Imaginasi Khandaris
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Genre-genre
في الحقيقة استخدم الفكي كلمتين بذيئتين تافهتين وهما: «ظاعط أو مظعوط»، لكننا استبدلناهما بتلك الكلمتين المحترمتين مراعاة منا للذوق العام وحساسية المصنفات الأدبية المفرطة وخصوصية الشعوب الرسالية الطيبة، مثل شعبنا السوداني. على كل، الفكي يفضل أن يكون الأول، لكن في ظروف كثيرة في هذه الشوارع اللعينة المظلمة، وخاصة في صباه الباكر ، كثيرا ما كان الثاني! - والمشكلة شنو؟
والآن يبدو أننا تعرفنا على خمسين مصدرا للميثانول والأثينول في المدن الثلاث ... الخرطوم، بحري وأم درمان. والفكرة الحكيمة التي أتت بها أمي هي أن نصطحب الفكي معنا لنرى أمه ونتحدث معها بشأن الأسطى. من اسمه يبدو أنه ذو أهمية بالغة، وظننا أنه مفتاح اللغز. بعد أن اشترينا له ملابس جديدة وحذاء جديدا جميلا ... أخذناه للحلاق الذي قام بإزالة شعر ذقنه ورأسه كله حتى ينمو له آخر خال من بيض القمل والبراغيث، وحف شاربيه بعد لأي، فالشاربان دليل الرجولة. قام بنفسه بنظافة جسده الشخصية ... تعطر جيدا وخرجنا. كان يمشي بسرعة أمامنا، وهو يتحسس ملابسه من وقت لآخر ... يبتسم لنا ابتسامته المريبة تلك. عبرنا أزقة كثيرة في سوق أم درمان. كان يتوقف فجأة عندما نمر بمزبلة كبيرة. وكم مرة منعه بقا من تناول بعض المرميات على الأرض! كان يقول أنه يفعل ذلك دون شعور منه ... وأن رائحة المزبلة تجذبه إليها. للمزبلة رائحة متميزة ورحيمة، أستطيع أن أشم من بعد كاف رائحة ما يمكن أكله وهو مرمي بإهمال في كومة الأوساخ ... لولا هذه المزابل الرحيمة لماتت أمم من البشر. كنت أتوقع أن تقع عيني على أمه بين وقت لآخر ... في ركن ما ... في زاوية ما من الطريق، لكنني لم أنتبه إلى أنه لا يوجد متشردون في الشوارع. أم درمان في هذه الأيام أصبحت مثل مدينة فاضلة، خالية من الشحاذين، المتشردين، والمتسكعين الكثيرين الذين كانت تذخر بهم وتجمل وجهها الفقير الخشن بسحنتهم البائسة! في حقيقة الأمر، المدينة نفسها مثل متشرد مهمل فاقد الرعاية الأسرية، بائل في نفسه متبول على غيره، مخبول وأعمى. أخذت أحس بالخوف الفعلي. ولجنا ممرا مظلما - أو يكاد أن يكون كذلك - يقع خلف سوق أم درمان، عند زقاق المباول العامة، كانت رائحة المكان لا تطاق، تحتلها أنفاس الفضلات الآدمية والحيوانات النافقة التي ترى هنا وهنالك. أمام مجرى مائي شبه مغلق، طلب منا أن نتوقف ونتركه يذهب وحده. قلنا له عليه ألا يخشى شيئا من جانبنا ! قال: إنهم يخشون ... كما أننا الآن جنب المكان. جلسنا على الأرض كما طلب منا؛ لكي لا نرى منذ الوهلة الأولى. تقدم بضع خطوات ثم أطلق صفيرا ناعما ثلاث مرات وصمت. بعد دقيقة أو أكثر أو أقل سمعنا صفيرا آخر. ثم رد الفكي بصفير؛ فانفتح غطاء مجرى لتصريف مياه الأمطار وخرج منه طفلان صغيران أشعثان عاريان تماما كأنهما إبليسان صغيران من رسومات الفنان الإسباني بول كلي ... جريا نحو الفلكي وتشعبطا في يديه الطويلتين. قال مبتسما: ديل أولادي حسكا وجلجل.
لم نسأله أيهما حسكا وأيهما جلجل، فلقد كانا يشبهان بعضهما البعض مثل عملتين من فئة واحدة.
بعد قليل خرجت شيطانة كثة الشعر ... بل لها شعر طويل يصل إلى منتصف ظهرها، متسخ وملتف على ذاته. لونها يميل للصفرة، صغيرة عجفاء مثل جرو أجرب جائع. قفزت مباشرة في كتف الفكي الطويل. باسها في وجهها المتسخ قائلا لنا: دي بتي نونو.
نظرت إليه باستغراب أو إعجاب، أو ربما بتساؤل، ثم عضته في عنقه النظيف المعطر بشدة. صرخ في صوت قبيح مرح: حبوبتكم جريوة وين يا عيال الكلب؟
قال الطفلان معا في آن واحد: اتلحست (ماتت). ثم أضافت نونو بصوت خمير: دقست واتلحست، شالوها الإرا (البوليس) ميتة يوم الجمعة.
لم يظهر على وجهه النظيف أي أثر للحزن، الصدمة أو المفاجأة، وكأنه سمع نشرة أخبار الأرصاد الجوية التي لا يفهم فيها شيئا.
قلت له معزية: البركة فيكم!
وتقبل التعازي من الجميع. لم يبك ... لكنه أخذ يحزن تدريجيا في صمت قاتل، أو كما ظننت. لم يسأل عن شيء، مضى وأبناؤه معلقون على كتفيه وظهره. مر أمامنا ونحن جالسون كأننا لم نكن هناك. خرج من الزقاق، خرجنا خلفه. كان منظرا غريبا وشاذا، رجل يرتدي ملابس جميلة جديدة زاهية، نظيف حليق الرأس، الذقن والشارب، يفوح من بين جوانبه عطر
hope ، على ظهره وكتفيه أطفال في غاية الاتساخ والبشاعة، يصيحون مثل دجاجات بلدية شمت فساء ثعلب ... اثنان عاريان تماما، صبية تلبس ما لا يستر ولا يعري، مزقا شديدة الاتساخ، بها عفونة جثة قط نافق منذ أسبوع، شعرها الكث الغريب يغطي كثيرا من عريها. وقبل أن ينتبه إليهم من يمكن أن يؤلمهم، قمنا بحشرهم في عربة أجرة. انطلقنا نحو منزلنا في الخرطوم بحري، احتج كثيرا سائق العربة على الروائح التي لا تطاق، وكان يمضي في الشوارع بسرعة عالية، يريد أن يتخلص من شحنته بأسرع ما يمكن، كما أنه لم يستطع أن يخفي جنون حب الاستطلاع عنده، وكان يسأل كلما وجد فرصة لذلك، ماذا نريد أن نفعل بهم؟ إلى أين نأخذهم؟ وهل نحن جهة حكومية أم منظمة؟ هل سمعنا بقصة الأطفال الذين ماتوا بالإسبرت؟ هو شاهد جثتين قبل يومين في زقاق في السوق الشعبي بأم درمان، رآهما في الصباح الباكر وهو في طريقه لترحيل بعض بائعات الشاي. علم بعد ذلك أن الجهات المسئولة كانت تجمع جثثهم بشاحنات الأوساخ من الأزقة، المجاري والشوارع الجانبية، تأخذهم ليدفنوا بعيدا في الصحراء شمال أم درمان. أضاف بما يعني أنهم ليسوا سوى أوساخ، وهو يشجع على التخلص منهم بأي صورة كانت، وها هو الله قد خلصنا منهم، أرسل إليهم من يسقيهم الأسبرت المسموم. كان ثرثارا؛ لذا قررت ألا أدعه ينزلنا عند المنزل، لكن على بعد شارع من الزقاق الذي نقيم فيه، همست لعبد الباقي بذلك.
Halaman tidak diketahui