Muhammad in the Holy Scriptures
محمد ﵌ في الكتب المقدسة
Penerbit
مركز التنوير الإسلامي للخدمات المعرفية والنشر بالقاهرة
Nombor Edisi
الأولى-١٤٢٦ هـ
Tahun Penerbitan
٢٠٠٦ م
Genre-genre
[التصدير]
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال ﷺ:
" والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" (صحيح مسلم)
قال الإمام ابن القيم:
" لو لم يظهر محمد بن عبد الله- ﷺ لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: " بل جاء بالحق وصدق المرسلين". "
1 / 1
الإهداء
إلى الإمام الغائب، الشاهد..
شيخ الإسلام.. مفتي الأنام بلسم السنة..
ناصر الملّة في زمن الذلّة..
ابن تيميّة..
﵀ رحمة واسعة، وأبقى ذكره الطيّب في العالمين!
1 / 2
توطئة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ" (الروم ١٥- ١٦) ..
والصلاة والسلام على حبيبي وقرّة عيني، ومعلّمي الخير ودليلي إلى الفلاح: محمد بن عبد الله ﷺ حجة الله على الناس أجمعين، والمبشّر به على لسان الأنبياء الأوّلين.
صلّى عليه إلهه وخليله ... مادامت الغبراء والخضراء
فهو الذي فاق الأنام كرامة ... واستبشرت بقدومه الأنباء
أما بعد، فإن أمتنا تعيش في معترك حام، تحت سماء حمراء متوهجة، وفوق أرض صخرية متأججة، تملؤها سنابك خيل الدعاة البغاة المعجّجة، وتتخطفها الأيادي الآثمة، وتنخر أرضها الطاهرة تمددات سرطانية عابثة.
ولا شكّ أنّ هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الإنسانية تستحث المسلم لنثل سهام من كنانة الحق رغبة في إخماد وساوس الباطل وشقاشقه..
ولا شكّ أنّ حماية بيضة الدين وصيانة حوزة التوحيد هي أهم المهمات في زمن الملمات.
ومما لا يستريب فيه عاقل أنّ مرحلة التيه التي تتخبّط فيها طوائف مليونية وتحترق في أتونها يوميا، تستدعي من حاملي مشاعل النور أن يخرجوا إلى الذين قد سكنهم
1 / 3
الضياع ليرشدوهم إلى معالم طريق الهدى وليأخذوا بأيديهم إلى أبواب السكينة.
لأجل كل ذلك يتحدث إليكم اليوم، أحد المسلمين عن البشارة بمحمد ﷺ في الكتب المقدسة عند النصارى واليهود والهندوس والبوذيين والصابئة والمجوس..
وليس علينا إلا أن نبسط القول في كشف دلائل الحق، وتسليط الأنوار عليها، وقمع الظلام الذي يريد طمس روعة الهدى وإطفاء جذوته الحارة.. فإنّ أصرّ البغاة على أنفسهم وأشاحوا بالوجه عمّا جاءهم من الحقّ وغلّقوا العيون وسدّوا الآذان، قال قائلنا:
هذا بلاغي لكم والبعث موعدنا ... وعند ذي العرش يدري الناس ما الخبر
وحديثنا المتواضع، يأتي بعد سلسلة من الكتب التي ألفها دعاة إلى الله في محاولة حثيثة إلى استقطاب النصارى واليهود والمجوس والبوذيين والهندوس إلى الإسلام. وقد جمعت تلك النخبة من الكتب الحجة القاطعة إلى الأسلوب الرائق دون تحريف الواقع أو التزييف الباقع..
وقد كان ردّ فعل الأقوام المدعية إلى جنة عرضها السماوات والأرض متباينا:
فمن مهرول إلى الحق راكع في محرابه.. ومتأنّ في مشيّه بطيء في حركته.. ومتلعثم متعثر قبل تخطي عتبة الباب.. ورافض مشتط في الغواية نصب سيف الحرب على الوحي ليستعلن بباطله المنتفش انتفاشه الزبد الرابي سريع الزوال!!
والمتابع لردود فعل أهل الديانات الأربع السابقة، منذ القرون الأولى، من إعلان النبي الخاتم ﷺ بعثته المباركة، يلحظ بكلّ يسر أنّ أكثر ديانة وقفت بعقائدها ضد قرآن الإسلام في القرون الهجرية الأولى هي الديانة المجوسية التي بلغت درجة" متقدمة" من منطقة أصولها والدفاع عنها، ويظهر من كتاب" الفهرست" لابن النديم الوراق (؟ - ت ٣٨٥ هجري) أنّ الردود الإسلامية على المجوسية المتمثلة في كتب
1 / 4
وردود مؤلفة في القرون الهجرية الأولى أكبر بكثير من الكتب التي ألفت في تلك الفترة في الحديث عن النصرانية وفي إبطالها، فقد تناول ابن النديم في المقالة التاسعة، الديانات الفارسية والهندية فيما يزيد عن خمسين صحيفة (من ص ٤٤١- ٤٩٣)، في حين أنه خصص للفرق النصرانية صحيفة واحدة (ص ص ٣٣- ٣٦) . وكانت هذه العاصفة الإسلامية على المجوسية التي عاشت لفترة هامة تحت حماية امبراطورية مترامية الأطراف وفي ظلّ تأييدها، سببا في اندثار المجوسية باعتناق أهلها الإسلام وانسلاخهم من دين التثنوية.
استمر دين الصابئة محصورا في فئة قليلة، وكان لظهور الإسلام على جميع الأديان في بلاد الشام والعراق والحجاز سدا قطع شرايين هذا الدين وآماله في الانتشار والتوسّع.
أما النصرانية واليهودية والبوذية والهندوسية فقد تقلّص حجم تمددها الأرضي والبشري لصالح الإسلام وإن لم تندثر عقائدها..
وقد كان لصدق دين الإسلام ووضوحه وكماله وسعته والجلد الذي أظهره من اعتنقوه، أثر غير مسبوق في انتشاره في قلوب الناس وتمكّنه من الصدور..
وقد شهد كبار الباحثين الغربيين لمعجزة سرعة انتشار الإسلام على حساب بقية العقائد والأديان، معربين عن عظيم دهشتهم من السرعة الفائقة التي اكتسح بها الإسلام الأراضي والنفوس.
فقال المؤرخ الهولندي دوزي: " إنّ هذه الظاهرة تبدو لأول وهلة لغزا غريبا، لا سيما متى علمنا أنّ الدين الجديد لم يفرض فرضا على أحد".
وقال ماركس مايرهوف في مؤلفه" العالم الإسلامي": " ويكاد يكون مستحيلا أن نفهم كيف أنّ أعرابا منقسمين إلى عشائر ليست عندهم العدد والعدة اللازمة يهزمون
1 / 5
في مثل هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا أكثر منهم مرارا في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم وهم كتائب منظمة".
وقال لورد ستروب: " فكلما زدنا استقصاء، باحثين عن سر تقدم الإسلام زادنا ذلك العجب العجاب بهرا فارتددنا عنه بطرف كسير.. عرفنا أنّ سائر الأديان العظمى إنما نشأت تسير في سبيلها سيرا بطيئا متلافية كل صعب، حتى قيّض الله لكل دين من أراده من ملك ناصر وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذب عنه حتى رسخت أركانه وضمت جوانبه. إنما ليس الأمر كذلك في الإسلام.. الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية" ...
وقد رجّت هذه الحركة التوسعية السريعة الوثّابة معاقل كثير من الأديان الوافرة الأتباع وجعلتها تتقلّب في مواقفها وتتلجلج في ردود أفعالها.. فقد بدأت في أوّل أمرها بالطعن الشديد والافتراء الفجّ والكذب السمج- واقرأ لزاما كتاب د. عبد الرحمن" دفاع عن القرآن ضد منتقديه" لترى العجب العجاب وما يضحك الثكلى التي فقدت الأولاد، من الأباطيل السخيفة المدعاة على القرآن-. وصار أقطابها اليوم يعلنون اعترافهم ب" ثورة" موج الإسلام وأنّه رقم صعب في معادلة العقائد.. لكنهم لم يقبلوا الهدى ولم يعبروا المدى، وإنّما غيّروا" التكتيك" في التعامل مع دين الله الحقّ.. فطفت على الساحة آراء جديدة ومناهج طريفة في الصدّ عن الضدّ بأسلوب لبق خفي، من ذلك إبطال الكنيسة الكاثوليكية في النصف الثاني من القرن العشرين ما سبق أن أعلنه أحد الرؤساء السابقين في نهاية القرن الحادي عشر، من اعتبار المسلمين كفارا (!؟)، فهم لا كفار ولا مؤمنين- مترلة بين مترلتين-!!، وذلك في بحوثها التي عرضت في المجمع الثاني للفاتيكان، والذي عقد في فترة ١٩٦٣- ١٩٦٥.
1 / 6
فقد جاء في تلك الوثيقة: " إنّ كنيسة المسيح تعترف بأنّ مبادئ عقيدتها قد بنيت لدى الرسل والأنبياء طبقا لسر الخلاص الإلهي. فهي تعترف فعلا بأنّ جميع المؤمنين وهم أبناء إبراهيم- حسب العقيدة- داخلون في رسالة ذلك النبي.
وبدافع المحبة نحو إخواننا فلننظر بعين الاعتبار إلى الآراء والمذاهب، التي وإن تباينت كثيرا عن آرائنا ومذهبنا، فإنها تضم نواة من تلك الحقيقة التي تنير قلب كل إنسان يولد في هذا العالم..
ولنعانق أولا المسلمين الذين يعبدون إلها واحدا، والذين هم أقرب إلينا في المعنى الديني وفي علاقات ثقافية إنسانية واسعة".
ولنا نحن أن نعلن أنّه على الكنيسة الكاثوليكية أن تسير إلى الأمام خطوات أكبر، لتعلن بكل جرأة أنّ الحق كلّه هو في الإسلام فقط، أما بقية الأديان السماوية فهي لا تحمل غير" نواة من تلك الحقيقة"!!
إنّ ما أعلنته الكنيسة الكاثوليكية هو أحد علامات إحساس القوم بالزحف الإسلامي الحثيث إلى أرض النواقيس ... حتى بلغ الأمر بالصحف الشهيرة في الغرب أن صرّحت أنّ الإسلام يشرق على العالم من جديد ولكنه يشرق هذه المرة من الغرب..
بل ها هي صحيفة" إيل جورنالي" الإيطالية تصرّح أنها تتوقع أن تتخذ المجتمعات الأوروبية الإسلام دينا لها بعد ٢٠٠ سنة، وأنّ الإسلام قد نفذ اليوم إلى قلب أوروبا.
وقد أعلن الكثير من الباحثين ومراكز الإحصاء أنّ الإسلام هو أكثر الأديان انتشارا في العالم. جاء هذا الاعتراف في أحد دراسات مركز" رصد العقائد" في مدينة" برن" بسويسرا.. وقالت الباحثة الكهنوتية كارول أنوي: " الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في أمريكا الشمالية"، وأعلن الدتور هستون سميث أنّ: " الإسلام في هذا العصر كما في العصور السابقة أسرع الأديان إلى كسب الأتباع المصدّقين"!!
1 / 7
إنّ الإسلام يعود إلى البروز من جديد.. ولكن لا تزال طبائع النفوس الحائدة عن الحق كما كانت، ما بين نفس متعطّشة للهداية في مسلاخ عامي جاهل.. ونفس رجل مترددة بين الظلمة والنور والظل والحرور.. وأخرى قد غلفها السواد واستوطنها الفساد فركبت الهوى، ومن ركب الهوى هوى، ومن رضي الهوان هان!
ولا زالت أصوات الدعاة إلى الحق تتردد في أجواء الكون أن أقبلوا على الله.. أن فرّوا إلى الله.. وأن لا ملجأ من الله إلا إلى الله.. ولكن عبّاد الآباء لا يكفون عن الافتئات على الدين الحق، والتمسّك بآثار الأوّلين ولو كانوا من عمّار السعير وحصب الجحيم.
ولا يزال النهج العملي الواقعي (لا الرسمي النظري) لرسل الكنائس في مكاتباتهم ومحاضراتهم هو السبّ والتجديع ورشّ السهام والتعنيف، وهو ولا شك، نهج الذين يعتزون إلى ما لا يحسنون ممن فاق ما أخطؤوا فيه ما يحسنون. وغاية أمرهم التلبيس والتدليس، ممّا لا يخفى عمّن خبر مواقفهم من الإسلام. فقد جاء مثلا في مؤتمر كولورادو- ١٩٧٨ م- لتنصير المسلمين، تصريح المجتمعين أنّ الإسلام" هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعيا وسياسيا.. ونحن بحاجة إلى مئات المراكز، لفهم الإسلام، ولاخترقه في صدق ودهاء. "!!!
وعلى الضفة الأخرى، على ذرى المجد، وفي بؤرة النور، تنطلق في أجواء الكون صيحات عقلاء مبصرين، محّصوا العقائد الرائجة بين الخلق، فاختاروا منها ما وافق العقل ولامس شغاف الفطرة. صيحات تنادي أن أقبلوا على جنان الدنيا والآخرة.. على سعادة الدارين.
إنها دعوة من مسلم واع بما أوتيه من حقّ، إلى غيره من بني البشر من الذين لم ترشد عقولهم، ومن الذين ران الغبش على بصائرهم، أنّ هذا هو الدواء لعلّتكم وأنّ هذا هو الطريق إلى سعادتكم.
1 / 8
إنها دعوة إلى الاصغاء لنبضات القلب وهمساته.. لصرخاته المكبوتة في الصدر عند لحظة الميلاد. «١»
إنّها دعوة إلى مراجعة ما في القلب والتثبّت في ما انطبع عليه من ذكر" الله" سبحانه. «٢»
_________
(١) إنّ نبضات القلب تبدأ بعد بداية الشهر الرابع، ويمكن سماعها، وتكون واضحة في الشهر الخامس، والقلب في أول نبضاته ينطق باسم الخالق العظيم كما هو مصرّح به في كتاب الله وسنة نبيّه الكريم محمد ﷺ: " الله"، هذا ما ذكرته الدكتورة" فلك الجعفري عن أحد الأساتذة المصريين حين أراد تسجيل أول دقّة لقلب الجنين. (عن الشيخ خالد عبد الرحمن العك غاية حياة الإنسان ص ١٠٧) !!
(٢) نقل الشيخ العك في كتابه السابق في نفس الصفحة أنّ أحد الدكاترة، واسمه خلوق نورياني، وهو متخصص في القلب قوله: " في أحد الأيام وأنا أتصفح كتابا علميا أخذتني الدهشة لمّا رأيت في صورة القلب اسم" الله" مكتوبا في وسطه. اعتقدت أنني تخيّلت ذلك. واقتربت من الصورة أكثر فتبين لي أنّ اسم" الله" مكتوب وكأنه خطّ بأنامل فنان ماهر، أسرعت إلى الطبق المعلّق على حائط الغرفة المكتوب وسطه" الله" وقارنته مع ما وجدته مكتوبا على القلب، فتبين لي أنه لم يكن مصادفة وإنما اسم" الله" كان مكتوبا على القلب دون نقصان!! وبدأت أبحث لسنوات ... ما آمنت به من أنّ اسم" الله" الموجود في قلب الإنسان قد وجدته أيضا في أطلس طيي وضعه العلماء الغربيون بشكل دقيق وواضح، وبقيت أدقق في الأطلس لأجد جوابا على ما يدور في ذهني: هل يكون هذا الاسم الأعظم موجودا في هذه الصورة فقط؟ أم مكتوبا على كلّ قلب؟ لكن الجواب كان نعم حين التشريح!! وتأكد لي ذلك في عمليات التشريح، إذ أنّ قلب الإنسان عند الجميع مكتوب عليه اسم الخالق بلا استثناء بوضوح تام!! كما أنّ مكان اسم" الله" مدهش مما يوحي بالدقة الفائقة، لأنّ نسيج القلب من ألياف العضلات المنسوحة كالشيك، إلّا أنّ مكان اسم" الله" لا يوجد فيه نسيج عضلي، كأنّ هذه المنطقة خلقت هكذا ليكون وضع الاسم الأعظم فوقها واضحا!! وكأنّ هذه المنطقة المسماة طبيا" أوريكولا" المؤلفة من عضوين لم تتوضح حتى الآن المعلومات حولها، وربما كان كذلك حفاظا على السرية في هذه الناحية من القلب. "
1 / 9
وها هو موضوع البشارة بمحمد ﷺ في الكتب المقدسة لأشهر الأمم السابقة بين يديك، نعرضه في سياق سجالي، بعيدا عن النهج التلقيني أو العرض التمويهي، وإنما نسوق أمامك ما نراه حقيقة ونردّ على اعتراضات المخالفين وشبهات المكابرين، وبالذات النصارى، سواء أكانت اعتراضات عامة على فكرة وجود البشارة ذاتها في تلك الأسفار، أو كانت اعتراضات تفصيلية على بشارات بعينها.. وطريقتنا هي: استنطاق النصوص في ضوء ما يكشفه لفظها، والاستعانة بما نستنتجه من التراجم الحديثة والتعاليق التي جاءت في هوامشها وما انبثق من حقائق توصّل إليها غيرنا من الباحثين الذين لا نتحرّج من نقل الكثير من استنباطاتهم. علما أنّنا قد نشتد في العبارة ونظهر التصريح لا الإشارة، لا رغبة في التشفّي، ولكن حتى لا يقع الغرّ في الجبّ.
وقد أردنا لكتابنا، بعون الله وفضله، أن يكون أشبه بالدليل العملي للدعوة والمناظرة. ونرجوا أن نكون قد أضفنا لبنة جديدة صلبة في هذا الباب.
وهذا الكتاب هو أيضا يد نمدّها إلى الكنائس في بلاد العرب، رعاة ورعايا، أن تعالوا إلى ما يدفع الفتن عن بلاد المسلمين التي نسكن كلّنا أرضها، وأقبلوا لتدفع عنكم وعن أبنائكم كربات يوم القيامة وحسراته القاتلة فتلك والله الحالقة.. فالبدار البدار إلى صراط الجنان!!
وندعوا الله أن يكون الجهد المتواضع الذي بذلناه، خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لنا حظ النفس فيه، وأن يهبه القبول في الدنيا بين من ينشدون الحق ويرغبون في النجاة في يوم لا يفلح فيه من فوّت على نفسه قارب النجاة إلى مرسى الجنّات: شهادة أن" لا إله إلّا الله، محمد رسول الله".
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل..
ربّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي!
1 / 10
محمّد ﷺ في أسفار النصارى واليهود
1 / 11
مقدمة:
هى إجابة على سؤالين: * هل لا بدّ، للإقرار بنبوة محمد ﷺ، أن تخبر به الكتب السابقة؟
* هل القرائن والأخبار العامة، بعيدا عن البحث التفصيلي في نصوص الأسفار المقدسة للنصارى واليهود تشهد لتنبئ هذه الكتب بخروج محمد ﷺ نبي الإسلام؟
يجيب على السؤال الأول شيخ الإسلام، بحر العلوم، ابن تيمية، نوّر الله قبره، في كتابه" الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح":
" والنصارى لهم سؤال مشهور بينهم، وهو أن فيهم من يقول محمد: " لم تبشر به النبوات، بخلاف المسيح فإنه بشرت به النبوات".
وزعموا أن من لم تبشر به فليس بنبي.
وهذا السؤال يورد على وجهين: أحدهما: أنه لا يكون نبيا حتى تبشر به.
والثاني: أن من بشرت به أفضل أو أكمل، ممن لم تبشر به، أو أن هذا طريق يعرف به نبوة المسيح، اختص به.
وأنتم قد قلتم: ما من طريق تثبت به نبوة نبي إلا ومحمد تثبت نبوته بمثل تلك الطريق وأفضل.
فأما هذا الثاني، فيستحق الجواب وأما الأول نجيبهم عنه أيضا لكن هل تجب الإجابة عنه؟ فيه قولان بناء على أصل وهو أنه هل من شرط النسخ الإشعار بالمنسوخ
1 / 12
ولنظّار المسلمين فيه قولان:
أحدهما: أنه لا بد إذا شرع حكما يريد أن ينسخه فلا بد أن يشعر المخاطبين بأنه سينسخه لئلا يظنوا دوامه فيكون ذلك تجهيلا لهم.
والثاني: لا يشترط ذلك.
وأيضا، فمن بعث بعد موسى بشريعة، هل يجب أن يكون مبشرا به؟ فيه قولان.
وبكل حال، فلا ريب عند علماء المسلمين أن المسيح ﵇ بشّر بمحمد كما قال تعالى" وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (سورة الصف ٦) .
قال تعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ" (الأعراف ١٥٧) .
وقال تعالى: " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (سورة الفتح ٢٩)
وقال تعالى: " الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة ١٤٦) و(الأنعام ٢٠) (...)
وقال تعالى: " وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ" (سورة البقرة ٨٩)
1 / 13
وقال تعالى: " أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" (سورة الأنعام ١١٤) (...)
وإذا كان كذلك، فيقال: معلوم باتفاق أهل الملل، أنه ليس من شرط نبوة كل نبي أن يبشر به من قبله، إذ النبوة ثابتة بدون ذلك، لا سيما ونوح وإبراهيم وغيرهما لم يعلم أنه بشر بهما من قبلهما، وكذا عامة الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل لم تتقدم بهم بشارات إذ كانوا لم يبعثوا بشريعة ناسخة كداود وأشعيا وغيرهما.
وإنما قد يدعى هذا فيمن جاء بنسخ شرع من قبله، كما جاء المسيح بنسخ بعض أحكام التوراة وكذلك محمد ﷺ، ففي مثل هذا يتنازع المتنازعون من علماء المسلمين وغيرهم: هل يشترط أن يكون قد أخبر بذلك قبل النسخ؟ على قولين.
وحينئذ فالمسلمون يقولون: شريعة التوراة والإنجيل، لم تشرع شرعا مطلقا، بل مقيدا، إلى أن يأتي محمد. وهذا مثل الحكم المؤقت بغاية لا يعلم متى يكون، كقوله تعالى: " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ" وقوله تعالى: " فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" ومثل هذا جائز باتفاق أهل الملل.
وهل يسمى هذا نسخا؟ فيه قولان.
قيل لا يسمى نسخا، كالغاية المعلومة. كقوله تعالى: " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ" فإن ارتفاع وجوب الصيام بمجيء الليل، لا يسمى نسخا باتفاق الناس.
فقيل إن الغاية المجهولة، كالمعلومة.
وقيل: بل هذا يسمى نسخا، ولكن هذا النسخ جائز باتفاق أهل الملل، اليهود وغيرهم.
1 / 14
وعلى هذا، فثبوت نبوة المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، لا تتوقف على جواز النسخ المتنازع فيه، فإن ذلك إنما يكون في الحكم المطلق، والشرائع المتقدمة لم تشرع مطلقا. وسواء قيل: إن الإشعار بالناسخ واجب، أو قيل: إنه غير واجب، فعلى القولين قد أشعر أهل الشرع الأول، بأنه سينسخ (...) .
وإذا كان هذا هو الواقع، فنبوة المسيح محمد صلى الله عليهما وسلم، لا تتوقف على ثبوت النسخ المتنازع فيه.
وحينئذ فنقول: العلم بنبوة محمد ونبوة المسيح، لا تتوقف على العلم بأن من قبلهما بشر بهما، بل طرق العلم بالنبوة متعددة.
فإذا عرفت نبوته بطريق من الطرق، ثبتت نبوته عند من علم ذلك، وإن لم يعلم أن من قبله بشّر به.
لكن يقال: إذا كان الواجب أو الواقع أنه لا بد من إخبار من قبله بمجيئه، وأن الإشعار بنسخ شريعة من قبله واجب، أو واقع، صار ذلك شرطا في النبوة. ومن علم نبوته علم أن هذا قد وقع وإن لم ينقل إليه.
فإذا قال المعارض: عدم إخبار من قبله به يقدح في نبوته، وأنه إذا قدر أنه لم يخبر به من قبله، والإخبار شرط في النبوة، كان ذلك قدحا.
قيل: الجواب هنا من طريقين: أحدهما: أن يقال: إذا علمت نبوته بما قام عليها من أعلام النبوة، فإما أن يكون تبشير من قبله لازما لنبوته واجبا، أو واقعا، وإما أن لا يكون لازما.
فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه، وإن كان لازما علم أنه قد وقع، وإن كان ذلك لم ينقل إلينا، إذ ليس كل ما قالته الأنبياء المتقدمون علمناه ووصل إلينا. وليس كل ما أخبر به المسيح ومن قبله من الأنبياء وصل إلينا، وهذا مما يعلم بالاضطرار.
1 / 15
ولو قدّر أن هذا ليس في الكتب الموجودة، لم يلزم أن المسيح ومن قبله لم يذكروه، بل يمكن أنهم ذكروه وما نقل، ويمكن أنه كان في كتب غير هذه، ويمكن أنه كان في نسخ غير هذه النسخ فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه، وتكون تلك النسخ التي هو موجود فيها غير هذه، فكل هذا ممكن في العادة لا يمكن الجزم بنفيه.
فلو قدر أنه ليس في هذه الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب، لم يقطع بأن الأنبياء لم يبشروا به، فإذا لم يمكن لليهود أن يقطعوا بأن المسيح لم يبشر به الأنبياء، ولا يمكن أهل الكتاب أن يقطعوا بأن محمدا لم يبشر به الأنبياء، لم يكن معهم علم بعدم ذلك، بل غاية ما يكون عند أحدهم ظن لكونه طلب ذلك فلم يجده.
ودلائل نبوة المسيح ومحمد قطعية يقينية لا يمكن القدح فيها بظن فإن الظن لا يدفع اليقين، لا سيما مع الآثار الكثيرة المخبرة بأن محمدا كان مكتوبا باسمه الصريح فيما هو منقول عن الأنبياء، كما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو، أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة، فقال إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: " يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل. لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تجزي بالسيئة الحسنة، وتعفو وتغفر. ولكن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله".
ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة، ويراد به الجنس، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره، كما في الحديث الصحيح عن النبي، خفف على داود القرآن، فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن.
والمراد به قرآنه، وهو الزبور، ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد.
1 / 16
وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد، أناجيلهم في صدورهم، فسمى الكتب التي يقرؤونها وهي القرآن، أناجيل.
وكذلك في التوراة، إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من اخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى، فسمى الكتاب الثاني توراة.
فقوله أخبرني بصفة رسول الله في التوراة، قد يراد بها نفس الكتب المتقدمة كلها، وكلها تسمى توراة، ويكون هذا في بعضها.
وقد يراد به التوراة المعينة، وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا.
لكن هذا عندهم في نبوة أشعيا، قال فيها: " عبدي الذي سرت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا.
لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق. يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف. وما أعطيه لا أعطي أحدا. يحمد الله حمدا جديدا. يأتي من أقصى الأرض، وتفرح البرية وسكانها. يهللون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية. لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، مشقح. ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى، أثر سلطانه على كتفيه".
وهذه صفات منطبقة على محمد ﷺ وأمته، وهي من أجل بشارات الأنبياء المتقدمين به.
ولفظ التوراة، قد عرف أنه يراد به جنس الكتب التي يقرّ بها أهل الكتاب، فيدخل في ذلك الزبور، ونبوة أشعيا، وسائر النبوات غير الإنجيل.
1 / 17
فإن كان المراد بلفظ التوراة والإنجيل في القرآن هذا المعنى، فلا ريب أنّ ذكر النبي ﷺ في التوراة بهذا الاعتبار، كثير متعدد (...) .
الطريق الثاني من الجواب: أن نبين أن الأنبياء قبله، بشروا به. وهذا هو دليل مستقل على نبوته وعلم عظيم من أعلام رسالته. وهذا أيضا يدل على نبوة ذلك النبي، إذ أخبر بأنباء من الغيب مع دعوى النبوة. ويدل على نبوة محمد لإخبار من تثبت نبوته بنبوته، هذا إذا وجد الخبر ممن لا نعلم نحن نبوته ولم يذكر في كتابنا.
وأما من ثبتت نبوته بطرق أخرى، كموسى والمسيح، فهذا مما تظاهر فيه الأدلة على المدلول الواحد، وهو أيضا يتضمن أن كل ما ثبتت به نبوة غيره، فإنه تثبت به نبوته، وهو جواب ثان، لمن يجعل ذلك شرطا لازما لنبوته. "
يجيب عن السؤال الثاني الإمام المجدد، شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه الموسوم ب" هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" بقوله، تحت عنوان" إثنا عشر وجها تدلّ على أنه (محمد ﷺ مذكور في الكتب المنزلة: "
العلم بأنه ﷺ مذكور في الكتب المتقدمة يعرف من وجوه متعددة:
أحدها: أخبار من قد ثبتت نبوته قطعا بأنه مذكور عندهم في كتبهم فقد أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه إذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته هذا لو لم يعلم ذلك إلا من مجرد خبرة فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به.
الثاني: أنه جعل الإخبار به من أعظم أدلة صدقه وصحة نبوته وهذا يستحيل أن يصدر إلا من واثق كل الوثوق بذلك وأنه على يقين جازم به.
1 / 18
الثالث: أن المؤمنين به من الأحبار والرهبان الذين آثروا الحق على الباطل صدقوه في ذلك وشهدوا له بما قال.
الرابع: أن المكذبين والجاحدين لنبوته لم يمكنهم إنكار البشارة والأخبار بنبوة نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا وصفة أمته ومخرجه وشأنه لكن جحدوا أن يكون هو الذي وقعت به البشارة وأنه نبي آخر غيره وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم أنهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا غارب البهت.
الخامس: أن كثيرا منهم صرح لخاصته وبطانته بأنه هو هو بعينه وأنه عازم على عداوته ما بقي كما تقدم.
السادس: أن إخبار النبي ﷺ بأنه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد اخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم وما جرى لهم وقصص الأنبياء المتقدمين وأممهم وشأن المبدأ والمعاد وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه ومطابقته لما عندهم وتلك الاخبارات أكثر من أن تحصى ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها وكانوا أحرص شيء على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه فلم يقل أحد منهم يوما من الدهر انه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه بل كانوا يصدقونه في ذلك وهم مصرون على عدم إتباعه وهذا من أعظم الأدلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يعلم إلا بمجرد خبره.
السابع: أنه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب عندهم وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب وأخبر به لأتباعه فلو كان هذا باطلا لا صحة له لكان ذلك تسليطا للمشركين أن يسألوا أهل الكتاب فينكرون ذلك وتسليطا لأهل الكتاب على الإنكار وتسليطا لاتبعاه على الرجوع عنه والتكذيب له بعد تصديقه وذلك ينقض الغرض المقصود بإخباره من كل وجه وهو بمنزلة رجل يخبر بما يشهد بكذبه ويجعل
1 / 19
أخباره دليلا على صدقه وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به وإن لم يعلم وجوده من غير جهة أخباره فكيف وقد علم وجود ما أخبر به.
الثامن: أنه لو قدر أنهم لم يعلموا بشارة الأنبياء به وأخبارهم بنعته وصفته لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته إذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل إلى المتأخرين وأحاطوا به علما وهذا مما يلعم بالاضطرار فكم من قول قد قاله موسى وعيسى ولا علم لليهود والنصارى به فإذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجبا لرده وتكذيبه.
التاسع: أنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه (...) .
العاشر: أنه استشهد على صحة نبوته بعلماء أهل الكتاب وقد شهد له عدو لهم فلا يقدح جحد الكفرة الكاذبين المعاندين بعد ذلك قال تعالى: " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ". وقال تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". وقال تعالى: " ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، وقال تعالى: " الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ". وإذا شهد واحد من هؤلاء لم يوزن به ملء الأرض من الكفرة ولا تعارض شهادته بجحود ملء الأرض من الكفار كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعاف أضعاف المكذبين له منهم وليس كل من
1 / 20