مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم، فما قامت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقعد، بل لقد شيع ودفن كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح كنزا من كنوزها الثمان!
لا أقول إنه الإهمال السيئ، ولكن أقول إنه الظرف السيئ، ولا أريد المزيد، والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف، وكيف كان خطبه في البلاد من إحدى وعشرين سنة فقط، فترى أقلهم من لا يعرف عنه كثيرا، وترى أكثرهم من لا يعرف عنه كثيرا ولا قليلا!
أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا كما تختفي الصور إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة الهبوب من المنام؟
وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضا على الظروف، والحمد لله الذي جعل لنا من هذه «الظروف» تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سيئ الأعمال! •••
ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يسمى السيد عليا، وقلده الخليفة العثماني الرتبة الأولى من الصنف الثاني، فاستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا بالشيخ علي يوسف، هذا الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقبا، بعد ما اعتز بنفسه حسبا، وكرم بالرسول الأعظم نسبا.
كان الشيخ علي يوسف رجلا عصاميا بأوفى معاني الكلمة، نجم في «بلصفورة» من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها فقد رقت حالها؛ ولا تنس أن المال هو كل شيء في هذا الزمان، وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ القرآن الكريم، ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط، فطلب العلم هناك على الشيخ حسن الهواري، ثم قدم الأزهر فطلب العلم فيه بضع سنين.
وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتة، فلم يزد خطبه على مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين.
وتستشرف نفس الفتى للأدب، والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعرا مقفى موزونا، فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع، فإن زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف متسع للجميع، وعلى شرط أن تتغزل فتتغزل كلما طلبت مديحا، وتتغزل كلما أردت رثاء، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء، وكانت هذه - وخاصة في البيئة الأزهرية - أهم فنون الشعر، إن لم تكن جميع فنون الشعر!
وعلى هذا قرض الشعر المجاور علي يوسف، فذهب له بين المجاورين صيت وذكر.
ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه، إلا أن يسرف فيه، ويجرد له صدرا كبيرا من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار، ويرون هذا منه آية على «عدم الفتوح» والعياذ بالله! وحسبه في العام قصيدة يمدح بها شيخه يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتان يرثي بهما من يموت من علية العلماء.
Halaman tidak diketahui