وهم أنطيوكس أن يستحوذ على آسيا الصغرى كلها أيضا، وخشي أن يفترص المصريون غيابه ويسطوا على سورية، فأرسل وفدا إلى مصر يعرض زفاف ابنته فلوبطرة إلى بتولمايس إبيفان متى بلغ العروسان مبلغ الزواج، وأنه في يوم زفافها يتخلى عن سورية الجنوبية مهرا لها، فاستحسن رجال دولة مصر ما عرضه، ووقع الفريقان على معاهدة بهذا المعنى.
وحمل أنطيوكس على آسيا الصغرى سنة 196ق.م، فاستولى فيها على مدن كثيرة حتى إفسس، وكانت حينئذ أزمير وغيرها من المدن اليونانية ناعمة باستقلالها وحريتها، ورأوا من نفوسهم الضعف عن مقاومة أنطيوكس، فلجئوا إلى الرومانيين طالبين أن يحموهم، فلبى الرومانيون دعوتهم، وأرسلوا وفدا إلى أنطيوكس فطلبوا من أنطيوكس أن يرد على ملك مصر كل المدن التي كانت تخصه في آسيا، وأن يترك المدن اليونانية في آسيا على استقلالها، وأن يسترد عساكره التي كانت قد عبرت الدردنل إلى تراسة، فلم يشأ أنطيوكس أولا أن يجاهر الرومانيين بالعداوة، بل سوفهم بالجواب وأخذ يقوي ساعده، فزوج بنته فلوبطرة بملك مصر بحسب المعاهدة المذكورة، وتخلى لها عن فلسطين وسورية المجوفة مهرا لها، على أن ابنته آثرت نفع زوجها على نفع أبيها، فكان هذا الزواج وبالا عليه، وزوج أنطيوكس بنتا أخرى له بأرياراط ملك الكبادوك، وأراد أن يزوج الثالثة بملك برغام، فلم يشأ حرصا على رضى الرومانيين، وعزم على محاربة الرومانيين، وتوافرت المداولات بينه وبينهم إلى سنة 192، وكانت منازعات بين عشائر اليونان في بلادهم فاستدعوا أنطيوكس إليها فلبى دعوتهم، فعالنه الرومانيون بالحرب، وكان عسكره قليلا وزحف أشيل قائد الرومانيين إليه بعسكر جرار، فبدد شمله، وعاد أنطيوكس إلى إفسس، وأمر أسطوله أن يضرب أسطول الرومانيين، فظهر الرومانيون وغرقوا عشرا من سفنه، وأقام الرومانيون على قيادة جيشهم كرنليوس شيبون، وأعمى الله بصيرة أنطيوكس، فأمر جيشه المحتل المدن المجاورة الدردنل أن ينسحب، فعبر الرومانيون إلى آسيا آمنين، وأصلوا نار الحرب على أنطيوكس فذعر وانهزم، وقتل من عسكره نحو من خمسين ألفا وعاد إلى أنطاكية مدحورا.
ثم أرسل أنطيوكس وفدا إلى القائد الروماني يطلب الصلح، فطلب الرومانيون أن يتخلى أنطيوكس عن كل ما وراء جبل طورس من آسيا، ويدفع نفقات الحرب البالغة خمسة عشر ألف وزنة، وهي عبارة عن ثلاثة وثمانين مليونا من الفرنكات يدفع بعضها معجلا، ويجعل الباقي أنجما في اثنتي عشرة سنة، فأرغم أن يقبل وأثبت الديوان الروماني الصلح الذي عقد مع قائد جيشه، وكان ذلك سنة 189ق.م، ومضى أنطيوكس مطوفا في أعمال الشرق يجبو ما يفي به غرامة الحرب، ولما انتهى إلى بلاد العيلاميين قيل له: إن في هيكل المشتري بالوس كنزا عظيما، ودخل الهيكل ليلا فابتز كل ما كان فيه من قديم الدهر، فحنق الشعب وثار عليه فقتله وكل حاشيته سنة 187، وكانت مدة ملكه ستا وثلاثين سنة. (8) في سلوقس الرابع
هو ابن أنطيوكس الثالث رقي إلى منصة الملك بعد مقتل أبيه وسمي فيلوباتر أي: محب أبيه، وكان ذليلا لإذلال الرومانيين مملكته، وإثقالها بغرامة الحرب، ولم يكن في أيامه ما يستحق ذكرا إلا ما ذكره كاتب سفر المكابيين الثاني في الفصل الثالث ... وهو أن أورشليم كانت حينئذ عامرة آمنة، وسنن الله مرعية فيها بعناية أونيا عظيم الكهنة، وكان سلوقس يؤدي من دخله نفقات الذبائح في الهيكل، فاختصم سمعان وكيل الهيكل وأونيا، فمضى سمعان إلى أبولينوس قائد جيش سلوقس، وهو في بقاع سورية ووشى له أن الخزائن في هيكل أورشليم مشحونة بالأموال، فأعلم أبولينوس الملك بذلك، وهو لحاجته إلى المال أرسل هليودورس، وأمره بجلب هذه الأموال، فمضى إلى أورشليم وأعلم أونيا بما أمره الملك، فأجابه أن ذلك المال ودائع للأرامل والأيتام، ولا يجوز هضم حق من ائتمنوا الهيكل، وأصر هليودورس على تنفيذ أمر الملك، فاضطربت أورشليم وتبادر الناس أفواجا إلى الهيكل خاشعين لله؛ لينقذهم من هذه النازلة، وأتى هليودورس بشرطه إلى الهيكل، فصرع الله كل من جسروا على الدخول إليه، وأخذهم الرعب والانحلال، وظهر لهم فرس عليه فارس مخيف فضرب هليودورس بحوافر يديه وتراءى فتيان قويان بهيان ، وقفا على جانبيه يجلدانه جلدا متواصلا حتى أثخناه بالضرب، وسقط مغشيا عليه فحملوه إلى الخارج وهو أبكم لا يبدي حراكا، وخاف أونيا أن يتهم اليهود بما كان لهليودورس، فصلى إلى الله فظهر الفتيان لهليودورس، وقالا: عليك بالشكر لأونيا؛ لأن الرب من عليك بالحياة لصلاته ... فقدم ذبيحة للرب وشكر لأونيا وانصرف بجنده.
أما سلوقس فجزاه الله عن هذه الجريمة بيد من أرسله لسلب هيكله، فإن أنطيوكس أخا سلوقس كان رهينة عند الرومانيين من أيام أبيهما، وأحب سلوقس أن يستقدمه إليه لداع يعلمه الله ، فأرسل ابنه الوحيد المسمى ديمتريوس ليكون بدلا منه برومة، فلما رأى هليودورس المذكور أن وارثي الملك بعيدان عن سلوقس دس له سما مات به سنة 175 بعد أن ملك نحو اثنتي عشرة سنة وملك بعده هليودورس. (9) في أنطيوكس الرابع الملقب إبيفان
هو ابن أنطيوكس الكبير الذي كان رهينة برومة واستنقذه منها أخوه سلوقس، وبلغه منعى أخيه وهو في أثينا، وأن لهليودورس الدعي محازبين، وأن بتولمايس ملك مصر يدعى ملك سورية مدلى إليه بأنه ابن بنت أنطيوكس الكبير، فلجأ إلى أومان ملك برغام وأخيه أتال فعاوناه على طرد هليودورس وارتقائه إلى منصة الملك، ولقب نفسه إبيفان أي: الشريف، وقد غزا مصر أربع غزوات واضطهد اليهود كما سيأتي، وكان بتلمايس إبيفان قد توفي، وخلفه ابنه من فلوبطرة بنت أنطيوكس الكبير وأخت أنطيوكس إبيفان هذا، وكانت أمه تدبر الملك لصغر سنه، ولكن أدركتها المنية سنة 173ق.م، فعهد بتدبير الملك إلى ليناي أحد أشراف مصر وبتربية الملك الصغير إلى أولناي أحد الخصيان، وكان أنطيوكس قد وضع يده على فلسطين وسورية المجوفة، فطالباه أن يردهما على ملك مصر فأبى، وكان هذا باعثا على الحرب، وأرسل أنطيوكس يجدد موالاته للرومانيين؛ كيلا يعارضوه بغرضه وسار بجيشه إلى تخوم مصر، فالتقى جيشه والجيش المصري على مقربة من بالوز (فرما)، وانتشب القتال سنة 171ق.م، فاستظهر أنطيوكس على المصريين، واقتصر حينئذ على تحصين تخوم سورية وعاد إلى صور، ثم حمل ثانية على مصر سنة 170ق.م، وسير جيشه برا وأسطوله بحرا، فأخذ بالوز وتوغل في مصر معاملا أهلها بالحلم، فاستسلموا إليه إلا الإسكندرية، وأتى إليه بتلمايس ابن اخته طائعا أو مأخوذا في الحرب، فأكرم مثواه وأظهر أنه يدبر مملكته مصر بمنزلة وصي عليه، ولما رأى الإسكندريون أن ملكهم بتولمايس فيلوماتر (محب أمه) أمسى أسير خاله أنطيوكس أسقطوه من منصة الملك، ورقوا إليها أخاه سنة 169ق.م، وسموه بتلمايس إفرجات (المحسن)، ولما بلغ ذلك أنطيوكس حمل المرة الثالثة على مصر مظهرا أنه يريد إرجاع ابن أخته إلى مملكته، وسار بجيشه توا إلى الإسكندرية عامدا أن يحاصرها، فوجه بتلمايس إفرجات وأخته فلوبطرة رسلا إلى رومة يستنجدان الندوة والشعب الروماني، فأوفد الرومانيون ثلاثة رجال يبلغون أنطيوكس وبتلمايس أن يتحاشيا الحرب، ومن خالف منهما كان عدوا للرومانيين، وقبل أن يصل موفدو الرومانيين إلى مصر كان أنطيوكس قد صالح المصريين على أن ابن أخته يتولى مصر، ويخلع بتلمايس إفرجات من الملك، واستبقى أنطيوكس بالوز لنفسه؛ لتكون له بمنزلة المفتاح لمصر، فتنبه بذلك بتلمايس فيلوماتر ابن أخته إلى أن خاله أبقى لنفسه هذا المفتاح حتى إذا أجهدته وأخاه الحرب يلتقم مصر، فصالح أخاه إفرجات على أن يتوليا البلاد معا، وانبسط الأمان في مصر كلها.
ولما اتصل بأنطيوكس اتفاق الأخوين استشاط، وحمل الحملة الرابعة على مصر فسير أسطوله إلى قبرس؛ ليحتفظ عليها وسار بجيش عرمرم مجاهرا بالعداوة للأخوين، وزحف بجيشه إلى مصر وانتهى إلى منف واستسلم الأهلون إليه، وأراد حصار الإسكندرية، فخرج إليه يوبيليوس أحد موفدي الرومانيين، وكان أنطيوكس يعرفه فمد يده ليحييه، فأمسك يوبيليوس، وقال له: أريد أن أعلم أصديقا لرومة أحيي أم عدوا؟ وأطلعه على أمر وفادته، فقال أنطيوكس: إنه يفاوض مستشاريه ويجيبه، فخط يوبيليوس بعصاه حوله دائرة على الرمل، وقال: يلزم أن تجيب قبل أن تخرج من هذه الدائرة ... فقال أنطيوكس: إني صانع ما تحب، فمد حينئذ يوبيليوس يده إليه، وحياه ولاطفه وأمره بالخروج من مصر، فخرج بجيشه في اليوم الذي عينه له، ووقع موفدو رومة على عهدة الصلح بين الأخوين الملكين، وفي مرور الوفود على قبرص صرفوا أسطول أنطيوكس عنها. (10) في تزلف اليهود إلى أنطيوكس واضطهاده لهم وموته
إن معاشرة اليهود لأسيادهم اليونان أبعدتهم شيئا فشيئا عن إيمان أجدادهم وعاداتهم الحميدة، ونشأ بينهم حزب جانح إلى الاقتداء باليونان دينا وعملا، وكان مركز هذا الحزب أورشليم، وأقاموا مدرسة وثنية في المدينة المقدسة (مكابين 1 ف1 عدد 12)، وتزلفوا إلى أنطيوكس ترويجا لمطامعهم، وكان من هؤلاء رجل اسمه يشوع فبدله بياسون وهو أخو أونيا رئيس الأحبار، سولت له نفسه أن يأخذ الرياسة من أخيه، فوعد أنطيوكس بمبلغ جسيم من المال، فقلده الرياسة فصرف الشعب إلى عادات الأمم، وأبطل رسوم الشريعة، واستمر ياسون بالحبرية ثلاث سنين وسعى لقتل أخيه وأرسل ياسون منلاوس إلى أنطيوكس يعرض له أمورا، فتزلف إليه وسأله رياسة الحبرية، فولاه إياها ورجع فطرد ياسون، لكنه لم يف الملك ما وعده به فاستخلفه بأخيه ليسيماكس، وهذا سرق الآنية الذهبية من الهيكل، فباع بعضها وأهدى بعضها إلى حاشية الملك، فهاج عليه الجمهور وقتله وشكا أخاه منلاوس، فبرأه أنطيوكس لمال دفعه إلى أحد أعوانه وقتل ثلاثة رجال من رسل اليهود إليه، وعاد ياسون من مقره وهاجم أورشليم بألف رجل، فهرب منلاوس إلى القلعة، وأخذ ياسون يذبح أهل وطنه بلا شفقة، ولكن تقوى عليه الجمهور، فطرده ومات غريبا في مصر، وبلغ أنطيوكس خبر ثورته فزحف إلى أورشليم، فأهلك من أهلها ثمانين ألفا في ثلاثة أيام وباع منهم كثيرين، وانتهب الهيكل وكان ذلك سنة 170ق.م (مكا ف4 عدد 7).
وعند عودته من غزوته الرابعة لمصر أرسل أبولينوس أحد أعوانه إلى مدن اليهودية بعسكر، وأمره أن يذبح كل يافع من اليهود، وأن يبيع النساء والأولاد، ثم أتى أورشليم وتربص إلى يوم السبت، وأهلك كثيرا منهم وانتهب المدينة، وهدم بيوتها وأسوارها وسبى النساء والأولاد وأخذ المواشي، وحصن مدينة داود وجعلها قلعة لجنوده وعمد إلى إكراه اليهود على ترك سنتهم، وعبادة آلهته (مكا 1 ف1 ومكا 2 فصل 5) بقساوة بربرية وأعذبة متنوعة.
وخرج حينئذ من أورشليم كاهن اسمه متتيا بن يوحنا، وسكن في مودين (في جهة اللد)، وكان له خمسة بنين وقدم إليه عمال الملك وكلفوه أن يوقع بالطاعة على أمر الملك، فأبى وأقبل يهودي ليذبح على مذبح الأوثان فقتله على المذبح، وقتل عامل الملك ونادى كل من غار لشريعة الرب، فليخرج ورائي، وهرب هو وبنوه إلى الجبال، واجتمع إليهم جماعة من أهل البأس وانضم إليهم الفارون، وجال متتيا في البلاد برجاله، وهدموا المذابح الوثنية وختنوا كل من وجدوه أغلف، وأذلوا الآثمة ... وعند موت متتيا سنة 167ق.م، جعل ابنه يهوذا المكابي رئيسا لإخوته وقائدا للجيش الذي يتبعهم، وأوصاهم جميعا أن يحافظوهم على سنة الله، ويكافئوا الأمم المعتدين عليها.
Halaman tidak diketahui