رشدي باشا1
لست أحاول في مثل هذه العجالة أن أجلو على القارئ الكريم صورة كاملة لرشدي باشا، أو أن أترجم له ترجمة وافية تكافئ عظمته العظيمة، فإن من فتنة الدعوى أن تظن أن مثل حسين رشدي كله يجتمع في مقالة أو في مقالات، إنما هو من أولئك الأفذاذ المعدودين - إن لم يكن في العالم كله ففي الشرق على الأقل - فما أخلق رشدي بأن يتجرد لبحثه وتحقيق عبقريته نفر من علماء النفس والتاريخ، وإذن لخرجوا منه كل يوم بعظيم.
سأتحدث في هذا المقال عن رشدي لا حديث باحث محلل يرد غرائزه القوية إلى مناجمها من قضايا علم النفس، ويصل كل ناحية من نواحيه بأترابها في عظماء الناس، ولكنني أروي عنه حوادث متفرقة شهدتها كلها بنفسي أو ترويتها عن الثقات الذين لا يترقرق الشك حول خبرهم، ولربما عرضت لبعضها بشيء من التحليل ، على أنني في ذاك أتحرى أن أجمع كل حادثة إلى أختها، وأضم كل واقعة إلى ما يشابهها، حتى يمكن أن يتسق من هذه الأمشاج هيكل لرشدي باشا إذا كان ضئيلا فهو صادق على كل حال.
نشأته
رشدي باشا، على أنه نشأ في الحسب، لأنه ابن محمود باشا ابن دبوس أوغلي، أو طبوز زاده الكبير، إلا أنه لم ينجم في الغنى، ولم يتقلب في صدر شبابه في النعمة التي يتقلب فيها من تسلسلوا من مثل بيته، ولقد شخصت إليه يوما مع المرحوم والدي لزيارته وهو رئيس وزارة، فجعل يتحدث بنعمة الله عليه، وكان مما قال: إنه كان طالبا في باريس فمات والده المرحوم محمود باشا دبوس أوغلي، وإذا كل ما تركه لبنيه الخمسة (ثلاثة أولاد وبنتين) ستمائة «بنتو» خرج حسين منها بمائة وخمسين كانت هي كل مادته لطلب العلم وللعيش الجاهد في باريس، فانظر كيف عانى هذا الشاب في صدر العمر، وكيف كافح الشهوة والأيام ليعيش في باريس بمائة وخمسين «بنتو» لا يرفدها إلا نصيب كمصة الوشل
2
في وقف دبوس أوغلي الكبير، ويصبر على هذا العيش ويروض النفس له في طمأنينة ورضا، حتى يظفر «بالدكتوراه» ويسبق في الامتحان لداته جميعا!
ولقد كان رشدي باشا لعوبا طروبا، فكان يمضي عامه الأطول في لهو الشباب وفي عبث الشباب، قل أن يحتجز
3
لمذاكرة الدروس ومراجعة الأساتيذ، حتى إذا كان بينه وبين أوان الامتحان شهران، مضى إلى الحلاق فسأله أن يحلق رأسه كله بالموسى لكيلا يجرؤ على أن يتدلى بعدها في الشوارع أو يغشى الملاهي العامة، وانقبض هذين الشهرين في غرفته مكبا على الدرس جاهدا فيه، حتى إذا تمثل إلى ممتحنيه لم يقنع بأن يكون طالبا ناجحا فحسب، بل لقد تعمد مطاولتهم والولوغ بالتفنيد في قضاياهم، وانتهى بهم أو انتهوا به إلى الحكم بأن هذا التلميذ غير ما خبروا من التلاميذ، وأن هذا الذكاء غير ما عرفوا من الذكاء!
Halaman tidak diketahui