Perbualan Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Genre-genre
وهنا قد يطفر إلى الذهن ما قاله «فيدون» ل «أشقراط» وهو يقص عليه قصة سقراط في سجنه ويصف له كيف ختم الأجل: «هكذا يا أشقراط قضى صديقنا الذي أقول عنه بحق إنه أحكم من قد عرفت من الناس، وأعدلهم وأكثرهم فضلا.» •••
بدأ هوايتهد حياته العلمية رياضيا من الطراز الأول، وعالما من علماء الطبيعة؛ ولذلك جاءت أولى محاولاته الفلسفية الكبرى متأثرة بتلك الدراسة الأولى، وذلك حين تعاون مع رسل - كما أشرنا - في إخراج مؤلف ضخم في منطق الرياضة يعد بداية عهد جديد في الدراسة المنطقية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن لهذا المؤلف - وأعني به «أسس الرياضة» - أبعد الأثر وأعمقه في توجيه تيار الفكر الفلسفي كله في هذه العشرات الخمس الأخيرة من أعوام القرن العشرين؛ إذ وجه ذلك الفكر الفلسفي نحو التحليل على نموذج ما ورد في «أسس الرياضة» من تحليلات ولو جعلنا للفلسفة المعاصرة صفة واحدة غالبة لقلنا إنها الانتقال من «التأمل» الميتافيزيقي إلى «تحليل» القضايا العلمية، وكان من أئمة هذا التحول في تاريخ الفلسفة المعاصرة فيلسوفنا هوايتهد.
وأهم ما يطبع فلسفة هوايتهد هو رأيه بأن الجانب الهام من حقيقة الشيء - ومن حقيقة العالم بصفة عامة - هو بنيته؛ أي هو شبكة العلاقات الرياضية التي تكون له بمثابة الإطار الذي ينبني عليه وفي حدوده، وليس الجانب الهام هو المضمون الكيفي - الذي يملأ ذلك الإطار - فلو تناولت شيئا ما وفككت أجزاءه وأبطلت بنيته، لفسد الشيء ولم يعد هو هو، برغم احتفاظ الأجزاء بالمضمونات الكيفية؛ لأن قوام الشيء هو - كما قلنا - في العلاقات الرابطة بين أجزائه.
ومن هذا نفهم لماذا سميت فلسفة هوايتهد فلسفة البناء العضوي؛ فكل شيء، وكل واقعة، وكل موقف، هو في الحقيقة بناء ذو هيكل معين، ولو تغير هيكله لأصبح شيئا آخر، فالأمر في أي شيء هو كالأمر في الكائن العضوي من أنه ليس كومة من خلايا أو مجموعة من أعضاء اجتمعت كما اتفق، بل هو فوق ذلك «تركيبة» معينة أو «بنية» خاصة تنتظم بها الأجزاء في شبكة معينة من علاقات، وما قلته عن كل شيء على حدة ، تقوله عن الوجود بأسره.
غير أن هذه العلاقة الشبكية التي تمسك بأطراف الوجود فتجعله ذا بنية معلومة، لا تقتضي أن يظل الوجود على حالة واحدة لا يتغير ولا يتطور، بل إن العالم لفي تغير دائب دائم، تغيرا يحتفظ فيه بذاتيته، بفضل عملية يطلق عليها هوايتهد اسم «التشرب».
فهو يرى أن الشيء - أو الوجود بأسره - يشرب ماضيه شربا يسري في كيانه كله، ثم يسقيه إلى ما سيتلوه في مراحل تاريخه، فعلى الرغم من أن كل كائن هو فريد في ذاته وصفاته، إلا أنه في الوقت نفسه حلقة في سلسلة ممتدة، ورثت سالف الحلقات، وستورث خصائصها المتجمعة فيها لما سيجيء بعدها من حلقات، وهكذا يشعر الفرد الواحد - في مجرى خبرته الحية - بشعورين في وقت واحد؛ يشعر بفرديته التي يتفرد بها، ثم يشعر بأنه رغم فرديته جزء من كل واحد، هو الوجود.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا، حتى إن تصورنا التغير الدائب في الأشياء التي تدركها، لكن هوايتهد يجعل التغير شاملا للذات وللأشياء معا، فلا ينفك ما حولنا يتغير، كذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا تظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة، فكذلك الذات المدركة لا تثبت على حالة إدراكية واحدة لحظتين متتابعتين. كان هرقليطس - وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط - يذهب مذهب التغير في الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون قد أصبح نهرا آخر؛ فليس الماء هو نفسه الذي كان أول مرة، وجاء هوايتهد فوسع من المبدأ نفسه بحيث شمل الذات أيضا، حتى ليصح أن يقال عنها عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين» أو «إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين»؛ لأنك في كل لحظة تتغير ذاتا بتغير موضوع إدراكك، وهكذا يكون العالم كله - ذاتا وموضوعا - جديدا أبدا، لا يدوم على حالة واحدة لحظتين متتابعتين.
لكن الشيء إذا تغير تغيرا لا يقف تياره، فهو إنما يفعل ذلك باطراحه لصفات، واكتسابه لصفات جديدة، هذا بديهي؛ إذ لو دامت للشيء صفاته لما طرأ عليه تغير، فلنا أن نسأل: ومن أين للشيء المتغير صفاته الجديدة التي بها يتغير؟ إن تفسير ذلك محال إلا إذا افترضنا وجود تلك الصفات بالإمكان لا بالفعل، لا بد أن يكون هناك عالم الممكنات إلى جانب هذا العالم الفعلي؛ لكي يتسنى للكائنات الفعلية أن تلبس من عالم الممكنات ثوبا، وتخلع ثوبا خلال سيرها وتطورها.
أفيكون هوايتهد - إذن - أفلاطونيا صريحا، يفرض عالمين، عالم المثل - أو إن شئت فقل عالم الإمكان - من جهة، وعالم الموجودات الفعلية من جهة أخرى؟ عندما ذهب إليه بعض الشراح لفلسفة هوايتهد، لكننا نفضل على هذا الشرح شرحا آخر يفاضل بين هوايتهد وأفلاطون، وهو أن عالم الإمكان عند هوايتهد عالم رياضي صرف؛ أي أنه عالم من علاقات صرفة، ليس يملؤها مضمون كيفي، شأنه في ذلك شأن الصيغ الرياضية التي نراها في قوانين الطبيعة كقانون الجاذبية - مثلا - أو قانون الغازات، فالصيغة الرياضية في كل من هذه الحالات تصور عالم الإمكان، الذي يجيء الواقع الفعلي على غراره، دون أن يكون في الصيغة الرياضية إلا شبكة العلاقات الصورية خلوا من مضمونها الكيفي، هذا هو ما يريده هوايتهد بعالم الإمكان الذي يستمد منه الواقع صوره التي ما تنفك تتغير مضمونا، وأما المثل عند أفلاطون فهي لا تكتفي بمجرد الصيغة الرياضية، بل إنها لتبث فيها كذلك حشوها الكيفي، «فالبياض» مثلا مثال من المثل الأفلاطونية، مع أنه كيفي الطابع، وأما عند هوايتهد فالكيف لا يكون في عالم الإمكان الأزلي الأبدي الذي يقرر وجوده.
تلك لمحة موجزة سريعة، قد تفيد قارئ هذا الكتاب في إلقاء الضوء على بعض ما قد ورد خلال المحاورات من آراء. •••
Halaman tidak diketahui