أعناق من النقدة، خلص بعضهم لوجه اللغة، وبعضهم تجرد في الطريف، وإن شئنا قلنا في الغريب من المعاني، أولئك لا يرون في شوقي ولا في حافظ شاعرا، ولا في المويلحي ولا في الشيخ علي يوسف كاتبا! وكيف ذلك؟ ذلك بأنه قال: أثر عليه، إذ الصواب: أثر فيه، وقال: غير مرة، والصواب: أكثر من مرة! وهؤلاء لا يؤمنون بشاعرية البارودي لأنه لم يقع في كل شعره على الشفق الباكي، ولم يتحدث قط عن الموت اللازوردي!
Halaman tidak diketahui