Imaginasi Khandaris
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Genre-genre
أخذ منا سائق التاكسي كل ما لدينا من نقود، وهي ليست كثيرة. أمي كانت أكثرنا حركة وقلقا على صحة المتشرد المريض، واتبعت معه طريقة للإطعام تقول: إنها الوحيدة التي تنفع مع شخص لم يتذوق الطعام منذ أيام. كل ما يعاني منه كان ألما في المعدة حادا ... أعطيناه جرعة كبيرة لا نعلم مقدارها العلمي من الفلاجيل، وهو الدواء الذي نتناوله في البيت لكل الأمراض التي تصيبنا في الأحشاء؛ حيث إننا لا نستطيع أن نفرق ما بين ألم المعدة، ألم المصران، والمغص الكلوي. صنعت له أمي كوبا كبيرا أيضا من الحلبة. سألناه ما إذا كان يشعر بصداع؟ قال: إنه يريد أن يأكل لا أكثر. التهم كل ما يستطيع بلعه مثل تمساح بشري. أعطته أمي إحدى جلابيب أبي، بعد أن استحم جيدا. رمينا بلباسه، بنطاله وفانلته الداخلية الممزقة التي تفوح منها رائحة نتنة بعيدا ... تم استبدال كل شيء. كان شابا وسيما نحيفا تبدو على وجهه بعض التقرحات بفعل المرض أو الشجار اليومي ... عيناه ضيقتان محمرتان ... كان يبتسم بصورة متواصلة حتى ظننا أنه أبله. قال إنه لم يتناول الأسبرت أو أيا من المخدرات في حياته، ليس حتى التمباك والسجائر. وقال إن والده أودعه خلوة في ضواحي كردفان، وأنه هرب منها وعمل مساعدا في شاحنة لوري إلى أن وصل أخيرا إلى مدينة أم درمان، التي كان يعلم أن بها أحد أقاربه. بحث عنه ولم يجده؛ لأنه كان يظن أن ذلك سهل، فأم درمان في مخيلته لم تكن سوى قرية كبيرة. وهكذا بات يومها في الطرقات ثم يومين ... إلى أن أصبح بلا نقود. ثم تعرف على أطفال ورجال وبنات الشوارع، ثم صار واحدا منهم. هو الآن زعيم لكل المجموعة التي تقيم حول موقف الشهداء وعمارة المتشردين، قد حصل على شهرة عظيمة في المعركة التي دارت بين مشردي سوق أم درمان ومشردي الشهداء؛ حيث كان أول من استخدم النبلة في مثل تلك المعارك. يسمونه: «الفكي»؛ لأنه كان الوحيد بين كل المتشردين الذي يحفظ بعض سور القرآن ويعرف كيف يتوضأ، ولو أنه لم يتوضأ أو يصلي في حياته كلها. كان يصنع التمائم والأحجبة لأصحابه، ويعرف كيف يلقن الشهادة للمحتضرين منهم؛ حتى يموتوا على ذمة الإسلام ويدخلوا الجنة. كانت بساقه اليسرى علامة لجرح كبير ... بل قطع بسكين أو آلة حادة، تجنب الخوض فيما هو وراء ذلك الأثر.
في الحقيقة أنا لست خالية ذهن تماما عن ماهية هذا الفقيه المتشرد، فعملي في مجال المتشردين جعلني أعرف الكثيرين منهم شخصيا وأسمع عمن لم ألتق بهم، وخاصة إذا كانوا ذوي سمعة متميزة وخطرة مثل هذا الفقيه المزيف، الذي يرقد في ديواننا الآن بعد أن نجا بحياته وألف قصة روت كيفية وصوله إلى أم درمان طازجة قبل قليل. ربما تكون هي قصة متشرد حقيقية رواها له في يوم ما. هذا الذي يعرف بالفكي أخطر متشرد مر بمدينة أم درمان، مغتصب، سارق، كاذب، قاتل ، وعلى ذلك كله يمارس الدجل والشعوذة. كان بقا أيضا قد تبين أننا قد أنقذنا حياة متشرد كبير، زعيم لا يشق له غبار، رجل صال وجال في شوارع المدن الثلاث. الشيء المحير فعلا هو أن متشردا بكل تلك السمعة لم لم يحاول أن يغير من واقعه شيئا، وكيف حاصره الموت في ذلك المكان المهجور العفن؟! إذن، هل صحيح ما قاله إنهم كانوا يقصدونه هو بالذات: ليشنو (لماذا)؟
لأي مدى يمكن الاستفادة منه في مشروع التحري؟ عندما مشي على قدميه، بعد أسبوع بأكمله حيث لاحظنا أنه يمشي بعرج طفيف نتيجة لقصر في رجله اليسرى. لاحظنا أيضا أنه أطول بقليل مما رأيناه في بادئ الأمر وأكثر نحافة، بجسده ندب صغير، جروح متعددة مبعثرة في وجهه وكتفيه. لكنه تحدث بفصاحة قبل أن يتمكن من المشي بأيام كثيرات، أقصد منذ اليوم الأول؛ حيث إنه استطاع أن يثرثر ببراعة مع أمي، وباءت محاولاته بالفشل في إقناعها بأنها مريضة نتيجة عمل شرير فعل بها، وأنه «فكي» عالج ويعالج المرضى عن طريق القرآن، ورتل عليها سورة يس من ذاكرته. أمي، أنا وبقا كنا نعرف أنه إنما يريد أن يقدم شيئا لنا ولأمي بالذات مقابل رعايتها المتفردة له ... لم ينج أيضا من تهمة التكسب. أمي تفعل كل شيء بحب، تقول: إنها لا تقوم بعمل أي شيء ما لم تشعر بالحب.
تمشى قليلا، احتسى قهوة طيبة صنعتها له أمي. قال وهو يضغط بكف يده اليسرى، على عنقه النحيف الذي تغطيه شعيرات الذقن الكثة، إنه يريد أن يقول لنا الحقيقة وراء حياته. لقد كذب علينا في بادئ الأمر، وحكى لنا حكايات سمعها من بعضهم، وهي الحكايات الرسمية وراء كل متشرد، يحكونها للشرطيين وللقضاة إذا مثلوا أمامهم في محكمة، للباحثين الاجتماعيين وموظفي المنظمات العاملة في المجال. - أنا بخاف من الناس، لكن أنتو ناس طيبين أنقذتوا حياتي.
أنجبته أمه على مسطبة خلف مباني السينما الوطنية بالخرطوم بحري قبل ما لا يقل عن ثمانية وعشرين عاما - وهذا بالتخمين - بعد انتهاء العرض السينمائي بقليل، قبل أن يغادر رواد السينما شارع السيد علي الميرغني. لقد شهد ميلاده مئات الأفراد ... كان ميلادا طليقا وحرا، على الهواء مباشرة، تماما مثل ميلاد الحملان! تبرع ممرض رحيم - كان قد صحب حبيبته الجميلة للسينما عرض في هذا اليوم - بقطع حبل السرة والتخلص من الملحقات المصاحبة للولادة. أرضعتني أمي في الفور، هكذا كانت تقول له دائما: أنت مولود جيعان! حتى آخر مرة رآها فيها، كانت تكرر له الجملة نفسها، وسيظل جائعا طوال عمره؛ لأن كلبا ضالا قد أكل المشيمة خاصته ... خطفها من قرب أمه الدائخة التي كانت تنوي أن تقوم بدفنها عند باب السينما متى ما أفاقت من خدر الولادة. على الرغم من أنه كان أول المواليد، إلا أن أمه في ذلك الوقت عمرها اثنا عشر أو ثلاثة عشر عاما، لكنه يصر على أن عمرها كان ثماني سنوات أو أقل. دكتورة مريم أكدت لنا أن ذلك مستحيل لأسباب علمية؛ حيث إن الرحم لا يكون قد اكتمل عند الثامنة. الشيء الآخر والأهم هو: من عرفه أن أمه كانت في الثامنة؟ كيف عرفت أنها في الثامنة؟ لقد شاهد بأم عينيه طفلات صغيرات في أقل من الثامنة من عمرهن يمارسن الجنس في الأوكار ومجاري مياه الخريف باستمتاع، بل يمتهن الدعارة ويكسبن منها الكثير، وإنهن يحبلن ويلدن ويرضعن أطفالهن! هو نفسه قد مارس الجنس مع بعضهن، ليلا ونهارا، في الأجحار والأوكار وقارعة الأزقة الخالية من المارة في منتصف الليالي المظلمة، أينما اتفق وصادف أن اختلى بواحدة منهن. لقد حكى لنا فيما بعد أن أمه ذاتها ولدت في أحد شوارع أم درمان من أم طفلة، أنجبتها ثم ماتت مباشرة بعد ميلادها ... وهذا قضاء وقدر لا أكثر. إذن، من عرفها بتاريخ ميلادها؟ ولو أن هذا المنطق أيضا يمكن الرد عليه وتفنيده بكل بسهولة. تربى في كل الشوارع بدون فرز. يعرف كل الأمكنة بالعاصمة ذات المدن الثلاث بأسمائها، يحفظ تاريخ كل مبنى، حديقة، حفرة، وكوشة، بل يستطيع أن يقول: إن أول مالك عربة في الشارع الفلاني كان اسمه فلان الفلاني! هذا الرجل النحيل الطويل ذاكرة للمكان لا يستهان بها. ثم حدثنا قائلا: أنا أول زول باع الأسبرت في الخرطوم للشباب. وحياتي ما شربته ... قلبي أباه كلو كلو (نهائيا) ريحتو بتعمل لي طمام. أنا لا أدخن ولا بشم ولا بسكر بس لو ربنا هداني من الشغل داك! تاني ما عندي مشكلة.
سألته مستفسرة: الشغل داك شنو؟
قال دون إحراج وهو يبتسم وينظر إلي في وقاحة: اللقو!
واللقوية هي كل ما يمكن أن يمارس معه الجنس وتطلق على المذكر والمؤنث ... على امرأة، رجل، أو حيوان. وهي مفردة شائعة في لغة المتشردين المسماة بالرندوك. ويستخدمها أيضا أنصاف المتشردين وبعض العاملين في الأسواق والمهن الهامشية، ونحن الناشطين مع المتشردين.
قال إنه حفظ كل الذي حفظه من القرآن من صلاة الجمعة وبعض القراء العرضيين الذين يوجدون هنا وهنالك، يقرءون القرآن وينتظرون الناس أن يضعوا في مواعين فارغة أمامهم بعض المال، مال يتراكم يوما بيوم إلى أن يصبح في يد البعض ثروة طائلة: في واحد بنى بيتا وعنده عشرين ركشة!
كان بإمكانه أن يصير شحاذا من تلك الفئة القرآنية التي تثري بسرعة، إلا أنه لا يمكنه أن يكون طاهرا طوال الوقت، والقرآن يحتاج لطهارة. اعترف فيما بعد أنه عمل في مهنة شحاذ قارئ للقرآن لما يقارب الشهرين على أسوار الجامع الكبير بالخرطوم، لكنه أصيب باللعنة وبدأ جسده يصدر رائحة أشبه ببول الكلب، كبر القمل برأسه حتى أصبح في حجم الصراصير، قد بصق في مرات كثيرة ديدان كبيرة في حجم الأصبع من فمه، وأقسم أن ثعبانا حيا خرج من دبره. عرف أن ذلك حدث له؛ لأنه كان يتلو القرآن في نجاسة، وهو لا يستطيع أن يتحكم في أمر نجاسته؛ لأنه لا يستطيع التحكم في ممارساته الجنسية الضالة. في اعترافه المشين للسمعة الإنسانية، قال: إنه يمارس الجنس مع كل الأنواع، نساء ورجالا، أطفالا وطفلات وبعض الحيوانات الأليفة مثل الكلاب والمواشي، قد لخص عبد الباقي ذلك قائلا: مع كل ذي دبر!
Halaman tidak diketahui