وأبو على لا ينكر أمره وأستاذيته. فهذا شرف استأثر به أبو الفتح واستبد به على أصحاب أبى على، وهم كثر.
ويقول القفطى فى «إنباه الرواة» فى الحديث عن زميل لابن جنى وهو العبدى: «وكان العبدى قد أدركه خمول الأدب، ولم يحصل له من السمعة ما حصل لابن جنى والربعى، وكان كثير الشكوى لكساد سوق الأدب فى زمانه».
ولابن جنى قصيدة بائية سلف منها أبيات فى الكلام على نسبه، أوردها ياقوت فى ترجمته، وفيها ما ينبئ عن أنه نال ما يبغى من الكمال والمنزلة. ومن ذلك قوله:
شكرت الله نعمته … وما أولاه من أرب
زكت عندى صنائعه … فوفقنى وأحسن بى
تخولنى وخولنى … ونولنى ونوه بى
وأخر من … وأعلانى وأرغم
يقادمنى … بى
ويقول فى الحديث عن كتبه:
تناقلها الرواة لها … على الأجفان من حدب
فيرتع فى أزاهرها … ملوك العجم والعرب
ويبدو فضله وعلمه فى كتبه ومباحثه التى توفر عليها، وأحسن عرضها. وهو يعد بحق فيلسوف العربية وباقرها.
وعلى مباحث ابن جنى طابع الاستقصاء والغوص فى التفاصيل، والتعمق فى التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. وهو فى هذا يشبه ابن الرومى فى الشعر. وكأنما للجنس الرومى الذى ينتميان إليه أثر فى هذا.
ومن مباحثه التى اهتدى لها، وسبق بها الاشتقاق الأكبر، وإن كان استمد فكرته من أستاذه أبى علىّ. وهو يقول فى الخصائص، فى الباب الذى قصره على هذا المبحث: «هذا موضع لم يسمه أحد من أصحابنا؛ غير أن أبا علىّ كان يستعين به، ويخلد إليه، مع إعواز الاشتقاق الأصغر؛ لكنه-مع هذا-لم يسمه، وإنما كان يعتاده عند الضرورة، ويستروح إليه، ويتعلل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن».
وابن جنى-مع حرصه على اتباع من سبقه وتبجيله لهم-لا يبالى أن يخالفهم إذا تهدى لرأى لم يقولوا به، واستوى له دليله، واستقرت عنده حجته. ومن ذلك ما رآه فى مسألة:
«هذا حجر ضب خرب» وهو رأى خالف به السلف.
وقد سن للباحث أن يذهب إلى ما يهتدى إليه بعد أن رأيناه وسوغنا مرتكبه-لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التى قد طال بحثها، وتقدم نظرها، وتتالت أواخر على أوائل،
1 / 51