انقبضت على نفسي في زاوية الزنزانة، فك حزامه وتركه يسقط أرضا، لم أزل هناك في الزاوية فيما بدأ جسدي ينضح بالعرق وقلبي يصدح بنبضات سريعة وكثيرة، فك زر بنطاله الأول واقترب، أخذت زاوية أخرى، لأحافظ على أكبر مسافة ممكنة بيننا والتي لا تتجاوز المتر، فك زره الثاني وبدأ جسدي يقشعر ويرتجف من رأسي إلى أخمص قدمي، فك الزر الثالث فامتلأ صدري بشحنة من الاشمئزاز من كل شيء، فك الزر الأخير، سرقت حزامه عن الأرض وقمت بلفه حول عنقه فيما راح يزمجر كخنزير يختنق، أما الحارس الثاني فقد بدأ يدق بصوت خفيف على باب الزنزانة، وأنا أشد، هو يزمجر والآخر يدق وأنا أشد، رفع صوت الطرق بقوة وأنا أشد بقوة أكبر إلى أن انطفأ صوت الخنزير تماما وسقط أرضا.
في لحظة موته تذكرت الفأر الذي قتله بالطعام الفاسد، وتساءلت: أيعقل أن يموت الفأر اللطيف الآمن ويبقى هذا الرجل حيا؟ لم أحتج إلى أدنى تفكير قبل أن أجزم بضرورة موت الحارس دون أدنى شعور بالتعاطف.
لطالما شعرت بأن التعاطف سمة إنسانية تفرض نفسها على الأفكار والمعتقدات ولا تكترث بآرائنا، ولكني اكتشفت حينها أن مشاهدة جثة الحارس مسجاة أمامي لا تبعث على التعاطف أبدا، كل ما في الأمر أنني شعرت بالاشمئزاز، بل كدت أموت لفرط التقزز .. كنت سأكون المرأة الأولى في الحياة التي تموت اشمئزازا. •••
استمع القاضي لرواية القاتلة، طرق بمطرقته الطاولة، دون أن يفهم أحد إن كانت غضبا أم محض فعل عادي يوحي للنطق بالحكم، وما هي إلا دقائق حتى طوقوا عنقها بحبل مشنقة فيما كانت تنظر إلى عبارة مرسومة على لوحة كبيرة، ابتسمت قليلا وهي تقرأ: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.» فضحكت ثم قهقهت، سحب الكرسي من أسفل قدمها وماتت وهي تضحك بصوت مرتفع ظل صداه يتردد بعد موتها.
خطايا
في ذاك الليل الغريب الذي يتفتح على خلاياي، كنت أجلس في الساحة الواقعة أمام المطعم، أنتظر مديري ليأخذني إلى سكن العاملين، فوحده من يعرف حقيقة أمري، تأخر قليلا فأخذت أستعيد لحظاتي الجامعية والسنوات الفائتة التي تنبعث منها رائحة الطيش والرعونة.
تملكني ذعر شديد من أن تداهم سيارة شرطة المكان، ويأخذوني إلى السجن فلا يعود للعائلة من معيل، وراحت تتطاير أفكاري اليائسة وتحوم في نسيم هذا الليل من حولي .. كان يجب ألا آتي إلى هنا ولأنتظر أية وظيفة قذرة .. في غمرة ما أحياه من تخوف تهجم مثل هذه الهواجس وتشعل فتيلة الخيالات المروعة، وما تلبث أن تنطفئ إذ تأتي «ديفال»، فهي وحدها القادرة على تخدير عقلي وترويض هواجسي.
انتابني فضول فادح لأنظر إليها في الوراء، وأرى ماذا تفعل تلك الشقراء الروسية التي تبعث في ذاك التحفز الغريزي المجنون لأقترب منها حد الالتصاق .. ترددت قليلا وعقدت حاجبي جديا لأدع الأمور تجري وتنساب على مهل، كما أنني أحب هذا النوع من المماحكة النسائية الجميلة ولاسيما إن اندلعت من امرأة محترفة مثل ديفال.
شعرت بالوقت بطيئا جدا إلى أن تركت لصوتها الرقيق حرية الانسياب: تبدو نزقا إلى حد ما.
ذهلت أول الأمر فنادرا ما يتدخل أحد في شئون الآخر هنا، في حيفا مجمع الغرباء، وبعد قليل من الصمت ابتسمت وقلت في محاولة لاستثارة فضولها: قليل من الشرود وحسب.
Halaman tidak diketahui