همّ أن يضع يده فيه ويبدأ به، فاعترضت خوالج هذا الدهر دونه، وحالت كبواته بينه وبينه».
ولأجل هذا تجرد ابن جنى للقراءات الشاذة علّه يمكنه النيابة عن شيخه فى الاحتجاج لها، وتأدية حقها عليه، كما أدى شيخه حق القراءات غير الشاذة عليه؛ إذ كانت دواعى الاحتجاج للنوعين ثابتة، والاستجابة لها لازمة، بل لعل دواعى الاحتجاج للشاذ أثبت، والاستجابة لها ألزم.
يقول فى «مقدمة المحتسب» شارحا غرضه المرجو فى الاحتجاج للشاذ: «. . . غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذا، وأنه ضارب فى صحة الرواية بجرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه، لئلا يرى مرى أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له».
وقال فى موضع آخر منها، يبين رأيه فى الشاذ ومكانه عند الله: «. . . إلا أننا وإن لم نقرأ فى التلاوة به؛ مخافة الانتشار فيه، ونتابع من يتبع فى القراءة كل جائز رواية ودارية، فإنّا نعتقد قوة هذا المسمى شاذا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبّله، وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضى من القول لديه».
وزاد من رغبته فى الإقبال على الشاذ والاحتجاج له أن أحدا من أصحابه لم يتقدم للاحتجاج له على النحو الذى يريد.
قال: «فإذا كانت هذه حاله عند الله. . . وكان من مضى من أصحابنا لم يضعوا للحجاج كتابا فيه، ولا أولوه طرفا من القول عليه، وإنما ذكروه مرويّا مسلما، مجموعا أو متفرقا، وربما اعتزموا الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه. . . حسن بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله، وبسط القول على غامضه ومشكله».
وهكذا أصبح كتاب «المحتسب فى الاحتجاج لشواذ القراءات»، الذى ألفه أبو الفتح عثمان بن جنى، ضرورة ملحة على كاتبه إمام العربية، رغم علو سنه آنذاك.
قال الشريف الرضى: كان شيخنا أبو الفتح النحوى عمل فى آخر عمره، كنايا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ.
وقال أبو الفتح فى مقدمة المحتسب: «وإن قصرت أفعالنا عن مفروضاتك وصلتها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا ما امتدت أسباب الحياة لنا، فإذا انقضت علائق مددنا، واستوفى ما فى الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستؤنفت أحوال الدار الاخرة بنا، فاقلبنا إلى كنز جنتك التى لم تخلف إلا لمن وسع ظلّ رحمتك».
وهذا كلام قلما يقوله إلا امرؤ غلب عليه التفكر فى الآخرة، واستبد به حبّ التزود لها؛ لأنه يشعر أن منيته قد دنت، وأن حياته قد آذنت بزوال، فهو يتخضع لله، ويبتغى إليه الوسيلة؛ عسى أن يثيبه الله مغفرة منه ورضوانا.
وربما كانت تسمية الكتاب «المحتسب» مرجعها أنه يحتسب أجره على هذا الكتاب عند
1 / 66