وكأني بالخرافة - بعد أن بلغ محمد علي أوج مجده وشهرته - رأت بعيون مخيلتها الملتهبة ما كانت تتغذى به مخيلة محمد علي في تلك الفترة من حياته، فأرادت أن تعطي للأحلام جسما وتلبسها لباس الواقع، اتباعا لما هي عادتها في أحاديثها عن عظماء رجال التاريخ، فروت أن بطلنا لما بلغ سن نضوج الشباب أقدم على أعمال فروسية عجيبة، كتطهير البلاد من اللصوص العائثين فيها فسادا، ومن الحيوانات الكاسرة التي كانت تفتك في الشتاء بالأهلين؛ ما لفت إليه أنظار السلطان العثماني وحمله على تقليده إمارة ألاي من الجند، أتى به محمد علي من الغرائب في ميدان مطاردة اللصوص وعصاباتها العجب العجاب، فكبرت منزلته وعلت درجته في عيني الخليفة وطارت شهرته في العالم وبات مجرد النطق باسمه يلقي الرعب في قلوب قطاع الطرق، فرأى أمير المؤمنين أن يعهد إليه بقيادة أسيطيل لمطاردة قرصان البحار، وقطع دابرهم كما قطع دابر لصوص الجبال والبطاح، فتعقب محمد علي أولئك القرصان، وما انفك يوقع بهم ويدمر مراكبهم ويهلك جموعهم حتى استأصل شأفتهم ونظف منهم بحر مرمرة وبحر الأرخبيل، فقرت به عينا السلطان وأدناه من نفسه، وأراد أن يقلده وظيفة سامية في بلاطه، ولكن محمدا فضل العودة إلى بلده والإقامة في مكان مسقط رأسه، بين صحبه وخلانه.
على أن التاريخ إن جهل هذه الاختلاقات الخرافية، إلا أنه يذكر لمحمد علي الواقعة الحقيقية الآتية: لما بلغ الشاب الثامنة عشرة من عمره، اتفق أن أهالي قرية يقال لها پراوستا، واقعة في دائرة أحكام شوربجي قوله، رفضوا دفع الأموال المفروضة عليهم، وإذ لم يكن لدى الشوربجي من القوة العسكرية ما يكفيه لإرغامهم على دفعها عنوة، احتار في أمره، وبدت على وجهه أمارات الكدر والاضطراب، فلحظ محمد علي منه ذلك، ولما وقف على السبب، عرض عليه خدمته قائلا إنه يتكفل بإجبار أهل پراوستا على دفع الأموال، ولا يطلب منه لنفاذ ما يدور في خلده سوى عشرة رجال كاملي السلاح، فوضعهم الشوربجي تحت تصرفه، وترك له حرية العمل؛ لما قرأه من أكيد العزم في عينيه.
فذهب محمد علي إلى پراوستا، ودخل مسجدها، وأدى فيه الصلاة على مرأى من الجميع، حتى إذا فرغ منها، أرسل في طلب أربعة من أعيان الناحية، بحجة تبليغهم نبأ ذا أهمية خطيرة، فأسرع الأربعة في المجيء، وهم أبعد ما يكونون عن كل ظن، ولكنهم ما كادوا يتجاوزون عتبة المسجد، إلا وانقض رجال محمد علي عليهم وشدوا وثاقهم، فصاحوا واستغاثوا، فاجتمع أهل الناحية عليهم في هياج، فتوسط محمد علي رجاله العشرة بالأسرى الأربعة، وهدد قومهم بذبحهم، إذا أبديت أقل حركة لإنقاذهم من بين يديه، ولما كانت كل مظاهره تؤكد لأهل پراوستا أن الفتى غير مازح في تهديده، لم يجسر أحد على التعرض له، فسار بالأسرى إلى قوله، وسلمهم إلى شوربجيها، فما كان من أهل براوستا إلا أنهم بادروا من غد بالأموال المطلوبة منهم، وافتدوا أعيانهم.
هذه الحادثة تبدي شخصية محمد علي في أتم حقيقتها، وتظهر معدن نفسه إظهارا جليا، فنراها مزيجا عجيبا من ترو سريع، فإدراك سريع ، فعزم سريع، فإقدام جسور، فشجاعة نادرة.
لذلك كبرت منزلته في عيني الشوربجي، فرفعه إلى درجة بلوك باشي، وأزوجه من قريبة له ذات ثروة واسعة، كانت مطلقة، فبنى بها واستولدها خمسة أولاد؛ منهم ثلاثة ذكور سماهم: إبراهيم وطوسن وإسماعيل؛ إكراما وذكرا لإبراهيم أبيه، وطوسن عمه، وإسماعيل الشوربجي المحسن إليه. وبنتان تزوجتا فيما بعد؛ الكبرى بمحرم بك أمير الأسطول المصري والذي تسمى باسمه أحد أحياء الإسكندرية الأكثر اتساعا، والصغرى بأحمد بك الدفتردار، فاتح الكردفان وسنار والمشتهر بقسوة لا حد لها.
ودل تاريخ حياة محمد علي التالي على أن زوجته هذه كانت طالع سعد عليه، كما كانت أمنا خديجة - رضي الله عنها - طالع سعد على نبينا
صلى الله عليه وسلم ، وكما كانت جوزفين طالع سعد على ناپوليون الأول. وفي ماجريات الحوادث من الغرائب والأسرار ما ليس في وسع فلسفة إدراك كنهه البتة، فكيف بتفسيره؟!
على أن زواج محمد علي، إن مكنه من النظر إلى المستقبل بعين لم تعد تثقلها هموم المعيشة المادية، ومكنه من الاندماج في سلك تجار التبغ برأسمال يضمن النجاح، بقدر ما يمكن أن يضمنه مال؛ فإنه - بما قدمه له من هناء في الحياة، وبسطة في العيش - أخذ يطفئ شيئا فشيئا في فؤاده لهب النزاع إلى المعالي وجذوة الرغبة في المجد والفخار، وبات يهدده بخمول الذكر وانطفاء الاسم مع انطفاء الحياة؛ فمعظم رجال التاريخ من الفقراء، لا من الأغنياء.
ناپوليون بوناپرت بلباسه الشرقي.
ولكن الأقدار التي أوقدت في السماء نجمه، مذ اقترن بقرينته، لم تكن لتسمح بذلك، فما لبثت أن أتاحت له الظرف المناسب لتذكية ذلك اللهب وتلك الجذوة، وفتحت له الميدان الواسع، لنشر ما أوتي من ميزات عزيزة فيه، فدلت بذلك على أن العبقرية بلا فرص لنار بلا وقود، وصدقت قول جراي “Gray”
Halaman tidak diketahui